• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 226 الي 250

________________________________________
[ 226 ]
ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول اين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم قال الذين اوتوا العلم ان الخزى اليوم والسوء على الكافرين - 27 الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي انفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى ان الله عليم بما كنتم تعملون - 28 فادخلوا ابواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين - 29 وقيل للذين اتقوا ما ذا انزل ربكم قالوا خيرا للذين احسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الاخرة خير ولنعم دار المتقين - 30 جنات عدن يدخلونها تجرى من تحتها الانهار لهم فيها ما يشاؤن كذلك يجزى الله المتقين - 31 الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون - 32 هل ينظرون الا أن تأتيهم الملائكة أو ياتي امر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا انفسهم يظلمون - 33 فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن - 34 وقال الذين اشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل الا البلاغ المبين - 35 ولقد بعثنا في كل امة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم
________________________________________
[ 227 ]
من حقت عليه الضلالة فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين - 36 إن تحرص على هداهم فان الله لا يهدى من يضل وما لهم من ناصرين - 37 وأقسموا بالله جهد ايمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن اكثر الناس لا يعلمون - 38 ليبين لهم الذى يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا انهم كانوا كاذبين - 39 انما قولنا لشئ إذا اردناه ان نقول له كن فيكون - 40 (بيان) هذا هو الشطر الثاني من آيات صدر السورة وقد كان الشطر الاول يتضمن توحيد الربوبية واقامة الحجة على المشركين في ذلك بعد ما انذرهم باتيان الامر ونزه الله سبحانه عن شركهم. وهذا الشطر الثاني يتضمن ما يناسب المقام ذكره من مساوى صفات المشركين المتفرعة على انكارهم التوحيد وأباطيل اقوالهم كاستكبارهم على الله واستهزائهم باياته وانكارهم الحشر وبيان بطلانها واظهار فسادها وتهديدهم باتيان الامر وحلول العذاب الدنيوي والايعاد بعذاب يوم الموت ويوم القيامة وحقائق أخر ستنكشف بالبحث. قوله تعالى الهكم اله واحد فالذين لا يؤمنون بالاخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون قد تقدم الكلام في قوله الهكم اله واحد وانه نتيجة الحجة التي اقيمت في الايات السابقة. وقوله فالذين لا يؤمنون بالاخرة الخ تفريع عليه وافتتاح لفصل
________________________________________
[ 228 ]
جديد من الكلام حول اعمال الكفار من اقوالهم واعمالهم الناشئة عن عدم ايمانهم بالله سبحانه وانما ذكر عدم ايمانهم بالاخرة ولم يذكر عدم ايمانهم بالله وحده لان الذى اقيمت عليه الحجة هو التوحيد الكامل وهو وجوب الاعتقاد باله عليم قدير خلق كل شئ واتم النعمة لا لغوا باطلا بل بالحق ليرجعوا إليه فيحاسبهم على ما عملوا ويجازيهم بما اكتسبوا مما عهده إليهم من الامر والنهى بواسطة الرسل. فالتوحيد المندوب إليه في الايات الماضية هو القول بوحدانيته تعالى والايمان بما اتى به رسل الله والايمان بيوم الحساب والجزاء ولذلك وصف الكفار بعدم الايمان بالاخرة لان الايمان بها يستلزم الايمان بالوحدانية والرسالة. ولك ان تراجع في استيضاح ما ذكرناه قوله في اول الايات ينزل الملائكة بالروح من امره على من يشاء من عباده ان انذروا انه لا اله الا انا فاتقون خلق السماوات والارض بالحق سبحانه عما يشركون فانه كلام جامع للاصول الثلاثة. وقوله قلوبهم منكرة أي للحق وقوله وهم مستكبرون أي عن الحق والاستكبار على ما ذكروه طلب الترفع بترك الاذعان للحق. والمعنى الهكم واحد على ما تدل عليه الايات الواضحة في دلالتها وإذا كان الامر على هذا الوضوح والجلاء لا يستتر بستر ولا يرتاب فيه فهم فالذين لا يؤمنون بالاخرة قلوبهم منكرة للحق جاحدة له عنادا وهم مستكبرون عن الانقياد للحق من غير حجة ولا برهان. قوله تعالى لا جرم ان الله يعلم ما يسرون وما يعلنون انه لا يحب المستكبرين لا جرم كلمة مركبة باقية على حالة واحدة يفيد معنى التحقيق على ما ذكره الخليل وسيبويه واليه يرجع ما ذكره غيرهما وان اختلفوا في اصل تركبه قال الخليل وهو كلمة تحقيق ولا يكون الا جوابا يقال فعلوا كذا فيقول السامع لا جرم يندمون. والمعنى من المحقق أو حق ان الله يعلم ما يسرون وما يعلنون وهو كناية وتهديد بالجزاء السئ أي انه يعلم ما يخفونه من اعمالهم وما يظهرونه فسيجزيهم بما عملوا ويؤاخذهم على ما انكروا واستكبروا انه لا يحب المستكبرين.
________________________________________
[ 229 ]
قوله تعالى: " وإذا قيل لهم ما ذا انزل ربكم قالوا اساطير الاولين " قال الراغب في المفردات السطر والسطر بفتح فسكون أو بفتحتين السطر من الكتابة ومن الشجر المغروس ومن القوم الوقوف إلى ان قال وجمع السطر اسطر وسطور واسطار. قال واما قوله اساطير الاولين فقد قال المبرد هي جمع اسطورة نحو ارجوحة واراجيح واثفية واثافى واحدوثة واحاديث وقوله تعالى: " وإذا قيل لهم ماذا انزل ربكم قالوا اساطير الاولين " أي شئ كتبوه كذبا ومينا فيما زعموا نحو قوله تعالى: " اساطير الاولين اكتتبها فهى تملى عليه بكرة واصيلا " انتهى وقال غيره اساطير جمع اسطار واسطار جمع سطر فهو جمع الجمع وقوله وإذا قيل لهم ما ذا انزل ربكم يمكن ان يكون القائل بعض المؤمنين وانما قاله اختبارا لحالهم واستفهاما لما يرونه في الدعوة النبوية ويمكن ان يكون من المشركين وانما قاله لهم ليقلدهم فيما يرونه وعبر عن القرآن بمثل قوله ما ذا انزل ربكم لنوع من التهكم والاستهزاء ويمكن ان يكون شاكا متحيرا باحثا والاية التالية وكذا قوله فيما