• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 176 الي 200


[ 176 ]
ووجود لا يتطرق العدم والفناء إليه والوجود الذى هذا شأنه لا يمكن ان يفرض له حد محدود ولا امد ممدود لان كل محدود فهو معدوم وراء حده والممدود باطل بعد امده فهو تعالى ذات غير محدود ووجود غير متناه بحب وإذا كان كذلك لم يمكن ان يفرض له صفة خارجة عن ذاته مباينة لنفسه كما هو الحال في صفاته لتأدية هذه المغايرة إلى كونه تعالى محدودا غير موجود في ظرف الصفة وفاقرا لا يجد الصفة في ذاته ولم يمكن ايضا فرض المغايرة والبينونة بين صفاته الذاتية كالحياة والعلم والقدرة لان ذلك يؤدى إلى وجود حدود في داخل الذات لا يوجد ما في داخل حد في خارجه فيتغاير الذات والصفات ويتكثر جميعا ويحد وهذا كله مما اعترفت به الوثنية على ما بايدينا من معارفهم. فمما لا يتطرق إليه الشك عند المثبتين لوجود الا له سبحانه لو تفطنوا ان الله سبحانه موجود في نفسه ثابت بذاته لا موجود بهذا النعت غيره وان ما له من صفات الكمال فهو عينه غير زائد عليه ولا بعض صفات كما له صفات زائد على بعض فهو علم وقدرة وحياة بعينه. فهو تعالى احدى الذات والصفات أي انه واحد في وجوده بذاته ليس قباله شئ الا موجودا به لا مستقلا بالوجود وواحد في صفاته أي ليس هناك صفة له حقيقية الا ان تكون عين الذات فهو الذى يقهر كل شئ لا يقهره شئ. والاشارة إلى هذا كله هي التى دعته (ع) ان يصف الله سبحانه بالواحد القهار حيث قال " ام الله الواحد القهار " أي انه تعالى واحد لكن لا واحد عددي إذا اضيف إليه آخر صار اثنين بل واحد لا يمكن ان يفرض قباله ذات الا وهى موجودة به لا بنفسها ولا ان يفرض قباله صفة له الا وهى عينه والا صارت باطلة كل ذلك لانه بحث غير محدود بحد ولا منته إلى نهاية. وقد تمت الحجة على الخصم منه (ع) في هذا السؤال بما وصف الارباب بكونهم متفرقين واياه تعالى بالواحد القهار لان كون ذاته المتعالية واحدا قهارا يبطل التفرقة أي تفرقة مفروضة بين الذات والصفات فالذات عين الصفات والصفات بعضها عين بعض فمن عبد الذات عبد الذات والصفات ومن عبد علمه فقد عبد ذاته وان عبد علمه ولم يعبد ذاته فلم يعبد لا علمه ولا ذاته وعلى هذا القياس. فإذا فرض تردد العبادة بين ارباب متفرقين وبين الله الواحد القهار تعالى وتقدس تعينت عبادته دونهم إذ لا يمكن فرض ارباب متفرقين ولا تفرقة في العبادة.
________________________________________
[ 177 ]
نعم يبقى هناك شئ وهو الذى يعتمد عليه عامة الوثنية من ان الله سبحانه اجل وارفع ذاتا من ان تحيط به عقولنا أو يناله افهامنا فلا يمكننا التوجه إليه بعبادته ولا يسعنا التقرب منه بعبوديته والخضوع له والذى يسعنا هو ان نتقرب بالعبادة إلى بعض مخلوقاته الشريفة التى هي مؤثرات في تدبير النظام العالمي حتى يقربونا منه ويشفعوا لنا عنده فاشار (ع) في الشطر الثاني من كلامه اعني قوله ما تعبدون من دونه الا اسماء الخ إلى دفعه. قوله تعالى: " ما تعبدون من دونه الا اسماء سميتموها انتم وآباؤكم ما انزل الله بها من سلطان ان الحكم الا لله امر ان لا تعبدوا الا اياه " الخ بدء (ع) بخطاب صاحبيه في السجن اولا ثم عمم الخطاب للجميع لان الحكم مشترك بينهما وبين غيرهما من عبدة الاوثان. ونفى العبادة الا عن الاسماء كناية عن انه لا مسميات وراء هذه الاسماء فتقع العبادة في مقابل الاسماء كلفظة اله السماء واله الارض واله البحر واله البر والاب والام وابن الا له ونظائر ذلك. وقد اكد كون هذه الاسماء ليس وراءها مسميات بقوله انتم وآباؤكم فانه في معنى الحصر أي لم يضع هذه الاسامي احد غيركم بل انتم وآباؤكم وضعتموها ثم اكده ثانيا بقوله ما انزل الله بها من سلطان والسلطان هو البرهان لتسلطه على العقول اي ما انزل الله بهذه الاسماء أو بهذه التسمية من برهان يدل على ان لها مسميات وراءها وحينئذ كان يثبت لها الالوهية أي المعبودية فصحت عبادتكم لها. ومن الجائز ان يكون ضمير بها عائدا إلى العبادة أي ما انزل الله حجة على عبادتها بان يثبت لها شفاعة واستقلالا في التأثير حتى تصح عبادتها والتوجه إليها فان الامر الى الله على كل حال واليه اشار بقوله بعده " ان الحكم الا لله ". وهو اعني قوله ان الحكم الا لله مما لا ريب فيه البتة إذ الحكم في امر ما لا يستقيم الا ممن يملك تمام التصرف ولا مالك للتصرف والتدبير في امور العالم وتربية العباد حقيقة الا الله سبحانه فلا حكم بحقيقة المعنى الا له.
