• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 251 الي 275


[ 251 ]
وإذا قيل لهم ما ذا انزل ربكم قالوا اساطير الاولين. فإذا كان الوافد ممن عزم الله له على الرشاد فقالوا له مثل ذلك في محمد قال بئس الوافد انا لقومي ان كنت جئت حتى بلغت إلا مسيرة يوم رجعت قبل ان القى هذا الرجل وانظر ما يقول وآتى قومي ببيان امره فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم ماذا يقول محمد فيقولون خيرا للذين احسنوا في هذه الدنيا حسنة يقول مال ولدار الاخرة خير وهى الجنة. اقول والاعتبار يساعد على القصة وما في آخرها من تفسير الحسنة بالمال غير مرضي. وفي الكافي باسناده عن صفوان بن يحيى قال: قلت لابي الحسن عليه السلام اخبرني عن الارادة من الله ومن الخلق قال فقال الارادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل واما من الله تعالى فارادته احداثه لا غير ذلك لانه لا يروى ولا يهم ولا يتفكر وهذه الصفات منفية عنه وهى صفات الخلق فاراده الله الفعل لا غير ذلك يقول له كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همه ولا تفكر ولا كيف لذلك كما انه لا كيف له وفي الدر المنثور اخرج احمد والترمذي وحسنة وابن ابى حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان واللفظ له عن ابى ذر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يقول الله يا بن آدم كلكم مذنب إلا من عافيت فاستغفروني اغفر لكم وكلكم فقراء الا من اغنيت فسلوني اعطكم وكلكم ضال الا من هديت فسلوني الهدى اهدكم ومن استغفرني وهو يعلم انى ذو قدرة على ان اغفر له غفرت له ولا ابالى. ولو ان اولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على قلب اشقى واحد منكم ما نقص ذلك من سلطاني مثل جناح بعوضة ولو ان اولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على قلب اتقى واحد منكم ما زادوا في سلطاني مثل جناح بعوضة ولو ان اولكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم سألوني حتى تنتهى مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني ما نقص ذلك مما عندي كغرز ابرة لو غمسها احدكم في البحر.
________________________________________
[ 252 ]
وذلك انى جواد ماجد واحد عطائي كلام وعذابي كلام انما امرى لشئ إذا اردته ان اقول له كن فيكون * * * والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولاجر الاخرة اكبر لو كانوا يعلمون - 41 الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون - 42 وما ارسلنا من قبلك الا رجالا نوحي إليهم فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون - 43 بالبينات والزبر وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون - 44 أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الارض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون - 45 أو ياخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين - 46 أو يأخذهم على تخوف فان ربكم لرؤف رحيم - 47 أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون - 48 ولله يسجد ما في السموات وما في الارض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون - 49 يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون - 50 وقال الله لا تتخذوا الهين اثنين انما هو اله واحد فإياى فارهبون - 51 وله ما في السموات والارض وله الدين واصبا
________________________________________
[ 253 ]
أفغير الله تتقون - 52 وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجئرون - 53 ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون - 54 ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون - 55 ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون - 56 ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون - 57 وإذا بشر احدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم - 58 يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون - 59 للذين لا يؤمنون بالاخرة مثل السوء ولله المثل الاعلى وهو العزيز الحكيم - 60 ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى اجل مسمى فإذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون - 61 ويجعلون لله ما يكرهون وتصف السنتهم الكذب ان لهم الحسنى لا جرم ان لهم النار وانهم مفرطون - 62 تالله لقد ارسلنا إلى امم من قبلك فزين لهم الشيطان اعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب اليم - 63 وما انزلنا عليك الكتاب الا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون - 64
________________________________________
[ 254 ]
(بيان) الايتان الاوليان تذكران الهجرة وتعدان المهاجرين في الله وعدا حسنا في الدنيا والاخرة وباقى الايات تعقب حديث شركهم بالله وتشريعهم بغير اذن الله وهى بحسب المعنى تفصيل القول في الجواب عن عد المشركين الدعوة النبوية إلى ترك عبادة الالهة وتحريم ما لم يحرمه الله امرا محالا كما اشير إليه في قوله وقال الذين اشركوا الخ. قوله تعالى: " والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولاجر الاخرة خير لو كانوا يعلمون " وعد جميل للمهاجرين وقد كانت من المؤمنين هجرتان عن مكة احداهما إلى حبشة هاجرتها عدة من المؤمنين بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم باذن من الله ورسوله إليها ولبثوا فيها حينا في امن وراحة من اذى مشركي مكة وعذابهم وفتنتهم. والثانية هجرتهم من مكة إلى المدينة بعد مهاجره النبي صلى الله عليه وآله وسلم والظاهر ان المراد بالهجرة في الاية هي الهجرة الثانية فسياق الايتين اكثر ملاءمة لها من الاولى وهو ظاهر. وقوله في الله متعلق بهاجروا والمراد بكون المهاجرة في الله ان يكون طلب مرضاته محيطا بهم في مهاجرتهم لا يخرجون منه إلى غرض آخر كما يقال سافر في طلب العلم وخرج في طلب المعيشة أي لا غاية له الا طلب العلم ولا بغية له الا طلب المعيشة والسياق يعطى ان قوله من بعد ما ظلموا ايضا مقيد بذلك معنى والتقدير والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا فيه وانما حذف اختصارا وانما اكتفى به قيدا للمهاجرة لانها محل الابتلاء فتخصيصه بايضاح الحال اولى. وقوله لنبوئنهم في الدنيا حسنة قيل أي بلدة حسنة بدلا مما تركوه من وطنهم كمكة وحواليها بدليل قوله لنبوئنهم فانه من بوأت له مكانا أي سويت واقررته فيه. وقيل أي حالة حسنة من الفتح والظفر ونحو ذلك فيكون قوله لنبوئنهم