سيأتي وقيل للذين اتقوا ما ذا انزل ربكم يؤيد احد الوجهين الاخيرين. وقوله قالوا اساطير الاولين أي الذى يسأل عنه اكاذيب خرافية كتبها الاولون واثبتوها وتركوها لمن خلفهم ولازم هذا القول دعوى انه ليس نازلا من عند الله سبحانه. قوله تعالى: " ليحملوا اوزارهم كاملة يوم القيامة إلى آخر الاية قال في المفردات الوزر بفتحتين الملجأ الذى يلتجأ إليه من الجبل قال تعالى: " كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر " والوزر بالكسر فالسكون الثقل تشبيها بوزر الجبل ويعبر بذلك عن الاثم كما يعبر عنه بالثقل قال تعالى: " ليحملوا اوزارهم كاملة " الاية كقوله: " وليحملن اثقالهم واثقالا مع اثقالهم ". قال وحمل وزر الغير بالحقيقة هو على نحو ما اشار إليه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله من سن سنة حسنة كان له اجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من اجره شئ ومن
________________________________________
[ 230 ]
سن سنة سيئة كان له وزرها ووزر من عمل بها أي مثل وزر من عمل بها وقوله: " ولا تزر وازرة وزر اخرى " أي لا تحمل وزره من حيث يتعرى المحمول عنه انتهى. والذى ذكره من الحديث النبوى مروى من طرق الخاصة والعامة جميعا ويصدقه من الكتاب العزيز مثل قوله تعالى: " والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان ألحقنا بهم ذريتهم وما التناهم من عملهم من شئ كل امرء بما كسب رهين " الطور: 21 وقوله: " ونكتب ما قدموا وآثارهم " يس: 12 والايات في هذا المعنى كثيرة. واما قوله في تفسير قوله صلى الله عليه وآله وسلم: كان له وزرها ووزر من عمل بها أي مثل وزر من عمل بها فكلام ظاهري لا بأس بأن يوجه به الاية والرواية لرفع التناقض بينهما وبين مثل قوله تعالى: " لا تزر وازرة وزر اخرى " الانعام: 164 وقوله: " ليوفينهم ربك اعمالهم " هود: 111 إذ لو حمل الآمر وزر السيئة وعذب بعذابها دون الفاعل ناقض ذلك الاية الاولى ولو قسم بينهما وحمل كل منهما بعض الوزر وعذب ببعض العذاب ناقض الاية الثانية واما لو حمل السان والآمر مثل ما للعامل الفاعل لم يناقض شيئا. واما بحسب الحقيقة فكما ان العمل عمل واحد حسنة أو سيئة كذلك وزره وعذابه مثلاواحد لا تعدد فيه غير ان نفس العمل لما كان قائما باكثر من واحد قيامه بالآمر والفاعل قياما طوليا لا عرضيا يوجب المحذور كانت تبعته من الوزر والعذاب قائمة باكثر من واحد فهناك وزر واحد يزرها اثنان وعذاب واحد يعذب به الآمر والفاعل جميعا. ويسهل تصور ذلك بالتأمل في مضمون الايات المبنية على تجسم الاعمال فان العمل كالسيئة مثلا على تقدير التجسم واحد شخصي يتمثل لاثنين ويعذب بتمثله انسانين الآمر والفاعل أو السان والمستن فهو بوجه بعيد كالشخص الواحد يتصوره اثنان فيلتذان أو يتألمان معا به وليس الا واحدا. وقد تقدم بعض الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: " ليميز الله الخبيث من الطيب " الاية في الجزء التاسع من الكتاب وسياتى ان شاء الله تفصيل القول فيه فيما يناسبه من المورد.
________________________________________
[ 231 ]
وكيف كان فقوله ليحملوا اوزارهم كاملة يوم القيامة ومن اوزار الذين يضلونهم بغير علم اللام للغاية وهى متعلقة بقوله قالوا اساطير الاولين وفي قوله يضلونهم دلالة على ان حملهم لاوزار غيرهم انما هو من جهة اضلالهم فيعود الاضلال غاية والحمل غاية الغاية والتقدير قالوا اساطير الاولين ليضلوهم وهم انفسهم ضالون فيحملوا اوزار انفسهم كاملة ومن اوزار اولئك الذين يضلونهم بغير علم. وفي تقييد قوله ليحملوا اوزارهم بقوله كاملة دفع لتوهم التقسيم والتبعيض بان يحملوا بعضا من اوزار انفسهم وبعضا من اوزار الذين يضلونهم فيعود الجميع اوزارا كاملة بل يحملون اوزار انفسهم كاملة ثم من اوزار الذين يضلونهم. وقوله ومن اوزار الذين يضلونهم من تبعيضية لانهم لا يحملون جميع اوزارهم بل اوزارهم التى ترتبت على اضلالهم خاصة بشهادة السياق فالتبعيض انما هو لتمييز الاوزار المترتبة على الاضلال من غيرها لا للدلالة على تبعيض كل وزر من اوزار الاضلال وحمل بعضه على هذا وبعضه على ذاك ولا تقسيم مجموع اوزار الاضلال وحمل قسم منه على هذا وقسم منه على ذاك مع تعريته عن القسم الاخر فان امثال قوله تعالى: " ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " الزلزال: 8 تنافى ذلك فافهم. ومما تقدم يظهر وهن ما استفاده بعضهم من قوله ليحملوا اوزارهم كاملة يوم القيامة إن مقتضاه انه لم ينقص منها شئ ولم تكفر بنحو بلية تصيبهم في الدنيا أو طاعة مقبولة فيها كما تكفر بذلك اوزار المؤمنين. وكذا ما استفاده بعض آخر ان في الاية دلالة على انه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلا للكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار به فائدة. وجه الوهن ان ما ذكراه من خزى الكافرين واكرام المؤمنين وان كان حقا في نفسه كما تدل عليه الايات الدالة على خزى الكفار بما يصيبهم في الدنيا وحبط اعمالهم وشمول المغفرة والشفاعة لطائفة من المؤمنين لكن هذه الاية ليست ناظرة إلى شئ من ذلك بل العناية فيها انما هي بالفرق بين اوزار انفسهم واوزار غيرهم الذين اضلوهم وان الطائفة الثانية يلحقهم بعضها وهى التى ترتبت من الاوزار على الاضلال بخلاف
________________________________________
[ 232 ]