________________________________________
[ 178 ]
وهو اعني قوله ان الحكم الا لله مفيد فيما قبله وما بعده صالح لتعليلهما معا اما فائدته في قوله قبل ما انزل الله بها من سلطان فقد ظهرت آنفا واما فائدته في قوله بعد امر الا تعبدوا الا اياه فلانه متضمن لجانب اثبات الحكم كما ان قوله قبل ما انزل الله بها من سلطان متضمن لجانب السلب وحكمه تعالى نافذ في الجانبين معا فكأنه لما قيل ما انزل الله بها من سلطان قيل فماذا حكم به في امر العبادة فقيل امر الا تعبدوا الا اياه ولذلك جئ بالفعل. ومعنى الاية والله اعلم ما تعبدون من دون الله الا اسماء خالية عن المسميات لم يضعها الا انتم وآباؤكم من غير ان ينزل الله سبحانه من عنده برهانا يدل على ان لها شفاعة عند الله أو شيئا من الاستقلال في التأثير حتى يصح لكم دعوى عبادتها لنيل شفاعتها أو طمعا في خيرها أو خوفا من شرها. واما قوله ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون فيشير به إلى ما ذكره من توحيد الله ونفى الشريك عنه والقيم هو القائم بالامر القوى على تدبيره أو القائم على ساقه غير المتزلزل والمتضعضع والمعنى ان دين التوحيد وحده هو القوى على ادارة المجتمع وسوقه إلى منزل السعادة والدين المحكم غير المتزلزل الذى فيه الرشد من غير غى والحقية من غير بطلان ولكن اكثر الناس لا نسهم بالحس والمحسوس وانهما كهم في زخارف الدنيا الفانية حرموا سلامة القلب واستقامة العقل لا يعلمون ذلك وانما يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الاخرة معرضون. اما ان التوحيد دين فيه الرشد ومطابقة الواقع فيكفى في بيانه ما اقامه (ع) من البرهان واما انه هو القوى على ادارة المجتمع الانساني فلان هذا النوع انما يسعد في مسير حياته إذا بنى سنن حياته واحكام معاشه على مبنى حق مطابق للواقع فسار عليها لا إذا بناها على مبنى باطل خرافي لا يعتمد على اصل ثابت. فقد بان من جميع ما تقدم ان الايتين جميعا اعني قوله يا صاحبي السجن إلى قوله الا تعبدوا الا اياه برهان واحد على توحيد العبادة محصله ان عبادة المعبود ان كانت لا لوهيته في نفسه ووجوب وجوده بذاته فالله سبحانه في وجوده واحد قهار لا يتصور له ثان ولا مع تأثيره مؤثر آخر فلا معنى لتعدد الالهة وان كانت لكون آلهة
________________________________________
[ 179 ]
غير الله شركاء له شفعاء عنده فلا دليل على ثبوت الشفاعة لهم من قبل الله سبحانه بل الدليل على خلافه فان الله حكم من طريق العقل وبلسان انبيائه ان لا يعبد الا هو. وبذلك يظهر فساد ما اورده البيضاوى في تفسيره تبعا للكشاف ان الايتين تتضمنان دليلين على التوحيد فما في الاولى وهو قوله " أ أرباب متفرقون خيرام الله الواحد القهار " دليل خطابي وما في الثانية وهو قوله ما تعبدون من دونه الا اسماء الخ برهان تام قال البيضاوى وهذا من التدرج في الدعوة والزام الحجة بين لهم اولا رجحان التوحيد على اتخاذ الالهة على طريق الخطابة ثم برهن على ان ما يسمونها آلهة ويعبدونها لا تستحق الالهية فان استحقاق العبادة اما بالذات واما بالغير وكلا القسمين منتف عنهما ثم نص على ما هو الحق القويم والدين المستقيم الذى لا يقتضى العقل غيره ولا يرتضى العلم دونه انتهى. ولعل الذى حداه إلى ذلك ما في الاية الاولى من لفظة الخير فاستظهر منه الرجحان الخطابى وقد فاته ما فيها من قيد الواحد القهار وقد عرفت تقرير ما تتضمنه الايتان من البرهان وان الذى ذكره من معنى الاية الثانية هو مدلول مجموع الايتين دون الثانية فحسب. وربما يقرر مدلول الايتين برهانين على التوحيد بوجه آخر ملخصه ان الله الواحد الذى يقهر بقدرته الاسباب المتفرقة التى تفعل في الكون ويسوقها على تلائم آثارها المتفرقة المتنوعة بعضها مع بعض حتى ينتظم منها نظام واحد غير متناقض الاطراف كما هو المشهود من وحدة النظام وتوافق الاسباب خير من ارباب متفرقين تترشح منها لتفرقها ومضادتها انظمة مختلفة وتدابير متضادة تؤدى إلى انفصام وحدة النظام الكونى وفساد التدبير الواحد العمومي. ثم الالهة المعبودة من دون الله اسماء لا دليل على وجود مسمياتها في الخارج بتسميتكم لا من جانب العقل ولا من جانب النقل لان العقل لا يدل الا على التوحيد والانبياء لم يؤمروا من جهة الوحى الا بان لا يعبد الا الله وحده انتهى. وهذا التقرير كما ترى ينزل الاية الاولى على معنى قوله تعالى: " لو كان فيهما
________________________________________
[ 180 ]
آلهة الا الله لفسدتا " الانبياء: 22 ويعمم الاية الثانية على نفى الوهية آلهة الا الله بذاتها ونفى الوهيتها من جهة اذن الله في شفاعتها. ويرد عليه اولا ان فيه تقييدا لاطلاق قوله القهار من غير مقيد فان الله سبحانه كما يقهر الاسباب في تأثيرها يقهر كل شئ في ذاته وصفته وآثاره فلا ثانى له في وجوده ولا ثانى له في استقلاله في نفسه وفي تأثيره فلا يتأتى مع وحدته القاهرة على الاطلاق ان يفرض شئ يستقل عنه في وجوده ولا امر يستقل عنه في امره والاله الذى يفرض دونه اما مستقل عنه في ذاته وآثار ذاته جميعا واما مستقل عنه في آثار ذاته فحسب وكلا الامرين محال كما ظهر. وثانيا ان فيه تعميما لخصوص الاية الثانية من غير معمم فان الاية كما عرفت تنيط كونها آلهة باذن الله وحكمه كما هو ظاهر قوله " ما انزل الله بها من سلطان ان الحكم الا لله " الخ ومن الواضح ان هذه الالوهية المنوطة باذنه تعالى وحكمه الوهية شفاعة لا الوهية ذاتية أي الوهية بالغير لا ما هو اعم من الالوهية بالذات وبالغير جميعا. قوله تعالى: " يا صاحبي السجن اما احدكما فيسقي ربه خمرا واما الاخر فيصلب فتأكل الطير من راسه قضي الامر الذى فيه تستفتيان " معنى الاية ظاهر وقرينة المناسبة قاضية بأن قوله " اما احدكما " الخ تأويل رؤيا من قال منهما انى ارانى اعصر خمرا وقوله واما الاخر الخ تأويل لرؤيا الاخر. وقوله قضى الامر الذى فيه تستفتيان لا يخلو من اشعار بان الصاحبين أو احدهما كذب نفسه في دعواه الرؤيا ولعله الثاني لما سمع تأويل رؤياه بالصلب واكل الطير من رأسه ويتايد بهذا ما ورد من الرواية من طرق ائمة اهل البيت (ع) ان الثاني من الصاحبين قال له انى كذبت فيما قصصت عليك من الرؤيا فقال (ع) قضى الامر الذى فيه تستفتيان أي ان التأويل الذى استفتيتما فيه مقضى مقطوع لا مناص عنه. قوله تعالى " وقال للذى ظن انه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين " الضمائر في قوله قال وظن ولبث راجعة إلى يوسف أي قال يوسف للذى ظن هو انه سينجو منهما اذكرني عند ربك بما يثير رحمته لعله يخرجني من السجن.