________________________________________
[ 255 ]
الخ من الاستعارة بالكناية. والوجهان متحدان مآلا فانهم انما كانوا يهاجرون ليعقدوا مجتمعا اسلاميا طيبا لا يعبد فيه الا الله ولا يحكم فيه الا العدل والاحسان أو ليدخلوا في مجتمع هذا شأنه فلو رجعوا في مهاجرهم غاية حسنة أو وعدوا بغاية حسنة كان ذلك هذا المجتمع الصالح ولو حمدوا البلدة التى يهاجرون إليها لكان حمدهم للمجتمع الاسلامي المستقر فيها لا لمائها أو هوائها فالغاية الحسنة التى يعدهم الله في الدنيا هي هذا المجتمع سواء اريد بالحسنة البلدة أو الغاية. وقوله ولاجر الاخرة اكبر لو كانوا يعلمون تتميم للوعد واشارة إلى ان أجر الاخرة افضل من هذا الاجر الدنيوي لو كانوا يعلمون ما اعد الله لهم فيها من النعم فان فيها سعادة من غير شقاء وخلودا من غير فناء ولذة غير مشوبة بألم وجوار رب العالمين. قوله تعالى الذين: " صبروا وعلى ربهم يتوكلون لا يبعد ان يستفاد من سياق الايتين ان جملة العناية فيهما إلى وعد المهاجرين في الله وعدا حسنا في الدنيا والاخرة من غير نظر إلى الاخبار بتحقق المهاجرة قبل حال الخطاب فيكون الكلام في معنى الاشتراط من يهاجر في الله فله كذا وكذا وتكون العناية في قوله الذين صبروا الخ بتوصيف المهاجرين بالصبر والتوكل من غير نظر إلى ما تحقق منهم من ذلك ايام توقفهم في اوطانهم بين المشركين قبال إذا هم وفتنتهم. والعناية بالتوصيف انما هي لكون كلتا الصفتين دخيلتين في الغاية الحسنة التى وعدوا بها إذ لو لم يصبروا على مر الجهاد واظهروا الجزع عند هجوم العظائم ولم يتأيدوا بالتوكل على الله واعتمدوا على انفسهم الضعيفة احيط بهم ولم يتهيأ لهم المستقر وفرقهم العدو المصر على عداوته بددا وتلاشى المجتمع الصالح الذى اقاموه في مهاجرهم هذا في الدنيا واما امر الاخرة ففساده بفساد المجتمع أو تلاشيه اوضح. ولو كان المراد وعد المهاجرين الذين تحقق منهم الهجرة قبل نزول الاية تطييبا لنفوسهم وتسلية لهم عما اخرجوا من ديارهم واموالهم وقاسوا الفتن والمحن كان قوله الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون مدحا لهم بما ظهر منهم ايام اقامتهم بمكة
________________________________________
[ 256 ]
وغيرها من الصبر في الله على اذى المشركين والتوكل على الله فيما عزموا عليه من الاسلام لله قوله تعالى: " وما ارسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا اهل الذكر إن كنتم لا تعلمون رجوع ثان إلى بيان كيفية ارسال الرسل وانزال الكتب حتى يتضح للمشركين انه لم تكن الدعوة الدينية إلا دعوة عادية من رجال يوحى إليهم من البشر يندبون إلى ما فيه صلاح الناس في دنياهم وعقباهم. وانه لم يدع احد من الرسل ولا ادعى في كتاب من كتب الشرائع إن الدعوة الدينية ظهور للقدرة الغيبية القاهرة لكل شئ والارادة التكوينية لهدم النظام الجارى ونقض سنة الاختيار وابطالها حتى يقول القائل منهم لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ الخ. وعلى هذا فقوله سبحانه: " وما ارسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم " مسوق لحصر الرسالة على البشر العادى من رجال يوحى إليهم قبال ما ادعاه المشركون انها لو كانت لكانت نقضا لنظام الطبيعة وابطالا للاختيار والاستطاعة. وبه يظهر عدم استقامة ما ذكره غير واحد منهم ان الاية مسوقة لرد المشركين من قريش حيث كانوا يزعمون ان البشر لا يصلح للرسالة وانها لو كانت فهى من شأن الملائكة فالاية تخبر ان السنة الالهية جرت حسب ما اقتضته الحكمة على ان لا يبعث للدعوة الدينية إلا رجالا من البشر يوحى إليهم المعارف والاوامر والنواهي. وذلك ان سياق الايات لا يساعد على ذلك ولم يتقدم في الكلام ذكر لقولهم ذلك أو لاقتراحهم بعثة الملائكة للرسالة حتى يوجه الكلام إلى ذلك. وانما الذى تقدم هو قول المشركين لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ الخ وكان مسوقا لاثبات استحالة النبوة لا لكونها من شأن الملائكة. واستدل بعضهم بالاية على ان الله سبحانه لم يرسل صبيا ولا امرأة واستشكل بنبوة عيسى عليه السلام في المهد واجيب بأن النبوة اعم من الرسالة والذى اثبته عيسى لنفسه بقوله: " إنى عبد الله آتانى الكتاب وجعلني نبيا " مريم: 30 هي النبوة دون الرسالة.
________________________________________
[ 257 ]
وفيه ان الاستدلال المذكور بالاية انما هو بقوله وما ارسلنا وهذا الفعل كما يتعلق في القرآن بالرسول كذلك يتعلق بالنبي غير الرسول قال تعالى: " وما ارسلنا من قبلك من رسول ولا نبى " الاية فلو تم الاستدلال المذكور لدل على حرمان الاطفال والنساء عن الرسالة والنبوة جميعا وقد حكى الله عن عيسى عليه السلام قوله: " إنى عبد الله آتانى الكتاب وجعلني نبيا " مريم: 30 وقال في يحيى عليه السلام: " وآتيناه الحكم صبيا " مريم: 12. والحق ان الاية وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا انما هي في مقام بيان ان الرسل كانوا رجالا من البشر العادى من غير عناية بكونهم اول ما بعثوا للرسالة افرادا بالغين مبلغ الرجال فالغرض ان نوحا وابراهيم وموسى وعيسى ويحيى عليهم السلام وهم رسل كانوا رجالا يوحى إليهم ولم يكونوا اشخاصا مجهزين بقدرة قاهرة غيبية وارادة الهية تكوينية. ويقرب من الاية قوله تعالى في موضع آخر: " وما ارسلنا قبلك الا رجالا نوحي إليهم فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين " الانبياء: 8. وقوله: " فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون الظاهر انه خطاب للنبى صلى الله عليه وآله وسلم ولقومه وقد كان الخطاب في سابق الكلام للنبى صلى الله عليه وآله وسلم خاصة والمعنى موجه إلى الجميع فهو تعميم الخطاب للجميع ليتخذ كل من المخاطبين سبيله فمن كان لا يعلم ذلك كبعض المشركين راجع اهل الذكر واسألهم ومن كان يعلم ذلك كالنبى صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين به كان في غنى عن الرجوع والسؤال. وقيل ان الخطاب في الاية للمشركين فانهم هم المنكرون فليرجعوا وليسألوا وفيه ان لازم ذلك كون الجملة التفاتا من خطاب الفرد إلى خطاب الجميع ولا نكتة ظاهرة تصحح ذلك والله اعلم. والذكر حفظ معنى الشئ أو استحضاره ويقال لما به يحفظ أو يستحضر قال الراغب في المفردات الذكر تارة يقال ويراد به هيئة للنفس بها يمكن للانسان ان يحفظ
________________________________________
[ 258 ]
