• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 301 الي 325


[ 301 ]
وقال الراغب في المفردات المثلة نقمة تنزل بالانسان فيجعل مثالا يرتدع به غيره وذلك كالنكال وجمعه مثلات ومثلات أي بضم الميم أو فتحها وضم الثاء وقد قرئ من قبلهم المثلات والمثلات باسكان الثاء على التخفيف نحو عضد وعضد انتهى. وقوله " يستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة " ضمير الجمع للذين كفروا المذكورين في الاية السابقة والمراد باستعجالهم بالسيئة قبل الحسنة سؤالهم نزول العذاب إليهم استهزاء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل سؤال الرحمة والعافية والدليل عليه قوله " وقد خلت من قبلهم المثلات " والجملة في موضع الحال فان المراد به العقوبات النازلة على الامم الماضين القاطعة لدابرهم. والمعنى يسألك الذين كفروا ان تنزل عليهم العقوبة الالهية قبل الرحمة والعافية بعد ما سمعوك تنذرهم بعذاب الله استهزاء وهم على علم بالعقوبات النازلة قبلهم على الامم الماضين الذين كفروا برسلهم والاية في مقام التعجيب. وقوله " وان ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وان ربك لشديد العقاب " استئناف أو في موضع الحال ويفيد بيان السبب في كون استعجالهم امرا عجيبا أي ان ربك ذو رحمة واسعة تسع الناس في جميع احوالهم حتى حال ظلمهم وذو غضب شديد وقد سبقت رحمته غضبه فما بالهم يعرضون عن وسيع رحمته ومغفرته ويسألون شديد عقابه وهم مستعجلون ؟ ان ذلك لعجيب. ويظهر من هذا المعنى الذى يعطيه السياق اولا: ان التعبير عنه تعالى بقوله ربك انما هو للدلالة على كونهم مشركين وثنيين لا ياخذونه تعالى ربا بل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي ياخذه ربا من بين قومه. وثانيا: ان المراد بالمغفرة والعقاب هو الاعم من المغفرة والعقوبة الدنيويتين فان المشركين انما كانوا يستعجلون بالسيئة والعقوبة الدنيويتين والمثلات التى يذكر الله تعالى انها خلت من قبلهم انما هي العقوبات الدنيوية النازلة عليهم. على ان العفو والمغفرة لا يختصان بما بعد الموت أو بيوم القيامة ولا ان آثارهما تختص بذلك وقد تقدم ذلك مرارا فله تعالى ان يبسط مغفرته على كل من شاء حتى على الظالم حين هو ظالم فيغفر له مظلمته ان اقتضته الحكمة وله ان يعاقب قال تعالى: " ان تعذبهم فإنهم
________________________________________
[ 302 ]
عبادك وان تغفر لهم فانك انت العزيز الحكيم " المائدة: 118. ولهذه النكتة عبر تعالى عن مورد المغفرة بقوله للناس ولم يقل للمؤمنين أو للتائبين ونحو ذلك فلو التجأ أي واحد من الناس إلى رحمته وسأله المغفرة كان له ان يغفر له سواء في ذلك الكافر والمؤمن والمعاصي الكبيرة والصغيرة غير ان المشرك لو سأله ان يغفر له شركه انقلب بذلك مؤمنا غير مشرك والله سبحانه لا يغفر المشرك ما لم يعد إلى التوحيد قال تعالى: " ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " النساء: 48. فكان على هؤلاء الذين كفروا ان يسألوه تعالى ويستعجلوا به ان يغفر لهم شركهم أو ما يتفرع على شركهم من المعاصي بتقديم الايمان به وبرسوله أو ان يسالوه العافية والبركة وخير المال والولد على كونهم ظالمين فانه برحمته الواسعة يفعل ذلك حتى بمن لا يؤمن به ولا ينقاد له واما الظلم حال ما يتلبس به الظالم فان المغفرة لا تجامعه وقد قال تعالى: " والله لا يهدى القوم الظالمين " الجمعة: 5. وثالثا ان قوله لذو مغفرة ولم يقل لغفور أو غافرة كأنه للتحرز من ان يدل على فعلية المغفرة لجميع الظالمين على ظلمهم كأنه قيل عنده مغفرة للناس على ظلمهم لا يمنعه من اعمال هذه المغفرة عند المصلحة شئ. ويمكن ان يستفاد من الجملة معنى آخر وهو انه تعالى عنده مغفرة للناس له ان يغفر بها لمن شاء منهم ولا يستوجب ظلم الناس ان يغضب تعالى فيترك الاتصاف بالمغفرة من اصلها فلا يغفر لاحد وهذا يوجب تغيرا في بعض ما تقدم من نكت الاية غير انه غير ظاهر من السياق. وفى الاية مشاجرات بين المعتزلة وغيرهم من اهل السنة وهى مطلقة لا دليل على تقييدها بشئ الا بما في قوله تعالى: " ان الله لا يغفر ان يشرك به " الاية النساء: 48 (بحث روائي) في الدر المنثور اخرج ابن جرير عن ابن عباس: " وان ربك لذو مغفرة للناس على
________________________________________
[ 303 ]
ظلمهم وان ربك لشديد العقاب " قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ لاحد العيش ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل احد * * * ويقول " الذين كفروا لولا انزل عليه آية من ربه انما انت منذر ولكل قوم هاد - 7. الله يعلم ما تحمل كل انثى وما تغيض الارحام وما تزداد وكل شئ عنده بمقدار - 8. عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال - 9. سواء منكم من اسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار - 10. له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من امر الله ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا اراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من دونه من وال - 11. هو الذى يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال - 12. ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال - 13. له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ الا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين الا في ضلال - 14 ولله يسجد من في السموات والارض طوعا وكرها
________________________________________
[ 304 ]
وظلالهم بالغدو والاصال - 15 قل من رب السموات والارض قل الله قل أفاتخذتم من دونه اولياء لا يملكون لانفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوى الاعمى والبصير ام هل تستوى الظلمات والنور ام جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شئ وهو الواحد القهار - 16. (بيان) تتعرض الايات لقولهم لولا انزل عليه آية من ربه وترده عليهم ان الرسول ليس له الا انه منذر ارسله الله على سنة الهداية إلى الحق ثم تسوق الكلام فيما يعقبه. قوله تعالى: " ويقول الذين كفروا لولا انزل عليه آية من ربه " إلى آخر الاية ليس المراد بهذه الاية الاية القاضية بين الحق والباطل المهلكة للامة وهى المذكورة في الاية السابقة بقوله " ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة " بان يكون تكرارا لها وذلك لعدم اعانة السياق على ذلك ولو اريد ذلك لكان من حق الكلام ان يقال ويقولون لولا الخ. بل المراد انهم يقترحون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية اخرى غير القرآن تدل على صدقه في دعوى الرسالة وكانوا يحقرون امر القرآن الكريم ولا يعبؤون به ويسألون آية اخرى معجزة كما اوتى موسى وعيسى وغيرهما (ع) فكان في قولهم " لولا انزل عليه آية تعريض منهم للقرآن. واما قوله " انما انت منذر ولكل قوم هاد " فاعطاء جواب للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وفى توجيه الخطاب إليه دونهم وعدم امره ان يبلغ الجواب اياهم تعريض لهم انهم لا يستحقون
