• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 201 الي 225



[ 201 ]
ولم يسأله ما سأل الا ليتقلد بنفسه ادارة امر الميرة وارزاق الناس فيجمعها ويدخرها للسنين السبع الشداد التى سيستقبل الناس وتنزل عليهم جدبها ومجاعتها ويقوم بنفسه لقسمة الارزاق بين الناس واعطاء كل منهم ما يستحقه من الميرة من غير حيف. وقد علل سؤاله ذلك بقوله " انى حفيظ عليم " فان هاتين الصفتين هما اللازم وجودهما فيمن يتصدى مقاما هو سائله ولا غنى عنهما له وقد اجيب إلى ما سأل واشتغل بما كان يريده كل ذلك معلوم من سياق الايات وما يتلوها. قوله تعالى: " وكذلك مكنا ليوسف في الارض يتبوء منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع اجر المحسنين " التمكين هو الاقدار والتبوء اخذ المكان. والاشارة بقوله كذلك إلى ما ساقه من القصة بما انتهى إلى نيله (ع) عزة مصر وهو حديث السجن وقد كانت امرأة العزيز هددته بالصغار بالسجن فجعله الله سببا للعزة وعلى هذا النمط كان يجرى امره (ع) اكرمه ابوه فحسده اخوته فكادوا به بالقائه في غيابة الجب وبيعه من السيارة ليذلوه فأكرم الله مثواه في بيت العزيز وكادت به امرأة العزيز ونسوة مصر ليوردنه مورد الفجور فأبان الله عصمته ثم كادت به بالسجن لصغاره فتسبب الله بذلك لعزته. وللاشارة إلى امر السجن وحبسه وسلبه حرية الاختلاط والعشرة قال تعالى: " وكذلك مكنا ليوسف في الارض يتبوء منها حيث يشاء " أي رفعنا عنه حرج السجن الذى سلب منه اطلاق الارادة فصار مطلق المشية له ان يتبوء في أي بقعة يشاء فهذا الكلام بوجه يحاذي قوله تعالى السابق فيه حين دخل بيت العزيز ووصاه امراته: " وكذلك مكنا ليوسف في الارض ولنعلمه من تأويل الاحاديث والله غالب على امره. " وبهذه المقايسة يظهر ان قوله ههنا " نصيب برحمتنا من نشاء " في معنى قوله هناك والله غالب على امره وان المراد ان الله سبحانه إذا شاء ان يصيب برحمته احدا لم يغلب في مشيته ولا يسع لاى مانع مفروض ان يمنع من اصابته ولو وسع لسبب ان يبطل مشية الله في احد لوسع في يوسف الذى تعاضدت الاسباب القاطعة وتظاهرت لخفضه فرفعه الله ولا ذلا له فأعزه الله ان الحكم الا لله.
________________________________________
[ 202 ]
وقوله: " ولا نضيع اجر المحسنين " اشارة إلى ان هذا التمكين اجر اوتيه يوسف (ع) ووعد جميل للمحسنين جميعا ان الله لا يضيع اجرهم. قوله تعالى: " ولاجر الاخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون " أي لاولياء الله من عباده فهو وعد جميل اخروى لاوليائه تعالى خاصة وكان يوسف (ع) منهم. والدليل على انه لا يعم عامة المؤمنين الجملة الحالية وكانوا يتقون الدالة على ان هذا الايمان وهو حقيقة الايمان لا محالة كان منهم مسبوقا بتقوى مستمر حقيقي وهذا التقوى لا يتحقق من غير ايمان فهو ايمان بعد ايمان وتقوى وهو المساوق لولاية الله سبحانه قال تعالى " الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفى الاخرة " يونس: 64 (بحث روائي) في تفسير القمى: ثم ان الملك رأى رؤيا فقال لوزرائه انى رايت في نومى سبع بقرات سمان ياكلهن سبع عجاف أي مهازيل ورايت سبع سنبلات خضر واخر يابسات وقال (1) أبو عبد الله (ع) سبع سنابل ثم قال " يا ايها الملا افتوني في رؤياي ان كنتم للرؤيا تعبرون " فلم يعرفوا تأويل ذلك. فذكر الذى كان على راس الملك رؤياه التى رآها وذكر يوسف بعد سبع سنين وهو قوله: " وقال الذى نجا منهما وادكر بعد امة " أي بعد حين انا انبئكم بتأويله فأرسلون فجاء إلى يوسف فقال " ايها الصديق افتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واخر يابسات ". قال يوسف تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله الا قليلا مما تأكلون أي لا تدوسوه فانه يفسد في طول سبع سنين وإذا كان في سنبله لا يفسد ثم يأتي من بعد
________________________________________
(1) وقرء خ ل. (*)
________________________________________
[ 203 ]
ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن في السبع سنين الماضية قال الصادق (ع) انما نزل ما قربتم لهن ثم ياتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون أي يمطرون. وقال أبو عبد الله (ع) قرء رجل على امير المؤمنين (ع) ثم ياتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون على البناء للفاعل فقال ويحك أي شئ يعصرون يعصرون الخمر ؟ قال الرجل يا امير المؤمنين كيف اقرؤها ؟ فقال انما نزلت وفيه يعصرون أي يمطرون بعد سني المجاعة والدليل على ذلك قوله: " وانزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ". فرجع الرجل إلى الملك فأخبره بما قال يوسف فقال الملك ائتونى به فلما جائه الرسول قال ارجع إلى ربك يعنى إلى الملك فأساله ما بال النسوة اللاتى قطعن ايديهن ؟ ان ربى بكيدهن عليم. فجمع الملك النسوة فقال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ؟ قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امراة العزيز الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين ذلك ليعلم انى لم اخنه بالغيب وان الله لا يهدى كيد الخائنين أي لا اكذب عليه الان كما كذبت عليه من قبل ثم قالت وما ابرئ نفسي ان النفس لامارة بالسوء الا ما رحم ربى. فقال الملك ائتونى به استخلصه لنفسي فلما نظر إلى يوسف قال انك اليوم لدينا مكين امين فاسأل حاجتك قال اجعلني على خزائن الارض انى حفيظ عليم يعنى الكناديج والانابير فجعله عليها وهو قوله: " وكذلك مكنا ليوسف في الارض يتبوء منها حيث يشاء ". اقول قوله وقرء الصادق (ع) سبع سنابل في رواية العياشي عن ابن ابى يعفور عنه (ع) انه قرء سبع سنبلات (1) وقوله (ع) انما نزل ما قربتم لهن أي ان التقديم بحسب التنزيل بمعنى التقريب وقوله (ع) انما نزلت وفيه يعصرون أي يمطرون أي بالبناء للمفعول ومنه يعلم انه (ع) يأخذ قوله يغاث من الغيث دون
________________________________________
(1) على ما أخرجه في البرهان واما في نسخة العياشي المطبوعة " سبع سنابل " ايضا. (*)
________________________________________
[ 204 ]