ما يقتنيه من المعرفة وهو كالحفظ إلا إن الحفظ يقال اعتبارا باحرازه والذكر يقال اعتبارا باستحضاره وتاره يقال لحضور الشئ في القلب أو القول ولذلك قيل الذكر ذكران ذكر بالقلب وذكر باللسان وكل واحد منهما ضربان ذكر عن نسيان وذكر لا عن نسيان بل عن ادامة الحفظ انتهى موضع الحاجة. والظاهر ان الاصل فيه ما هو للقلب وانما يسمى اللفظ ذكرا اعتبارا بافادته المعنى والقائه اياه في الذهن وعلى هذا المعنى جرى استعماله في القرآن غير ان مورده فيه ذكر الله تعالى فالذكر إذا اطلق فيه ولم يتقيد بشئ هو ذكره. وبهذه العناية ايضا سمى القرآن وحى النبوة والكتب المنزلة على الانبياء ذكرا والايات في ذلك كثيرة لا حاجة إلى ايرادها في هذا الموضع وقد سمى الله سبحانه في الاية التالية القرآن ذكرا. فالقرآن الكريم ذكر كما ان كتاب نوح وصحف ابراهيم وتوراة موسى وزبور داود وانجيل عيسى عليهم السلام وهى الكتب السماوية المذكورة في القرآن كلها ذكر واهلها المتعاطون لها المؤمنين بها اهل الذكر. ولما كان اهل الشئ وخاصته اعرف بحاله وابصر باخباره كان على من يريد التبصر في امره ان يرجع إلى اهله واهل الكتب السماوية القائمون على دراستها وتعلمها والعمل بشرائعها هم اهل الخبرة بها والعالمون باخبار الانبياء الجائين بها فعلى من اراد الاطلاع على شئ من امرهم ان يراجعهم ويسألهم. لكن المشركين المخاطبين بمثل قوله فاسألوا اهل الذكر لما كانوا لا يسلمون للنبى صلى الله عليه وآله وسلم النبوة ولا يصدقونه في دعواه ويستهزؤن بالقرآن ذى الذكر كما يذكره تعالى في قوله: " وقالوا يا ايها الذى نزل عليه الذكر انك لمجنون " الحجر: 6 لم ينطبق قوله فاسألوا اهل الذكر بحسب المورد الا على اهل التوراة وخاصة من حيث كونهم اعداء للنبى صلى الله عليه وآله وسلم رادين لنبوته وكانت نفوس المشركين طيبة بهم لذلك وقد قالوا في المشركين: " هؤلاء اهدى من الذين آمنوا سبيلا " النساء: 51. وقال بعضهم المراد باهل الذكر اهل العلم باخبار من مضى من الامم سواء أكانوا مؤمنين ام كفارا ؟ وسمى العلم ذكرا لان العلم بالمدلول يحصل غالبا من
________________________________________
[ 259 ]
تذكر الدليل فهو من قبيل تسمية المسبب باسم السبب. وفيه انه من المجاز من غير قرينة موجبة للحمل عليه على ان المعهود من الموارد التى ورد فيها الذكر في القرآن الكريم غير هذا المعنى. وقال بعضهم المراد باهل الذكر اهل القرآن لان الله سماه ذكرا واهله النبي صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه وخاصة المؤمنين وفيه ان كون القرآن ذكرا واهله اهله لا ريب فيه لكن اراده ذلك من الاية خاصة لا تلائم تمام الحجة فان اولئك لم يكونوا مسلمين لنبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكيف يقبلون من اتباعه من المؤمنين ؟ وكيف كان فالاية ارشاد إلى اصل عام عقلائي وهو وجوب رجوع الجاهل إلى اهل الخبرة وليس ما تتضمنه من الحكم حكما تعبديا ولا امر الجاهل بالسؤال عن العالم ولا بالسؤال عن خصوص اهل الذكر امرا مولويا تشريعيا وهو ظاهر. قوله تعالى: " بالبينات والزبر متعلق بمقدر يدل عليه ما في الاية السابقة من قوله وما ارسلنا أي ارسلناهم بالبينات والزبر وهى الايات الواضحة الدالة على رسالتهم والكتب المنزلة عليهم. وذلك ان العناية في الاية السابقة انما هي ببيان كون الرسل بشرا على العادة فحسب فكأنه لما ذكر ذلك اختلج في ذهن السامع انهم بماذا ارسلوا ؟ فاجيب عنه فقيل بالبينات والزبر اما البينات فلاثبات رسالتهم واما الزبر فلحفظ تعليماتهم. وقيل هو متعلق بقوله وما ارسلنا أي وما ارسلنا بالبينات والزبر الا رجالا نوحي إليهم وفيه انه لا بأس به في نفسه لكنه مفوت لما تقدم من النكتة. قوله تعالى: " وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون " لاشك ان تنزيل الكتاب على الناس وانزال الذكر على النبي صلى الله عليه وآله وسلم واحد بمعنى ان تنزيله على الناس هو انزاله إليه لياخذوا به ويوردوه مورد العمل كما قال تعالى: " يا ايها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وانزلنا اليكم نورا مبينا " النساء: 174 وقال: " لقد انزلنا اليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون " الانبياء: 10. فيكون محصل المعنى ان القصد بنزول هذا الذكر إلى عامة البشر وانك والناس في ذلك سواء وانما اخترناك لتوجيه الخطاب والقاء القول لا لنحملك قدرة غيبية
________________________________________
[ 260 ]
وارادة تكوينية الهية فنجعلك مسيطرا عليهم وعلى كل شئ بل لامرين احدهما ان تبين للناس ما نزل تدريجا إليهم لان المعارف الالهية لا ينالها الناس بلا واسطة فلا بد من بعث واحد منهم للتبيين والتعليم وهذا هو غرض الرسالة ينزل إليه الوحى فيحمله ثم يؤمر بتبليغه وتعليمه تبيينه. والثانى رجاء أن يتفكروا فيك فيتبصروا ان ما جئت به حق من عند الله فان الاوضاع المحيطة بك والحوادث والاحوال الواردة عليك في مدى حياتك من اليتم وخمود الذكر والحرمان من التعلم والكتابة وفقدان مرب صالح والفقر والاحتباس بين قوم جهلة اخساء صفر الايدى من مزايا المدنية وفضائل الانسانية كانت جميعا اسبابا قاطعة ان لا تذوق من عين الكمال قطرة ولا تقبض من عرى السعادة على مسكة لكن الله سبحانه انزل اليك ذكرا تتحدى به على الجن والانس مهيمنا على سائر الكتب السماوية تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبرهانا ونورا مبينا. فالتفكر فيك نعم الدليل الهادى إلى ان ليس لك فيما جئت به صنع ولا لك من الامر شئ وان الله انزله بعلمه وايدك لذلك بقدرته من غير ان يداخله من الاسباب العادية شئ. هذا ما تفيده الاية الكريمة نظرا إلى سياقها وسياق ما قبلها ومحصله ان قوله لتبين الخ غاية للانزال لا لنفسه بل من حيث تعلقه بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم وان متعلق يتفكرون المحذوف هو نحو قولنا فيك لا قولنا في الذكر. لكن القوم ذكروا ان قوله لتبين غاية للانزال وان المراد بالتفكر التفكر في الذكر ليعلم بذلك انه حق ومعنى الاية على هذا وانزلنا اليك الذكر أي القرآن لتبين للناس كافة ما نزل إليهم في ذلك الذكر من اصول المعارف والاحكام والشرائع واحوال الامم الماضية وما جرى فيهم من سنة الله تعالى ولرجاء ان يتفكروا في الذكر فيهتدوا إلى انه حق من عند الله أو يتفكروا فيما تبينه لهم. وانت خبير بأن لازم ذلك اولا شبه تحصيل الحاصل في انزاله إليه ليبين لهم ما نزل إليهم والانزال واحد ولا مدفع له الا ان يغير النظم إلى مثل قولنا وانزلنا اليك الذكر لتبينه لهم.