________________________________________
[ 305 ]
جوابا لعدم فقههم به وفقدهم القدر اللازم من العقل والفهم وذلك ان اقتراحهم الاية مبنى على زعمهم كما يدل عليه كثير مما حكى عنهم القرآن في هذا الباب على ان من الواجب ان يكون للرسول قدرة غيبية مطلقة على كل ما يريد فله ان يوجد ما اراد وعليه ان يوجد ما اريد منه. والحال ان الرسول ليس الا بشرا مثلهم ارسله الله إليهم لينذرهم عذاب الله ويحذرهم ان يستكبروا عن عبادته ويفسدوا في الارض بناء على السنة الالهية الجارية في خلقه انه يهدى كل شئ إلى كماله المطلوب ويدل عباده على ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم. فالرسول بما هو رسول بشر مثلهم لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا وليس عليه الا تبليغ رسالة ربه واما الايات فأمرها إلى الله ينزلها ان شاء وكيف شاء فاقتراحها على الرسول جهل محض. فالمعنى انهم يقترحون عليك آية وعندهم القرآن افضل آية وليس اليك شئ من ذلك وانما انت هاد تهديهم من طريق الانذار وقد جرت سنة الله في عباده ان يبعث في كل قوم هاديا يهديهم. والاية تدل على ان الارض لا تخلو من هاد يهدى الناس إلى الحق اما نبى منذر واما هاد غيره يهدى بامر الله وقد مر بعض ما يتعلق بالمقام في ابحاث النبوة في الجزء الثاني وفي ابحاث الامامة في الجزء الاول من الكتاب. قوله تعالى: " الله يعلم ما تحمل كل انثى وما تغيض الارحام وما تزداد وكل شئ عنده بمقدار " قال في المفردات غاض الشئ وغاضه غيره نحو نقص ونقصه غيره قال تعالى: " وغيض الماء وما تغيض الارحام " أي تفسده الارحام فتجعله كالماء الذى تبتلعه الارض والغيضة المكان الذى يقف فيه الماء فيبتلعه وليلة غائضة أي مظلمة انتهى. وعلى هذا فالانسب ان تكون الامور الثلاثة المذكورة في الاية اعني قوله ما تحمل كل انثى وما تغيض الارحام وما تزداد اشارة إلى ثلاثة من اعمال الارحام في ايام الحمل فما تحمله كل انثى هو الجنين الذى تعيه وتحفظه وما تغيضه الارحام هو دم
________________________________________
[ 306 ]
الحيض تنصب فيها فتصرفه الرحم في غذاء الجنين وما تزداده هو الدم التى تدفعها إلى خارج كدم النفاس والدم أو الحمرة التى تراها ايام الحمل احيانا وهو الذى يظهر من بعض ما روى عن ائمة اهل البيت (ع) وربما ينسب إلى ابن عباس. واكثر المفسرين على ان المراد بما تغيض الارحام الوقت الذى تنقصه الارحام من مدة الحمل وهى تسعة اشهر والمراد بما تزداد ما تزيد على ذلك. وفيه خلوة عن شاهد يشهد عليه فان الغيض بهذا المعنى نوع من الاستعارة التى لا غنى لها عن القرينة. ويروى عن بعضهم ان المراد بما تغيض الارحام ما تنقص عن اقل مدة الحمل وهى ستة اشهر وهو السقط وبما تزداد ما يولد لاقصى مدة الحمل وعن بعض آخر ان الغيض النقصان من الاجل والازدياد الازدياد فيه. ويرد على الوجهين ما اوردناه على سابقهما وقد عرفت ان الانسب بسياق الاية النقص والزيادة فيما يقذف في الرحم من الدم. وقوله " وكل شئ عنده بمقدار المقدار هو الحد الذى يحد به الشئ ويتعين ويمتاز به من غيره إذ لا ينفك الشئ الموجود عن تعين في نفسه وامتياز من غيره ولولا ذلك لم يكن موجدا البتة. وهذا المعنى اعني كون كل شئ مصاحبا لمقدار وقرينا لحد لا يتعداه حقيقة قرآنية تكرر ذكرها في كلامه تعالى كقوله: " قد جعل الله لكل شئ قدرا " الطلاق: 3 وقوله: " وان من شئ الا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم " الحجر: 21 وغير ذلك من الايات. فإذا كان الشئ محدودا بحد لا يتعداه وهو مضروب عليه ذلك الحد عند الله وبامره ولن يخرج من عنده واحاطته ولا يغيب عن علمه شئ كما قال: " ان الله على كل شئ شهيد " الحج: 17 وقال " الا انه بكل شئ محيط " حم السجدة: 54 وقال: " لا يعزب عنه مثقال ذرة " السبأ: 3 فمن المحال ان لا يعلم تعالى ما تحمل كل انثى وما تغيض الارحام وما تزداد. فذيل الاية اعني قوله وكل شئ عنده بمقدار تعليل لصدرها اعني قوله
________________________________________
[ 307 ]
: " الله يعلم ما تحمل كل انثى " الخ والاية وما يتلوها كالتذييل للاية السابقة " ان الله يعلم بكل شئ " ويقدر على كل شئ ويجيب الدعوة ويخضع له كل شئ فهو احق بالربوبية فإليه امر الايات لا اليك وانما انت منذر. قوله تعالى " عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال الغيب والشهادة " كما سمعت مرارا معنيان اضافيان فالشئ الواحد يمكن ان يكون غيبا بالنسبة إلى شئ وشهادة بالنسبة إلى آخر وذلك ان الاشياء كما تقدم لا تخلو من حدود تلزمها ولا تنفك عنها فما كان من الاشياء داخلا في حد الشئ غير خارج عنه فهو شهادة بالنسبة إليه مشهود لادراكه وما كان خارجا عن حد الشئ غير داخل فيه فهو غيب بالنسبة إليه غير مشهود لادراكه. ومن هنا يظهر ان الغيب لا يعلم به الا الله سبحانه اما انه لا يصير معلوما لشئ فلان العلم نوع احاطة ولا معنى لاحاطة الشئ بما هو خارج عن حد وجوده اجنبي عن احاطته واما انه تعالى يعلم الغيب فلانه تعالى غير محدود الوجود بحد وهو بكل شئ محيط فلا يمتنع شئ عنه بحده فلا يكون غيبا بالنسبة إليه وان فرض انه غيب بالنسبة إلى غيره. فيرجع معنى علمه بالغيب والشهادة بالحقيقة إلى انه لا غيب بالنسبة إليه بل الغيب والشهادة اللذان يتحققان فيما بين الاشياء بقياس بعضها إلى بعض هما معا شهادتان بالنسبة إليه تعالى ويصير معنى قوله عالم الغيب والشهادة ان الذى يمكن ان يعلم به ارباب العلم وهو الذى لا يخرج عن حد وجودهم والذى لا يمكن ان يعلموا به لكونه غيبا خارجا عن حد وجودهم هما معا معلومان مشهودان له تعالى لاحاطته بكل شئ. وقوله الكبير المتعال اسمان من اسمائه تعالى الحسنى والكبر ويقابله الصغر من المعاني المتضائفة فان الاجسام إذا قيس بعضها إلى بعض من حيث حجمها المتفاوت فما احتوى على مثل حجم الاخر وزيادة كان كبيرا وما لم يكن كذلك كان صغيرا ثم توسعوا فاعتبروا ذلك في غير الاجسام والذى يناسب ساحة قدسه تعالى من معنى الكبرياء انه تعالى يملك كل كمال لشئ ويحيط به فهو تعالى كبير أي له كمال كل ذى كمال وزيادة.