الغوث وروى هذا المعنى ايضا العياشي في تفسيره عن على بن معمر عن ابيه عن ابى عبد الله (ع). وقوله أي لا اكذب عليه الان كما كذبت عليه من قبل ظاهر في اخذ قوله " ذلك ليعلم انى لم اخنه بالغيب " إلى آخر الايتين من كلام امراة العزيز وقد عرفت الكلام عليه في البيان المتقدم. وفي الدر المنثور اخرج الفاريابى وابن جرير وابن ابى حاتم والطبراني وابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عجبت لصبر اخى يوسف وكرمه والله يغفر له حيث ارسل إليه ليستفتى في الرؤيا وان كنت انا لم افعل حتى اخرج وعجبت من صبره وكرمه والله يغفر له اتى ليخرج فلم يخرج حتى اخبرهم بعذره ولو كنت انا لبادرت الباب ولكنه احب ان يكون له العذر. اقول وقد روى هذا المعنى بطرق اخرى ومن طرق اهل البيت (ع) ما في تفسير العياشي عن ابان عن محمد بن مسلم عن احدهما (ع) قال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لو كنت بمنزلة يوسف حين ارسل إليه الملك يسأله عنه رؤياه ما حدثته حتى اشترط عليه ان يخرجني من السجن وعجبت لصبره عن شان امرأة الملك (1) حتى اظهر الله عذره. اقول وهذا النبوى لا يخلو من شئ فان فيه احد المحذورين اما الطعن في حسن تدبير يوسف (ع) وتوصله إلى الخروج من السجن وقد احسن التدبير في ذلك فلم يكن يريد مجرد الخروج منه ولا هم لامرأة العزيز ونسوة مصر الا في مراودته عن نفسه والجائه إلى موافقة هواهن وهو القائل " رب السجن احب الي مما يدعونني إليه " وانما كان يريد الخروج في جو يظهر فيه براءته وتيأس منه امراة العزيز والنسوة ويوضع في موضع يليق به من المكانة والمنزلة. ولذا انبأ وهو في السجن اولا بما هو وظيفة الملك الواجبة اثر رؤياه من جمع الارزاق العامة وادخارها فتوصل به إلى قول الملك ائتونى به ثم لما امر باخراجه ابى إلى ان
________________________________________
(1) هي امرأة العزيز دون الملك ولعل اطلاق الملك على بعلها من تسامح بعض رواة الحديث منه. (*)
________________________________________
[ 205 ]
يحكم بينه وبين النسوة حكما بالقسط فتوصل به إلى قوله ائتونى به استخلصه لنفسي وهذا احسن تدبير يتصور لما كان يبتغيه من العزة في مصر وبسط العدل والاحسان في الارض مضافا إلى ما ظهر للملك وملائه في خلال هذه الاحوال من عظيم صبره وعزمه في الامور وتحمله الاذى في جنب الحق وعلمه الغزير وحكمه القويم. واما الطعن في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحاشاه ان يقول انه لو كان مكان يوسف طاش ولم يصبر مع الاعتراف بان الحق كان معه في صبره وهو اعتراف بان من شانه ان لا يصبر فيما يجب الصبر فيه وحاشاه صلى الله عليه وآله وسلم ان يامر الناس بشئ وينسى نفسه وقد صبر وتحمل الاذى في جنب الله قبل الهجرة وبعدها من الناس حتى اثنى الله عليه بمثل قوله: " وانك لعلى خلق عظيم ". وفى الدر المنثور ايضا اخرج الحاكم في تاريخه وابن مردويه والديلمي عن انس قال: ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرء هذه الاية: " ذلك ليعلم انى لم اخنه بالغيب " قال لما قالها يوسف قال له جبريل يا يوسف اذكر همك قال وما ابرئ نفسي. اقول وهذا المعنى مروى في عدة روايات بالفاظ متقاربة ففى رواية ابن عباس لما قالها يوسف فغمزه جبريل فقال ولا حين هممت بها ؟ وفى رواية عن حكيم بن جابر فقال له جبريل ولا حين حللت السراويل ؟ ونحو من ذلك في روايات اخر عن مجاهد وقتادة وعكرمة والضحاك وابن زيد والسدى والحسن وابن جريح وابى صالح وغيرهم. وقد تقدم في البيان السابق ان هذه وامثالها من موضوعات الاخبار مخالفة لنص الكتاب وحاشا مقام يوسف الصديق (ع) ان يكذب بقوله لم اخنه بالغيب ثم يصلح ما افسده بغمز من جبريل قال في الكشاف ولقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة فزعموا ان يوسف حين قال انى لم اخنه بالغيب قال له جبريل ولا حين هممت بها ؟ وقالت له امرأة العزيز ولا حين حللت تكة سراويلك يا يوسف ؟ وذلك لتهالكهم على بهت الله ورسوله انتهى. وفي تفسير العياشي عن سماعة قال: سألته عن قول الله " ارجع إلى ربك " الاية يعنى العزيز.
________________________________________
[ 206 ]
اقول وفى تفسير البرهان عن الطبرسي في كتاب النبوة بالاسناد عن احمد بن محمد ابن عيسى عن الحسن بن على بن الياس قال سمعت الرضا (ع) يقول: واقبل يوسف على جمع الطعام في السبع السنين المخصبة فكبسه في الخزائن فلما مضت تلك السنون واقبلت السنون المجدبة اقبل يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الاولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق بمصر وما حولها دينار ولا درهم الا صار في ملك يوسف. وباعهم في السنة الثانية بالحلى والجواهر حتى لم يبق بمصر وما حولها حلى ولا جواهر الا صار في ملكه وباعهم في السنة الثالثة بالدواب والمواشى حتى لم يبق بمصر وما حولها دابة ولا ماشية الا صار في ملكه وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والاماء حتى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا امة الا صار في ملكه وباعهم في السنة الخامسة بالدور والفناء حتى لم يبق في مصر وما حولها دار ولا فناء الا صار في ملكه وباعهم في السنة السادسة بالمزارع والانهار حتى لم يبق بمصر وما حولها نهر ولا مزرعة الا صار في ملكه وباعهم في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا حر الا صار عبدا ليوسف. فملك احرارهم وعبيدهم واموالهم وقال الناس ما رأينا ولا سمعنا بملك اعطاه (الله ط) من الملك ما اعطى هذا الملك حكما وعلما وتدبير ا ثم قال يوسف للملك ما ترى فيما خولنى ربى من ملك مصر وما حولها ؟ اشر علينا برايك فانى لم اصلحهم لافسدهم ولم انجهم من البلاء ليكون بلاء عليهم ولكن الله انجاهم بيدى قال الملك الرأى رأيك. قال يوسف انى اشهد الله واشهدك ايها الملك انى قد اعتقت اهل مصر كلهم ورددت عليهم اموالهم وعبيدهم ورددت عليك الملك وخاتمك وسريرك وتاجك على ان لا تسير الا بسيرتي ولا تحكم الا بحكمى. قال له الملك ان ذلك توبتي وفخري ان لا اسير الا بسيرتك ولا احكم الا بحكمك ولولاك ما توليت عليك ولا اهتديت له وقد جعلت سلطاني عزيزا ما يرام وانا اشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له وانك رسوله فأقم على (ما ظ) وليتك فانك لدينا مكين امين. اقول والروايات في هذا المقام كثيرة اغلبها غير مرتبطة بغرض تفسير الايات
________________________________________
[ 207 ]