________________________________________
[ 181 ]
واطلاق الظن على اعتقاده مع تصريحه لهما بانه من المقضى المقطوع به وتصريحه بان ربه علمه تأويل الاحاديث لعله من اطلاق الظن على مطلق الاعتقاد وله نظائر في القرآن كقوله تعالى: " الذين يظنون انهم ملاقوا ربهم " البقرة - 46. واما قول بعضهم ان اطلاق الظن على اعتقاده يدل على انه انما اول ما اول عن اجتهاد منه يفسده ما قدمنا الاشارة إليه انه صرح لهما بعلمه في قوله " قضى الامر الذى فيه تستفتيان " والله سبحانه ايد ذلك بقوله: " ولنعلمه من تأويل الاحاديث " وهذا ينافى الاجتهاد الظنى. وقد احتمل ان يكون ضمير ظن راجعا الى الموصول أي قال يوسف لصاحبه الذى ظن ذلك الصاحب انه ناج منهما وهذا المعنى لا باس به ان ساعده السياق. وقوله: " فأنساه الشيطان ذكر ربه " الخ الضميران راجعان إلى الذى أي فأنسى الشيطان صاحبه الناجى ان يذكره لربه أو عند ربه فلبث يوسف في السجن بضع سنين والبضع ما دون العشرة فاضافة الذكر إلى ربه من قبيل اضافة المصدر إلى معموله المعدى إليه بالحرف أو إلى المظروف بنوع من الملابسة. واما ارجاع الضميرين إلى يوسف حتى يفيد ان الشيطان انسى يوسف ذكر الله سبحانه فتعلق بذيل غيره في نجاته من السجن فعوقب على ذلك فلبث في السجن بضع سنين كما ذكره بعضهم وربما نسب إلى الرواية. فمما يخالف نص الكتاب فان الله سبحانه نص على كونه (ع) من المخلصين ونص على ان المخلصين لا سبيل للشيطان إليهم مضافا إلى ما اثنى الله عليه في هذه السورة. والاخلاص لله لا يستوجب ترك التوسل بالاسباب فان ذلك من اعظم الجهل لكونه طمعا فيما لا مطمع فيه بل انما يوجب ترك الثقة بها والاعتماد عليها وليس في قوله: " اذكرني عند ربك " ما يشعر بذلك البتة. على ان قوله تعالى بعد آيتين: " وقال الذى نجا منهما وادكر بعد امه " الخ قرينة صالحة على ان الناسي هو الساقى دون يوسف
________________________________________
[ 182 ]
(بحث روائي) في تفسير القمى في رواية ابى الجارود عن ابى جعفر (ع): في قوله: " ثم بدا لهم من بعد ما راوا الايات ليسجننه حتى حين " فالايات شهادة الصبى والقميص المخرق من دبر واستباقهما الباب حتى سمع مجاذبتها اياه على الباب فلما عصاها لم تزل مولعة بزوجها حتى حبسه. ودخل معه السجن فتيان يقول عبد ان للملك احدهما خباز والاخر صاحب الشراب والذى كذب ولم ير المنام هو الخباز وذكر الحديث على بن ابراهيم القمى قال: ووكل الملك بيوسف رجلين يحفظانه فلما دخل السجن قالوا له ما صناعتك ؟ قال اعبر الرؤيا فرأى احد الموكلين في منامه كما قال يعصر خمرا قال يوسف تخرج وتصير على شراب الملك وترتفع منزلتك عنده - وقال الاخر انى ارانى احمل فوق راسى خبزا تأكل الطير منه ولم يكن راى ذلك فقال له يوسف انت يقتلك الملك ويصلبك وتاكل الطير من راسك فضحك الرجل وقال انى لم ارذلك فقال يوسف كما حكى الله: " يا صاحبي السجن اما احدكما فيسقى ربه خمرا واما الاخر فيصلب فتأكل الطير من راسه - قضى الامر الذى فيه تستفتيان ". فقال أبو عبد الله (ع) في قوله: " انا نراك من المحسنين " قال كان يقوم على المريض ويلتمس للمحتاج ويوسع على المحبوس فلما اراد من يرى في نومه يعصر خمرا الخروج من الحبس قال له يوسف " اذكرني عند ربك " فكان كما قال الله: " فانساه الشيطان ذكر ربه ". اقول وفي الرواية اضطراب لفظي وظاهرها ان صاحبيه في السجن لم يكونا مسجونين وانما كانا موكلين عليه من قبل الملك ولا يلائم ذلك ظاهر قوله تعالى: " وقال للذى ظن انه ناج منهما " وقوله: " قال الذى نجا منهما.
________________________________________
[ 183 ]
وفي تفسير العياشي عن سماعة: " عن قول الله: " اذكرني عند ربك " قال هو العزيز وفي الدر المنثور اخرج ابن ابى الدنيا في كتاب العقوبات وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو لم يقل يوسف الكلمة التى قال ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغى الفرج من عند غير الله تعالى اقول: ورواه عن ابن المنذر وابن ابى حاتم وابن مردويه عن ابى هريرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم ولفظه " رحم الله يوسف لو لم يقل: اذكرني عند ربك ما لبث في السجن طول ما لبث " وروى مثله عن عكرمة والحسن وغيرهما وروى ما في معناه العياشي في تفسيره عن طربال وعن ابن ابى يعقوب وعن يعقوب بن شعيب عن ابى عبد الله (ع) ولفظ الاخير قال: قال الله ليوسف: ألست الذى حببتك إلى ابيك وفضلتك على الناس بالحسن ؟ أو لست الذى سقت اليك السيارة فانقذتك واخرجتك من الجب ؟ أو لست الذى صرفت عنك كيد النسوة ؟ فما حملك على ان ترفع رعية أو تدعو مخلوقا هو دوني ؟ فألبث لما قلت بضع سنين وقد تقدم ان هذه وامثالها روايات تخالف نص الكتاب. ومثلها ما في الدر المنثور عن ابن مردويه عن ابن عباس قال ": عثر يوسف (ع) ثلاث عثرات قوله: " اذكرني عند ربك " وقوله لاخوته: " انكم لسارقون " وقوله: " ذلك ليعلم انى لم اخنه بالغيب " فقال له جبرئيل ولا حين هممت ؟ فقال: " وما ابرئ نفسي " وفي الرواية نسبة الفرية والكذب الصريح إلى الصديق (ع). وفي بعض هذه الروايات ان عثراته الثلاث هي همه بها و: قوله اذكرني عند ربك وقوله: انكم لسارقون والله سبحانه يبرئه من هذه المفتريات بنص كتابه * * * وقال الملك انى ارى سبع بقرات سمان ياكلهن سبع عجاف
________________________________________
[ 184 ]
وسبع سنبلات خضر واخر يابسات يا ايها الملا افتوني في رؤياي ان كنتم للرؤيا تعبرون - 43. قالوا اضغاث احلام وما نحن بتأويل الاحلام بعالمين - 44. وقال الذى نجا منهما وادكر بعد امة انا انبئكم بتأويله فأرسلون - 45. يوسف ايها الصديق افتنا في سبع بقرات سمان ياكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واخر يابسات لعلى ارجع إلى الناس لعلهم يعلمون - 46. قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله الا قليلا مما تأكلون - 47. ثم ياتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن الا قليلا مما تحصنون - 48. ثم ياتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون - 49. وقال الملك ائتونى به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فسئله ما بال النسوة اللاتى قطعن ايديهن ان ربى بكيدهن عليم - 50. قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين - 51. ذلك ليعلم انى لم اخنه بالغيب وان الله لا يهدى كيد الخائنين - 52. وما ابرئ النفسي ان النفس لامارة بالسوء الا ما
________________________________________
[ 185 ]