________________________________________
[ 261 ]
وثانيا كون قوله اليك مستدركا مستغنى عنه وخاصة بالنظر إلى قوله ولعلهم يتفكرون وذلك ان الانزال غايته التبيين ولا اثر في ذلك لكونه صلى الله عليه وآله وسلم هو المنزل إليه دون غيره وكذلك التفكر في الذكر غاية مرجوة للعلم بانه حق من عند الله من غير نظر إلى من انزل إليه ولازم ذلك كون قوله اليك زائدا في الكلام لا حاجة إليه وثالثا انقطاع الاية بسياقها عن سياق الاية السابقة عليها وما ارسلنا من قبلك الا رجالا نوحي إليهم والايات المتقدمة عليها. وههنا وجه آخر يمكن ان يندفع به بعض الاشكالات السابقة وهو كون المراد بالذكر المنزل لفظ القرآن الكريم وبما نزل إليهم معاني الاحكام والشرائع وغيرها ويكون قوله لتبين غاية للانزال وقوله ولعلهم يتفكرون معطوفا على مقدر وغاية للتبيين لا للانزال وهو خلاف ظاهر الاية وعليك باجادة التدبر فيها. ومن لطيف التعبير في الاية قوله وانزلنا اليك وما نزل إليهم بتفريق الفعلين بالافعال الدال على اعتبار الجملة والدفعة والتفعيل الدال على اعتبار التدريج ولعل الوجه في ذلك ان العناية في قوله وانزلنا اليك بتعلق الانزال بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقط من غير نظر إلى خصوصية نفس الانزال ولذلك اخذ الذكر جملة واحدة فعبر عن نزوله من عنده تعالى بالانزال. واما الناس فان الذى لهم من ذلك هو الاخذ والتعلم والعمل وقد كان تدريجيا ولذلك عنى به وعبر عن نزوله إليهم بالتنزيل. وفي الاية دلالة على حجية قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيان الايات القرآنية واما ما ذكره بعضهم ان ذلك في غير النص والظاهر من المتشابهات أو فيما يرجع إلى اسرار كلام الله وما فيه من التأويل فمما لا ينبغى ان يصغى إليه. هذا في نفس بيانه صلى الله عليه وآله وسلم ويلحق به بيان اهل بيته لحديث الثقلين المتواتر وغيره واما سائر الامة من الصحابة أو التابعين أو العلماء فلا حجية لبيانهم لعدم شمول الاية وعدم نص معتمد عليه يعطى حجية بيانهم على الاطلاق.
________________________________________
[ 262 ]
واما قوله تعالى: " فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون " فقد تقدم انه ارشاد إلى حكم العقلاء بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم من غير اختصاص الحكم بطائفة دون طائفة. هذا كله في نفس بيانهم المتلقى بالمشافهة واما الخبر الحاكى له فما كان منه بيانا متواترا أو محفوفا بقرينة قطعية وما يلحق به فهو حجة لكونه بيانهم واما ما كان مخالفا للكتاب أو غير مخالف لكنه ليس بمتواتر ولا محفوفا بالقرينة فلا حجية فيه لعدم كونه بيانا في الاول وعدم احراز البيانية في الثاني وللتفصيل محل آخر. قوله تعالى: " أفأمن الذين مكروا السيئات ان يخسف الله بهم الارض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون " هذه الاية والايتان بعدها انذار وتهديد للمشركين وهم الذين يعبدون غير الله سبحانه ويشرعون لانفسهم سننا يستنون بها في الحياة فما يعملون من الاعمال مستقلين فيها بأنفسهم معرضين عن شرائع الله النازلة من طريق النبوة استنادا إلى حجج داحضة اختلقوها لانفسهم كلها سيئات وما يتقلبون فيها مدى حياتهم من حركة أو سكون واخذ أو رد وفعل أو ترك وهم على ما هم عليه من استكبار وغرور كلها ذنوب يقترفونها مكرا بالله ربهم وبرسله الداعين إلى الاخذ بدين الله ولزوم سبيله. فقوله السيئات مفعول مكروا بتضمينه بمعنى عملوا أي عملوا السيئات ماكرين وما احتمله بعضهم من كون السيئات وصفا سادا مسد المفعول المطلق والتقدير يمكرون المكرات السيئات بعيد من السياق. وبالجملة الكلام لتهديد المشركين وانذارهم بالعذاب الالهى ويدخل فيهم مشركوا مكة والكلام متفرع على ما تقدم كما يدل عليه قوله أفأمن بفاء التفريع. والمعنى والله اعلم فإذا دلت الايات البينات على ان الله هو ربهم لا شريك له في ربوبيته وان الرسالة ليست بأمر محال بل هي دعوة إلى ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم وخير دنياهم واخراهم من رجال هم امثالهم يبعثهم الله ويوحى إليهم بما تشتمل عليه الدعوة فهؤلاء الذين يعرضون عن ذلك ويمكرون بالله ورسله بالتشبث بهذه الحجج الواهية لتسوية الطريق إلى ترك دين الله وتشريع ما يوافق اهواءهم ويعملون
________________________________________
[ 263 ]
السيئات هل أمنوا ان يخسف الله بهم الارض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون أي يفاجئهم من غير أن يتنبهوا بتوجهه إليهم قبل نزوله. قوله تعالى أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين الفاعل هو الله سبحانه وقد كثرت في القرآن نسبة الاخذ إليه وقيل الضمير للعذاب والتقلب هو التحول من حال إلى حال والمراد به تحول المشركين في مقاصدهم واعمالهم السيئة وانتقالهم من نعمة إلى نعمة اخرى من نعم الحياة الدنيا قال تعالى: " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد " آل عمران: 197 فالمراد بأخذهم في تقلبهم ان ياخذهم في عين ما يتقلبون فيه من السيئات مكرا بالله ورسله بالعذاب أو المعنى يعذبهم بنفس ما يتقلبون فيه فيعود النعمة نقمة وهذا انسب بالنظر إلى قوله فما هم بمعجزين. وقوله فماهم بمعجزين في مقام التعليل لاخذهم في تقلبهم ومكرهم السيئات أي لانهم ليسوا بمعجزين لله فيما اراد بالتغلب عليه أو بالفرار من حكمه والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " أو يأخذهم على تخوف فان ربكم لرؤوف رحيم " التخوف تمكن الخوف من النفس واستقراره فيها فالاخذ على تخوف هو العذاب مبنيا على المخافة بأن يشعروا بالعذاب فيتقوه ويحذروه بما استطاعوا من توبة وندامة ونحوهما فيكون الاخذ على تخوف مقابلا لاتيان العذاب من حيث لا يشعرون. وربما قيل ان الاخذ على تخوف هو العذاب بما يخاف منه من غير هلاك كالزلزلة والطوفان وغيرهما. وربما قيل ان معنى التخوف التنقص بأن يأخذهم الله بنقص النعم واحدة بعد واحدة تدريجيا كأخذ الامن ثم الامطار ثم الرخص ثم الصحة وهكذا. وقوله ان ربكم لرؤف رحيم في مقام التعليل أي يأخذهم على تخوف ويتنزل في عذابهم إلى هذا النوع من العذاب الذى هو اهون الانواع المعدودة لانه رؤف رحيم وفي التعبير بقوله ربكم اشارة إلى ذلك وكونه في مقام التعليل بالنسبة إلى الوجهين الاولين ظاهر واما بالنسبه إلى الثالث فلان الاخذ بالنقص لا يخلو من