ولذلك تركنا نقلها. وفى تفسير العياشي قال سليمان قال سفيان: قلت لابي عبد الله (ع) ما يجوز ان يزكى الرجل نفسه ؟ قال نعم إذا اضطر إليه أما سمعت قول يوسف اجعلني على خزائن الارض انى حفيظ عليم وقول العبد الصالح انى لكم ناصح امين ؟ اقول الظاهر ان المراد بالعبد الصالح هو هود إذ يقول لقومه: " وابلغكم رسالات ربى وانا لكم ناصح امين " الاعراف: 68. وفي العيون باسناده عن العياشي قال حدثنا محمد بن نصر عن الحسن بن موسى قال: روى اصحابنا عن الرضا (ع) انه قال له رجل اصلحك الله كيف صرت إلى ما صرت إليه من المأمون ؟ فكأنه انكر ذلك عليه فقال له أبو الحسن الرضا (ع) ايما افضل النبي أو الوصي فقال لا بل النبي قال فأيما افضل مسلم أو مشرك ؟ قال لا بل مسلم. قال فان عزيز (1) مصر كان مشركا وكان يوسف نبيا وان المأمون مسلم وانا وصى ويوسف سأل العزيز ان يوليه حتى قال استعملني على خزائن الارض انى حفيظ عليم والمأمون اجبرني على ما انا فيه قال وقال في قوله حفيظ عليم قال حافظ على ما في يدى عالم بكل لسان اقول وقوله استعملني على خزائن الارض نقل الاية بالمعنى ورواه العياشي في تفسيره وروى آخر الحديث في المعاني ايضا عن فضل بن ابى قرة عن الصادق (ع): * * * وجاء اخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون - 58 ولما جهزهم بجهازهم قال ائتونى باخ لكم من ابيكم ألا ترون انى
________________________________________
(1) المراد به ملك مصر ولعل اطلاق العزيز عليه من تسامح الراوي. (*)
________________________________________
[ 208 ]
اني أو في الكيل وانا خير المنزلين - 59. فان لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون - 60. قالوا سنراود عنه اباه وانا لفاعلون - 61. وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى اهلهم لعلهم يرجعون - 82. (بيان) فصل آخر مختار من قصة يوسف (ع) يذكر الله تعالى فيه مجئ اخوته إليه في خلال سنى الجدب لاشتراء الطعام لبيت يعقوب وكان ذلك مقدمة لضم يوسف (ع) اخاه من امه وهو المحسود المذكور في قوله تعالى: " حكاية عن الاخوة ليوسف واخوه احب إلى ابينا منا ونحن عصبة " إليه ثم تعريفهم نفسه ونقل بيت يعقوب (ع) من البدو إلى مصر. وانما لم يعرفهم نفسه ابتداء لانه اراد ان يلحق اخاه من امه إلى نفسه ويرى اخوته من ابيه عند تعريفهم نفسه صنع الله بهما ومن الله عليهما اثر تقواهما وصبرهما على ما آذوهما عن الحسد والبغى ثم يشخصهم جميعا والايات الخمس تتضمن قصة دخولهم مصر واقتراحه ان ياتوا باخيهم من ابيهم إليه ان عادوا إلى اشتراء الطعام والميرة وتقبلهم ذلك. قوله تعالى: " وجاء اخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون " في الكلام حذف كثير وانما ترك الاقتصاص له لعدم تعلق غرض هام به وانما الغرض بيان لحوق اخى يوسف من امه به واشراكه معه في النعمة والمن الالهى ثم معرفتهم بيوسف ولحوق بيت يعقوب به فهو شطر مختار من قصته وما جرى عليه بعد عزة مصر. والذى جاء إليه من اخوته هم العصبة ما خلا اخيه من امه فان يعقوب (ع) كان يأنس به ولا يخلى بينه وبينهم بعد ما كان من امر يوسف ما كان والدليل على ذلك كله ما سيأتي من الايات.
________________________________________
[ 209 ]
وكان بين دخولهم هذا على اخيهم يوسف وبين انتصابه على خزائن الارض وتقلده عزة مصر بعد الخروج من السجن اكثر من سبع سنين فانهم انما جاؤا إليه في بعض السنين المجدبة وقد خلت السبع السنون المخصبة ولم يروه منذ سلموه إلى السيارة يوم اخرج من الجب وهو صبى وقد مر عليه سنون في بيت العزيز ولبث بضع سنين في السجن وتولى امر الخزائن منذ اكثر من سبع سنين وهو اليوم في زى عزيز مصر لا يظن به انه رجل عبرى من غير القبط وهذا كله صرفهم عن ان يظنوا به انه اخوهم ويعرفوه لكنه عرفهم بكياسته أو بفراسة النبوة كما قال تعالى: " وجاء اخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون ". قوله تعالى: " ولما جهزهم بجهازهم قال ائتونى بأخ لكم من ابيكم الا ترون انى أو في الكيل وانا خير المنزلين " قال الراغب في المفردات الجهاز ما يعد من متاع وغيره والتجهيز حمل ذلك أو بعثه انتهى فالمعنى ولما حملهم ما اعد لهم من الجهاز والطعام الذى باعه منهم امرهم بان ياتوا إليه باخ لهم من ابيهم وقال ائتونى الخ. وقوله ألا ترون انى أو في الكيل أي لا ابخس فيه ولا اظلمكم بالاتكاء على قدرتي وعزتي وانا خير المنزلين اكرم النازلين بى واحسن مثواهم وهذا تحريض لهم ان يعودوا إليه ثانيا ويأتوا إليه بأخيهم من ابيهم كما ان قوله في الاية التالية: " فان لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون " تهديد لهم لئلا يعصوا امره وكما ان قولهم في الاية الاتية: " سنراود عنه اباه وانا لفاعلون " تقبل منهم لذلك في الجملة وتطييب لنفس يوسف (ع). ثم من المعلوم ان قوله (ع) أو ان خروجهم " ائتونى بأخ لكم من ابيكم " مع ما فيه من التأكيد والتحريض والتهديد ليس من شأنه ان يورد كلاما ابتدائيا من غير مقدمة وتوطئة تعمي عليهم وتصرفهم ان يتفطنوا أنه يوسف أو يتوهموا فيه ما يريبهم في أمره. وهو ظاهر. وقد اورد المفسرون في القصة من مفاوضته لهم وتكليمه اياهم امورا كثيرة لا دليل على شئ منها من كلامه تعالى في سياق القصة ولا اثر يطمأن إليه في امثال المقام. وكلامه تعالى خال عن التعرض لذلك، وانما الذي يستفاد منه أنه سألهم عن خطبهم
________________________________________
[ 210 ]