________________________________________
[ 308 ]
والمتعال صفة من التعالى وهو المبالغة في العلو كما يدل عليه قوله تعالى: " عما يقولون علوا كبيرا " اسرى: 43 فان قوله علوا كبيرا مفعول مطلق لقوله تعالى وموضوع في محل قولنا تعاليا فهو سبحانه علي ومتعال اما انه علي فلانه علا كل شئ وتسلط عليه والعلو هو التسلط واما انه متعال فلان له غاية العلو لان علوه كبير بالنسبة إلى كل علو فهو العالي المتسلط على كان عال من كل جهة. ومن هنا تظهر النكتة في تعقيب قوله " عالم الغيب والشهادة " بقوله الكبير المتعال لان مفاد مجموع الاسمين انه سبحانه محيط بكل شئ متسلط عليه ولا يتسلط عليه ولا يغلبه شئ من جهة البتة فهو يعلم الغيب كما يعلم الشهادة ولا يتسلط عليه ولا يغلبه غيب حتى يعزب عن علمه بغيبته كما لا يتسلط عليه شهادة فهو عالم الغيب والشهادة لانه كبير متعال. قوله تعالى: " سواء منكم من اسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار " السرب بفتحتين والسروب الذهاب في حدور وسيلان الدمع والذهاب في مطلق الطريق يقال سرب سربا وسروبا نحو مر مرا ومرورا كذا في المفردات فالسارب هو الذاهب في الطريق المعلن بنفسه. والاية كالتفريع على الاية السابقة أي إذا كان الله سبحانه عالما بالغيب والشهادة على سواء فسواء منكم من اسر القول ومن جهر به أي بالقول والله سبحانه يعلم بقولهما ويسمع حديثهما من غير ان يخفى عليه اسرار من اسر بقوله " وسواء منكم من هو مستخف بالليل " يستمد بظلمة الليل وارخاء سدولها لان يخفى من اعين الناظرين ومن هو سارب بالنهار ذاهب في طريقه متبرز غير مخف لنفسه فالله يعلم بهما من غير ان يخفى المستخفى بالليل بمكيدته قوله تعالى: " له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من امر الله " الخ ظاهر السياق ان الضمائر الاربع له يديه خلفه يحفظونه مرجعها واحد ولا مرجع يصلح لها جميعا الا ما في الاية السابقة اعني الموصول في قوله " من اسر القول " الخ فهذا الانسان الذى يعلم به الله سبحانه في جميع احواله هو الذى له معقبات من بين يديه ومن خلفه.
________________________________________
[ 309 ]
وتعقيب الشئ انما يكون بالمجئ بعده والاتيان من عقبه فتوصيف المعقبات بقوله " من بين يديه ومن خلفه " انما يتصور إذا كان سائرا في طريق ثم طاف عليه المعقبات حوله وقد اخبر سبحانه عن كون الانسان سائرا هذا السير بقوله " يا ايها الانسان انك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " الانشقاق: 6 وفى معناه سائر الايات الدالة على رجوعه إلى ربه كقوله " واليه ترجعون " يس: 83 " واليه تقلبون " العنكبوت: 21 فللانسان وهو سائر إلى ربه معقبات تراقبه من بين يديه ومن خلفه. ثم من المعلوم من مشرب القرآن ان الانسان ليس هو هذا الهيكل الجسماني والبدن المادى فحسب بل هو موجود تركب من نفس وبدن والعمدة فيما يرجع إليه من الشؤون هي نفسه فلها الشعور والارادة واليها يتوجه الامر والنهى وبها يقوم الثواب والعقاب والراحة والالم والسعادة والشقاء وعنها يصدر صالح الاعمال وطالحها واليها ينسب الايمان والكفر وان كان البدن كالالة التى يتوسل بها في مقاصدها ومآربها. وعلى هذا يتسع معنى ما بين يدى الانسان وما خلفه فيعم الامور الجسمانية والروحية جميعا فجميع الاجسام والجسمانيات التى تحيط بجسم الانسان مدى حياته بعضها واقعة امامه وبين يديه وبعضها واقعة خلفه وكذلك جميع المراحل النفسانية التى يقطعها الانسان في مسيره إلى ربه والحالات الروحية التى يعتورها ويتقلب فيها من قرب وبعد وغير ذلك والسعادة والشقاء والاعمال الصالحة والطالحة وما ادخر لها من الثواب والعقاب كل ذلك واقعة خلف الانسان أو بين يديه ولهذه المعقبات التى ذكرها الله سبحانه شان فيها بما ان لها تعلقا بالانسان. والانسان الذى وصفه الله بانه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا لا يقدر على حفظ شئ من نفسه ولا آثار نفسه الحاضرة عنده والغائبة عنه وانما يحفظها له الله سبحانه قال تعالى: " الله حفيظ عليهم " الشورى: 6 وقال: " وربك على كل شئ حفيظ " السبأ: 21 وقال يذكر الوسائط في هذا الامر " وان عليكم لحافظين " الانفطار: 10 فلو لا حفظه تعالى اياها بهذه الوسائط التى سماها حافظين تارة ومعقبات اخرى لشمله الفناء من جهاتها واسرع إليها الهلاك من بين ايديها ومن خلفها غير انه كما ان حفظها بامر من الله عز شانه كذلك فناؤها وهلاكها وفسادها بامر من الله لان الملك لله لا يدبر امره ولا
________________________________________
[ 310 ]
يتصرف فيه الا هو سبحانه فهو الذى يهدى إليه التعليم القرآني والايات في هذه المعاني متكاثرة لا حاجة إلى ايرادها. والملائكة ايضا انما يعملون ما يعملون بامره قال تعالى: " ينزل الملائكة بالروح من امره " النحل: 2 وقال: " لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " الانبياء: 27. ومن هنا يظهر ان هذه المعقبات الحفاظ كما يحفظون ما يحفظون بامر الله كذلك يحفظونه من امر الله فان جانب الفناء والهلاك والضيعة والفساد بامر الله كما ان جانب البقاء والاستقامة والصحة بامر الله فلا يدوم مركب جسماني الا بامر الله كما لا ينحل تركيبه الا بامر الله ولا تثبت حالة روحية أو عمل أو اثر عمل الا بامر من الله كما لا يطرقه الحبط ولا يطرء عليه الزوال الا بامر من الله فالامر كله لله واليه يرجع الامر كله. وعلى هذا فهذه المعقبات كما يحفظونه بامر الله كذلك يحفظونه من امر الله وعلى هذا ينبغى ان ينزل قوله في الاية المبحوث عنها يحفظونه من امر الله. وبما تقدم يظهر وجه اتصال قوله تعالى: " ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " وانه في موضع التعليل لقوله يحفظونه من امر الله " والمعنى انه تعالى انما جعل هذه المعقبات ووكلها بالانسان يحفظونه بامره من امره ويمنعونه من ان يهلك أو يتغير في شئ مما هو عليه لان سنته جرت ان لا يغير ما بقوم من الاحوال حتى يغيروا ما بانفسهم من الحالات الروحية كأن يغيروا الشكر إلى الكفر والطاعة إلى المعصية والايمان إلى الشرك فيغير الله النعمة إلى النقمة والهداية إلى الاضلال والسعادة إلى الشقاء وهكذا. والاية اعني قوله " ان الله لا يغير " الخ يدل بالجملة على ان الله قضى قضاء حتم بنوع من التلازم بين النعم الموهوبة من عنده للانسان وبين الحالات النفسية الراجعة إلى الانسان الجارية على استقامة الفطرة فلو جرى قوم على استقامة الفطرة وآمنوا بالله وعملوا صالحا اعقبهم نعم الدنيا والاخرة كما قال: " ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذبوا " الاعراف: 96 والحال ثابتة فيهم دائمة عليهم ما داموا على حالهم في انفسهم فإذا غيروا حالهم في انفسهم غير الله سبحانه حالهم الخارجية بتغيير النعم نقما.