________________________________________
[ 264 ]
مهلة وفرصة يتنبه فيها من تنبه فيأخذ بالحذر بتوبة أو غيرها. والكلام في تعداد انواع العذاب المذكورة ليس مسوقا للحصر كما نبه به بعضهم بل احصاء لانواع منه. قوله تعالى: " أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون " المراد بالرؤية الرؤية البصرية والنظر الحسى إلى الاشياء الجسمانية لان المطلوب الفات النظر إلى الاجسام ذوات الاظلال. والتفيؤ من الفئ وهو الظل راجعا ولذا قيل ان الظل هو ما في اول النهار إلى زوال الشمس والفئ هو ما يكون بعد زوال الشمس إلى آخر النهار والظاهر ان الظل اعم من الفئ كما تقدم وتؤيده الاية فالتفيؤ رجوع الظل بعد زواله. والشمائل جمع شمأل وهو خلاف اليمين وجمعه باعتبار اخذ كل سمت مفروض خلف الشئ وعن يساره جهة شمال على حده فهى شمائل تقابل اليمين كما ان عد كل شئ ذا اظلال بهذه العناية اخذا للظل بالنسبة إلى كل جهة من اليمين والشمائل ظلا غيره بالنسبة إلى جهة اخرى لا لان الشئ المذكور جمع بحسب المعنى وان كان مفردا بحسب اللفظ والدخور هو الخضوع والصغار. وكون المراد بالرؤية الرؤية البصرية قرينة على ان المراد بما خلق الله من شئ ومن شئ بيان لما خلق الله هو الاشياء المرئية وما تعقبه من حديث تفيؤ الظلال يحصرها في الاجسام الكثيفة التى لها ظلال كالجبال والاشجار والابنية والاجسام القائمة على الارض فلا يرد ان ما خلق الله وخاصة بعد بيانه بالشئ لا يلازمه الظل كالاجرام العلوية المضيئة والاجسام الشفافة واعراض الاجسام. ولدفع هذا الاشكال جعل بعضهم قوله يتفيؤ ظلاله الخ وصفا لشئ حتى يخص البيان بالاشياء المخلوقة التى لها افياء واظلال ولا يخلو من وجه. والاية تهدى المشركين وهم منكرون للتوحيد والنبوة إلى النظر في حال الاجسام التى لها اظلال تدور عن يمينها وعن شمائلها فانها تمثل سجودها لله وخضوعها له وصغارها قبال عظمته وكبريائه وكذا سجود ما في السماوات والارض من دابة والملائكة. فهى جميعا ساجدة لله وحده لانقيادها الذاتي لامره ممثلة للخضوع والصغار بهذا
________________________________________
[ 265 ]
النسك الوجودى والعبادة التكوينية. وهذا من اوضح الدليل على ان في العالم الها معبودا واحدا هو الله سبحانه وان من حقه ان يسجد له ويخضع لامره وهذا هو التوحيد والنبوة اللذان ينكرونهما فهل التوحيد إلا الاذعان بكون سبحانه هو الاله الذى يجب الخضوع له والتوجه بالذلة والصغار إليه ؟ وهل الدين الذى تتضمنه دعوة الانبياء والرسل الا الخضوع لله سبحانه والانقياد لامره فيما اراد ؟ فما بالهم ينكرون ذلك ؟ وهم يرون ويعلمون ان ما على الارض من اظلال الاجسام الكثيفة يسجد له وما في السماوات والارض من الملائكة و الذوات ساجدة له منقادة لامره حتى ارباب اصنامهم الذين يتخذونهم آلهة دون الله فانهم اما من الملائكة واما من الجن واما من كملى البشر وهم جميعا داخرون له منقادون لامره. فمعنى الاية والله اعلم أو لم يروا هؤلاء المشركون المنكرون لتوحيد الربوبية ولدعوة النبوة أو لم ينظروا إلى ما خلق الله من شئ من هذه الاجسام القائمة على بسيط الارض من جبل أو بناء أو شجر أو أي جسم منتصب يتفيؤ ويرجع ويدور ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله واقعة على الارض تذللا وتعبدا له سبحانه وهم داخرون خاضعون صاغرون. وقد تقدم الكلام في معنى سجدة الظلال ذيل قوله تعالى: " وظلالهم بالغدو والآصال " الرعد: 15 في الجزء الحادى عشر من الكتاب. قوله تعالى: " ولله يسجد ما في السماوات وما في الارض من دابة والملائكة " إلى آخر الايتين ذكرت الاية السابقة سجود الظلال وهو معنى مشهود فيها يمثل معنى السجود لله وتذكر هذه الاية سجود ما في السماوات والارض من دابة و الدابة ما يدب ويتحرك بالانتقال من مكان إلى مكان بحقيقة السجود التى هي نهاية التذلل والتواضع قبال العظمة والكبرياء فان صورة السجدة التى هي خرور الانسان ووقوعه على وجهه على الارض انما تعد عبادة إذا اريد بها تمثيل هذا المعنى فحقيقة السجدة هي التذلل المذكور ويدخل في عموم الدابة الانسان وكذا الجن لانه سبحانه يصفهم في كلامه بما يفيد
________________________________________
[ 266 ]
ان لهم دبيبا كما لسائر الدواب من الانسان والحيوان ولم يدخل سبحانه الملائكة في عموم الدابة وافردهم بالذكر وفي ذلك من التلويح إلى ان ما نسب إليهم في كلامه تعالى من النزول والصعود والذهاب والمجئ مما ظاهره النقلة والحركة المكانية ليس من نوع ما للدواب من الدبيب والانتقال المكانى ما لا يخفى. فقوله ولله يسجد ما في السماوات وما في الارض من دابة أي له يخضع وينقاد خضوعا وانقيادا ذاتيا هي حقيقة السجود فمن حقه تعالى أن يعبد ويسجد له. وفي الاية دلالة على ان في غير الارض من السماوات شيئا من الدواب يسكنها ويعيش فيها. وقوله والملائكة وهم لا يستكبرون الاستكبار والتكبر من الانسان ان يعد نفسه كبيرا ويضعه موضع الكبر وليس به ولذلك يعد في الرذائل لكن التكبر ربما يطلق على ما لله سبحانه من الكبرياء بالحق وهو الكبير المتعال فهو تعالى كبير متكبر وليس يقال مستكبر ولعل ذلك كذلك اعتبارا باللفظ فان الاستكبار بحسب اصل هيئته طلب الكبر ولازمه ان لا يكون ذلك حاصلا للطالب من نفسه وانما يطلب الكبر والعلو على غيره دعوى فكان مذموما واما التكبر فهو الظهور بالكبرياء سواء كانت له في نفسه كما لله سبحانه وهو التكبر الحق أو لم يكن له الا دعوى وغرورا كما في غيره. فتبين بذلك ان الاستكبار مذموم دائما اما استكبار المخلوق على مخلوق آخر فلان الفقر والحاجة قد استوعبهما جميعا وشئ منهما لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا لغيره فاستكبار احدهما على الاخر خروج منه عن حده وتجاوز عن طوره وظلم وطغيان. واما استكبار المخلوق على الخالق فلا يتم الا مع دعوى المخلوق الاستقلال والغنى لنفسه وذهوله عن مقام ربه فان النسبة بين العبد وربه نسبة الذلة والعزة والفقر والغنى فما لم يغفل العبد عن هذه النسبة ولم يذهل عن مشاهدة مقام ربه لم يعقل استكباره على ربه فان الصغير الوضيع القائم امام الكبير المتعالى وهو يشاهد صغار نفسه وذلته وكبرياء من هو امامه وعزته لا يتيسر له ان يرى لنفسه كبرياء وعزة إلا أن