فأخبروه وهم عشرة أنهم اخوة وأن لهم أخا آخر بقي عند أبيهم لا يفارقه ابوه ولا يرضى أن يفارقه لسفر أو غيره فأحب العزيز أن يأتوا به إليه فيراه. قوله تعالى: " فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون " الكيل بمعنى المكيل وهو الطعام، ولا تقربون اي لا تقربوني بدخول أرضي والحضور عندي للامتيار واشتراء الطعام. ومعنى الآية ظاهر، وهو تهديد منه لهم لو خالفوا عن أمره كما تقدم. قوله تعالى: " قالوا سنراود عنه أباه وإنا لفاعلون " المراودة كما تقدم هي الرجوع في امر مرة بعد مرة بالالحاح أو الاستخدام، ففي قولهم ليوسف (ع) " سنراود عنه أباه " دليل على انهم قصوا عليه قصته أن أباهم يضن به ولا يرضى بمفارقته له ويأبى أن يبتعد منه لسفر أو أي غيبة، وفى قولهم: " اباه " ولم يقولوا: ابانا تأييد لذلك. وقولهم: " وإنا لفاعلون " أي فاعلون للاتيان به أو للمراودة لحمله معهم والاتيان به إليه، ومعنى الآية ظاهر، وفيه تقبل منهم لذلك في الجملة وتطييب لنفس يوسف (ع) كما تقدم. قوله تعالى: " وقال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون " الفتيان جمع الفتى وهو الغلام وقال الراغب البضاعة قطعة وافرة من المال يقتنى للتجارة يقال ابضع بضاعة وابتضعها قال تعالى " هذه بضاعتنا " ردت الينا وقال تعالى ببضاعة مزجاة والاصل في هذه الكلمة البضع بفتح الباء وهو جملة من اللحم يبضع أي يقطع قال وفلان بضعة منى أي جار مجرى بعض جسدي لقربه منى قال والبضع بالكسر المنقطع من العشرة ويقال ذلك لما بين الثلاث إلى العشرة وقيل بل هو فوق الخمس ودون العشرة انتهى والرحال جمع رحل وهو الوعاء والاثاث والانقلاب الرجوع. ومعنى الاية وقال يوسف (ع) لغلمانه اجعلوا مالهم وبضاعتهم التى قدموها ثمنا لما اشتروه من الطعام في اوعيتهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا ورجعوا إلى اهلهم وفتحوا الاوعية لعلهم يرجعون الينا ويأتوا باخيهم فان ذلك يقع في قلوبهم ويطمعهم إلى الرجوع والتمتع من الاكرام والاحسان
________________________________________
[ 211 ]
* * * فلما رجعوا إلى ابيهم قالوا يا ابانا منع منا الكيل فارسل معنا اخانا نكتل وانا له لحافظون - 63. قال هل آمنكم عليه الا كما آمنتكم على اخيه من قبل فالله خير حافظا وهو ارحم الراحمين 64. ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا ابانا ما نبغى هذه بضاعتنا ردت الينا ونمير اهلنا ونحفظ اخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير - 65. قال لن ارسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به الا ان يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل - 66. وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من ابواب متفرقة وما اغنى عنكم من الله من شئ ان الحكم الا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون - 67. ولما دخلوا من حيث امرهم ابوهم ما كان يغنى عنهم من الله من شئ الا حاجة في نفس يعقوب قضيها وانه لذو علم لما علمناه ولكن اكثر الناس لا يعلمون - 68. ولما دخلوا على يوسف آوى إليه اخاه قال انى انا اخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون - 69. فلما جهزهم بجهازهم جعل
________________________________________
[ 212 ]
السقاية في رحل اخيه ثم اذن مؤذن ايتها العير انكم لسارقون - 70. قالوا واقبلوا عليهم ما ذا تفقدون - 71. قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وانا به زعيم - 72. قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الارض وما كنا سارقين - 73. قالوا فما جزاؤه ان كنتم كاذبين - 74 قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزى الظالمين - 75. فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء اخيه ثم استخرجها من وعاء اخيه كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ اخاه في دين الملك الا ان يشاء الله نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذى علم عليم - 76. قالوا ان يسرق فقد سرق اخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه ولم يبدها لهم قال انتم شر مكانا والله اعلم بما تصفون - 77. قالوا يا ايها العزيز ان له ابا شيخا كبيرا فخذ احدنا مكانه انا نراك من المحسنين - 78. قال معاذ الله ان ناخذ الا من وجدنا متاعنا عنده انا إذا لظالمون - 79. فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا قال كبيرهم ألم تعلموا ان اباكم قد اخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن ابرح الارض حتى يأذن لى ابى أو يحكم الله لى وهو خير
________________________________________
[ 213 ]
الحاكمين - 80. ارجعوا إلى ابيكم فقولوا يا ابانا ان ابنك سرق وما شهدنا الا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين - 81. وسئل القرية التى كنا فيها والعير التى اقبلنا فيها وانا لصادقون - 82. (بيان) الايات تقتص رجوع اخوة يوسف (ع) من عنده إلى ابيهم وارضاءهم اباهم ان يرسل معهم اخا يوسف من امه للاكتيال ثم مجيئهم ثانيا إلى يوسف واخذ يوسف اخاه إليه عن حيلة احتالها لذلك. قوله تعالى: " فلما رجعوا إلى ابيهم قالوا يا ابانا منع منا الكيل فأرسل معنا اخانا نكتل وانا له لحافظون " الاكتيال اخذ الطعام كيلا ان كان مما يكال قال الراغب الكيل كيل الطعام يقال كلت له الطعام إذا توليت له ذلك وكلته الطعام إذا اعطيته كيلا واكتلت عليه إذا اخذت منه كيلا قال تعالى: " ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم ". وقوله: " قالوا يا ابانا منع منا الكيل أي لو لم نذهب بأخينا ولم يذهب معنا إلى مصر بدليل قوله فأرسل معنا اخانا فهو اجمال ما جرى بينهم وبين عزيز مصر من امره بمنعهم من الكيل ان لم ياتوا إليه باخ لهم من ابيهم يقصونه لابيهم ويسألونه ان يرسله معهم ليكتالوا ولا يحرموا. وقولهم اخانا اظهار رأفة واشفاق لتطييب نفس ابيهم من انفسهم كقولهم " وانا له لحافظون " بما فيه من التأكيد البالغ. قوله تعالى: " قال هل آمنكم عليه الا كما امنتكم على اخيه من قبل فالله خير حافظا وهو ارحم الراحمين " قال في المجمع الا من اطمئنان القلب إلى سلامة الامر يقال أمنه
________________________________________
[ 214 ]