الطائفة الاولى فهى لهم انفسهم. واوهن منهما ما ذكره بعضهم ان من في قوله ومن اوزار الذين الخ زائدة أو بيانية وهو كما ترى. وتقييده سبحانه قوله يضلونهم بقوله بغير علم للدلالة على ان الذين اضلهم هؤلاء المشركون الذين قالوا اساطير الاولين انما ضلوا باتباعهم لهم تقليدا وبغير علم فالقائلون ائمة الضلال وهؤلاء الضلال اتباعهم ومقلدوهم ثم ختم سبحانه الاية بذمهم وتقبيح امرهم جميعا فقال: " ألا ساء ما يزرون " قوله تعالى: " قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد " الخ اتيانه تعالى بنيانهم من القواعد هو حضور امره تعالى عنده بعد ما لم يكن حاضرا وهذا شائع في الكلام وخرور السقف سقوطه على الارض وانهدامه والظاهر كما يشعر به السياق ان قوله فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم كناية عن ابطال كيدهم وافساد مكرهم من حيث لا يتوقعون كمن يتقى امامه ويراقبه فيأتيه العدو من خلفه فالله سبحانه يأتي بنيان مكرهم من ناحية قواعده وهم مراقبون سقفه مما ياتيه من فوق فينهدم عليهم السقف لا بهادم يهدمه من فوقه بل بانهدام القواعد. وعلى هذا فقوله وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون عطف تفسيرى يفسر قوله فأتى الله بنيانهم الخ والمراد بالعذاب العذاب الدنيوي. وفي الاية تهديد للمشركين الذين كانوا يمكرون بالله ورسوله بتذكيرهم ما فعل الله بالماكرين من قبلهم من مستكبرى الامم الماضية حيث رد مكرهم إلى انفسهم فكانوا هم الممكورين. قوله تعالى: " ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول اين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم " الاخزاء من الخزى وهو على ما ذكره الراغب الذل الذى يستحيى منه والمشاقة من الشق وهو قطع بعض الشئ وفصله منه فهى المخاصمة والمعاداة والاختلاف ممن من شأنه ان يأتلف ويتفق فمشاقة المشركين في شركائهم هو اختلافهم مع اهل التوحيد وهم امة واحدة فطرهم الله جميعا على التوحيد ودين الحق ومخاصمتهم
________________________________________
[ 233 ]
لهم وانفصالهم عنهم. والمعنى ان الله سبحانه سيخزيهم يوم القيامة ويضرب عليهم الذلة والهوان بقوله اين شركائي الذين كنتم تشاقون اهل الحق فيهم وتخاصمونهم وتوجدون الاختلاف في دين الله. قوله تعالى: " قال الذين اوتوا العلم ان الخزى اليوم والسوء على الكافرين " الخزى ذلة الموقف والسوء العذاب على ما يفيده السياق. وهؤلاء الذين وصفهم الله بانهم اوتوا العلم واخبر أنهم يتكلمون بكذا هم الذين رزقوا العلم بالله وانكشفت لهم حقيقة التوحيد فان ذلك هو الذى يعطيه السياق من جهة المقابلة بينهم مع وصفهم بالعلم وبين المشركين الذين ينكشف لهم يومئذ انهم ما كانوا يعبدون الا اسماء سموها وسرابا توهموه. على ان الله سبحانه يخبر عنهم انهم يتكلمون يومئذ ويقولون كذا وقد قال في وصف اليوم: " لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا " النبأ: 38 والقول لا يكون صوابا بحق المعنى الا مع كون قائله مصونا من خطأه ولغوه وباطله ولا يكون مصونا في قوله الا إذا كان مصونا في فعله وفي علمه فهؤلاء قوم لا يرون الا الحق ولا يفعلون الا الحق ولا ينطقون الا بالحق. فان قلت فالذين اوتوا العلم بناء على ما فسرهم اهل العصمة لكن تدفعه كثرة ورود هذه اللفظة في كلامه تعالى وإرادة غيرهم كقوله: " وقال الذين اوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير " القصص: 80 وقوله: " وليعلم الذين اوتوا العلم انه الحق من ربك فيؤمنوا به " الحج: 54 إلى غير ذلك من الموارد الظاهر فيها عدم ارادة العصمة من ايتاء العلم. قلت ما ذكرناه انما هو استفادة بمؤنة المقام لا انه مدلول اللفظ كلما اطلق في كلامه تعالى. واما قولهم ان المراد بالذين اوتوا العلم هم الانبياء فقط أو الانبياء والمؤمنون الذين علموا في الدنيا بدلائل التوحيد أو المؤمنون فحسب أو الملائكة فلا دليل في كلامه تعالى على واحد منها بخصوصه.
________________________________________
[ 234 ]
قوله تعالى: " الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي انفسهم فألقوا السلم " إلى آخر الاية الظاهر انه تفسير للكافرين الواقع في آخر الاية السابقة كما ان قوله الاتى الذين تتوفاهم الملائكة طيبين الخ تفسير للمتقين الواقع في آخر الاية التى قبله ولا يستلزم كونه بيانا للكافرين كونه من تمام قول الذين اوتوا العلم حتى يختل نظم الكلام بقولهم ان الخزى اليوم الخ ثم بيانهم بقولهم الذين تتوفاهم الملائكة الخ دون ان يقولوا الذين توفاهم الملائكة كما لا يخفى. وقوله فألقوا السلم أي الاستسلام وهو الخضوع والانقياد وضمير الجمع للكافرين والمعنى الكافرون هم الذين تتوفاهم الملائكة ويقبضون ارواحهم والحال انهم ظالمون لانفسهم بكفرهم بالله فالقوا السلم وقدموا الخضوع والانقياد مظهرين بذلك انهم ما كانوا يعملون من سوء فيرد عليهم قولهم ويكذبون ويقال لهم بلى قد فعلتم وعملتم ان الله عليم بما كنتم تعملون قبل ورودكم هذا المورد وهو الموت. قوله تعالى: " فادخلوا ابواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين " الخطاب للمجموع كما كان قوله ان الخزى اليوم والسوء على الكافرين وكذا قوله الذين تتوفاهم الملائكة الخ ناظرا إلى جماعة الكافرين دون كل واحد واحد منهم. وعلى هذا يعود معناه إلى مثل قولنا ليدخل كل واحد منكم بابا من جهنم يناسب عمله وموقفه من الكفر لا ان يدخل كل واحد منهم جميع الابواب أو اكثر من واحد منها وقد تقدم الكلام في معنى ابواب جهنم في تفسير قوله تعالى: " لها سبعة ابواب لكل باب منهم جزء مقسوم " الحجر 44. والمتكبرون هم المستكبرون بحسب المصداق وان كانت العناية اللفظية مختلفة فيهما كالمسلم والمستسلم فالمستكبر هو الذى يطلب الكبر لنفسه باخراجه من القوة إلى الفعل واظهاره لغيره والمتكبر هو الذى يقبله لنفسه ويأخذه صفة. قوله تعالى: " وقيل للذين اتقوا ما ذا انزل ربكم قالوا خيرا " إلى آخر الاية. اخذ المسؤل عنهم هم الذين اتقوا أي الذين شأنهم في الدنيا انهم تلبسوا بالتقوى وهم المتصفون به المستمرون بدليل اعادة ذكرهم بعد بلفظ المتقين مرتين فيكون المسؤل
________________________________________
[ 235 ]