________________________________________
[ 267 ]
يأخذه غفلة وذهول. واذ كان الكبرياء والعلو لله جميعا فدعواه الكبرياء والعلو تغلب منه على ربه وغصب منه لمقامه واستكبار واستعلاء عليه دعوى وهذا هو الاستكبار بحسب الذات ويتبعه الاستكبار بحسب الفعل وهو ان لا يأتمر بأمره ولا ينتهى عن نهيه فانه ما لم ير لنفسه ارادة مستقلة قبال الارادة الالهية مغايرة لها لم ير لنفسه ان يخالفه في امره ونهيه. وعلى هذا فقوله وهم لا يستكبرون في تعريف الملائكة والكلام في سياق العبودية دليل على انهم لا يستكبرون على ربهم فلا يغفلون عنه تعالى ولا يذهلون عن الشعور بمقامه ومشاهدته. وقد اطلق نفى الاستكبار من غير ان يقيده بما بحسب الذات أو بحسب الفعل فأفاد انهم لا يستكبرون عليه في ذات ولا فعل أي لا يغفلون عنه سبحانه ولا يستنكفون عن عبادته ولا يخالفون عن امره ولبيان هذا الاطلاق والشمول عقبه بيانا له بقوله يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون واشار بذلك إلى نفى الاستكبار عنهم ذاتا وفعلا. توضيح ذلك ان قوله يخافون ربهم من فوقهم يثبت لهم الخوف من ربهم والله سبحانه ليس عنده الا الخير ولا شر عنده ولا سبب شر يخاف منه الا ان يكون الشر وسببه عند العبد وقد اخذ متعلق الخوف هو ربهم لا عذابه تعالى أو عصيان امره كما في قوله: " ويرجون رحمته ويخافون عذابه " اسرى: 57. فهذه المخافة هي المخافة منه تعالى وهو وان لم يكن عنده الا الخير والخوف انما يكون من شر مترقب الا ان حقيقته التأثر والانكسار والصغار وتأثر الضعيف قبال القوى الظاهر بقوته وانكسار الصغير الوضيع امام الكبير المتعال القاهر بكبريائه وتعاليه ضروري فمخافتهم هي تأثرهم الذاتي عما يشاهدونه من مقام ربهم ولا يغفلون عنه قط. ويؤيد ما ذكرناه تقييد قوله يخافون ربهم بقوله من فوقهم فان فيه اشارة إلى ان كونه تعالى فوقهم قاهرا لهم متعاليا بالنسبة إليهم هو السبب في
________________________________________
[ 268 ]
مخافتهم وليس هذا إلا الخوف من مقامه تعالى لا من عذابه فهو خوف ذاتي ويرجع إلى نفى الاستكبار عن ذواتهم. واما قوله ويفعلون ما يؤمرون فاشارة إلى عدم استكبارهم في مقام الفعل وقد تقدم انه إذا لم يستكبر عليه تعالى في ذات لم يستكبر عليه في فعل فهم لا يعصون الله سبحانه في امر بل يفعلون ما يؤمرون وفي اتيان قوله يؤمرون مبنيا للمجهول من التعظيم والتفخيم لمقامه سبحانه ما لا يخفى. فتبين ان الملائكة نوع من خلق الله تعالى لا تأخذهم غفلة عن مقام ربهم ولا يطرأ عليهم ذهول ولا سهو ولا نسيان عن ذلك ولا يشغلهم عنه شاغل وهم لا يريدون الا ما يريده الله سبحانه. وانما خص سبحانه الملائكة من بين الساجدين المذكورين في الاية بذكر شأنهم وتعريف اوصافهم وتفصيل عبوديتهم لان اكثر آلهة الوثنيين من الملائكة كإله السماء واله الارض واله الرزق واله الجمال وغيرهم وللدلالة على انهم بالرغم من زعم الوثنيين امعن خلق الله تعالى في عبوديته وعبادته. ومن عجيب الاستدلال ما استدل به بعضهم بالاية على ان الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء كمثلنا اما دلالتها على التكليف فلمكان الامر واما ادارتهم بين الخوف والرجاء فلان الاية ذكرت خوفهم والخوف يستلزم الرجاء. وهو ظاهر الفساد اما الامر فقد ورد في كلامه تعالى في موارد لا تكليف فيها قطعا كالسماء والارض وغيرهما قال تعالى: " فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين " حم السجدة: 11 وقال ويوم يقول كن فيكون. واما استلزام الخوف للرجاء فانما الملازمة ما بين الخوف من نزول العذاب واصابة المكروه وبين الرجاء وقد تقدم ان الذى في الاية انما هو خوف مهابة واجلال بمعنى تأثر الضعيف من القوى وانكسار الصغير الحقير قبال العظيم الكبير الظاهر عليه بعظمته وكبريائه ولا مقابلة بين الخوف بهذا المعنى وبين الرجاء. وقد استدل بالاية ايضا على ان الملائكة افضل من البشر وفيه ان من الممكن استظهار افضليتهم من عصاة البشر وكفارهم ممن يفقد الصفات المذكورة لكونها
________________________________________
[ 269 ]
مسوقة في مقام المدح واما غيرهم فلا تعرض للاية لهم اثباتا ونفيا وسياتى تفصيل القول في الملائكة في موضع يليق به ان شاء الله. قوله تعالى وقال الله لا تتخذوا الهين اثنين انما هو اله واحد فاياى فارهبون الرهبة الخوف وتقابل الرغبة كما ان الخوف يقابل به الرجاء. والكلام معطوف على قوله ولله يسجد وقيل معطوف على قوله وانزلنا اليك الذكر وقيل على قوله ما خلق الله على طريقه قوله (علفتها تبنا وماء باردا) أي وسقيتها ماء باردا والتقدير في الاية أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ وألم يسمعوا إلى ما قال الله لا تتخذوا الخ ؟ والاول هو الوجه. وقوله لا تتخذوا الهين اثنين اريد به والله اعلم النهى عن التعدي عن الاله الواحد باتخاذ غيره معه فيشمل الاثنين وما فوقه من العدد ويؤيده تأكيده بقوله انما هو اله واحد واثنين صفة الهين كما ان واحد صفة اله جئ بهما للايضاح والتبيين. وبعبارة اخرى العناية متعلقة بالنهي عن اتخاذ غيره معه سواء كان واحدا أو اكثر من واحد لكن لما كان كل عدد اختاروه في الاله فوق الاثنين يجب ان يسلكوا إليه من الاثنين إذ لا يتحقق عدد هو فوق الاثنين الا بعد تحقق الاثنين نهى عن اتخاذ الاثنين واكتفى به عن النهى عن كل عدد فوق الواحد. ويمكن ان يكون اعتبار الاثنين نظرا إلى ما عليه دأبهم وسنتهم فانهم يعتقدون من الاله باله الصنع والايجاد وهو الذى له الخلق فحسب وهو اله الالهة وموجد الكل وباله العبادة وهو الذى له الربوبية والتدبير وهذا المعنى انسب بما يتلوه من الجمل. وعلى هذا فالمعنى لا تتخذوا الهين اثنين اله الخلق واله التدبير الذى له العبادة انما هو أي الاله اله واحد له الخلق والتدبير جميعا لان كل تدبير ينتهى إلى الايجاد واذ كنت انا الخالق الموجد فانا المدبر الذى تجب عبادته فاياى فارهبون واياى فاعبدون ومن هنا يظهر وجه تفرع قوله فاياى فارهبون على ما تقدمه وانه من لطيف الاستدلال والجملة تفيد الحصر بتقديم المفعول على سبيل الاشتغال و القصر
________________________________________
[ 270 ]