يأمنه امنا انتهى فقوله هل آمنكم عليه الخ أي هل اطمئن اليكم في ابني هذا الا مثل ما اطماننت اليكم في اخيه يوسف من قبل هذا فكان ما كان. ومحصله انكم تتوقعون منى ان اثق فيه بكم وتطمئن نفسي اليكم كما وثقت بكم واطماننت اليكم في اخيه من قبل وتعدوننى بقولكم وانا له لحافظون ان تحفظوه كما وعدتم في يوسف بقولكم وانا له لحافظون وقد امنتكم بمثل هذا الا من على يوسف فلم تغنوا عنى شيئا وجئتم بقميصه الملطخ بالدم ان الذئب اكله وامنى لكم على هذا الاخ مثل امني على اخيه من قبل امن لمن لا يغنى امنه والاطمئنان إليه شيئا ولا بيده حفظ ما سلم إليه وائتمن له. وقوله فالله خير حافظا وهو ارحم الراحمين تفريع على سابق كلامه هل آمنكم عليه الخ وتفيد الاستنتاج أي إذا كان الاطمئنان اليكم في امره لغي لا اثر له ولا يغنى شيئا فخير الاطمئنان والاتكال ما كان اطمئنانا إلى الله سبحانه من حيث حفظه وإذا تردد الامر بين التوكل عليه والتفويض إليه وبين الاطمئنان إلى غيره كان الوثوق به تعالى هو المختار المتعين وقوله " وهو ارحم الراحمين " في موضع التعليل لقوله فالله خير حافظا أي ان غيره تعالى ربما امن في امر وائتمن عليه في امانة سلم له فلم يرحم المؤتمن وضيع الامانة لكنه سبحانه ارحم الراحمين لا يترك الرحمة في محل الرحمة ويترحم العاجز الضعيف الذى فوض إليه امرا وتوكل عليه ومن يتوكل على الله فهو حسبه. ومن هنا يظهر ان مراده (ع) ليس بيان لزوم اختياره تعالى في الاعتماد عليه من جهة انه سبب مستقل في سببيته غير مغلوب البتة بخلاف سائر الاسباب وان كان الامر كذلك قال تعالى: " ومن يتوكل على الله فهو حسبه ان الله بالغ امره " الطلاق: 3 كيف والاطمئنان إلى غيره تعالى بهذا المعنى من الشرك الذى يتنزه عنه ساحة الانبياء وقد نص تعالى على ان يعقوب (ع) من المخلصين اهل الاجتباء وانه من الائمة الهداة المهديين وهو (ع) يعترف في قوله الا كما امنتكم على اخيه من قبل انه امنهم على يوسف ولو كان من الشرك لم يقدم عليه البتة على انه امنهم على اخى يوسف ايضا بعد ما اعطوه موثقا من الله تعالى كما تدل عليه الايات التالية. بل يريد بيان لزوم اختياره تعالى في الاطمئنان إليه دون غيره من جهة انه تعالى
________________________________________
[ 215 ]
متصف بصفات كريمة يؤمن معها ان يستغش عباده المتوكلين عليه المسلمين له امورهم فانه رؤف بعباده رحيم غفور ودود كريم حكيم عليم ويجمع الجميع انه ارحم الراحمين على انه لا يغلب في امره لا يقهر في مشيته واما الناس إذا امنوا على امر واطمئن إليهم في شئ فانهم اسراء الاهواء وملاعب الهوسات النفسانية ربما اخذتهم كرامة النفس وشيمة الوفاء وصفة الرحمة فحفظوا ما في اختيارهم ان يحفظوه ولا يخونوه وربما خانوا ولم يحفظوا على انهم لا استقلال لهم في قدرة ولا استغناء لهم في قوة وارادة. وبالجملة مراده (ع) ان الاطمئنان إلى حفظ الله سبحانه خير من الاطمئنان إلى حفظ غيره لانه تعالى ارحم الراحمين لا يخون عبده فيما امنه عليه واطمأن فيه إليه بخلاف الناس فانهم ربما لم يفوا لعهد الامانة ولم يرحموا المؤتمن المتوسل بهم فخانوه ولذلك لما كلف بنيه ثانيا ان يؤتوه موثقا من الله قال: " ان تؤتون موثقا من الله لتأتنني به الا ان يحاط بكم " فاستثنى ما ليس في اختيارهم من الحفظ وهو حفظه إذا احيط بهم فانه فوق استطاعتهم ومقدرتهم وليسوا بمسؤلين عنه وانما سالهم الموثق في اتيانه فيما لا يخرج من اختيارهم كالقتل والنفى ونحو ذلك فافهم ذلك. ومما تقدم يظهر ان في قوله (ع) وهو ارحم الراحمين نوع تعريض لهم وتلويح إلى انهم لم يستوفوا الرحم أو لم يرحموه اصلا في امر يوسف حين امنهم عليه والاية على أي حال في معنى الرد لما سألوه. قوله تعالى: " ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم " إلى آخر الاية البغى هو الطلب ويستعمل كثيرا في الشر ومنه البغى بمعنى الظلم والبغى بمعنى الزنا وقال في المجمع الميرة الاطعمة التى تحمل من بلد إلى بلد ويقال مرتهم اميرهم ميرا إذا اتيتهم بالميرة ومثله امترتهم امتيارا انتهى. وقوله: " يا ابانا ما نبغى " استفهام أي لما فتحوا متاعهم ووجدوا بضاعتهم ردت إليهم وكان ذلك دليلا على اكرام العزيز لهم وانه غير قاصد بهم سوء وقد سلم إليهم الطعام ورد إليهم الثمن فكان ذهابهم إلى مصر للامتيار خير سفر نفعا ودرا راجعوا اباهم وقالوا يا ابانا ما الذى نطلب من سفرنا إلى مصر وراء هذا ؟ فقد أو في لنا الكيل ورد الينا ما بذلناه من البضاعه ثمنا.
________________________________________
[ 216 ]
فقولهم يا ابانا ما نبغى هذه بضاعتنا ردت الينا ارادوا به تطييب نفس ابيهم ليرضى بذهاب اخيهم معهم لانه في امن من العزيز وهم يحفظونه كما وعدوه ولذلك عقبوه بقولهم ونمير اهلنا ونحفظ اخانا ونزداد كيل بعير ذلك كيل يسير أي سهل. وربما قيل ان ما في قوله ما نبغى للنفي أي ما نطلب بما اخبرناك من العزيز واكرامه لنا الكذب فهذه بضاعتنا ردت الينا وكذا قيل ان اليسير بمعنى القليل أي ان الذى جئنا به اليك من الكيل قليل لا يقنعنا فنحتاج إلى ان نضيف إليه كيل بعير اخينا. قوله تعالى: " قال لن ارسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتاتننى به الا ان يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل " الموثق بكسر الثاء ما يوثق به ويعتمد عليه والموثق من الله هو امر يوثق به ويرتبط مع ذلك بالله وايتاء موثق الهى واعطاؤه هو ان يسلط الانسان على امر الهى يوثق به كالعهد واليمين بمنزلة الرهينة والمعاهد والمقسم بقوله عاهدت الله ان افعل كذا أو بالله لافعلن كذا يراهن كرامة الله وحرمته فيضعها رهينة عند من يعاهده أو يقسم له ولو لم يف بما قال خسر في رهينته وهو مسؤل عند الله لا محالة. والاحاطة من حاط بمعنى حفظ ومنه الحائط للجدار الذى يدور حول المكان ليحفظه والله سبحانه محيط بكل شئ أي مسلط عليه حافظ له من كل جهة لا يخرج ولا شئ من اجزائه من قدرته واحاط به البلاء والمصيبة أي نزل به على نحو انسدت عليه جميع طرق النجاة فلا مناص له منه ومنه قولهم احيط به أي هلك أو فسد أو انسدت عليه طرق النجاة والخلاص قال تعالى: " واحيط بثمره فاصبح يقلب كفيه على ما انفق فيها " الكهف: 42 وقال: " وظنوا انهم احيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين " يونس: 22 ومنه قوله في الاية " الا ان يحاط بكم " أي ان ينزل بكم من النازلة ما يسلب منكم كل استطاعة وقدرة فلا يسعكم الاتيان به الي. والوكالة نوع تسلط على امر يعود إلى الغير ليقوم به وتوكيل الانسان غيره في امر تسليطه عليه ليقوم في اصلاحه مقامه والتوكل عليه اعتماده والاطمئنان إليه في امر وتوكيله تعالى والتوكل عليه في الامور ليس بعناية انه خالق كل شئ ومالكه ومدبره بل
________________________________________
[ 217 ]