عنهم من هذه الطائفة خيارهم الكاملين في الايمان كما كان المسؤل عنهم في الطائفة الاخرى شرارهم الكاملين في الكفر وهم المستكبرون. فقول بعضهم ان المراد بالذين اتقوا مطلق المؤمنين الذين اتقوا الشرك أو الشرك والمعاصي في الجملة ليس في محله. وقوله قالوا خيرا أي انزل خيرا لانه انزل قرآنا يتضمن معارف وشرائع في اخذها والعمل بها خير الدنيا والاخرة وفي قولهم خيرا اعتراف بكون القرآن نازلا من عنده تعالى مضافا إلى وصفهم له بالخيرية وفي ذلك اظهار منهم المخالفة للمستكبرين حيث اجابوا بقولهم اساطير الاولين أي هو اساطير ولو قال المتقون خير بالرفع لم يكن فيه اعتراف بالنزول كما انه لو قال المستكبرون اساطير الاولين بالنصب كان فيه اعتراف بالنزول كذا قيل. وقوله للذين احسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الاخرة خير ظاهر السياق انه بيان لقولهم خيرا وهل هو تتمة قولهم أو بيان منه تعالى ؟ ظاهر قوله ولنعم دار المتقين جنات عدن إلى آخر الاية انه كلام منه تعالى يبين به وجه الخيرية فيما انزله إليهم فانه اشبه بكلام الرب تعالى منه بكلام المربوب وخاصة المتقين الذين لا يجترؤن على امثال هذه الاقتراحات. والمراد بالحسنة المثوبة الحسنة وذلك لانهم بالاحسان الذى هو العمل بما يتضمنه الكتاب يرزقون مجتمعا صالحا يحكم فيه العدل والاحسان وعيشة طيبة مبنية على الرشد والسعادة ينالون ذلك جزاء دنيويا لاحسانهم لقوله لهم في الدنيا ولدار الحياة الاخرة خير جزاء لان فيها بقاء بلا فناء ونعمة من غير نقمة وسعادة ليس معها شقاء. ومعنى الاية وقيل للمتقين من المؤمنين ماذا انزل ربكم من الكتاب وما شأنه ؟ قالوا انزل خيرا وكونه خيرا هو ان للذين احسنوا أي عملوا بما فيه فوضع الاحسان موضع الاخذ والعمل بما في الكتاب ايماء إلى ان الذى يامر به الكتاب اعمال حسنة في هذه الدنيا مثوبة حسنة ولدار الاخرة خير لهم جزاء. ثم مدح دارهم ليكون تأكيدا للقول فقال ولنعم دار المتقين ثم بين دار المتقين بقوله جنات عدن يدخلونها تجرى من تحتها الانهار لهم فيها ما يشاؤن
________________________________________
[ 236 ]
كذلك يجزى الله المتقين والمعنى ظاهر قوله تعالى: " الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون " بيان للمتقين كما كان قوله الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي انفسهم الخ بيانا للمستكبرين. والطيب تعرى الشئ مما يختلط به فيكدره ويذهب بخلوصه ومحوضته يقال طاب لى العيش أي خلص وتعرى مما يكدره وينغصه والقول الطيب ما كان عاريا من اللغو والشتم والخشونة وسائر ما يوجب فيه غضاضة والفرق بين الطيب والطهارة ان الطهارة كون الشئ على طبعه الاصلى بحيث يخلو عما يوجب التنفر عنه والطيب كونه على اصله من غير ان يختلط به ما يكدره ويفسد امره سواء تنفر عنه ام لا ولذلك قوبل الطيب بالخبيث المشتمل على الخبث الزائد قال تعالى: " الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات " النور: 26 وقال: " والبلد الطيب يخرج نباته باذن ربه والذى خبث لا يخرج إلا نكدا " الاعراف: 58. وعلى هذا فالمراد بكون المتقين طيبين في حال توفيهم خلوصهم من خبث الظلم في مقابل المستكبرين الذين وصفهم بالظلم حال التوفى في قوله السابق الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي انفسهم ويكون معنى الاية ان المتقين هم الذين تتوفاهم الملائكة متعرين عن خبث الظلم الشرك والمعاصي يقولون لهم سلام عليكم وهو تأمين قولى لهم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وهو هداية لهم إليها. فالاية كما ترى تصف المتقين بالتخلص عن التلبس بالظلم وتعدهم الامن والاهتداء إلى الجنة فيعود مضمونها إلى معنى قوله: " الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون " الانعام: 82. وذكر بعض المفسرين ان المراد بالطيب في الاية الطهارة عن دنس الشرك وفسره بعضهم بكون اقوالهم وافعالهم زاكية والاكثر على تفسيره بالطهارة عن قذارة الذنوب وانت بالتأمل فيما تقدم تعرف ان شيئا مما ذكروه لا يخلو عن تسامح. قوله تعالى: " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي امر ربك كذلك فعل
________________________________________
[ 237 ]
الذين من قبلهم " الخ رجوع إلى حديث المستكبرين من المشركين وذكر بعض احوالهم واقوالهم وقياسهم ممن سبقهم من طغاة الامم الماضين وما آل إليه امرهم. وقوله: " هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو ياتي امر ربك " سياق الاية وخاصة ما في الاية التالية من حديث العذاب ظاهر في انها مسوقة للتهديد فالمراد باتيان الملائكة نزولهم لعذاب الاستئصال وينطبق على مثل قوله: " ما ننزل الملائكة الا بالحق وما كانوا إذا منظرين " الحجر: 8 والمراد باتيان امر الرب تعالى قيام الساعة وفصل القضاء والانتقام الالهى منهم. واما كون المراد باتيان الامر ما تقدم في اول السورة من قوله اتى امر الله وقد قربنا هناك ان المراد به مجئ النصر وظهور الاسلام على الشرك فلا يلائم اللحن الشديد الذى في الاية تلك الملائمة وايضا سيأتي في ذيل الايات ذكر انكارهم للبعث واصرارهم على نفيه والرد عليهم وهو يؤيد كون المراد باتيان الامر قيام الساعة. وقد اضاف الرب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال امر ربك ولم يقل امر الله أو امر ربهم ليدل به على ان فيه انتصارا له صلى الله عليه وآله وسلم وقضاء له عليهم. وقوله كذلك فعل الذين من قبلهم تأكيد للتهديد وتأييد بالنظير أي فعل الذين من قبلهم مثل فعلهم من الجحود والاستهزاء مما فيه بحسب الطبع انتظار عذاب الله فأصابهم سيئات ما عملوا الخ. وقوله وما ظلمهم الله ولكن كانوا انفسهم يظلمون معترضة يبين بها ان الذى نزل بهم من العذاب لم يستوجبه الا الظلم غير ان هذا الظلم كان هو ظلمهم انفسهم لا ظلما منه تعالى وتقدس ولم يعذبهم الله سبحانه عن ظلم وقع منهم مرة أو مرتين بل امهلهم إذ ظلموا حتى استمروا في ظلمهم واصروا عليه كما يدل عليه قوله كانوا انفسهم يظلمون فعند ذلك انزل عليهم العذاب ففى قوله وما ظلمهم الله الخ اثبات الاستمرار على الظلم عليهم ونفى اصل الظلم عن الله سبحانه. قوله تعالى فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن حاق بهم أي حل بهم وقيل معناه نزل بهم واصابهم والذى كانوا به يستهزؤن هو العذاب الذى كانت رسلهم ينذرونهم به ومعنى الاية ظاهر.