________________________________________
[ 311 ]
ومن الممكن ان يستفاد من الاية العموم وهو ان بين حالات الانسان النفسية وبين الاوضاع الخارجية نوع تلازم سواء كان ذلك في جانب الخير أو الشر فلو كان القوم على الايمان والطاعة وشكر النعمة عمهم الله بنعمه الظاهرة والباطنة ودام ذلك عليهم حتى يغيروا فيكفروا ويفسقوا فيغير الله نعمه نقما ودام ذلك عليهم حتى يغيروا فيؤمنوا ويطيعوا ويشكروا فيغير الله نقمه نعما وهكذا هذا. ولكن ظاهر السياق لا يساعد عليه وخاصة ما تعقبه من قوله: " وإذا اراد الله بقوم سوء فلا مرد له " فأنه اصدق شاهد على انه يصف معنى تغييره تعالى ما بقوم حتى يغيروا فالتغيير لما كان إلى السيئة كان الاصل اعني ما بقوم لا يراد به الا الحسنة فافهم ذلك. على ان الله سبحانه يقول: " وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم ويعفوا عن كثير " الشورى: 30 فيذكر انه يعفو عن كثير من السيئات فيمحو آثارها فلا ملازمة بين اعمال الانسان واحواله وبين الاثار الخارجية في جانب الشر بخلاف ما في جانب الخير كما قال تعالى في نظير الاية: " ذلك بان الله لم يك مغيرا نعمة انعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " الانفال: 53. واما قوله تعالى: " وإذا اراد الله بقوم سوء فلا مرد له " فانما دخل في الحديث لا بالقصد الاولى لكنه تعالى لما ذكر ان كل شئ عنده بمقدار وان لكل انسان معقبات يحفظونه بامره من امره ولا يدعونه يهلك أو يتغير أو يضطرب في وجوده والنعم التى اوتيها وهم على حالهم من الله لا يغيرها عليهم حتى يغيروا ما بانفسهم وجب ان يذكر ان هذا التغيير من السعادة إلى الشقاء ومن النعمة إلى النقمة ايضا من الامور المحكمة المحتومة التى ليس لمانع ان يمنع من تحققها وانما امره إلى الله لا حظ فيه لغيره وبذلك يتم ان الناس لا مناص لهم من حكم الله في جانبى الخير والشر وهم مأخوذ عليهم وفى قبضته. فالمعنى: وإذا اراد الله بقوم سوء ولا يريد ذلك الا إذا غيروا ما بأنفسهم من سمات معبودية ومقتضيات الفطرة فلا مرد لذلك السوء من شقاء أو نقمة أو نكال ثم قوله: " وما لهم من دونه من وال " عطف تفسيري على قوله: " إذا اراد الله بقوم سوء فلا مرد له " ويفيد معنى التعليل له فانه إذا لم يكن لهم من وال يلي امرهم
________________________________________
[ 312 ]
الا الله سبحانه لم يكن هناك احد يرد ما أراد الله بهم من السوء. فقد بان من جميع ما تقدم ان معنى الآية على ما يعطيه السياق والله اعلم ان لكل من الناس على اي حال كان معقبات يعقبونه في مسيره إلى الله من بين يديه ومن خلفه اي في حاضر حاله وماضيه يحفظونه بأمر الله من أن يتغير حاله بهلاك أو فساد أو شقاء امر آخر من الله وهذا الامر الآخر الذي يغير الحال انما يؤثر أثره إذا غير قوم ما بأنفسهم فعند ذلك يغير الله ما عندهم من نعمه ويريد بهم السوء وإذا أراد بقوم سوء فلا مرد له لانهم لا والي لهم يلي أمرهم من دونه حتى يرد ما أراد الله بهم من سوء. وقد تبين بذلك أمور: أحدها: ان الآية كالبيان التفصيلي لما تقدم في الآيات السابقة من قوله: " وكل شئ عنده بمقدار " فأن الجملة تفيد ان للاشياء حدودا ثابتة لا تتعداها ولا تتخلف عنها عند الله حتى تعزب عن علمه وهذه الآية تفصل القول في الانسان ان له معقبات من بين يديه ومن خلفه موكلة عليه يحفظونه وجميع ما يتعلق به من أن يهلك أو يتغير عما هو عليه ولا يهلك ولا يتغير الا بأمر آخر من الله. الثاني: انه ما من شئ من الانسان من نفسه وجسمه واوصافه واحواله واعماله وآثاره الا وعليه ملك موكل يحفظه ولا يزال على ذلك في مسيره إلى الله حتى يغير فالله سبحانه هو الحافظ وله ملائكة حفظة عليها وهذه حقيقة قرآنية. الثالث ان هناك امرا آخر يرصد الناس لتغيير ما عندهم وقد ذكر الله سبحانه من شان هذا الامر انه يؤثر فيما إذا غير قوم ما بانفسهم فعند ذلك يغير الله ما بهم من نعمة بهذا الامر الذى يرصدهم ومن موارد تأثيره مجئ الاجل المسمى الذى لا يختلف ولا يتخلف قال تعالى: " ما خلقنا السماوات والارض وما بينهما الا بالحق واجل مسمى " الاحقاف: 3 وقال: " ان اجل الله إذا جاء لا يؤخر " نوح: 4. الرابع: ان امره تعالى هو المهيمن المتسلط على متون الاشياء وحواشيها على أي حال وان كل شئ حين ثباته وحين تغيره مطيع لامره خاضع لعظمته وان الامر الالهى وان كان مختلفا بقياس بعضه إلى بعض منقسما إلى امر حافظ وامر مغير ذو
________________________________________
[ 313 ]
نظام واحد لا يتغير وقد قال تعالى: " ان ربى على صراط مستقيم " هود: 56 وقال: " انما امره إذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون فسبحان الذى بيده ملكوت كل شئ " يس - 83. الخامس ان من القضاء المحتوم والسنة الجارية الالهية التلازم بين الاحسان والتقوى والشكر في كل قوم وبين توارد النعم والبركات الظاهرية والباطنية ونزولها من عند الله إليهم وبقاؤها ومكثها بينهم ما لم يغيروا كما يشير إليه قوله تعالى: " ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذبوا فاخذناهم بما كانوا يكسبون " الاعراف: 96 وقوله: " لئن شكرتم لا زيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي لشديد " ابراهيم: 7 وقال " هل جزاء الاحسان الا الاحسان " الرحمان: 60 هذا هو الظاهر من الاية في التلازم بين شيوع الصلاح في قوم ودوام النعمة عليهم واما شيوع الفساد فيهم أو ظهوره من بعضهم ونزول النقمة عليهم فالاية ساكتة عن التلازم بينهما وغاية ما يفيده قوله: " لا يغير ما بقوم حتى يغيروا " جواز تغيره تعالى عند تغييرهم وامكانه لا وجوبه وفعليته ولذلك غيرالسياق فقال: " وإذا اراد الله بقوم سوء فلا مرد له " ولم يقل فيريد الله بهم من السوء ما لا مرد له. ويؤيد هذا المعنى قوله: " وما اصابكم من مصيبة فبما كسبت ايديكم ويعفوا عن كثير " الشورى: 30 حيث يدل صريحا على ان بعض التغيير عند التغيير معفو عنه. واما الفرد من النوع فالكلام الالهى يدل على التلازم بين صلاح عمله وبين النعم المعنوية وعلى التغير عند التغير دون التلازم بين صلاحه والنعم الجسمانية. والحكمة في ذلك كله ظاهرة فان التلازم المذكور مقتضى حكم التلاؤم والتوافق بين اجزاء النظام وسوق الانواع إلى غاياتها فان الله جعل للانواع غايات وجهزها بما يسوقها إلى غاياتها ثم بسط تعالى التلاؤم والتوافق بين اجزاء هذا النظام كان المجموع شيئا واحدا لا معاندة ولا مضادة بين اجزائه فمقتضى طباعها ان يعيش كل نوع في عافية ونعمة وكرامة حتى يبلغ غايته فإذا لم ينحرف النوع الانساني عن مقتضى فطرته الاصلية ولا منحرف من الانواع ظاهرا غيره جرى الكون على سعادته ونعمته ولم يعدم رشدا واما إذا انحرف عن ذلك وشاع فيه الفساد افسد ذلك التعادل بين اجزاء الكون واوجب ذلك هجرة النعمة واختلال المعيشة وظهور الفساد في البر والبحر بما كسبت