بعناية انه اذن في نسبة الامور إلى مصادرها والافعال إلى فواعلها وملكها اياها بنحو من التمليك وهى فاقدة للاصالة والاستقلال في التأثير والله سبحانه هو السبب المستقل القاهر لكل سبب الغالب عليه فمن الرشد إذا اراد الانسان امرا وتوصل إليه بالاسباب العادية التى بين يديه ان يرى الله سبحانه هو السبب الوحيد المستقل بتدبير الامر وينفى الاستقلال والاصالة عن نفسه وعن الاسباب التى استعملها في طريق الوصول إليه فيتوكل عليه سبحانه فليس التوكل هو قطع الانسان أو نفيه نسبة الامور إلى نفسه أو إلى الاسباب بل هو نفيه دعوى الاستقلال عن نفسه وعن الاسباب وارجاع الاستقلال والاصالة إليه تعالى مع ابقاء اصل النسبة غير المستقلة التى إلى نفسه وإلى الاسباب. ولذلك نرى ان يعقوب (ع) فيما تحكيه الايات من توكله على الله لم بلغ الاسباب ولم يهملها بل تمسك بالاسباب العادية فكلم اولا بنيه في اخيهم ثم اخذ منهم موثقا من الله ثم توكل على الله وكذا فيما وصاهم في الاية الاتية بدخولهم من ابواب متفرقة ثم توكله على ربه تعالى. فالله سبحانه على كل شئ وكيل من جهة الامور التى لها نسبة إليها كما انه ولى لها من جهة استقلاله بالقيام على الامور المنسوبة إليها وهى عاجزة عن القيام بها بحول وقوة وانه رب كل شئ من جهة انه المالك المدبر لها. ومعنى الاية قال يعقوب لبنيه لن ارسله أي اخاكم من ام يوسف معكم حتى تؤتون وتعطوني موثقا من الله اثق به واعتمد عليه من عهد أو يمين لتاتننى به واللام للقسم ولما كان ايتاؤهم موثقا من الله انما كان يمضى ويفيد فيما كان راجعا إلى استطاعتهم وقدرتهم استثنى فقال الا ان يحاط بكم وتسلبوا الاستطاعة والقدرة فلما آتوه موثقهم من الله قال يعقوب الله على ما نقول وكيل أي انا قاولنا جميعا فقلت وقلتم وتوسلنا بذلك إلى هذه الاسباب العادية للوصول إلى غرض نبتغيه فليكن الله سبحانه وكيلا على هذه الاقاويل يجريها على رسلها فمن التزم بشئ فليات به كما التزم وان تخلف فليجازه الله وينتصف منه. قوله تعالى: " وقال يا بنى لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من ابواب متفرقة " إلى آخر الاية هذه كلمة القاها يعقوب (ع) إلى بنيه حين آتوه موثقا من الله وتجهزوا
________________________________________
[ 218 ]
واستعدوا للرحيل ومن المعلوم من سياق القصة انه خاف على بنيه وهم احد عشر عصبة لا من ان يراهم عزيز مصر مجتمعين صفا واحدا لانه كان من المعلوم انه سيشخصهم إليه فيصطفون عنده صفا واحدا وهم احد عشر اخوة لاب واحد بل انما كان يخاف عليهم ان يراهم الناس فيصيبهم عين على ما قيل أو يحسدون أو يخاف منهم فينالهم ما يتفرق به جمعهم من قتل أو أي نازلة اخرى. وقوله بعده: " وما اغنى عنكم من الله من شئ ان الحكم الا لله " لا يخلو من دلالة أو اشعار بانه كان يخاف ذلك جدا فكأنه (ع) والله اعلم احس حينما تجهزوا للسفر واصطفوا امامه للوداع احساس الهام ان جمعهم وهم على هذه الهيئة الحسنة سيفرق وينقص من عددهم فأمرهم ان لا يتظاهروا بالاجماع كذلك وحذرهم عن الدخول من باب واحد وعزم عليهم ان يدخلوا من ابواب متفرقة رجاء ان يندفع بذلك عنهم بلاء التفرقة بينهم والنقص في عددهم. ثم رجع إلى اطلاق كلامه الظاهر في كون هذا السبب الذى ركن إليه في دفع ما خطر بباله من المصيبة سببا اصيلا مستقلا ولا مؤثر في الوجود بالحقيقة الا الله سبحانه فقيد كلامه بما يصلحه فقال مخاطبا لهم " وما اغنى عنكم من الله من شئ " ثم علله بقوله ان الحكم الا لله أي لست ارفع حاجتكم إلى الله سبحانه بما امرتكم به من السبب الذى تتقون به نزول النازلة وتتوسلون به إلى السلامة والعافية ولا احكم بان تحفظوا بهذه الحيلة فان هذه الاسباب لا تغنى من الله شيئا ولا لها حكم دون الله سبحانه فليس الحكم مطلقا الا لله بل هذه اسباب ظاهرية انما تؤثر إذا اراد الله لها ان تؤثر. ولذلك عقب كلامه هذا بقوله: " عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون " أي ان هذا سبب امرتكم باتخاذه لدفع ما اخافه عليكم من البلاء وتوكلت مع ذلك على الله في اخذ هذا السبب وفي سائر الاسباب التى اخذتها في اموري وعلى هذا المسير يجب ان يسير كل رشيد غير غوى يرى انه لا يقوى باستقلاله لادارة اموره ولا ان الاسباب العادية باستقلالها تقوى على ايصاله إلى ما يبتغيه من المقاصد بل عليه ان يلتجئ في اموره إلى وكيل يصلح شأنه ويدبر امره احسن تدبير فذلك الوكيل هو الله سبحانه القاهر الذى لا يقهره شئ الغالب الذى لا يغلبه شئ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
________________________________________
[ 219 ]
وقد تبين بالاية أو لا معنى التوكل وانه تسليط الغير على امر له نسبة إلى المتوكل والموكل. وثانيا ان هذه الاسباب العادية لما لم تكن مستقلة في تأثيرها ولا غنية في ذاتها غير مفتقرة إلى ما وراءها كان من الواجب على من يتوسل إليها في مقاصده الحيوية ان يتوكل مع التوسل إليها على سبب وراءها ليتم لها التأثير ويكون ذلك منه جريا في سبيل الرشد والصواب لا ان يهمل الاسباب التى بنى الله نظام الكون عليها فيطلب غاية من غير طريق فانه من الغي والجهل. وثالثا ان ذاك السبب الذى يجب التوكل عليه في الامور هو الله سبحانه وحده لا شريك له فانه الله لا اله الا هو رب كل شئ وهذا هو المستفاد من الحصر الذى يدل عليه قوله: " وعلى الله فليتوكل المتوكلون " قوله تعالى: " ولما دخلوا من حيث امرهم ابوهم ما كان يغنى عنهم من الله من شئ الا حاجة في نفس يعقوب قضاها إلى آخر الاية الذى يعطيه سياق الايات السابقة واللاحقة والتدبر فيها والله اعلم ان يكون المراد بدخولهم من حيث امرهم ابوهم انهم دخلوا مصر أو دار العزيز فيها من ابواب متفرقة كما امرهم ابوهم حينما ودعوه للرحيل وانما اتخذ يعقوب (ع) هذا الامر وسيلة لدفع ما تفرسه من نزول مصيبة بهم تفرق جمعهم وتنقص من عددهم كما اشير إليه في الاية السابقة لكن اتخاذ هذه الوسيلة وهى الدخول من حيث امرهم ابوهم لم يكن ليدفع عنهم البلاء وكان قضاء الله سبحانه ماضيا فيهم واخذ العزيز اخاهم من ابيهم لحديث سرقت الصواع وانفصل منهم كبيرهم فبقى في مصر وادى ذلك إلى تفرق جمعهم ونقص عددهم فلم يغن يعقوب أو الدخول من حيث امرهم من الله من شئ. لكن الله سبحانه قضى بذلك حاجة في نفس يعقوب (ع) فانه جعل هذا السبب الذى تخلف عن امره وادى إلى تفرق جمعهم ونقص عددهم بعينه سببا لوصول يعقوب إلى يوسف (ع) فان يوسف اخذ اخاه إليه ورجع سائر الاخوة الا كبيرهم إلى ابيهم ثم عادوا إلى يوسف يسترحمونه ويتذللون لعزته فعرفهم نفسه واشخص اباه واهله إلى مصر فاتصلوا به.