________________________________________
[ 238 ]
قوله تعالى: " وقال الذين اشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ " الخ الذى تورده الاية شبهة على النبوة من الوثنيين المنكرين لها ولذلك عرفهم بنعتهم الصريح حيث قال وقال الذين اشركوا ولم يكتف بالضمير ولم يقل وقالوا كما في الايات السابقة ليعلم ان الشبهة لهم بعينهم. وقوله لو شاء الله ما عبدنا جملة شرطية حذف فيها مفعول شاء لدلالة الجزاء عليه والتقدير لو شاء الله ان لا نعبد من دونه شيئا ما عبدنا الخ. وقول بعضهم ان الارادة والمشية لا تتعلق بالعدم وانما تتعلق بالوجود فلا معنى لمشية عدم العبادة فالاولى ان يقدر متعلق المشية امرا وجوديا ملازما لعدم العبادة كالتوحيد مثلا ويكون التقديم لو شاء الله ان نوحده أو ان نعبده وحده ما عبدنا من دونه من شئ واستدل بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن حيث علق عدم الكون على عدم المشية لا على مشية العدم وفيه ان ما ذكره حق بالنظر إلى حقيقة الامر إلا ان العنايات اللفظية والتوسعات الكلامية لا تدور دائما مدار الحقائق الكونية والانظار الفلسفية وان الافهام البسيطة ولم تكن افهام اولئك الوثنيين بأرقى منها كما تجيز ترتب الفعل الوجودى على المشية تجيز تعلق عدمه بها وفي كلامه صلى الله عليه وآله وسلم جريا على هذه العناية الظاهرية اللهم ان شئت ان لا تعبد لم تعبد. على انهم يشيرون بقولهم لو شاء الله ما عبدنا الخ إلى قول الرسل لهم لا تشركوا بالله ولا تعبدوا غير الله ولا تحرموا ما احل الله وهى نواه ومدلول النهى طلب الترك. على ان الوثنيين لا ينكرون توحيده تعالى في الالوهية بمعنى الصنع والايجاد وانما يشركون في العبادة بمعنى انهم يخصونه تعالى بالصنع والايجاد ويخصون آلهتهم بالعبادة فلهم آلهة كثيرون احدهم اله موجد غير معبود وهو الله سبحانه والباقون شفعاء معبودون غير موجدين فهم لا يعبدون الله اصلا لا انهم يعبدونه تعالى وآلهتهم جميعا وحينئذ لو كان التقدير لو شاء الله أن نوحده في العبادة أو ان نعبده وحده
________________________________________
[ 239 ]
لكان الاهم ان يقع في الجزاء توحيدهم له في العبادة أو عبادتهم له وحده لا نفى عبادتهم لغيره أو كان نفى عبادة الغير كناية عن توحيد عبادته أو عبادته وحده فافهم ذلك. وان كان ولا بد من تقدير متعلق المشية امرا وجوديا فليكن التقدير لو شاء الله ان نكف عن عبادة غيره ما عبدنا الخ حتى يتحد الشرط والجزاء بحسب الحقيقة في عين انهما يختلفان في النفى والاثبات. وقوله ما عبدنا من دونه من شئ لفظة من الاولى بيانية والثانية زائدة لتأكيد الاستغراق في النفى والمعنى ما عبدنا شيئا دونه ونظير ذلك قوله ولا حرمنا من دونه من شئ. وقوله نحن ولا آباؤنا بيان لضمير التكلم في عبدنا للدلالة على انهم يتكلمون عنهم وعن آبائهم جميعا لانهم كانوا يقتدون في عبادة الاصنام بآبائهم وقد تكرر في القرآن حكاية مثل قولهم انا وجدنا آباءنا على امة وانا على آثارهم مقتدون " الزخرف: 23. وقوله ولا حرمنا من دونه من شئ " عطف على قوله عبدنا الخ أي ولو شاء الله ان لا نحرم من دونه من شئ اونحل ما حرمناه ما حرمنا الخ والمراد البحيرة والسائبة وغيرهما مما حرموه. ثم ان قولهم لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ الخ ظاهر من جهة تعليق نفى العبادة على نفس مشيته تعالى في انهم ارادوا بالمشية ارادته التكوينية التى لا تتخلف عن المراد البتة ولو ارادوا غيرها لقالوا لو شاء الله كذا لاطعناه واستجبنا دعوته أو ما يفيد هذا المعنى. فكأنهم يقولون لو كانت الرسالة حقة وكان ما جاء به الرسل من النهى عن عبادة الاصنام والاوثان والنهى عن تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة وغيرها نواهى لله سبحانه كان الله سبحانه شاء ان لا نعبد شيئا غيره وان لا نحرم من دونه شيئا ولو شاء الله سبحانه ان لا نعبد غيره ولا نحرم شيئا لم نعبد ولم نحرم لاستحالة تخلف مراده عن ارادته لكنا نعبد غيره ونحرم اشياء فليس يشاء شيئا من ذلك فلا نهى ولا امر منه تعالى ولا شريعة ولا رسالة من قبله.
________________________________________
[ 240 ]
هذا تقرير حجتهم على ما يعطيه السياق ومغزى مرادهم ان عبادتهم لغير الله وتحريمهم لما حرموه وبالجملة عامة اعمالهم لم تتعلق بها مشية من الله بنهي ولو تعلقت لم يعملوها ضرورة. وليسوا يعنون بها إن مشية الله تعلقت بعبادتهم وتحريمهم فصارت ضرورية الوجود وهم ملجؤن في فعلها مجبرون في الاتيان بها فلا معنى لنهى الرسل عنها بعد الالجاء وذلك ان لو تفيد امتناع الجزاء لامتناع الشرط فيكون مفهوم الشرطية لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ انه لم يشأ ذلك فعبدنا غيره وان شئت قلت لكنا عبدنا غيره فانكشف انه لم يشأ ذلك واما مثل قولنا لكنه شاء أن نعبد غيره فعبدنا غيره أو قولنا لكنه شاء ان لا نوحده فعبدنا غيره فهو اجنبي عن مفهوم الشرطية ومنطوقها جميعا. على انهم لو عنوا ذلك وكان غرضهم رد النبوة باثبات الالجاء في افعالهم بما اقاموه من الحجة كانوا بذلك معترفين على الضلال مسلمين له غير انهم معتذرون عن اتباع الهدى الذى اتاهم به الرسل بالالجاء والاجبار وان الله شاء منهم ما هم عليه من الضلال والشقاء بعبادة غير الله وتحريم ما احل الله واجبرهم على ذلك فليسوا يقدرون على تركه ولا يستطيعون التخلف عنه. لكنهم مدعون للاهتداء مصرون على هذه المزعمة مصرحون بها كما حكى الله سبحانه ذلك عنهم بعد ذكر عبادتهم للملائكة إذ قال وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم ان هم الا يخرصون إلى ان قال: " بل قالوا انا وجدنا آباءنا على امة وانا على آثارهم مهتدون " الزخرف: 22 وقد تكرر في كلامه حكاية تعليلهم عبادة الاصنام بأنها سنة قومية قدسها سلفهم قبل خلفهم فمن الواجب ان يقدسها ويجرى عليها خلفهم بعد سلفهم واين هذا من الاعتراف بالضلال والشقاء ؟ وكذا ليسوا يعنون بهذه الحجة إن اعمالهم مخلوقة لانفسهم غير مرتبطة بالمشية الالهية ولا انه خالقها إذ الاعمال والافعال على هذا التقدير بمعزل من ان تتعلق بها الارادة الالهية وانما يتسبب تعالى لعدم فعل من الافعال بايجاد المانع عنه فكان الانسب حينئذ ان يقولوا لو شاء الله لصرفنا عن عبادة غيره وتحريم ما حرمناه وهو
________________________________________
[ 241 ]