________________________________________
[ 314 ]
ايدى الناس ليذيقهم الله بعض ما عملوا لعلهم يرجعون. وهذا المعنى كما لا يخفى انما يتم في النوع دون الشخص ولذلك كان التلازم بين صلاح النوع والنعم العامة المفاضة عليهم ولا يجرى في الاشخاص لان الاشخاص ربما بطلت فيها الغايات بخلاف الانواع فان بطلان غاياتها من الكون يوجب اللعب في الخلقة قال تعالى: " وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما لاعبين " الدخان: 38 وقد تقدم بعض الكلام في هذا الباب في ابحاث الاعمال في الجزء الثاني من الكتاب وبما تقدم يظهر فساد الاعتراض على الاية حيث انها تفيد بظاهرها انه لا يقع تغيير النعم بقوم حتى يقع تغيير منهم بالمعاصى مع ان ذلك خلاف ما قررته الشريعة من عدم جواز اخذ العامة بذنوب الخاصة هذا فانه اجنبي عن مفاد الاية بالكلية. هذا بعض ما يعطيه التدبر في الاية الكريمة وللمفسرين في تفسيرها اختلاف شديد من جهات شتى من ذلك اختلافهم في مرجع الضمير في قوله له معقبات فمن قائل ان الضمير راجع إلى من في قوله من اسر القول الخ كما قدمناه ومن قائل انه يرجع إليه تعالى أي لله ملائكة معقبات من بين يدى الانسان ومن خلفه يحفظونه وفيه انه يستلزم اختلاف الضمائر على انه يوجب وقوع الالتفات في قوله من امر الله من غير نكتة ظاهرة ومن قائل ان الضمير للنبى صلى الله عليه وآله وسلم والاية تذكر ان الملائكة يحفظونه وفيه انه كسابقه يستلزم اختلاف الضمائر والظاهر خلافه على انه يوجب عدم اتصال الاية بسوابقها ولم يتقدم للنبى صلى الله عليه وآله وسلم ذكر. ومن قائل ان الضمير عائد إلى من هو سارب بالنهار وهذا اسخف الوجوه وسنعود إليه. ومن ذلك اختلافهم في معنى المعقبات فقيل ان اصله المعتقبات صار معقبات بالنقل والادغام يقال اعتقبه إذا حبسه واعتقب القوم عليه أي تعاونوا ورد بانه خطأ وقيل هو من باب التفعيل والتعقيب هو ان يتبع آخر في مشيته كأنه يطأ عقبه أي مؤخر قدمه فقيل ان المعقبات ملائكة يعقبون الانسان في مسيره إلى الله لا يفارقونه
________________________________________
[ 315 ]
ويحفظونه كما تقدم وقيل المعقبات كتاب الاعمال من ملائكة الليل والنهار يعقب بعضهم بعضا فملائكة الليل تعقب ملائكة النهار وهم يعقبون ملائكة الليل يحفظون على الانسان عمله وفيه انه خلاف ظاهر قوله له معقبات على ان فيه جعل يحفظونه بمعنى يحفظون عليه. وقيل المراد بالمعقبات الاحراس والشرط والمواكب الذين يعقبون الملوك والامراء والمعنى ان لمن هو سارب بالنهار وهم الملوك والامراء معقبات من الاحراس والشرط يحيطون بهم ويحفظونهم من امر الله أي قضائه وقدره توهما منهم انهم يقدرون على ذلك وهذا الوجه على سخافته لعب بكلامه تعالى. ومن ذلك اختلافهم في قوله من بين يديه ومن خلفه فقيل انه متعلق بمعقبات أي يعقبونه من بين يديه ومن خلفه وفيه ان التعقيب لا يتحقق الا من خلف وقيل متعلق بقوله يحفظونه وفي الكلام تقديم وتاخير والترتيب يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من امر الله وفيه عدم الدليل على ذلك وقيل متعلق بمقدر كالوقوع والاحاطة ونحوهما أو بنحو التضمين والمعنى له معقبات يحيطون به من بين يديه ومن خلفه وقد تقدم. ومن جهة اخرى قيل ان المراد بما بين يديه وما خلفه ما هو من جهة المكان أي يحيطون به من قدامه وخلفه يحفظونه من المهالك والمخاطر وقيل المراد بهما ما تقدم من اعماله وما تأخر يحفظها عليه الملائكة الحفظ ويكتبونها ولا دليل على ما في الوجهين من التخصيص وقيل المراد بما بين يديه ومن خلفه ما للانسان من الشؤون الجسمية والروحية مما له في حاضر حاله وما خلفه وراءه وهو الذى قدمناه. ومن ذلك اختلافهم في معنى قوله يحفظونه فقيل هو بمعنى يحفظون عليه وقيل هو مطلق الحفظ وقيل هو الحفظ من المضار. ومن ذلك اختلافهم في قوله من امر الله فقيل هو متعلق بقوله معقبات وان قوله من بين يديه ومن خلفه وقوله يحفظونه وقوله من امر الله ثلاث صفات لمعقبات وفيه انه خلاف الظاهر وقيل هو متعلق بقوله يحفظونه و من بمعنى الباء للسببية أو المصاحبة والمعنى يحفظونه بسبب امر الله أو بمصاحبة امر الله وقيل متعلق بيحفظونه ومن للابتداء أو للنشو أي يحفظونه مبتدء ذلك أو ناشئا ذلك
________________________________________
[ 316 ]
من امر الله وقيل هو كذلك لكن من بمعنى عن أي يحفظونه عن امر الله ان يحل به ويغشاه وفسروا الحفظ من امر الله بان الامر بمعنى البأس أي يحفظونه من بأس الله بان يستمهلوا كلما اذنب ويسالوا الله سبحانه ان يؤخر عنه المؤاخذة والعقوبة أو امضاء شقائه لعله يتوب ويرجع وفساد اغلب هذه الوجوه ظاهر غنى عن البيان. ومن ذلك اختلافهم في اتصال قوله له معقبات من بين يديه ومن خلفه الخ فقيل متصل بقوله سارب بالنهار وقد تقدم معناه وقيل متصل بقوله الله يعلم ما تحمل كل انثى أو قوله عالم الغيب والشهادة أي كما يعلمهم جعل عليهم حفظة يحفظونهم وقيل متصل بقوله انما انت منذر الاية يعنى انه صلى الله عليه وآله وسلم محفوظ بالملائكة والحق انه متصل بقوله وكل شئ عنده بمقدار ونوع بيان له وقد تقدم ذكره. ومن ذلك اختلافهم في اتصال قوله ان الله لا يغير ما بقوم الخ فقيل انه متصل بقوله ويستعجلونك بالعذاب الاية أي انه لا ينزل العذاب الا على من يعلم من جهتهم بالتغيير حتى لو علم ان فيهم من سيؤمن بالله أو من في صلبه من سيولد ويعيش بالايمان لم ينزل عليهم العذاب وقيل متصل بقوله سارب بالنهار يعنى انه إذا اقترف المعاصي فقد غير ما به من سمة العبودية وبطل حفظه ونزل عليه العذاب والقولان كما ترى بعيدان من السياق والحق ان قوله ان الله لا يغير ما بقوم الخ تعليل لما تقدمه من قوله يحفظونه من امر الله وقد مر بيانه. قوله تعالى: " هو الذى يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال " السحاب بفتح السين جمع سحابة بفتحها ولذلك وصف بالثقال. والاراء اظهار ما من شأنه ان يحس بالبصر للمبصر ليبصره أو جعل الانسان على صفة الرؤية والابصار والتقابل بين قوله يريكم وقوله ينشئ يؤيد المعنى الاول. وقوله خوفا وطمعا مفعول له أي لتخافوا وتطمعوا ويمكن ان يكون مصدرين بمعنى الفاعل حالين من ضميركم أي خائفين وطامعين.