رحم ربى ان ربى غفور رحيم - 53. وقال الملك ائتونى به استخلصه لنفسي فلما كلمه قال انك اليوم لدينا مكين امين - 54. قال اجعلني على خزائن الارض انى حفيظ عليم - 55. وكذلك مكنا ليوسف في الارض يتبوء منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع اجر المحسنين - 56. ولاجر الاخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون - 57. (بيان) تتضمن الايات قصة خروجه (ع) من السجن ونيله عزة مصر والاسباب المؤدية إلى ذلك وفيها تحقيق الملك ثانيا في اتهامه وظهور براءته التام. قوله تعالى: " وقال الملك انى ارى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف " إلى آخر الاية رؤيا للملك يخبر بها الملا والدليل عليه قوله: " يا ايها الملا أفتوني في رؤياي " وقوله انى ارى حكاية حال ماضية ومن المحتمل انها كانت رؤيا متكررة كما يحتمل مثله في قوله سابقا: " انى ارانى اعصر خمرا " " انى ارانى احمل " الخ. والسمان جمع سمينة والعجاف جمع عجفاء بمعنى المهزولة قال في المجمع ولا يجمع فعلاء على فعال غير العجفاء على عجاف والقياس في جمعه العجف بضم العين وسكون الجيم كالحمراء والخضراء والبيضاء على حمر وخضر وبيض وقال غيره ان ذلك من قبيل الاتباع والجمع القياسي عجف. والافتاء افعال من الفتوى والفتيا قال في المجمع الفتيا الجواب عن حكم المعنى وقد يكون الجواب عن نفس المعنى فلا يكون فتيا انتهى. وقوله تعبرون من العبر وهو بيان تأويل الرؤيا وقد يسمى تعبيرا وهو على
________________________________________
[ 186 ]
أي حال مأخوذ من عبور النهر ونحوه كأن العابر يعبر من الرؤيا إلى ما وراءها من التأويل وهو حقيقة الامر التى تمثلت لصاحب الرؤيا في صورة خاصة مألوفة له. قال في الكشاف في قوله " سبع بقرات سمان " الخ فان قلت هل من فرق بين ايقاع سمان صفه للمميز وهو بقرات دون المميز وهو سبع وان يقال سبع بقرات سمانا ؟ قلت إذا أو قعتها صفة لبقرات فقد قصدت إلى ان تميز السبع بنوع من البقرات وهى السمان منهن لا بجنسهن ولو وصفت بها السبع لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوع منها ثم رجعت فوصفت المميز بالجنس بالسمن. فان قلت هلا قيل سبع عجاف على الاضافة ؟ قلت التمييز موضوع لبيان الجنس والعجاف وصف لا يقع البيان به وحده فان قلت فقد يقال ثلاثة فرسان وخمسة اصحاب قلت الفارس والصاحب والراكب ونحوها صفات جرت مجرى الاسماء فاخذت حكمها وجاز فيها ما لم يجز في غيرها الا تراك لا تقول عندي ثلاثة ضخام واربعة غلاظ انتهى. وقال ايضا فان قلت هل في الاية دليل على ان السنبلات اليابسة كانت سبعا كالخضر ؟ قلت الكلام مبنى على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان والعجاف والسنابل الخضر فوجب ان يتناول معنى الاخر السبع ويكون قوله واخر يابسات بمعنى وسبعا اخر فان قلت هل يجوز ان يعطف قوله واخر يابسات على سنبلات خضر فيكون مجرور المحل ؟ قلت يؤدى إلى تدافع وهو ان عطفها على سنبلات خضر يقتضى ان يدخل في حكمها فيكون معها مميزا للسبع المذكورة ولفظ الاخر يقتضى ان يكون غير السبع بيانه انك تقول عندي سبعة رجال قيام وقعود بالجر فيصح لانك ميزت السبعة برجال موصوفين بقيام وقعود على ان بعضهم قيا وبعضهم قعود فلو قلت عنده سبعة رجال قيام وآخرين قعود تدافع ففسد انتهى وكلامه على اشتماله على نكتة لطيفة لا ينتج ازيد من الظن بكون السنبلات اليابسات سبعا كغيرها اما وجوب الدلالة من الكلام فلا البتة. ومعنى الاية: " وقال ملك مصر لملائه انى ارى في منامي سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات مهازيل وارى سبع سنبلات خضر وسنبلات اخر يابسات يا ايها الملا بينوا
________________________________________
[ 187 ]
لى ما عندكم من حكم رؤياي ان كنتم للرؤيا تعبرون. قوله تعالى: " قالوا اضغاث احلام وما نحن بتأويل الاحلام بعالمين " الاحلام جمع حلم بضمتين وقد يسكن وسطه هو ما يراه النائم في منامه وكأن الاصل في معناه ما يتصور للانسان من داخل نفسه من غير توصله إليه بالحس ومنه تسمية العقل حلما لانه استقامة التفكر ومنه ايضا الحلم لزمان البلوغ قال تعالى: " وإذا بلغ الاطفال منكم الحلم " النور: 59 أي زمان البلوغ بلوغ العقل ومنه الحلم بكسر الحاء بمعنى الاناءة ضد الطيش وهو ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب وعدم المعاجلة في العقوبة فانه انما يكون عن استقامة التفكر وذكر الراغب ان الاصل في معناه الحلم بكسر الحاء ولا يخلو من تكلف. وقال الراغب الضغث قبضة ريحان أو حشيش أو قضبان وجمعه اضغاث قال تعالى: " وخذ بيدك ضغثا وبه شبه الاحلام المختلفة التى لا تتبين حقائقها قالوا اضغاث احلام حزم اخلاط من الاحلام انتهى. وتسمية الرؤيا الواحدة باضغاث الاحلام كأنه بعناية دعوى كونها صورا متفرقة مختلطة مجتمعة من رؤى مختلفة لكل واحد منها تأويل على حدة فإذا اجتمعت واختلطت عسر للمعبر الوقوف على تأويلها والانسان كثيرا ما ينتقل في نومة واحدة من رؤيا إلى اخرى ومنهما إلى ثالثة وهكذا فإذا اختلطت ابعاضها كانت اضغاث احلام وامتنع الوقوف على حقيقتها ويدل على ما ذكرنا من العناية التعبير باضغاث احلام بتنكير المضاف والمضاف إليه معا كما لا يخفى. على ان الاية اعني قوله " وقال الملك انى ارى " الخ غير صريحة في كونه رؤيا واحدة وفي التوراة انه رأى البقرات السمان والعجاف في رؤيا والسنبلات الخضر واليابسات في رؤيا اخرى. وقوله " وما نحن بتأويل الاحلام بعالمين " ان كان الالف واللام للعهد فالمعنى وما نحن بتأويل هذه المنامات التى هي اضغاث احلام بعالمين وان كان لغير العهد والجمع المحلى باللام يفيد العموم فالمعنى وما نحن بتأويل جميع المنامات بعالمين وانما نعبر غير اضغاث الاحلام منها وعلى أي حال لا تدافع بين عدهم رؤياه اضغاث احلام وبين نفيهم
________________________________________
[ 188 ]