مدفوع بظاهر الكلام أو يقولوا لو شاء الله شيئا من اعمالنا لبطل وخرج عن كونه عملا لنا ونحن مستقلون به. على انه لو كان معنى قولهم لو شاء الله ما عبدنا هو انه لو شاء لصرفنا كان حقا فلم يكن معنى لقوله تعالى في آية الزخرف السابقة: " وقالوا لو شاء الرحمان ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم ان هم الا يخرصون " الزخرف: 20. فالحق انهم ارادوا بقولهم لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ ان يستدلوا بعبادتهم لها على ان المشية الالهية لم تتعلق بتركها من غير تعرض لتعلق المشية بفعل العبادة أو لكون المشية مستحيلة التعلق بعبادتهم إلا بالصرف. قوله تعالى: " كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل الا البلاغ المبين " خطاب للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بأمره ان يبلغ رسالته بلاغا مبينا ولا يعتنى بما لفقوه من الحجة فانها داحضة والحجة تامة عليهم بالبلاغ وفيه اشارة اجمالية إلى دحض حجتهم. فقوله كذلك فعل الذين من قبلهم أي على هذا الطريق الذى سلكه هؤلاء سلك الذين من قبلهم فعبدوا غير الله وحرموا ما لم يحرمه الله ثم إذا جاءتهم رسلهم ينهونهم عن ذلك قالوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شئ فالجملة كقوله تعالى: " كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بايات الله فأخذهم الله بذنوبهم " الانفال: 52. وقوله فهل على الرسل إلا البلاغ المبين أي بلغهم الرسالة بلاغا مبينا تتم به الحجة عليهم فانما وظيفة الرسل البلاغ المبين وليس من وظيفتهم ان يلجؤا الناس إلى ما يدعونهم إليه وينهونهم عنه ولا أن يحملوا معهم ارادة الله الموجبة التى لا تتخلف عن المراد ولا امره الذى إذا اراد شيئا قال له كن فيكون حتى يحولوا بذلك الكفر إلى الايمان ويضطروا العاصى على الاطاعة. فانما الرسول بشر مثلهم والرسالة التى بعث بها انذار وتبشير وهى مجموعة قوانين اجتماعية اوحاها إليه الله فيها صلاح الناس في دنياهم وآخرتهم صورتها صورة الاوامر والنواهي المولوية وحقيقتها الانذار والتبشير قال تعالى: " قل لا اقول لكم عندي
________________________________________
[ 242 ]
خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا اقول لكم انى ملك " الانعام: 50 فهذا ما امر به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان يبلغهم وقد امر به نوحا ومن بعده من الرسل عليهم السلام ان يبلغوه اممهم كما في سورة هود وغيرها. وقال ايضا مخاطبا نبيه صلى الله عليه وآله وسلم: " قل انما انا بشر مثلكم يوحى إلى انما الهكم اله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه احدا " الكهف: 110. فهذا هو الذى يشير إليه على سبيل الاجمال بقوله كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل الا البلاغ المبين فان ظاهره كما اشرنا إليه سابقا ان هذه حجة دائرة بينهم قديما وحديثا وعلى هذا ليس من شأن الرسول اجبار الناس والجاؤهم على الايمان والطاعة بل البلاغ المبين بالانذار والتبشير وحجتهم لا تدفع ذلك فبلغ ما ارسلت به بلاغا مبينا ولا تطمع في هداية من ضل منهم وستفصل الايتان التاليتان ما اجملته هذه الاية وتوضحانها. قوله تعالى: " ولقد بعثنا في كل امة رسولا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة " الخ الطاغوت في الاصل مصدر كالطغيان وهو تجاوز الحد بغير حق واسم المصدر منه الطغوى قال الراغب الطاغوت عبارة عن كل متعد وكل معبود من دون الله ويستعمل في الواحد والجمع قال تعالى: " فمن يكفر بالطاغوت " والذين اجتنبوا الطاغوت " اولياؤهم الطاغوت " انتهى. وقوله ولقد بعثنا في كل امة رسولا اشارة إلى ان بعث الرسول امر لا يختص به امة دون امة بل هو سنة الهية جارية في جميع الناس بما انهم في حاجة إليه وهو يدركهم اينما كانوا كما اشار إلى عمومه في الاية السابقة اجمالا بقوله كذلك فعل الذين من قبلهم. وقوله ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت بيان لبعث الرسول على ما يعطيه السياق أي ما كانت حقيقة بعث الرسول الا ان يدعوهم إلى عبادة الله واجتناب الطاغوت لان الامر وكذا النهى من البشر وخاصة إذا كان رسولا ليس إلا دعوة عادية
________________________________________
[ 243 ]
لا الجاء واضطرارا تكوينيا ولا ان للرسول ان يدعى ذلك حتى يرد عليه انه لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ واذ لم يشأ فلا معنى للرسالة. ومن هنا يظهر ان قول بعضهم ان التقدير ليقول لهم اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ليس في محله. وقوله فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة أي كانت كل من هذه الامم مثل هذه الامة منقسمة إلى طائفتين فبعضهم هو من هداه الله إلى ما دعاهم إليه الرسول من عبادة الله واجتناب الطاغوت وذلك ان الهداية من الله سبحانه لا يشاركه فيها غيره ولا تنسب إلى احد دونه إلا بالتبع كما قال: " انك لا تهدى من احببت ولكن الله يهدى من يشاء " القصص: 56 وسنشير إليه في الاية التالية ان تحرص على هداهم فان الله لا يهدى من يضل والايات في حصر الهداية فيه تعالى كثيرة ولا يستلزم ذلك كونها امرا اضطراريا لا صنع فيه للعبد اصلا فانها اختيارية بالمقدمة كما يشير إليه قوله: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين " العنكبوت: 69 يفيد ان للهداية الالهية طريقا ميسرا للانسان وهو الاحسان في العمل وان الله لمع المحسنين لا يدعهم يضلون. وبعض هذه الامم الطائفة الثانية منهم هو من حقت عليه الضلالة أي ثبتت ولزمت وهذه الضلالة هي التى من قبل العبد بسوء اختياره وليس بالتى تتبعها مجازاة من الله فان الله يصفها بقوله حقت ثم يضيفها في الاية التالية إلى نفسه إذ يقول فان الله لا يهدى من يضل فقد كانت هناك ضلالة ثم حقت وثبتت باثبات الله مجازاة فصارت هي التى من قبل الله سبحانه مجازاة فتبصر. ولم ينسب الله سبحانه في كلامه إلى نفسه اضلالا الا ما كان مسبوقا بظلم من العبد أو فسق أو كفر وتكذيب أو نظائرها كقوله: " والله لا يهدى القوم الظالمين " الجمعة: 5 وعدم الهداية هو الاضلال وقوله: " ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء " ابراهيم: 27 وقوله: " وما يضل به الا الفاسقين " البقرة: 26 وقوله: " ان الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم " النساء: 168 وقوله: " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " الصف: 5 إلى غير ذلك من الايات.
________________________________________
[ 244 ]