________________________________________
[ 317 ]
والمعنى هو الذى يظهر لعيونكم البرق ليظهر فيكم صفتا الخوف والطمع كما ان المسافر يخافه والحاضر يطمع فيه واهل البحر يخافونه واهل البر يطمعون فيه ويخاف صاعقته ويطمع في غيثه ويخلق بانشائه السحابات التى تثقل بالمياه التى تحملها وفي ذكر آية البرق بالاراءة وآية السحاب بالانشاء لطف ظاهر. قوله تعالى: " ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء " الخ الصواعق جمع صاعقة وهو القطعة النارية النازلة من السماء عن برق ورعد والجدل المفاوضة والمنازعة في القول على سبيل المغالبة واصله من جدلت الحبل إذا احكمت فتله والمحال بكسر الميم مصدر ماحله يماحله إذا ماكره وقاواه ليتبين ايهما اشد وجادله لاظهار مساويه ومعائبه فقوله: " وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال " معناه والله اعلم ان الوثنيين واليهم وجه الكلام في القاء هذه الحجج يجادلون في ربوبيته تعالى بتلفيق الحجة على ربوبية اربابهم كالتمسك بدأب آبائهم والله سبحانه شديد المماحلة لانه عليم بمساويهم ومعائبهم قدير على اظهارها وفضاحتهم. قوله تعالى: " له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ " إلى آخر الاية الدعاء والدعوة توجيه نظر المدعو إلى الداعي ويتاتى غالبا بلفظ أو اشارة والاستجابة والاجابة اقبال المدعو على الداعي عن دعائه واما اشتمال الدعاء على سؤال الحاجة واشتمال الاستجابة على قضائها فذلك غاية متممة لمعنى الدعاء والاستجابة غير داخلة في مفهوميهما. نعم الدعاء انما يكون دعاء حقيقة إذا كان المدعو ذا نظر يمكن ان يوجه إلى الداعي وذا جدة وقدرة يمكنه بهما استجابة الدعاء واما دعاء من لا يفقه أو يفقه ولا يملك ما ترفع به الحاجة فليس بحق الدعاء وان كان في صورته. ولما كانت الاية الكريمة قرر فيها التقابل بين قوله له دعوة الحق وبين قوله " والذين يدعون من دونه " الخ الذى يذكر ان دعاء غيره خال عن الاستجابة ثم يصف دعاء الكافرين بانه في ضلال علمنا بذلك ان المراد بقوله دعوة الحق الدعوة الحقة غير الباطلة وهى الدعوة التى يسمعها المدعو ثم يستجيبها البتة وهذا من صفاته تعالى وتقدس فانه سميع الدعاء قريب مجيب وهو الغنى ذو الرحمة وقد قال: " اجيب دعوة
________________________________________
[ 318 ]
الداع إذا دعان " البقرة: 186 وقال: " ادعوني استجب لكم " المؤمن: 60 فاطلق ولم يشترط في الاستجابة الا ان تتحقق هناك حقيقة الدعاء وان يتعلق ذلك الدعاء به تعالى لا غير. فلفظة دعوة الحق من اضافة الموصوف إلى الصفة أو من الاضافة الحقيقية بعناية ان الحق والباطل كأنهما يقتسمان الدعاء فقسم منه للحق وهو الذى لا يتخلف عن الاستجابة وقسم منه للباطل وهو الذى لا يهتدى إلى هدف الاجابة كدعاء من لا يسمع أو لا يقدر على الاستجابة فهو تعالى لما ذكر في الايات السابقة انه عليم بكل شئ وان له القدرة العجيبة ذكر في هذه الاية ان له حقيقة الدعاء والاستجابة فهو مجيب الدعاء كما انه عليم قدير وقد ذكر ذلك في الاية بطريقي الاثبات والنفى اعني اثبات حق الدعاء لنفسه ونفيه عن غيره. اما الاول فقوله له دعوة الحق وتقديم الظرف يفيد الحصر ويؤيده ما بعده من نفيه عن غيره واما الثاني فقوله: " والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشئ " الا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه " وقد اخبر فيه ان الذين يدعوهم المشركون من دون الله لا يستجيبون لهم بشئ وقد بين ذلك في مواضع من كلامه فان هؤلاء المدعوين اما اصنام يدعوهم عامتهم وهى اجسام ميتة لا شعور فيها ولا ارادة واما ارباب الاصنام من الملائكة أو الجن وروحانيات الكواكب والبشر كما ربما يتنبه له خاصتهم فهم لا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فكيف بغيرهم ولله الملك كله وله القوة كلها فلا مطمع عند غيره تعالى. ثم استثنى من عموم نفى الاستجابة صورة واحدة فقط وهى ما يشبه مورد المثل المضروب بقوله كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه. فان الانسان العطشان إذا اراد شرب الماء كان عليه ان يدنو من الماء ثم يبسط كفيه فيغترفه ويتناوله ويبلغ فاه ويرويه وهذا هو حق الطلب يبلغ بصاحبه بغيته في هدى ورشاد واما الظمآن البعيد من الماء يريد الرى لكن لا ياتي من اسبابه بشئ غير انه يبسط إليه كفيه يبلغ فاه فليس يبلغ البتة فاه وليس له من طلبه الا صورته فقط. ومثل من يدعو غير الله سبحانه مثل هذا الباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وليس له
________________________________________
[ 319 ]
من الدعاء الا صورته الخالية من المعنى واسمه من غير مسمى فهؤلاء المدعوون من دون الله لا يستجيبون للذين يدعونهم بشئ ولا يقضون حاجتهم الا كما يستجاب لباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه ويقضى حاجته أي لا يحصل لهم الا صورة الدعاء كما لا يحصل لذلك الباسط الا صورة الطلب ببسط الكفين. ومن هنا يعلم ان هذا الاستثناء الا كباسط كفيه الخ لا ينتقض به عموم النفى في المستثنى منه ولا يتضمن الا صورة الاستثناء فهو يفيد تقوية الحكم في جانب المستثنى منه فان مفاده " ان الذين يدعون من دون الله لا يستجاب لهم الا كما يستجاب لباسط كفيه إلى الماء " ولن يستجاب له وبعبارة اخرى لن ينالوا بدعائهم الا ان لا ينالوا شيئا أي لن ينالوا شيئا البتة. وهذا من لطيف كلامه تعالى ويناظر من وجه قوله تعالى الاتى: " قل أفاتخذتم من دونه اولياء لا يملكون لانفسهم نفعا ولا ضرا " وآكد منه كما سيجئ ان شاء الله وقد تبين بما تقدم اولا: ان قوله دعوة الحق المراد به حق الدعاء وهو الذى يستجاب ولا يرد البتة واما قول بعضهم ان المراد كلمة الاخلاص شهادة ان اله الا الله فلا شاهد عليه من جهة السياق. وثانيا ان تقدير قوله والذين يدعون الخ باظهار الضمائر الذين يدعوهم المشركون من دون الله لا يستجيب اولئك المدعوون للمشركين بشئ. وثالثا: ان الاستثناء من قوله لا يستجيبون لهم بشئ وفى الكلام حذف وايجاز والمعنى لا يستجيبون لهم بشئ ولا ينيلونهم شيئا الا كما يستجاب لباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وينال من بسطه ولعل الاستجابة مضمن معنى النيل ونحوه. ثم اكد سبحانه الكلام بقوله: " وما دعاء الكافرين الا في ضلال " مع ما فيه من الاشارة إلى حقيقة اصيلة اخرى وهى انه لا غرض لدعاء الا الله سبحانه فانه العليم القدير والغنى ذو الرحمة فلا طريق له الا طريق التوجه إليه تعالى فمن دعا غيره وجعله الهدف لدعائه فقد الارتباط بالغرض والغاية وخرج بذلك عن الطريق فضل دعاؤه فان الضلال هو الخروج عن الطريق وسلوك ما لا يوصل إلى المطلوب.