العلم بتأويل الاحلام عن انفسهم ولو كان المراد بالاحلام الاحلام الصحيحة فحسب كان كل من شطرى كلامهم يغنى عن الاخر. ومعنى الاية قالوا أي قال الملا للملك ما رايته اضغاث احلام واخلاط من منامات مختلفة وما نحن بتأويل هذا النوع من المنامات بعالمين أو وما نحن بتأويل جميع المنامات بعالمين وانما نعلم تأويل الرؤى الصالحة قوله تعالى: " وقال الذى نجا منهما وادكر بعد امة انا انبئكم بتأويله فأرسلون " الامة الجماعة التى تقصد لشأن ويغلب استعمالها في الانسان والمراد بها ههنا الجماعة من السنين وهى المدة التى نسى فيها هذا القائل وهو ساقى الملك ان يذكر يوسف عند ربه وقد سأله يوسف ذلك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث يوسف في السجن بضع سنين. والمعنى وقال الذى نجا من السجن من صاحبي يوسف فيه وادكر بعد جماعة من السنين ما سأله يوسف في السجن حين اول رؤياه انا انبئكم بتأويل ما رآه الملك في منامه فأرسلوني إلى يوسف في السجن حتى اخبركم بتأويل ذلك. وخطاب الجمع في قوله: " انبئكم " وقوله فارسلون تشريك لمن حضر مع الملك وهم الملا من اركان الدولة واعضاد المملكة الذين يلون امور الناس والدليل عليه قوله الاتى لعلى ارجع إلى الناس كما سيأتي. قوله تعالى: " يوسف ايها الصديق افتنا في سبع بقرات سمان " إلى آخر الاية في الكلام حذف وتقدير ايجازا والتقدير فأرسلوه فجاء إلى يوسف في السجن فقال: يا يوسف ايها الصديق افتنا في رؤيا الملك وذكر الرؤيا وذكر ان الناس في انتظار تأويله وهذا الاسلوب من لطائف اساليب القرآن الكريم. وسمى يوسف صديقا وهو كثير الصدق المبالغ فيه لما كان رأى من صدقه فيما عبر به منامه ومنام صاحبه في السجن وامور اخرى شاهدها من فعله وقوله في السجن وقد امضى الله سبحانه كونه صديقا بنقله ذلك من غير رد. وقد ذكر متن الرؤيا من غير ان يصرح انه رؤيا فقال " افتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر واخر يابسات " لان قوله افتنا
________________________________________
[ 189 ]
وهو سؤال الحكم الذى يؤدى إليه نظره وكون المعهود فيما بينه وبين يوسف تأويل الرؤيا وكذا ذيل الكلام يدل على ذلك ويكشف عنه. وقوله " لعلى ارجع إلى الناس لعلهم يعلمون " لعل الاول تعليل لقوله افتنا ولعل الثاني تعليل لقوله ارجع والمراد افتنا في امر هذه الرؤيا ففى افتائك رجاء ان ارجع به إلى الناس واخبرهم بها وفي رجوعي إليهم رجاء ان يعلموا به فيخرجوا به من الحيرة والجهاله. ومن هنا يظهر ان قوله ارجع في معنى ارجع بذلك فمن المعلوم انه لو افتى فيه فرجع المستفتى إلى الناس كان رجوعه رجوع عالم بتأويله خبير بحكمه فرجوعه عندئذ إليهم رجوع بمصاحبة ما القى إليه من التأويل فافهم ذلك. وفى قوله اولا افتنا وثانيا " لعلى ارجع إلى الناس " دلالة على انه كان يستفتيه بالرسالة عن الملك والملا ولم يكن يسأله لنفسه حتى يعلمه ثم يخبرهم به بل ليحمله إليهم ولذلك لم يخصه يوسف بالخطاب بل عم الخطاب له ولغيره فقال تزرعون الخ. وفى قوله إلى الناس اشعار أو دلالة على ان الناس كانوا في انتظار ان يرتفع بتأويله حيرتهم وليس الا ان الملا كانوا هم اولياء امور الناس وخيرتهم في الامر خيرة الناس أو ان الناس انفسهم كانوا على هذا الحال لتعلقهم بالملك واهتمامهم برؤياه لان الرؤيا ناظرة غالبا إلى ما يهتم به الانسان من شؤن الحياة والملوك انما يهتمون بشؤون المملكة وامور الرعية. قوله تعالى: " قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله الا قليلا مما تأكلون " قال الراغب الدأب ادامة السير دأب في السير دأبا قال تعالى: " وسخر لكم الشمس والقمر دائبين والدأب العادة المستمرة دائما على حاله قال تعالى: " كدأب آل فرعون أي كعادتهم التى يستمرون عليها انتهى وعليه فالمعنى تزرعون سبع سنين زراعة متوالية مستمرة وقيل هو من دأب بمعنى التعب أي تزرعون بجد واجتهاد ويمكن ان يكون حالا أي تزرعون دائبين مستمرين أو مجدين مجتهدين فيه. ذكروا ان تزرعون خبر في معنى الانشاء وكثيرا ما يؤتى بالامر في صورة الخبر مبالغة في وجوب الامتثال كأنه واقع يخبر عنه كقوله تعالى: " تؤمنون بالله ورسوله
________________________________________
[ 190 ]
وتجاهدون في سبيل الله " الصف: 11 والدليل عليه قوله بعد " فما حصدتم فذروه في سنبله " قيل وانما امر بوضعه وتركه في سنبله لان السنبل لا يقع فيه سوس ولا يهلك وان بقى مدة من الزمان وإذا ديس وصفى اسرع إليه الهلاك. والمعنى ازرعوا سبع سنين متواليات فما حصدتم فذروه في سنبله لئلايهلك وحفظوه كذلك الا قليلا وهو ما تأكلون في هذه السنين. قوله تعالى: " ثم ياتي من بعد ذلك سبع شداد ياكلن ما قدمتم لهن الا قليلا مما تحصنون " الشداد جمع شديد من الشدة بمعنى الصعوبة لما في سني الجدب والمجاعة من الصعوبة والحرج على الناس أو هو من شد عليه إذا كر وهذا انسب لما بعده من توصيفها بقوله: " يأكلن ما قدمتم لهن. وعليه فالكلام يشتمل على تمثيل لطيف كأن هذه السنين سباع ضارية تكر على الناس لافتراسهم واكلهم فيقدمون إليها ما ادخروه عندهم من الطعام فتأكله وتنصرف عنهم. والاحصان الاحراز والادخار والمعنى ثم ياتي من بعد ذلك أي ما ذكر من السنين الخصبة سبع سنين شداد يشددن عليكم ياكلن ما قدمتم لهن الا قليلا مما تحرزون وتدخرون. قوله تعالى: " ثم ياتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون " يقال غاثه الله واغاثه أي نصره ويغيثه بفتح الياء وضمها أي ينصره وهو من الغوث بمعنى النصرة وغاثهم الله يغيثهم من الغيث وهو المطر فقوله " فيه يغاث الناس " ان كان من الغوث كان معناه ينصرون فيه من قبل الله سبحانه بكشف الكربة ورفع الجدب والمجاعة وانزال النعمة والبركة وان كان من الغيث كان معناه يمطرون فيرتفع الجدب من بينهم. وهذا المعنى الثاني انسب بالنظر إلى قوله بعده وفيه يعصرون ولا يصغى إلى قول من يدعى ان المعنى الاول هو المتبادر من سياق الاية الا على قراءة يعصرون بالبناء للمجهول ومعناه يمطرون. وما اورده بعض المستشرقين على المعنى الثاني انه لا ينطبق على مورد الاية فان
________________________________________
[ 191 ]
خصب مصر انما يكون بفيضان النيل لا بالمطر فالامطار لا تؤثر فيها اثرا. رد عليه بان الفيضان نفسه لا يكون الا بالمطر الذى يمده في مجاريه من بلاد السودان. على ان من الجائز ان يكون يغاث ماخوذا من الغيث بمعنى النبات قال في لسان العرب والغيث الكلاء ينبت من ماء السماء انتهى وهذا انسب من المعنيين السابقين بالنظر إلى قوله وفيه يعصرون. وقوله وفيه يعصرون من العصر وهو اخراج ما في الشئ من ماء أو دهن بالضغط كاخراج ماء العنب والتمر للدبس وغيره واخراج دهن الزيت والسمسم للائتدام والاستصباح وغيرهما ويمكن ان يراد بالعصر الحلب أي يحلبون ضروع انعامهم كما فسره بعضهم به. والمعنى ثم ياتي من بعد ذلك أي ما ذكر من السبع الشداد عام فيه تنبت اراضيهم أو يمطرون أو ينصرون وفيه يتخذون الاشربة والادهنة من الفواكه والبقول أو يحلبون ضروع انعامهم وفيه كناية عن توفر النعمة عليهم وعلى انعامهم ومواشيهم. قال البيضاوى في تفسيره وهذه بشارة بشرهم بها بعد ان اول البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة والعجاف واليابسات بسنين مجدبة وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة ولعله علم ذلك بالوحى أو بأن انتهاء الجدب بالخصب أو بان السنة الالهية ان يوسع على عباده بعد ما ضيق عليهم انتهى وذكر غيره نحوا مما ذكره. وقال صاحب المنار في تفسيره في الاية والمراد ان هذا العام عظيم الخصب والاقبال يكون للناس فيه كل ما يبغون من النعمة والا تراف والانباء بهذا زائد على تأويل الرؤيا لجواز ان يكون العام الاول بعد سني الشدة والجدب دون ذلك فهذا التخصيص والتفصيل لم يعرفه يوسف الا بوحى من الله عزوجل لا مقابل له في رؤيا الملك ولا هو لازم من لوزام تأويلها بهذا التفصيل انتهى. والذى ارى انهم سلكوا تفسير آيات الرؤيا وتاويلها سبيل المساهلة والمسامحة وذلك انا إذا تدبرنا في كلامه (ع) في التأويل اعني قوله " تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم
________________________________________
[ 192 ]
فذروه في سنبله الا قليلا مما تأكلون ثم ياتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن الا قليلا مما تحصنون " وجدناه (ع) لم يبن كلامه على اساس اخبارهم بما سيستقبلهم من السنين السبع المخصبة ثم السنين السبع المجدبة ولو انه اراد ذلك لكان من حق الكلام ان يقول مثلا يأتي عليكم سبع مخصبات ثم ياتي من بعدها سبع شداد يذهبن بما عندكم من الذخائر ثم إذا سئل عن دفع هذه المخمصة وطريق النجاة من هذه المهلكة العامة قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلى آخر ما قال. بل بنى كلامه على ذكر ما يجب عليهم من العمل وبين ان امره بذلك توطئة وتقدمة للتخلص عما يهددهم من المجاعة والمخمصة وهو ظاهر وهذا دليل على ان الذى رآه الملك من الرؤيا انما كان مثال ما يجب عليه من اتخاذ التدبير لانجاء الناس من مصيبة الجدب واشارة إلى ما هو وظيفته قبال مسؤليته في امر رعيته وهو ان يسمن بقرات سبعا لتأكلهن بقرات مهازيل ستشد عليهم ويحفظ السنابل الخضر السبع بعد ما يبست على حالها من غير دوس وتصفية لذلك. فكأن نفس الملك شاهدت في المنام ما يجب عليه من العمل قبال ما يهدد الارض من سنة الجدب فحكت السنين المخصبة والمجدبة أي الرزق الذى يرتزقون به فيها في صورة البقرة ثم حكت ما في السبع الاول من تكثير المحصول بزرعها دأبا في صورة السمن وما في السبع الاخر في صورة الهزال وحكت نفاد ما ادخروه في السبع الاولى في السبع الثانية بأكل العجاف للسمان وحكت ما يجب عليهم في حفظ ذخائر الرزق بالسنبلات اليابسة قبال السنبلات الخضر. ولم يزد يوسف (ع) في تأويله على ذلك شيئا الا امورا ثلاثة احدها ما استثناه بقوله: " الا قليلا مما تأكلون " وليس جزء من التأويل وانما هو اباحة وبيان لمقدار التصرف الجائز فيما يجب ان يذروه في سنبله. وثانيها قوله " الا قليلا مما تحصنون " وهو الذى يجب ان يدخروه للعام الذى فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ليتخذ بذرا ومددا احتياطيا وكأنه (ع) اخذه من قوله في حكاية الرؤيا ياكلهن سبع عجاف حيث لم يقل اكلتهن بل عبر عن اشتغالهن باكلهن ولما يفنيهن بأكل كلهن ولو كانت ذخائرهم تنفد في السنين السبع الشداد
________________________________________
[ 193 ]
لرأى انهن اكلتهن عن آخرهن وثالثها قوله ثم ياتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون والظاهر انه (ع) استفاده من عدد السبع الذى تكرر في البقرات السمان والعجاف والسنبلات الخضر وقوله: " ثم ياتي من بعد ذلك عام " وان كان اخبارا صورة عن المستقبل لكنه كناية عن ان هذا العام الذى سيستقبلهم بعد مضى السبع الشداد في غنى عن اجتهادهم في امر الزرع والادخار ولا تكليف فيه يتوجه إليهم بالنسبة إلى ارزاق الناس. ولعله لهذه الثلاثة غير السياق فقال فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ولم يقل فيه تغاثون وفيه تعصرون بالجرى على نحو الخطاب في الايتين السابقتين ففيه اشارة إلى ان الناس في هذا العام في غنى عن اجتهادكم في امر معاشهم وتصديكم لادارة ارزاقهم بل يغاثون ويعصرون لنزول النعمة والبركة في سنة مخصبة. ومن هنا يظهر اندفاع ما ذكره صاحب المنار في كلامه المتقدم ان هذا التخصيص لم يعرفه يوسف (ع) الا بوحى من الله لا مقابل له في رؤيا الملك ولا هو لازم من لوازم تأويلها بهذا التفصيل انتهى. فان تبدل سنى الجدب بسنة الخصب مما يستفاد من الرؤيا بلا ريب فيه واما ما ذكره من كون هذه السنة ذات مزية بالنسبة إلى سائر سني الخصب تزيد عليها في وفور الرزق فلا دليل عليها من جهة اللفظ البتة. ومما ذكرنا ايضا تظهر النكتة في ترك توصيف السنبلات اليابسات في الاية بالسبع حيث قيل وسبع سنبلات خضر واخر يابسات حيث عرفت ان الرؤيا لا تجلى نفس حادثة الخصب والجدب وانما تجلى ما هو التكليف العملي قبال الحادثة فيكون توصيف السنابل اليابسة بالسبع مستدركا مستغنى عنه بخلاف ما لو كان ذلك اشارة إلى نفس السنين المجدبة فافهم ذلك. ومما تقدم يظهر ايضا ان الانسب ان يكون المراد بقوله يغاث وقوله يعصرون الامطار أو اعشاب الكلاء وحلب المواشي لان ذلك هو المناسب لما رآه في
________________________________________
[ 194 ]
منامه من البقرات السبع سمانا وعجافا فإن هذا هو المعهود ومنه يظهر وجه تخصيص الغيث والعصر بالذكر في هذه الاية والله اعلم. قوله تعالى: " وقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن ايديهن ان ربي بكيدهن عليم " في الكلام حذف واضمار ايجازا والتقدير على ما يدل عليه السياق والاعتبار بطبيعة الاحوال وجاء الرسول وهو الساقي فنبأهم بما ذكره يوسف من تأويل الرؤيا وقال الملك بعد ما سمعه: ائتوني به. وظاهر ان الذي انبأه من جدب سبع سنين متوالية كان امرا عظيما والذي اشار إليه من الرأي البين الصواب اعظم منه واغرب عند الملك المهتم بأمر امته المعتني بشؤون مملكته وقد افزعه ما سمع وادهشه ولذلك امر باحضاره ليكلمه ويتبصر بما يقوله مزيد تبصر ويشهد بهذا ما حكاه الله من تكليمه اياه بقوله: " فلما جاءه وكلمه " الخ. ولم يكن امره باتيانه به اشخاصا له بل اطلاقا من السجن واشخاصا للتكليم ولو كان اشخاصا واحضارا لمسجون يعود إلى السجن بعد التكليم لم يكن ليوسف (ع) ان يستنكف عن الحضور بل اجبر عليه اجبارا بل كان احضارا عن عفو واطلاق فوسعه ان ياتي الحضور ويسأله ان يقضي فيه بالحق وكانت نتيجة هذا الاباء والسؤال ان يقول الملك ثانيا: ائتوني به استخلصه لنفسي بعد ما قال اولا ائتوني به وقد راعى (ع) ادبا بارعا في قوله للرسول: " ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتى قطعن ايديهن " فلم يذكر امراة العزيز بما يسوؤه وليس يريد الا ان يقضى بينه وبينها وانما اشار إلى النسوة اللاتى راودنه ولم يذكرهن ايضا بسوء الا بأمر يظهر بالتحقيق فيه براءته ولا براءته من مراودة امرأة العزيز بل نزاهته من أي مراودة وفحشاء تنسب إليه فقد كان بلاؤه عظيما. ولم يذكرهن بشئ من المكروه الا ما في قوله " ان ربى بكيدهن عليم وليس الا نوعا من بث الشكوى لربه. وما الطف قوله في صدر الاية وذيلها حيث يقول للرسول: " ارجع إلى ربك فاسأله " ثم يقول ان ربى بكيدهن عليم وفيه نوع من تبليغ الحق وليكن فيه