________________________________________
[ 220 ]
فقوله: " ما كان يغنى عنهم من الله من شئ " أي لم يكن من شان يعقوب أو هذا الامر الذى اتخذه وسيلة لتخلصهم من هذه المصيبة النازلة ان يغنى عنهم من الله شيئا البتة ويدفع عنهم ما قضى الله ان يفارق اثنان منهم جمعهم بل اخذ منهم واحد وفارقهم ولزم ارض مصر آخر وهو كبيرهم. وقوله: " الا حاجة في نفس يعقوب قضاها " قيل ان الا بمعنى لكن أي لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها الله فرد إليه ولده الذى فقده وهو يوسف. ولا يبعد ان يكون الا استثنائية فان قوله ما كان " يغنى عنهم من الله من شئ " في معنى قولنا لم ينفع هذا السبب يعقوب شيئا أو لم ينفعهم جميعا شيئا ولم يقض الله لهم جميعا به حاجة الا حاجة في نفس يعقوب وقوله قضاها استئناف وجواب سؤال كأن سائلا يسال فيقول ما ذا فعل بها ؟ فاجيب بقوله قضاها. وقوله " وانه لذو علم لما علمناه " الضمير ليعقوب أي ان يعقوب لذو علم بسبب ما علمناه من العلم أو بسبب تعليمنا اياه وظاهر نسبة التعليم إليه تعالى انه علم موهبي غير اكتسابي وقد تقدم ان اخلاص التوحيد يؤدى إلى مثل هذه العناية الالهية ويؤيد ذلك ايضا قوله تعالى: " بعده ولكن اكثر الناس لا يعلمون " إذ لو كان من العلم الاكتسابى الذى يحكم بالاسباب الظاهرية ويتوصل إليه من الطرق العادية المألوفة لعلمه الناس واهتدوا إليه. والجملة " وانه لذو علم لما علمناه " الخ ثناء على يعقوب (ع) والعلم الموهبى لا يضل في هدايته ولا يخطئ في اصابته والكلام كما يفيده السياق يشير إلى ما تفرس له يعقوب (ع) من البلاء وتوسل به من الوسيلة وحاجته في يوسف في نفسه لا ينساها ولا يزال يذكرها فمن هذه الجهات يعلم ان في قوله: " وانه لذو علم لما علمناه " الخ تصديقا ليعقوب (ع) فيما قاله لبنيه وتصويبا لما اتخذه من الوسيلة لحاجته بامرهم بما امر وتوكله على الله فقضى الله له حاجة في نفسه. هذا ما يعطيه التدبر في سياق الايات وللمفسرين اقوال عجيبة في معنى الاية كقول بعضهم ان المراد بقوله ما كان يغنى عنهم إلى قوله قضاها انه لم يكن دخولهم كما امرهم ابوهم يغنى عنهم أو يدفع عنهم شيئا اراد الله ايقاعه بهم من حسد أو اصابة عين
________________________________________
[ 221 ]
وكان يعقوب (ع) عالما بان الحذر لا يدفع القدر ولكن كان ما قاله لبنيه حاجة في نفسه فقضى يعقوب تلك الحاجة أي ازال به اضطراب قلبه واذهب به القلق عن نفسه. وقول بعضهم ان المعنى ان الله لو قدر ان تصيبهم العين لا صابتهم وهم متفرقون كما تصيبهم مجتمعين. وقول بعضهم ان معنى قوله: " وانه لذو علم لما علمناه " الخ انه لذو يقين ومعرفة بالله لاجل تعليمنا اياه ولكن اكثر الناس لا يعلمون مرتبته. وقول بعضهم ان اللام في لما علمناه للتقوية والمعنى انه يعلم ما علمناه فيعمل به لان من علم شيئا وهو لا يعمل به كان كمن لا يعلم إلى غير ذلك من اقاويلهم. قوله تعالى: " ولما دخلوا على يوسف آوى إليه اخاه قال انى انا اخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون " الايواء إليه ضمه وتقريبه منه في مجلسه ونحوه والابتئاس اجتلاب البؤس والا غتمام والحزن وضمير الجمع للاخوة. ومعنى الاية ولما دخلوا على يوسف بعد دخولهم مصر آوى وقرب إليه اخاه الذى امرهم ان ياتوا به إليه وكان اخا له من ابيه وامه قال له انى انا اخوك أي يوسف الذى فقدته منذ سنين والجملة خبر بعد خبر أو جواب سؤال مقدر فلا تبتئس ولا تغتم بما كانوا أي الاخوة يعملون من انواع الاذى والمظالم التى حملهم عليها حسدهم لى ولك ونحن اخوان من ام أو لا تبتئس بما كان غلماني يعملون فانه كيد لحبسك عندي. وظاهر السياق انه عرفه نفسه باسرار القول إليه وسلاه على ما عمله الاخوة وطيب نفسه فلا يعبأ بقول بعضهم ان معنى قوله انى انا اخوك انا اخوك مكان اخيك الهالك وقد كان اخبره انه كان له اخ من امه هلك من قبل فبقى وحده لا اخ له من امه ولم يعترف يوسف له بالنسب ولكنه اراد ان يطيب نفسه. وذلك انه ينافيه ما في قوله انى انا اخوك من وجوه التأكيد وذلك انما يناسب تعريفه نفسه بالنسب ليستيقن انه هو يوسف على انه ينافى ايضا ما سيأتي من قوله لاخوته عند تعريفهم نفسه " انا يوسف وهذا اخى قد من الله علينا " فانه انما يناسب ما إذا علم
________________________________________
[ 222 ]
اخوه انه اخوه فاعتز بعزته كما لا يخفى. قوله تعالى: " فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل اخيه ثم اذن مؤذن ايتها العير انكم لسارقون " السقاية الظرف الذى يشرب فيه والرحل ما يوضع على البعير للركوب والعير القوم الذين معهم احمال الميرة وذلك اسم للرجال والجمال الحاملة للميرة وان كان قد يستعمل في كل واحد من دون الاخر ذكر ذلك الراغب في مفرداته. ومعنى الاية ظاهر وهذه حيلة احتالها يوسف (ع) لياخذ بها اخاه إليه كما قصه وفصله الله تعالى وجعل ذلك مقدمة لتعريفهم نفسه في حال التحق به اخوه وهما منعمان بنعمة الله مكرمان بكرامته. وقوله ثم اذن مؤذن ايتها العير انكم لسارقون الخطاب لاخوة يوسف وفيهم اخوه لامه ومن الجائز توجيه الخطاب إلى الجماعة في امر يعود إلى بعضهم إذا كان لا يمتاز عن الاخرين وفي القرآن منه شئ كثير وهذا الامر الذى سمى سرقه وهو وجود السقاية في رحل البعير كان قائما بواحد منهم وهو اخو يوسف لامه لكن عدم تعينه بعد من بينهم كان مجوزا لخطابهم جميعا بأنكم سارقون فان معنى هذا الخطاب في مثل هذا المقام ان السقاية مفقودة وهى عند بعضكم ممن لا يتعين الا بعد الفحص والتفتيش. ومن المعلوم من السياق ان اخا يوسف لامه كان عالما بهذا الكيد مستحضرا منه ولذلك لم يتكلم من اول الامر إلى آخره ولا بكلمة ولا نفى عن نفسه السرقة ولا اضطرب كيف ؟ وقد عرفه يوسف انه اخاه وسلاه وطيب نفسه فليس الا ان يوسف (ع) كان عرفه ما هو غرضه من هذا الصنع وانه انما يريد بتسميته سارقا واخراج السقاية من رحله ان يقبض عليه ويأخذه إليه فتسميته سارقا انما كان اتهاما في نظر الاخوة واما بالنسبة إليه وفي نظره فلم يكن تسمية جدية وتهمة حقيقية بل توصيفا صوريا فحسب لمصلحة لازمة جازمة. فنسبة السرقة إليهم بالنظر إلى هذه الجهات لم تكن من الافتراء المذموم عقلا المحرم شرعا على ان القائل هو المؤذن الذى اذن بذلك. وذكر بعض المفسرين ان القائل انكم لسارقون بعض من فقد الصاع من قوم يوسف من غير امره ولم يعلم ان يوسف امر بجعل الصاع في رحالهم.