________________________________________
[ 320 ]
قوله تعالى: " ولله يسجد من في السماوات والارض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والاصال " السجود الخرور على الارض بوضع الجبهة أو الذقن عليها قال تعالى: " وخروا له سجدا " يوسف: 100 وقال: " يخرون للاذقان سجدا " اسرى: 107 والواحدة منه سجدة. والكره ما ياتي به الانسان من الفعل بمشقة فان حمل عليه من خارج فهو الكره بفتح الكاف وما حمل عليه من داخل نفسه فهو الكره بضمها والطوع يقابل الكره مطلقا. وقال الراغب الغدوة والغداة من اول النهار وقوبل في القرآن الغدو بالاصال نحو قوله: " وبالغدو والاصال " وقوبل الغداة بالعشى قال بالغداة والعشي انتهى والغدو جمع غداة كقنى وقناة وقال في المجمع الاصال جمع اصل بضمتين واصل جمع اصيل فهو جمع الجمع ماخوذ من الاصل فكأنه اصل الليل الذى ينشأ منه وهو ما بين العصر إلى مغرب الشمس انتهى. والاعمال الاجتماعية التى يؤتى بها لاغراض معنوية كالتصدر الذى يمثل به الرئاسة والتقدم الذى يمثل به السيادة والركوع الذى يظهر به الصغر والصغار والسجود الذى يظهر به نهاية تذلل الساجد وضعته قبال تعزز المسجود له واعتلائه تسمى غاياتها بأساميها كما تسمى نفسها فكما يسمى التقدم تقدما كذلك تسمى السيادة تقدما وكما ان الانحناء الخاص ركوع كذلك الصغر والصغار الخاص ركوع وكما ان الخرور على الارض سجود كذلك التذلل سجود كل ذلك بعناية ان الغاية من العمل هي المطلوبة بالحقيقة دون ظاهر هيئة العمل. وهذه النظرة هي التى يعتبرها القرآن الكريم في نسبة السجود وما يناظره من القنوت والتسبيح والحمد والسؤال ونحو ذلك إلى الاشياء كقوله تعالى: " كل له قانتون " البقرة: 116 وقوله: " وان من شئ الا يسبح بحمده " اسرى: 44 وقوله: " يسأله من في السماوات والارض " الرحمان: 29 وقوله: " ولله يسجد ما في السماوات وما في الارض " النحل: 49. والفرق بين هذه الامور المنسوبة إلى الاشياء الكونية وبينها وهى واقعة في ظرف الاجتماع الانساني ان الغايات موجودة في القسم الاول بحقيقة معناها بخلاف القسم الثاني
________________________________________
[ 321 ]
فانها انما توجد فيها بنوع من الوضع والاعتبار فذلة المكونات وضعتها تجاه ساحة العظمة والكبرياء ذلة وضعة حقيقية بخلاف الخرور على الارض ووضع الجبهة عليها فانه ذلة وضعة بحسب الوضع والاعتبار ولذلك ربما يتخلف. فقوله تعالى: " ولله يسجد من في السماوات والارض " اخذ بما تقدم من النظر ولعله انما خص اولى العقل بالذكر حيث قال من في السماوات والارض مع شمول هذه الذلة والضعة جميع الموجودات كما في آية النحل المتقدمة وكما يشعر به ذيل الاية حيث قال " وظلالهم " الخ لان الكلام في السورة مع المشركين والاحتجاج عليهم فكان في ذلك بعثا لهم ان يسجدوا لله طوعا كما يسجد له من دونهم من عقلاء السماوات والارض طوعا حتى ان ظلالهم تسجد له ولذلك ايضا تعلقت العناية بذكر سجود الظلال ليكون آكد في استنهاضهم فافهمه. ثم ان هذا التذلل والتواضع الذى هو من عامة الموجودات لساحة ربهم عز وعلا خضوع ذاتي لا ينفك عنها ولا يتخلف فهو بالطوع البتة وكيف لا وليس لها من نفسها شئ حتى يتوهم لها كراهة أو امتناع وجموح وقد قال تعالى: " فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا اتينا طائعين " حم السجدة: 11. فالعناية المذكورة توجب الطوع لجميع الموجودات في سجودهم لله تعالى وتقطع دابر الكره عنهم البتة غير ان هناك عناية اخرى ربما صححت نسبة الكره إلى بعضها في الجملة وهى ان بعض هذه الاشياء واقعة في مجتمع التزاحم مجهزة بطباع ربما عاقتها عن البلوغ إلى غاياتها ومبتغياتها اسباب اخر وهى الاشياء المستقرة في عالمنا هذا عالم المادة التى ربما زوحمت في مأربها ومنعتها عن البلوغ إلى مقتضيات طباعها موانع متفرقة ولا شك ان مخالف الطبع مكروه كما ان ما يلائمه مطلوب. فهذه الاشياء ساجدة لله خاضعة لامره في جميع الشؤون الراجعة إليها غير انها فيما يخالف طباعها كالموت والفساد وبطلان الاثار والافات والعاهات ونحو ذلك ساجدة له كرها وفيما يلائم طباعها كالحياة والبقاء والبلوغ إلى الغايات والظفر بالكمال ساجدة له طوعا كالملائكة الكرام الذين لا يعصون الله فيما امرهم ويفعلون ما يؤمرون.
________________________________________
[ 322 ]
ومما تقدم يظهر فساد قول بعضهم ان المراد بالسجدة هو الحقيقي منها يعنى الخرور على الارض بوضع الجبهة عليها مثلا فهم جميعا ساجدون غير ان المؤمن يسجد طوعا والكافر يسجد خوفا من السيف وقد نسب القول به إلى الحسن. وكذا قول بعض ان المراد بالسجود الخضوع فله يخضع الكل الا ان ذلك من المؤمن خضوع طوع ومن الكافر خضوع كره لما يحل به من الالام والاسقام ونسب إلى الجبائى. وكذا قول آخرين ان المراد بالاية خضوع جميع ما في السماوات والارض من اولى العقل وغيرهم والتعبير بلفظ يخص اولى العقل للتغليب. واما قوله " وظلالهم بالغدو والاصال " ففيه الحاق اظلال الاجسام الكثيفة بها في السجود فان الظل وان كان عدميا من حجب الجسم بكثافته عن نفوذ النور الا ان له آثارا خارجية وهو يزيد وينقص في طرفي النهار ويختلف اختلافا ظاهرا للحس فله نحو من الوجود ذو آثاره يخضع في وجوده وآثاره لله ويسجد له. وهى تسجد لله سبحانه سجدة طوع في جميع الاحيان وانما خص الغدو والاصال بالذكر لا لما قيل ان المراد بهما الدوام لانه يذكر مثل ذلك للتابيد إذ لو اريد سجودها الدائم لكان الانسب به ان يقال باطراف النهار حتى يعم جميع ما قبل الظهر وما بعده كما وقع في قوله: " ومن آناء الليل فسبح واطراف النهار لعلك ترضى " طه: 130. بل النكتة فيه والله اعلم ان الزيادة والنقيصة دائمتان للاضلال في الغداة والاصيل فيمثلان للحس السقوط على الارض وذلة السجود واما وقت الظهيرة واوساط النهار فربما انعدمت الاضلال فيها أو نقصت وكانت كالساكنة لا يظهر معنى السجدة منها ذلك الظهور. ولا شك في ان سقوط الاضلال على الارض وتمثيلها لخرور السجود منظور إليه في نسبة السجود إلى الاظلال في تفيؤها وليس النظر مقصورا على مجرد طاعتها التكوينية في جميع احوالها وآثارها والدليل على ذلك قوله: " أو لم يروا إلى ما خلق الله من شئ يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون " النحل: 48 فان العناية بذلك ظاهرة فيه
________________________________________
[ 323 ]