ولم يقل سبحانه فمنهم من هدى الله ومنهم من اضله مع كون ضلالهم ضلال مجازاة لا مانع من اضافته إليه تعالى دفعا لايهام نسبة اصل الضلال إليه بل ذكر اولا من هداه ثم قابله بمن كان من حقه ان يضل وهو الذى اختار الضلالة على الهدى أي اختار ان لا يهتدى فلم يهده الله وحق له ذلك. وتوضيحه ببيان آخر ان خلاصة الفرق بين الضلال الابتدائي ونسبته إلى العبد والضلال مجازاة ونسبته إليه تعالى ونسبة الهداية ابتداء ومجازاة إلى الله سبحانه هي ان الله اودع في الانسان امكان الرشد واستعداد الاهتداء فان جرى على سلامة الفطرة ولم يبطل الاستعداد باتباع الهوى والمعصية أو اصلحه بالندامة والتوبة بعد المعصية هداه الله وهذه هداية مجازاة من الله سبحانه بعد الهداية الاولى الفطرية. وان اتبع هواه وعصى ربه بطل استعداده للاهتداء فلم يفض عليه الهدى وهو ضلاله بسوء اختياره فان لم يندم ولم يراجع اثبته الله على حاله وحقت عليه الضلالة وهو الضلال مجازاة. وربما توهم متوهم ان الامكان والاستعداد لا يكون الا ذا طرفين فالذي يمكنه الهدى يمكنه الضلال والانسان لا يزال مترددا بين آثار وجودية وافعال مثبتة والجميع منه تعالى حتى الاستعداد والامكان الاول. وهو من اوهن التوهم فان عد امكان الضلال وما يترتب عليه الضلال امرا وجوديا وعطاء ربانيا يفسد معنى الضلال ويبطله فان الضلال انما هو ضلال لكونه عدم الهداية فلو عاد امرا ثبوتيا لم يكن ضلالا بل صار الهدى والضلال كلاهما امرين وجوديين وعطاءين الهيين نظير ما يترتب على الجماد مثلا من الاثار الوجودية الخارجة عن الهدى والضلال. وبعبارة اخرى الضلال انما يكون ضلالا إذا كان مقيسا إلى الهدى ومن الواجب حينئذ ان يكون عدم الهدى وإذا اخذ امرا وجوديا لم يكن ضلالا فلم ينقسم الموضوع إلى مهتد وضال ولا حاله إلى هدى وضلال فلا مفر من اخذ الضلال امرا عدميا ونسبة الضلال الاول إلى نفسه العبد فاحسن التأمل فيه فلا تزل قدم بعد ثبوتها. وقوله فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ظاهر السياق
________________________________________
[ 245 ]
ان الخطاب للذين اشركوا القائلين لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ والالتفات إلى خطابهم لكونه اشد تأثيرا في تثبيت القول واتمام الحجة. والكلام متفرع على ما بين جوابا لحجتهم اجمالا وتفصيلا ومحصل المعنى ان الرسالة والدعوة النبوية ليست من الارادة التكوينية الملجئة إلى ترك عبادة الاصنام وتحريم ما لم يحرمه الله حتى يستدلوا بعدم وجود الالجاء على عدم وجود الرسالة وكذب مدعيها بل هي دعوة عادية بعث الله سبحانه بها رسلا يدعونكم إلى عبادة الله واجتناب الطاغوت وحقيقته الانذار والتبشير ومن الدليل على ذلك آثار الامم الماضية الظالمة التى تحكى عن نزول العذاب عليهم فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين حتى يتبين لكم ان الدعوة النبوية التى هي انذار حق وان الرسالة ليست كما تزعمون. قوله تعالى: " إن تحرص على هداهم فان الله لا يهدى من يضل وما لهم من ناصرين لما بين ان الامم الماضين انقسموا طائفتين وكانت احدى الطائفتين هم الذين حقت عليهم الضلالة وكانت هؤلاء الذين اشركوا وقالوا ما قالوا كالذين من قبلهم منهم بين في هذه الاية ان ثبوت الضلالة في حقهم انما هو ثبوت لا زوال معه وتحتم لا يقبل التغيير فانه لا هادى بالحقيقة الا الله فان جاز هداهم كان الله هو هاديهم لكنه لا يهديهم فانه يضلهم ولا يجتمع الهدى والضلال معا وليس هناك ناصر ينصرهم على الله فيقهره على هداهم فليؤيس منهم. ففى الاية تعزية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وارشاد له ان لا يحرص في هداهم واعلام له ان القضاء قد مضى في حقهم وما يبدل القول لديه وما هو بظلام للعبيد. فقوله ان تحرص على هداهم الخ في تقدير ان تحرص على هداهم لم ينفعهم حرصك شيئا فليسوا ممن يمكن له الاهتداء فان الله هو الذى يهدى من اهتدى وهو لا يهديهم فانه يضلهم ولا يناقض تعالى فعل نفسه وليس لهم ناصرون ينصرونهم عليه. وفي هذه الايات الثلاث مشاجرات طويلة بين المجبرة والمفوضة وكل يفسرها بما يقتضيه مذهبه حتى قال الامام الرازي ان المشركين ارادوا بقولهم لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ الخ انه لما كان الكل من التوحيد والشرك والهدى والضلال
________________________________________
[ 246 ]
من الله كانت بعثة الانبياء عبثا فنقول هذا اعتراض على الله وجار مجرى طلب العلة في احكامه وافعاله تعالى وذلك باطل فلا يقال له لم فعلت هذا ولم لم تفعل ذلك ؟ قال فثبت ان الله تعالى انما ذم هؤلاء القائلين لانهم اعتقدوا ان كون الامر كذلك يمنع عن جواز بعثة الرسل لا لانهم كذبوا في قولهم ذلك انتهى ملخصا. وقال الزمخشري ان المشركين فعلوا ما فعلوا من القبيح ثم نسبوه إلى ربهم وقالوا لو شاء الله إلى آخره وهذا مذهب المجبرة بعينه كذلك فعل اسلافهم فهل على الرسل الا ان يبلغوا الحق وان الله لا يشاء الشرك والمعاصي بالبيان والبرهان ويطلعوا على بطلان الشرك وقبحه وبراءة الله من افعال العباد وانهم فاعلوها بقصدهم وارادتهم واختيارهم وان الله باعثهم على جميلها وموفقهم له وزاجرهم عن قبيحها وموعدهم عليه انتهى موضع الحاجة وقد اطالوا البحث عن ذلك من الجانبين. وقد عرفت ان الايات تروم غرضا وراء ذلك وان مرادهم بقولهم لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ الخ ابطال الرسالة بأن ما اتى به الرسل من النهى عن عبادة غير الله وتحريم ما لم يحرمه الله لو كان حقا لكان الله مريدا لتركهم عبادة غيره وتحريم ما لم يحرمه ولو كان مريدا ذلك لم يتحقق منهم وليس كذلك واما إن الارادة الالهية تعلقت بفعلهم فوجب أو انها لم تتعلق ومن المحال أن تتعلق وليست افعالهم إلا مخلوقة لانفسهم من غير ان يكون لله سبحانه فيها صنع فانما ذلك امر خارج عن مدلول كلامهم اجنبي عن الحجة التى اقاموها على ما يستفاد من السياق كما تقدم. وفي قوله وما لهم من ناصرين دلالة على ان لغيرهم ناصرين كثيرين وذلك ان السياق يدل على انه ليس لهم ناصر اصلا لا واحد ولا كثير فنفى الناصرين بصيغة الجمع يكشف عن عناية زائدة بذلك أي ان هناك ناصرين لكنهم ليسوا لهم بل لغيرهم وليس الا من يهتدى بهدى الله ونظير الاية ما حكاه الله سبحانه عن المجرمين يوم القيامة: " فما لنا من شافعين " الشعراء: 100. وهؤلاء الناصرون هم الملائكة الكرام وسائر اسباب التوفيق والهداية والله سبحانه من ورائهم محيط قال تعالى: " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد " المؤمن: 51.