قصر قلب لا قصر افراد كما يفيده كلامهم فان الوثنيين لا يعبدون الله وآلهتهم غير الله وانما يعبدون آلهتهم فحسب معتذرين بان الله سبحانه لا يحيط به علم ولا يناله فهم فلا يمكن التوجه إليه بالعبادة فمن الواجب ان يعبد الكرام أو الاقوياء من خلقه كالملائكة والكاملين من البشر والجن فهم المدبرون لامر العالم ينال بالعبادة خيرهم ويتقى بها شرهم وهذا معنى التقرب إلى الله بشفاعتهم. والظاهر ان الامر بالرهبة كناية عن الامر بالعبادة وانما اختصت الرهبة بالذكر ليوافق ما تقدم في حديث سجدة الكل التى هي الاصل في تشريع العبادة من خوف الملائكة وعلى هذا فالظاهر ان المراد بالرهبة ما هي رهبة اجلال ومهابة لا ما هي رهبة مؤاخذة وعذاب فافهم ذلك. قوله تعالى: " وله ما في السماوات والارض وله الدين واصبا أفغير الله تتقون " قال في المفردات الوصب السقم اللازم وقد وصب فلان فهو وصب واوصبه كذا فهو يتوصب نحو يتوجع قال تعالى ولهم عذاب واصب وله الدين واصبا فتوعد لمن اتخذ الهين وتنبيه ان جزاء من فعل ذلك عذاب لازم شديد. ويكون الدين ههنا الطاعة ومعنى الواصب الدائم أي حق الانسان ان يطيعه دائما في جميع احواله كما وصف به الملائكة حيث قال لا يعصون الله ما امرهم ويفعلون ما يؤمرون ويقال وصب وصوبا دام ووصب الدين وجب ومفازة واصبة بعيدة لا غاية لها انتهى. والاية وما بعدها تحتج على وحدانيته تعالى في الالوهية بمعنى المعبودية بالحق وان الدين له وحده ليس لاحد ان يشرع من ذلك شيئا ولا ان يطاع فيما شرع فالاية وما بعدها في مقام التعليل لقوله وقال الله لا تتخذوا الهين اثنين إلى آخر الاية واحتجاج على مضمونها وعود بعد عود إلى ما تقدم بيانه من التوحيد والنبوة اللذين ينكرهما المشركون. فقوله وله ما في السماوات والارض احتجاج على توحده تعالى في الربوبية فان ما في السماوات والارض من شئ فهو مملوك له بحقيقة معنى الملك إذ ما في العالم المشهود من شئ فهو بما له من الصفات والافعال قائم به تعالى موجود بايجاده
________________________________________
[ 271 ]
وظاهر باظهاره لا يسعه ان ينقطع منه ولا لحظة فالاشياء قائمة به قيام الملك بمالكه مملوكة له ملكا حقيقيا لا يقبل تغييرا ولا انتقالا كما هو خاصة الملك الحقيقي كملك الانسان لسمعه وبصره مثلا. وإذا كان كذلك كان هو تعالى المدبر لامر العالم إذ لا معنى لكون العالم مملوكا له بهذا الملك ثم يستقل غيره بتدبير امره والتصرف فيه وينعزل هو تعالى عما خلقه وملكه وإذا كان هو المدبر لامره كان هو الرب له إذ الرب هو المالك المدبر وإذا كان هو الرب كان هو الذى يجب ان يتقى ويخضع له بالعبادة. وقوله وله الدين واصبا أي دائما لازما وذلك انه لما كان تعالى هو الرب الذى يملك الاشياء ويدبر امرها ومن واجب التدبير ان يستن العالم الانساني بسنة يبلغ به الجرى عليها غايته ويهديه إلى سعادته وهذه السنة والطريقة هي التى يسميها القرآن دينا كان من الواجب ان يكون تعالى هو القائم على وضع هذه السنة وتشريع هذه الطريقة فهو تعالى المالك للدين كما قال وله الدين واصبا وعليه أن يشرع ما يصلح به التدبير كما قال فيما مر وعلى الله قصد السبيل الاية. وقيل المراد بالدين الطاعة وقيل الملك وقيل الجزاء ولكل منها وجه غير خفى على المتأمل والاوجه هو ما قدمناه لانه اوفق وانسب بسياق ما يحفها من الايات السابقة واللاحقة الباحثة عن توحيد الربوبية وتشريع الدين من طريق الوحى والرسالة. وقوله: " أفغير الله تتقون " استفهام انكاري متفرع على الجملتين جميعا على الظاهر والمعنى وإذا كان كذلك فهل غيره تعالى تتقون وتعبدون ؟ وليس يملك شيئا ولا يدبر امرا حتى يعبد وليس من حقه ان يشرع دينا فيطاع فيما وضعه وشرعه. قوله تعالى: " وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون " بيان آخر لوحدانيته تعالى في الربوبية يفرع سبحانه عليه ذمهم وتوبيخهم على شركهم بالله وعلى تشريعهم امورا من عند انفسهم من غير اذن منه ورضى ويجرى الكلام في هذا المجرى إلى تمام بضع آيات. والمراد بالضر سوء الحال من جهة فقدان النعمة التى تصلح بها الحال والجؤار
________________________________________
[ 272 ]
بضم الجيم صوت الوحوش استعير لرفع الصوت بالدعاء والتضرع والاستغاثة تشبيها له به. وقوله: " وما بكم من نعمة فمن الله " الكلام مسوق للعموم وليس مجرد دعوى غير مستدل فقد بين ذلك في الايات السابقة على ان السامعين يسلمون ذلك ويقولون به ويدل عليه جؤارهم واستغاثتهم إليه عند مسيس الضر بفقدان نعمة من النعم. فالمعنى ان جميع النعم التى عندكم من انعامه تعالى عليكم وانتم تعلمون ذلك ثم إذا حل بكم شئ من الضر وسوء حال يسير رفعتم اصواتكم بالتضرع وجأرتم إليه لا إلى غيره ولو كان لغيره صنيعة عندكم لتوجهتم إليه فهو سبحانه منعم النعمة وكاشف الضر فما بالكم لا تخصونه بالعبادة ولا تطيعونه. والاستغاثة به تعالى والتضرع إليه عند حلول المصائب وهجوم الشدائد التى ينقطع عندها الرجاء عن الاسباب الظاهرية ضرورية لا يرتاب فيها فان الانسان ولو لم ينتحل إلى دين ولم يؤمن بالله سبحانه فانه لا ينقطع رجاؤه عند الشدائد إذا رجع إلى ما يجده من نفسه ولا رجاء إلا وهناك مرجو منه فمن الضرورى ان تحقق ما لا يخلو من معنى التعلق كالحب والبغض والارادة والكراهة والجذب ونظائرها في الخارج لا يمكن إلا مع تحقق طرف تعلقها في الخارج فلو لم يكن في الخارج مراد لم تتحقق ارادة من مريد ولو لم يكن هناك مطلوب لم يكن طلب ولو لم يكن جاذب يجذب لم يتصور مجذوب ينجذب وهذا حال جميع المعاني الموجودة التى لا تخلو كينونتها عن نسبة. فتعلق الرجاء من الانسان بالتخلص من البلية عند انقطاع الاسباب دليل على انه يرى ان هناك سببا فوق هذه الاسباب المنقطع عنها لا تعجزه عظائم الحوادث وداهمات الرزايا ولا ينقطع عنه الانسان ولا يزول ولا يفنى ولا يسهو ولا ينسى قط. هذا شئ يجده الانسان من نفسه وتقضى به فطرته وان الهاه عنه الاشتغال بالاسباب الظاهرة وجذبته إلى نفسها امتعة الحياة وزخارف المادة المحسوسة لكنه إذا احاطت به البلية واعيته الحيلة وسدت عليه طرق النجاة وانهزمت الاسباب الظاهرة عن آخرها وطارت الموانع عن نظره ولم يبق هناك مله يلهيه ولا شاغل يشغله ظهر له ما اخفته الاسباب وعاين ما كان على غفلة منه فتعلقت نفسه به وهو السبب الذى فوق كل سبب وهو الله عز اسمه.