وليس ذلك قولا شعريا وتصويرا تخييليا يتوسل به في الدعوة الحقة في كلامه تعالى وحاشاه وقد نص انه ليس بشعر بل الحقائق المتعالية عن الاوهام الثابتة عند العقل السليم البعيدة بطباعها عن الحس إذا صادفت موارد امكن ان يظهر فيها للحس نوع ظهور ويتمثل لها بوجه كان من الحرى ان يستمد به في تعليم الافهام الساذجة والعقول البسيطة ونقلها من مرتبة الحس والخيال إلى مرحلة العقل السليم المدرك للحقائق من المعارف فانه من الحس والخيال الحق المستظهر بالحقائق المؤيد بالحق فلا بأس بالركون إليه. ومن هذا الباب عده تعالى ما يشاهد من الضلال المتفيئة من الاجسام المنتصبة بالغدو والاصال ساجدة لله سبحانه لما فيها من السقوط على الارض كخرور السجود من اولى العقل. ومن هذا الباب ايضا ما تقدم من قوله ويسبح الرعد بحمده حيث اطلق التسبيح على صوت الرعد الهائل الذى يمثل لسانا ناطقا بتنزيهه تعالى عن مشابهة المخلوقين والثناء عليه لرحمته المبشر به بالريح والسحاب والبرق مع ان الاشياء قاطبة مسبحة بحمده بوجوداتها القائمة به تعالى المعتمدة عليه وهذا تسبيح ذاتي منهم ودلالته دلالة ذاتية عقلية غير مرتبطة بالدلالات اللفظية التى توجد في الاصوات بحسب الوضع والاعتبار لكن الرعد بصوته الشديد الهائل يمثل للسمع والخيال هذا التسبيح الذاتي فذكره الله سبحانه بما له من الشأن لينتقل به الاذهان البسيطة إلى معنى التسبيح الذاتي الذى يقوم بذات كل شئ من غير صوت قارع ولا لفظ موضوع. ويقرب من هذا الباب ما تقدم في مفتتح السورة في قوله تعالى: " رفع السماوات بغير عمد ترونها " وقوله: " وفى الارض قطع متجاورات " الاية ان التمسك في مقام الاحتجاج عليه تعالى بالامور المجهول اسبابها عند الحس ليس لان سببيته تعالى مقصورة على هذا النوع من الموجودات والامور المعلومة الاسباب في غنى عنه تعالى فان القرآن الكريم ينص على عموم قانون السببية وانه تعالى فوق الجميع بل لان الامور التى لا تظهر اسبابها على الحس لبادئ نظرة تنبه الافهام البسيطة وتمثل لها الحاجة إلى سبب احسن تمثيل فتنتزع إلى البحث عن اسبابها وينتهى البحث لا محالة إلى سبب اول هو الله سبحانه وفي القرآن الكريم من ذلك شئ كثير.
________________________________________
[ 324 ]
وبالجملة فتسمية سقوط ظلال الاشياء بالغدو والاصال على الارض سجودا منها لله سبحانه مبنية على تمثيلها في هذه الحال معنى السجدة الذاتية التى لها في ذواتها بمثال حسى ينبه الحس لمعنى السجدة الذاتية ويسهل للفهم البسيط طريق الانتقال إلى تلك الحقيقة العقلية. هذا هو الذى يعطيه التدبر في كلامه تعالى واما حمل هذه المعاني على محض الاستعارة الشعرية أو جعلها مجازا مثلا يراد به انقياد الاشياء لامره تعالى بمعنى انها توجد كما شاء أو القول بان المراد بالظل هو الشخص فان من يسجد يسجد ظله معه فان هذه معان واهية لا ينبغى الالتفات إليها. قوله تعالى: " قل من رب السماوات والارض قل الله قل أفاتخذتم من دونه اولياء لا يملكون لانفسهم نفعا ولا ضرا " الاية بما تشتمل على امر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاحتجاج على المشركين بمنزلة الفذلكة من الايات السابقة. وذلك ان الايات السابقة تبين بأوضح البيان ان تدبير السماوات والارض وما فيهما من شئ إلى الله سبحانه كما ان خلقها منه وانه يملك ما يفتقر إليه الخلق والتدبير من العلم والقدرة والرحمة وان كل من دونه مخلوق مدبر لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا وينتج ذلك انه الرب دون غيره. فامر تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ان يسجل عليهم نتيجة بيانه السابق ويسألهم بعد تلاوة الايات السابقة عليهم الكاشفة عن وجه الحق لهم بقوله: " من رب السماوات والارض " أي من هو الذى يملك السماوات والارض وما فيهما ويدبر امرها ؟ ثم امره ان يجيب هو نفسه عن السؤال ويقول الله لانهم وهم مشركون معاندون يمتنعون عن الاقرار بتوحيد الربوبية وفي ذلك تلويح إلى انهم لا يعقلون حجة ولا يفقهون حديثا. ثم استنتج بمعونة هذه النتيجة نتيجة ثانية بها يتضح بطلان شركهم اوضح البيان وهى ان مقتضى ربوبيته تعالى الثابتة بالحجج السابقة انه هو المالك للنفع والضرر فكل من دونه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا فكيف لغيره ؟ فاتخاذ ارباب من دون الله أي فرض اولياء من دونه يلون امر العباد ويملكون لهم نفعا وضرا في الحقيقة فرض لاولياء ليسوا باولياء لانهم لا يملكون لانفسهم نفعا ولا ضرا فكيف يملكون لغيرهم ذلك ؟
________________________________________
[ 325 ]
وهذا هو المراد بقوله مفرعا على السؤال السابق " قل أفاتخذتم من دونه اولياء لا يملكون لانفسهم نفعا ولا ضرا " أي فكيف يملكون لغيرهم ذلك أي إذا كان الله سبحانه هو رب السماوات والارض فقد قلتم باتخاذكم اولياء آلهة من دونه قولا يكذبه نفسه وهو عدم ولايتهم في عين ولايتهم وهو التناقض الصريح بأنهم اولياء غير اولياء وارباب لا ربوبيه لهم. وبالتأمل فيما قدمناه ان الاية بمنزلة الفذلكة من سابق البيانات يعود مفاد الاية إلى مثل قولنا إذا تبين ما تقدم فمن رب السماوات والارض الا الله ؟ أفاتخذتم من دونه اولياء لا يملكون نفعا ولا ضرا ؟ فالعدول عن التفريع إلى امر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله قل كذا وقل كذا وتكراره مرة بعد مرة انما هو للتنزه عن خطابهم على ما بهم من قذارة الجهل والعناد وهذا من لطيف نظم القرآن. قوله تعالى: " قل هل يستوى الاعمى والبصير أم هل تستوى الظلمات والنور " مثلان ضربهما الله سبحانه بعد تمام الحجة واتمامها عليهم وامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان يضربهما لهم يبين باحدهما حال المؤمن والكافر فالكافر بالحجة الحقة والايات البينات غير المسلم لها اعمى والمؤمن بها بصير فالعاقل لا يسوى بينهما ببديهة عقله ويبين بالثاني ان الكفر بالحق ظلمات كما ان الكافر الواقع فيها غير بصير والايمان بالحق نور كما ان المؤمن الاخذ به بصير ولا يستويان البتة فمن الواجب على المشركين ان كان لهم عقول سليمة كما يدعون ان يسلموا للحق ويرفضوا الباطل ويؤمنوا بالله وحده. قوله تعالى: " ام جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه إلى قوله وهو الواحد القهار " في التعبير بقوله جعلوا وعليهم دون ان يقال جعلتم وعليكم دليل على ان الكلام مصروف عنهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون ان يؤمر بالقائه إليهم. ثم العود في جواب هذا الاحتمال الذى يتضمنه قوله: " ام جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم إلى الامر بالقائه إليهم بقوله " قل الله خلق كل شئ وهو الواحد القهار " دليل على ان السؤال انما هو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمطلوب من القاء توحيد الخالق إليهم هو الالقاء الابتدائي لا الالقاء بنحو الجواب وليس الا لانهم لا يقولون بخالق غير الله سبحانه كما قال تعالى: " ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله "


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page