________________________________________
[ 223 ]
وقال بعضهم ان يوسف (ع) امر المنادى ان ينادى به ولم يرد به سرقة الصاع وانما عنى به انكم سرقتم يوسف من ابيه والقيتموه في الجب ونسب ذلك إلى ابى مسلم المفسر. وقال بعضهم ان الجملة استفهامية والتقدير أ إنكم لسارقون ؟ بحذف همزة الاستفهام ولا يخفى ما في هذه الوجوه من البعد. قوله تعالى: " قالوا واقبلوا عليهم ما ذا تفقدون " الفقد كما قيل غيبة الشئ عن الحس بحيث لا يعرف مكانه والضمير في قوله قالوا للاخوة وهم العير وقوله ما ذا تفقدون مقول القول والضمير في قوله عليهم ليوسف وفتيانه كما يدل عليه السياق. والمعنى قال اخوة يوسف المقبلين ليوسف وفتيانه ما ذا تفقدون وفى السياق دلالة على ان المنادى انما ناداهم من ورائهم وقد اخذوا في السير. قوله تعالى: " قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وانا به زعيم " الصواع بالضم السقاية وقيل ان الصواع هو الصاع الذى يكال به وكان صواع الملك اناء يشرب فيه ويكال به ولذلك سمى تارة سقاية واخرى صواعا ويجوز فيه التذكير والتانيث ولذلك قال ولمن جاء به وقال ثم استخرجها. والحمل ما يحمله الحامل من الاثقال وقد ذكر الراغب ان الاثقال المحمولة في الظاهر كالشئ المحمول على الظهر تختص باسم الحمل بكسر الحاء والاثقال المحمولة في الباطن كالولد في البطن والماء في السحاب والثمرة في الشجرة تختص باسم الحمل بفتح الحاء. وقال في المجمع الزعيم والكفيل والضمين نظائر والزعيم ايضا القائم بامر القوم وهو الرئيس. ولعل القائل نفقد صواع الملك هو فتيان يوسف والقائل ولمن جاء به حمل بعير وانا به زعيم يوسف (ع) نفسه لانه هو الرئيس الذى يقوم بامر الا عطاء والمنع والضمانة والكفالة والحكم ويعود معنى الكلام على هذا إلى نحو من قولنا اجاب عنهم يوسف وفتيانه اما فتيانه فقالوا نفقد صواع الملك واما يوسف فقال ولمن جاء به
________________________________________
[ 224 ]
حمل بعير وانا به زعيم وهذه جعالة. وظاهر بعض المفسرين ان قوله ولمن جاء به حمل بعير وانا به زعيم تتمة قول المؤذن ايتها العير انكم لسارقون وعلى هذا فقوله قالوا واقبلوا عليهم إلى قوله صواع الملك معترض قوله تعالى: " قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الارض وما كنا سارقين " المراد بالارض ارض مصر وهى التى جاؤها ومعنى الاية ظاهر. وفى قولهم " لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الارض " دلالة على انهم فتشوا وحقق في امرهم اول ما دخلوا مصر للميرة بامر يوسف (ع) بدعوى الخوف من ان يكونوا جواسيس وعيونا أو نازلين بها لاغراض فاسدة اخرى فسئلوا عن شانهم ومحلهم ونسبهم وامثال ذلك وبه يتأيد ما ورد في بعض الروايات ان يوسف اظهر لهم انه في ريب من امرهم فسألهم عن شأنهم ومكانهم واهلهم وعند ذلك ذكروا ان لهم ابا شائخا واخا من ابيهم فأمر باتيانهم به وسياتى في البحث الروائي التالى ان شاء الله تعالى. وقولهم وما كنا سارقين نفى ان يكونوا متصفين بهذه الصفة الرذيلة من قبل أو يعهد منهم اهل البيت ذلك. قوله تعالى: " قالوا فما جزاؤه ان كنتم كاذبين " أي قال فتيان يوسف أو هو وفتيانه سائلين منهم عن الجزاء ما جزاء السرق أو ما جزاء الذى سرق منكم ان كنتم كاذبين في انكاركم. والكلام في قولهم ان كنتم كاذبين في نسبة الكذب إليهم يقرب من الكلام في قولهم انكم لسارقون وقد تقدم. قوله تعالى: " قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزى الظالمين " مرادهم ان جزاء السرق نفس السارق أو جزاء السارق نفسه بمعنى ان من سرق ما لا يصير عبدا لمن سرق ما له وهكذا كان حكمه في سنة يعقوب (ع) كما يدل عليه قولهم " كذلك نجزى الظالمين " أي هؤلاء الظالمين وهم السراق لكنهم عدلوا عنه إلى قولهم: " جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه " للدلالة على ان السرقة انما يجازى بها نفس السارق لا رفقته وصحبه وهم احد عشر نسمة لا ينبغى ان يؤاخذ منهم لو تحققت السرقة الا السارق بعينه
________________________________________
[ 225 ]
من غير ان يتعدى إلى نفوس الاخرين ورحالهم ثم للمسروق منه ان يملك السارق نفسه يفعل به ما يشاء. قوله تعالى: " فبدأ باوعيتهم قبل وعاء اخيه ثم استخرجها من وعاء اخيه " فيه تفريع على ما تقدم أي اخذ بالتفتيش والفحص بالبناء على ما ذكروه من الجزاء فبدأ بأوعيتهم وظروفهم قبل وعاء اخيه للتعمية عليهم حذرا من ان يتنبهوا ويتفطنوا انه هو الذى وضعها في رحل اخيه ثم استخرجها من وعاء اخيه وعند ذلك استقر الجزاء عليه لكونها في رحله. قوله تعالى: " كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ اخاه في دين الملك الا ان يشاء الله " إلى آخر الاية الاشارة إلى ما جرى من الامر في طريق اخذ يوسف (ع) اخاه لامه من عصبة اخوته وقد كان كيدا لانه يوصل إلى ما يطلبه منهم من غير ان يعلموا ويتفطنوا به ولو علموا لما رضوا به ولا مكنوه منه وهذا هو الكيد غير انه كان بإلهام من الله سبحانه أو وحى منه إليه علمه به طريق التوصل إلى اخذ اخيه ولذلك نسب الله سبحانه ذلك إلى نفسه مع توصيفه بالكيد فقال كذلك كدنا ليوسف. وليس كل كيد بمنفى عنه تعالى وانما تتنزه ساحة قدسه عن الكيد الذى هو ظلم ونظيره المكر والاضلال والاستدراج وغيرها. وقوله " ما كان لياخذ اخاه في دين الملك الا ان يشاء الله " بيان للسبب الداعي إلى الكيد وهو انه كان يريد ان ياخذ اخاه إليه ولم يكن في دين الملك أي سنته الجارية في ارض مصر طريق يؤدى إلى اخذه ولا ان السرقة حكمها استعباد السارق ولذلك كادهم يوسف بامر من الله بجعل السقاية في رحله ثم اعلام انهم سارقون حتى ينكروه فيسألهم عن جزائه ان كانوا كاذبين فيخبروا ان جزاء السرق عندهم اخذ السارق واستعباده فيأخذهم بما رضوا به لانفسهم. وعلى هذا فلم يكن له ان ياخذ اخاه في دين الملك الا في حال يشاء الله ذلك وهو هذا الحال الذى رضوا فيه ان يجازوا بما رضوا به لانفسهم.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page