________________________________________
[ 195 ]
تنبه لمن يزعم ان مراده من ربى فيما قال لامرأة العزيز انه ربى احسن مثواى هو زوجها وانه يسميه ربا لنفسه. وما الطف قوله ما بال النسوة اللاتى قطعن ايديهن والبال هو الامر الذى يهتم به يقول ما هو الامر العظيم والشأن الخطير الذى اوقعهن فيما وقعن فيه وليس الا هواهن فيه وولههن في حبه حتى انساهن انفسهن فقطعن الايدى مكان الفاكهة تقطيعا فليفكر الملك في نفسه ان الابتلاء بمثل هذه العاشقات الوالهات عظيم جدا والكف عن معا شقتهن والامتناع من اجابتهن بما يردنه وهن يفدينه بالانفس والاموال اعظم ولم يكن المراودة بالمرة والمرتين ولا الالحاح والاصرار يوما أو يومين ولن تتيسر المقاومة والاستقامة تجاه ذلك الا لمن صرف الله عنه السوء والفحشاء ببرهان من عنده. قوله تعالى: " قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء الاية قال الراغب الخطب الامر العظيم الذى يكثر فيه التخاطب قال تعالى: " فما خطبك يا سامرى " " فما خطبكم ايها المرسلون " انتهى. وقال ايضا حصحص الحق أي وضح وذلك بانكشاف ما يظهره وحص وحصحص نحو كف وكفكف وكب وكبكب وحصه قطع منه اما بالمباشرة واما بالحكم إلى ان قال والحصة القطعة من الجملة ويستعمل استعمال النصيب انتهى. وقوله قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ؟ جواب عن سؤال مقدر على ما في الكلام من حذف واضمار ايجازا كل ذلك يدل عليه السياق والتقدير كان سائلا يسأل فيقول فما الذى كان بعد ذلك ؟ وما فعل الملك ؟ فقيل رجع الرسول إلى الملك وبلغه ما قاله يوسف وسأله من القضاء فاحضر النسوة وسألهن عما يهم من شأنهن في مراودتهن ليوسف ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه ؟ قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء فنزهنه عن كل سوء وشهدن انهن لم يظهر لهن منه ما يسوء فيما راودنه عن نفسه. وذكرهن كلمة التنزيه حاش لله نظير تنزيههن حينما راينه لاول مرة حاش لله ما هذا بشرا يدل على بلوغه (ع) النهاية في النزاهة والعفة فيما علمنه كما انه كان بالغا في الحسن.
________________________________________
[ 196 ]
والكلام في فصل قوله قالت امرأة العزيز نظير الكلام في قوله قال ما خطبكن وقوله قلن حاش لله فعند ذلك تكلمت امرأة العزيز وهى الاصل في هذه الفتنة واعترفت بذنبها وصدقت يوسف (ع) فيما كان يدعيه من البراءة قالت الآن حصحص ووضح الحق وهو انه انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين فنسبت المراودة إلى نفسها وكذبت نفسها في اتهامه بالمراودة ولم تقنع بذلك بل برأته تبرئة كاملة انه لم يراود ولا اجابها في مراودتها بالطاعة. واتضحت بذلك براءته (ع) من كل وجه وفي قول النسوة وقول امرأة العزيز جهات من التأكيد بالغة في ذلك كنفى السوء عنه بالنكرة في سياق النفى مع زيادة من ما علمنا عليه من سوء مع كلمة التنزيه حاش لله في قولهن واعترافها بالذنب في سياق الحصر انا راودته عن نفسه وشهادتها بصدقه مؤكدة بان واللام والجملة الاسمية وانه لمن الصادقين وغير ذلك في قولها وهذا ينفى عنه (ع) كل سوء اعم من الفحشاء والمراودة لها واى ميل ونزعة إليها وكذب وافتراء بنزاهة من حسن اختياره. قوله تعالى: " ذلك ليعلم انى لم اخنه بالغيب وان الله لا يهدى كيد الخائنين " من كلام يوسف (ع) على ما يدل عليه السياق وكأنه قاله عن شهادة النسوة على براءة ساحته من كل سوء واعتراف امرأة العزيز بالذنب وشهادتها بصدقه وقضاء الملك ببراءته. وحكاية القول كثير النظير في القرآن كقوله: " آمن الرسول بما انزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين احد من رسله " البقرة: 285 أي قالوا لا نفرق الخ وقوله وانا لنحن الصافون وانا لنحن المسبحون " الصافات: 166. وعلى هذا فالاشارة بقوله ذلك إلى ارجاع الرسول إلى الملك وسؤاله القضاء والضمير في ليعلم ولم اخنه عائد إلى العزيز والمعنى انما ارجعت الرسول إلى الملك وسألته ان يحقق الامر ويقضى بالحق ليعلم العزيز انى لم اخنه بالغيب بمراودة امرأته وليعلم ان الله لا يهدى كيد الخائنين. يذكر (ع) لما فعله من الا رجاع والسؤال غايتين احدهما ان يعلم العزيز انه لم يخنه وتطيب نفسه منه ويزول عنها وعن امره أي
________________________________________
[ 197 ]
شبهة وريبة. والثانى ان يعلم ان الخائن مطلقا لا ينال بخيانته غايته وانه سيفتضح لا محالة سنة الله التى قد خلت في عباده ولن تجد لسنه الله تبديلا فان الخيانة من الباطل والباطل لا يدوم وسيظهر الحق عليه ظهورا ولو اهتدى الخائن إلى بغيته لم تفتضح النسوة اللاتى قطعن ايديهن واخذن بالمراودة ولا امرأة العزيز فيما فعلت واصرت عليه فالله لا يهدى كيد الخائنين. وكان الغرض من الغاية الثانية وان الله لا يهدى كيد الخائنين وتذكيره وتعليمه للملك الحصول على لازم فائدة الخبر وهو ان يعلم الملك انه (ع) عالم بذلك مذعن بحقيقته فإذا كان لم يخنه في عرضه بالغيب ولا يخون في شئ البتة كان جديرا بان يؤتمن على كل شئ نفسا كان أو عرضا أو مالا. وبهذا الامتياز البين يتهيأ ليوسف ما كان بباله ان يسأل الملك اياه وهو قوله بعد ان اشخص عند الملك اجعلني على خزائن الارض انى حفيظ عليم. والاية ظاهرة في ان هذا الملك هو غير عزيز مصر زوج المرأة الذى اشير إليه بقوله: " وألفيا سيدها لدى الباب " وقوله وقال الذى اشتراه من مصر لامراته اكرمي مثواه. وقد ذكر بعض المفسرين ان هذه الاية والتى بعدها تتمة قول امرأة العزيز " الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين " وسياتى الكلام عليه. قوله تعالى: " وما ابرئ نفسي ان النفس لامارة بالسوء الا ما رحم ربى ان ربى غفور رحيم " تتمة كلام يوسف (ع) وذلك ان قوله: " انى لم اخنه بالغيب كان لا يخلو من شائبة دعوى الحول والقوة وهو (ع) من المخلصين المتوغلين في التوحيد الذين لا يرون لغيره تعالى حولا ولا قوة فبادر (ع) إلى نفى الحول والقوة عن نفسه ونسبة ما ظهر منه من عمل صالح أو صفة جميلة إلى رحمة ربه وتسوية نفسه بسائر النفوس التى هي بحسب الطبع مائلة إلى الاهواء امارة بالسوء فقال: " وما ابرئ نفسي ان النفس لامارة بالسوء الا ما رحم ربى " فقوله هذا كقول شعيب (ع): " ان اريد الا الا صلاح ما استطعت وما توفيقي الا بالله " هود: 88.