________________________________________
[ 247 ]
قوله تعالى: " واقسموا بالله جهد ايمانهم لا يبعث الله من يموت بلى " إلى آخر الاية قال في المفردات الجهد بفتح الجيم وضمها الطاقة والمشقة ابلغ من الجهد بالفتح قال وقال تعالى: " واقسموا بالله جهد ايمانهم " أي حلفوا واجتهدوا في الحلف ان يأتوا به على ابلغ ما في وسعهم انتهى. وقال في المجمع في معنى قوله واقسموا بالله جهد ايمانهم أي بلغوا في القسم كل مبلغ انتهى. وقولهم لا يبعث الله من يموت انكار للحشر والجملة كناية عن ان الموت فناء فلا يتعلق به بعده خلق جديد وهذا لا ينافى قول كلهم أو جلهم بالتناسخ فانه قول بتعلق النفس بعد مفارقتها البدن ببدن آخر انسانى أو غير انسانى وعيشها في الدنيا وهو قولهم بالتولد بعد التولد. وقوله بلى وعدا عليه حقا أي ليس الامر كما يقولون بل يبعث الله من يموت وعده وعدا ثابتا عليه حقا أي ان الله سبحانه اوجبه على نفسه بالوعد الذى وعد عباده واثبته اثباتا فلا يتخلف ولا يتغير. وقوله ولكن اكثر الناس لا يعلمون أي لا يعلمون انه من الوعد الذى لا يخلف والقضاء الذى لا يتغير لاعراضهم عن الايات الدالة عليه الكاشفة عن وعده وهى خلق السماوات والارض واختلاف الناس بالظلم والطغيان والعدل والاحسان والتكليف النازل في الشرائع الالهية. قوله تعالى: " ليبين لهم الذى يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا انهم كانوا كاذبين " اللام للغاية والغرض أي يبعث الله من يموت ليبين لهم الخ والغايتان في الحقيقة غاية واحدة فان الثانية من متفرعات الاولى ولوازمها فان الكافرين انما يعلمون انهم كانوا كاذبين في نفى المعاد من جهة تبين الاختلاف الذى ظهر بينهم وبين الرسل بسبب اثبات المعاد ونفيه وظهور المعاد لهم عيانا. وتبين ما اختلف فيه الناس من شؤن يوم القيامة وقد تكرر في كلامه هذا التعبير وما في معناه تكرارا صح معه جعل تبيين الاختلاف معرفا لهذا اليوم الذى ثقل في السماوات والارض وعلى ذلك يتفرع ما قصه الله سبحانه في كلامه من تفاصيل
________________________________________
[ 248 ]
ما يجرى فيه من المرور على الصراط وتطاير الكتب ووزن الاعمال والسؤال والحساب وفصل القضاء ومن المعلوم وخاصة من سياق آيات القيامة ان المراد بالاختلاف ليس ما يوجد بينهم بحسب الخلقة بنحو ذكورة وانوثة وطول وقصر وبياض وسواد بل ما يوجد في دين الحق من الاختلاف في اعتقاد أو عمل وقد بين الله ذلك لهم في هذه النشأة الدنيوية في كتبه المنزلة وبلسان انبيائه بكل طريق ممكن كما يقول بعد عدة آيات: " وما انزلنا عليك الكتاب الا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه " الاية: 64 من السورة. ومن هنا يظهر للمتدبر ان البيان الذى يخبر تعالى عنه ويخصه بيوم القيامة نوع آخر من الظهور والوضوح غير ما يتمشى من الكتاب والنبوة في هذه الدنيا من البيان بالحكمة والموعظة والجدال بالتى هي احسن وليس الا العيان الذى لا يتطرق إليه شك وارتياب ولا يهجس معه خطور نفساني بالخلاف كما يشير إليه قوله تعالى: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " ق: 22 وقوله: " يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون ان الله هو الحق المبين " النور: 25. فيومئذ يشاهدون حقائق ما اختلفوا فيه من المعارف الدينية الحقة والاعمال الصالحة وما اخلدوا إليه من الباطل ويفصل بينهم بظهور الحق وانجلائه. قوله تعالى: " انما قولنا لشئ إذا اردناه ان نقول له كن فيكون " هو نظير قوله في موضع آخر: " انما امره إذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون " يس: 82 ومنه يعلم انه تعالى يسمى امره قولا كما يسمى امره وقوله من حيث قوته واحكامه وخروجه عن الابهام وكونه مرادا حكما وقضاء قال تعالى: " وما اغنى عنكم من الله من شئ ان الحكم إلا لله " يوسف: 67 وقال: " وقضينا إليه ذلك الامر إن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين " الحجر: 66 وقال: " وإذا قضى امرا فانما يقول له كن فيكون " البقرة: 117 وكما يسمى قوله الخاص كلمة قال تعالى: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين انهم لهم المنصورون " الصافات: 172 وقال: " ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " آل عمران
________________________________________
[ 249 ]
59 ثم قال في عيسى عليه السلام: " وكلمة القاها إلى مريم وروح منه ": النساء: 171. فتحصل من ذلك كله ان ايجاده تعالى اعني ما يفيضه على الاشياء من الوجود من عنده وهو بوجه نفس وجود الشئ الكائن هو امره وقوله حسب ما يسميه القرآن وكلمته لكن الظاهر ان الكلمة هي القول باعتبار خصوصيته وتعينه. ويتبين بذلك ان ارادته وقضاءه واحد وانه بحسب الاعتبار متقدم على القول والامرفهو سبحانه يريد شيئا ويقضيه ثم يامره ويقول له كن فيكون وقد علل عدم تخلف الاشياء عن امره بالطف التعليل إذ قال: " وهو الذى خلق السماوات والارض بالحق يوم يقول كن فيكون قوله الحق " الانعام: 73 فافاد ان قوله هو الحق الثابت بحقيقة معنى الثبوت أي نفس العين الخارجية التى هي فعله فلا معنى لفرض التخلف فيه وعروض الكذب أو البطلان عليه فمن الضرورى ان الواقع لا يتغير عما هو عليه فلا يخطئ ولا يغلط في فعله ولا يرد امره ولا يكذب قوله ولا يخلف في وعده. وقد تبين ايضا من هذه الاية ومن قوله: " وقال الذين اشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ " الخ ان لله سبحانه ارادتين ارادة تكوين لا يتخلف عنها المراد وارادة تشريع يمكن ان تعصى وتطاع وسنستوفي هذا البحث بعض الاستيفاء ان شاء الله (بحث روائي) في تفسير القمى باسناده عن ابى جعفر عليه السلام في قوله: " قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون قال بيت مكرهم أي ماتوا وابقاهم الله في النار " وهو مثل لاعداء آل محمد. اقول وظاهره ان قوله فأتى الله بنيانهم الخ كناية عن بطلان مكرهم. وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السلام قال فأتى الله
________________________________________
[ 250 ]
بنيانهم من القواعد قال كان بيت غدر يجتمعون فيه إذا ارادوا الشر وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " قال الذين اوتوا العلم " الاية قال قال عليه السلام الذين اوتوا العلم الائمة يقولون لاعدائهم اين شركاؤكم ومن اطعتموهم في الدنيا ؟ ثم قال قال فهم ايضا الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي انفسهم فالقوا السلم سلموا لما اصابهم من البلاء ثم يقولون ما كنا نعمل من سوء فرد الله عليهم فقال بلى الخ وفي امالي الشيخ باسناده عن ابى اسحاق الهمداني عن امير المؤمنين عليه السلام: فيما كتبه إلى اهل مصر قال يا عباد الله ان اقرب ما يكون العبد من المغفرة والرحمة حين يعمل بطاعته وينصح في توبته عليكم بتقوى الله فانها يجمع الخير ولا خير غيرها ويدرك بها من خير الدنيا وخير الاخرة قال عز وجل: " وقيل للذين اتقوا ماذا انزل ربكم قالوا خيرا للذين احسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الاخرة خير ولنعم دار المتقين وفي تفسير العياشي عن ابن مسكان عن ابى جعفر عليه السلام: في قوله ولنعم دار المتقين قال الدنيا وفي تفسير القمى: في قوله الذين تتوفاهم الملائكة طيبين قال قال عليه السلام هم المؤمنون الذين طابت مواليدهم في الدنيا. اقول وهو بالنظر إلى ما يقابله من قوله الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي انفسهم الاية لا يخلو عن خفاء والرواية ضعيفة. وفي الدر المنثور اخرج ابن ابى حاتم عن السدى قال ": اجتمعت قريش فقالوا ان محمدا رجل حلو اللسان - إذا كلمه الرجل ذهب بعقله فانظروا اناسا من اشرافكم المعدودين المعروفة انسابهم فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس كل ليلة أو ليلتين فمن جاء يريده فردوه عنه. فخرج ناس منهم في كل طريق فكان إذا اقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول محمد ؟ فينزل بهم قالوا له انا فلان بن فلان فيعرفه بنسبه ويقول انا اخبرك بمحمد فلا يريد ان يعنى إليه هو رجل كذاب لم يتبعه على امره إلا السفهاء والعبيد ومن لا خير فيه واما شيوخ قومه وخيارهم فمفارقون له فيرجع احدهم فذلك قوله


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page