________________________________________
[ 273 ]
قوله تعالى: " ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون شروع في ذمهم وتوبيخهم وينتهى إلى ايعادهم وحق لهم ذلك لان الذى يستدعيه كشف الضر عن استغاثتهم ورجوعهم الفطري إلى ربهم ان يوحدوه بالربوبية بعد ما انكشفت لهم الحقيقة باندفاع البلية ونزول الرحمة لكن فريقا منهم تفاجئهم الشقوة فيعودون إلى التغلق بالاسباب فينتبه عندئذ الراقد من رذائل ملكاتهم فيثير لهم الاهواء ويشركون بربهم غيره ومنه الاسباب التى يتعلقون بها ومعنى الاية ظاهر. قوله تعالى: " ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون اللام للغاية أي انهم انما يشركون بربهم ليكفروا بما اعطيناهم من النعمة بكشف الضر عنهم ولا يشكروه. وجعل الكفر بالنعمة غاية للشرك انما هو بدعوى انهم لا غاية لهم في مسير حياتهم الا الكفر بنعمة الله وعدم شكره على ما اولى فان اشتغالهم بالحس والمادة اورثهم في قلوبهم ملكة التعلق بالاسباب الظاهرة واسناد النعم الالهية إليها وضربهم اياها حجابا ثخينا على عرفان الفطرة فأنساهم ذلك توحيد ربهم في ربوبيته فصاروا يذكرون عند كل نعمة اسبابها الظاهرة دون الله ويتعلقون بها ويخشون انقطاعها ويخضعون لها دون الله فكأنهم بل انهم لا غاية لهم الا كفر نعمة الله وعدم شكرها. فالكفر بالله سبحانه هو غايتهم العامة في كل شأن ابدوه وكل عمل اتوا به فإذا اشركوا بربهم بعد كشف الضر بالخضوع لسائر الاسباب فانما اشركوا ليكفروا بما آتاهم من النعمة. ولما كان كفرانهم هذا وهو كفر دائم يصرون عليه واستكبار على الله وقد قال تعالى: " لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي لشديد " ابراهيم: 7 أثار ذكر ذلك الغضب الالهى فعدل عن خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم على نعت الغيبة إلى خطابهم وايعادهم من غير توسيط فقال فتمتعوا فسوف تعلمون. ولم يذكر ما يتمتعون به ليفيد بالاطلاق ان كل ما تمتعوا به سيؤاخذون عليه ولا ينفعهم شئ منه ولم يذكر ما يعلمونه وهو لا محالة امر يسوؤهم ليكونوا على جهل منه حتى يحل بهم مفاجأة ويبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وفيه
________________________________________
[ 274 ]
تشديد للايعاد. وذكر بعضهم ان اللام في قوله ليكفروا بما آتيناهم لام الامر والمراد به الايعاد على نحو التعجيز وهو تكلف. قوله تعالى: " ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون " ذكروا انه معطوف على سائر جناياتهم التى دلت عليها الايات السابقة والتقدير انهم يفعلون ما قصصناه من جناياتهم ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا والظاهر ان ما في لما لا يعلمون موصولة والمراد به آلهتهم وضمير الجمع يعود إلى المشركين ومفعول لا يعلمون محذوف والمعنى ويجعل المشركون لالهتهم التى لا يعلمون من حالها انها تضر وتنفع نصيبا مما رزقناهم. والمراد من هذا الجعل ما ذكره سبحانه في سورة الانعام: " بقوله وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون " الانعام: 136 هذا ما ذكروه ولا يخلو عن تكلف ويمكن ان يكون معطوفا على ما مر من قوله يشركون والتقدير إذا فريق منكم بربهم يشركون ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم والمراد بما لا يعلمون الاسباب الظاهرة التى ينسبون إليها الاثار على سبيل الاستقلال وهم جاهلون بحقيقة حالها ولا علم لهم جازما انها تضر وتنفع مع ما يرون من تخلفها عن التأثير احيانا. وانما نسب إليهم انهم يجعلون لها نصيبا من رزقهم مع انهم يسندون الرزق إليها بالاستقلال من غير ان يذكروا الله معها ومقتضاه نفى التأثير عنه تعالى رأسا لا اشراكه معها لان لهم علما فطريا بأن الله سبحانه له تأثير في الامر وقد ذكر عنهم آنفا انهم يجأرون إليه عند مس الضر وإذا اعتبر اعترافهم هذا مع اسنادهم التأثير إلى الاسباب انتج ذلك ان الاسباب عندهم شركاء لله في الرزق ولها نصيب فيه ثم اوعدهم بقوله " تالله لتسألن عما كنتم تفترون ". قوله تعالى ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون عتاب آخر لهم في حكم حكموا به جهلا من غير علم فاحترموا لانفسهم واساؤا الادب مجترئين على الله
________________________________________
[ 275 ]
سبحانه حيث اختاروا لانفسهم البنين وكرهوا البنات لكنهم نسبوها إلى الله سبحانه. فقوله ويجعلون لله البنات سبحانه هو اخذهم الالهة دون الله أو بعض الالهة اناثا وقولهم انهن بنات الله وقد قيل ان خزاعة وكنانة كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله. وكانت الوثنية البرهمية والبوذية والصابئة يثبتون آلهة كثيرة من الملائكة والجن اناثا وهن بنات الله وفي القرآن الكريم: " وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان اناثا " الزخرف: 19 وقال تعالى: " وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا " الصافات: 158. وقال الامام في تفسيره في وجه ذلك اظن انهم سموها بنات لاستتارها عن العيون كالنساء كما انهم اخذوا الشمس مؤنثا لاستتار قرصها بنورها الباهر وضوئها عن العيون كالمخدرات من النساء ولا يلزم الاطراد في التسمية حتى يلزم مثل ذلك في الجن لاستتارهم عن العيون مع عدم التأنيث انتهى ملخصا. وذكر بعضهم ان الوجه في التأنيث كونها مستترة عن العيون مع كونها في محل لا يصل إليه الاغيار فهى كالبنات التى يغار عليهن الرجل فيسكنهن في محل امين ومكان مكين والجن وان كانوا مستترين عن العيون لكنه على غير هذه الصورة انتهى. وهذان الوجهان لا يتعديان طور الاستحسان وانت لو راجعت آراء الوثنية على اختلافهم وقد تقدم شطر منها في الجزء العاشر من هذا الكتاب عرفت ان العرب لم تكن مبتكرة في هذه العقيدة بل لها اصل قديم في آراء قدماء الوثنية في الهند ومصر وبابل واليونان والروم. والامعان في اصول آرائهم يعطى انهم كانوا يتخذون الملائكة الذين ينتهى إليهم وجوه الخير في العالم والجن الذين يرجع إليهم الشرور آلهة يعبدونهم رغبا ورهبا وهذه المبادئ العالية والقوى الكلية التى هم يحملونها وبعبارة اخرى هم مظاهر لها تنقسم إلى فاعله ومنفعلة وهم يعتبرون اجتماع الفاعل والمنفعل منها نكاحا وازدواجا والفاعل منها أبا والمنفعل منها أما والمتحصل من اجتماعهما ولدا وينقسم الاولاد إلى بنين وبنات فمن الالهة ما هن امهات وبنات ومنها ما هم آباء وبنون. فلئن كان بعض وثنية العرب قالت ان الملائكة جميعا بنات الله فقول ارادوا


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page