________________________________________
[ 198 ]
فقوله: " وما ابرئ نفسي " اشارة إلى قوله انى لم اخنه بالغيب وانه لم يقل هذا القول بداعي تنزيه نفسه وتزكيتها بل بداعي حكاية رحمة من ربه وعلل ذلك بقوله " ان النفس لامارة بالسوء " أي ان النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيئات على كثرتها ووفورها فمن الجهل ان تبرء من الميل إلى السوء وانما تكف عن امرها بالسوء ودعوتها إلى الشر برحمة من الله سبحانه تصرفها عن السوء وتوفقها لصالح العمل. ومن هنا يظهر ان قوله " الا ما رحم ربى " يفيد فائدتين. ؟. احداهما تقييد اطلاق قوله " ان النفس لامارة بالسوء " فيفيد ان اقتراف الحسنات الذى هو برحمة من الله سبحانه من امر النفس وليس يقع عن الجاء واجبار من جانبه تعالى. وثانيتهما الاشارة إلى ان تجنبه الخيانة كان برحمة من ربه. وقد علل الحكم بقوله: " ان ربى غفور رحيم " فأضاف مغفرته تعالى إلى رحمته لان المغفرة تستر النقيصة اللازمة للطبع والرحمة يظهر بها الامر الجميل ومغفرته تعالى كما تمحو الذنوب وآثارها كذلك تستر النقائص وتبعاتها وتتعلق بسائر النقائص كما تتعلق بالذنوب قال تعالى: " فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان ربك غفور رحيم " الانعام: 145 وقد تقدم الكلام فيها في آخر الجزء السادس من الكتاب. ومن لطائف ما في كلامه من الاشارة تعبيره (ع) عن الله عز اسمه بلفظ ربى فقد كرره ثلاثا حيث قال " ان ربى بكيدهن عليم " الا ما رحم ربى ان ربى غفور رحيم " لان هذه الجمل تتضمن نوع انعام من ربه بالنسبة إليه فأثنى على الرب تعالى باضافته إلى نفسه لتبليغ مذهبه وهو التوحيد باتخاذ الله سبحانه ربا لنفسه معبودا خلافا للوثنيين واما قوله " وان الله لا يهدى كيد الخائنين " فهو خال عن هذه النسبة ولذلك عبر بلفظ الجلالة. وقد ذكر جمع من المفسرين ان الايتين اعني قوله ذلك " ليعلم انى لم اخنه بالغيب " الخ من تمام كلام امرأة العزيز والمعنى على هذا ان امرأة العزيز لما اعترفت بذنبها وشهدت بصدقه قالت ذلك أي اعترافي بأني راودته عن نفسه وشهادتى بانه من الصادقين
________________________________________
[ 199 ]
ليعلم إذا بلغه عنى هذا الكلام انى لم اخنه بالغيب بل اعترفت بأن المراودة كانت من قبلى انا وانه كان صادقا وان الله لا يهدى كيد الخائنين كما انه لم يهد كيدى انا إذ كدته بأنواع المراودة وبالسجن بضع سنين حتى اظهر صدقه في قوله وطهارة ذيله وبراءة نفسه وفضحنى امام الملك والملا ولم يهد كيد سائر النسوة في مراودتهن وما ابرئ نفسي من السوء مطلقا فانى كدت له بالسجن ليلجأ به إلى ان يفعل ما آمره ان النفس لامارة بالسوء الا ما رحم ربى ان ربى غفور رحيم. وهذا وجه ردئ جدا اما اولا فلان قوله " ذلك ليعلم انى لم اخنه بالغيب " لو كان من كلام امرأة العزيز لكان من حق الكلام ان يقال وليعلم انى لم اخنه بالغيب بصيغة الامر فان قوله ذلك على هذا الوجه اشارة إلى اعترافها بالذنب وشهادتها بصدقه فقوله لم اخنه بالغيب ان كان عنوانا لاعترافها وشهادتها مشارا به إلى ذلك خلى الكلام عن الفائدة فان محصل معناه حينئذ انما اعترفت وشهدت ليعلم انى اعترفت وشهدت له بالغيب مضافا إلى ان ذلك يبطل معنى الاعتراف والشهادة لدلالته على انها انما اعترفت وشهدت ليسمع يوسف ذلك ويعلم به لا لاظهار الحق وبيان حقيقة الامر. وان كان عنوانا لاعمالها طول غيبته إذ لبث بضع سنين في السجن أي انما اعترفت وشهدت له ليعلم انى لم اخنه طول غيبته فقد خانته إذ كادت به فسجن ولبث في السجن بضع سنين مضافا إلى ان اعترافها وشهادتها لا يدل على عدم خيانتها له بوجه من الوجوه وهو ظاهر. واما ثانيا فلانه لا معنى حينئذ لتعليمها يوسف ان الله لا يهدى كيد الخائنين وقد ذكرها يوسف به اول حين إذ راودته عن نفسه فقال انه لا يفلح الظالمون. واما ثالثا فلان قولها وما ابرئ نفسي فقد خنته بالكيد له بالسجن يناقض قولها لم اخنه بالغيب كما لا يخفى مضافا إلى ان قوله " ان النفس لامارة بالسوء الا ما رحم ربى ان ربى غفور رحيم " على ما فيه من المعارف الجليلة التوحيدية ليس بالحرى ان يصدر من امرأة احاطت بها الاهواء وهى تعبد الاصنام. وذكر بعضهم وجها آخر في معنى الايتين بارجاع ضمير ليعلم ولم اخنه إلى العزيز وهو زوجها فهى كأنها تقول ذاك الذى حصل اقررت به ليعلم زوجي انى لم اخنه
________________________________________
[ 200 ]
بالفعل فيما كان من خلواتي بيوسف في غيبته عنا وان كل ما وقع انى راودته عن نفسه فاستعصم وامتنع فبقى عرض زوجي مصونا وشرفه محفوظا ولئن برأت يوسف من الاثم فما ابرئ منه نفسي ان النفس لامارة بالسوء الا ما رحم ربى. وفيه ان الكلام لو كان من كلامها وهى تريد ان تطيب به نفس زوجها وتزيل أي ريبة عن قلبه انتج خلاف المطلوب فان قولها " الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين " انما يفيد العلم بانها راودته عن نفسه واما شهادتها انه امتنع ولم يطعها فيما امرته به فهى شهادة لنفسها لا عليها وكان من الممكن انها انما شهدت له لتطيب نفس زوجها وتزيل ما عنده من الشك والريب فاعترافها وشهادتها لا توجب في نفسها علم العزيز انها لم تخنه بالغيب. مضافا إلى ان قوله " وما ابرئ نفسي " الخ يكون حينئذ تكرارا لمعنى قولها انا راودته عن نفسه وظاهر السياق خلافه على ان بعض الاعتراضات الواردة على الوجه السابق وارد عليه. قوله تعالى: " وقال الملك ائتونى به استخلصه لنفسي فلما كلمه قال انك اليوم لدينا مكين امين " يقال استخلصه أي جعله خالصا والمكين صاحب المكانة والمنزلة وفي قوله فلما كلمه حذف للايجاز والتقدير فلما اتى به إليه وكلمه قال انك اليوم الخ وفي تقييد الحكم باليوم اشارة إلى التعليل والمعنى انك اليوم وقد ظهر من مكارم اخلاقك في التجنب عن السوء والفحشاء والخيانة والظلم والصبر على كل مكروه وصغار في سبيل طهارة نفسك واختصاصك بتأييد من ربك غيبي وعلم بالاحاديث والرأى والحزم والحكمة والعقل لدينا ذو مكانة وامانة وقد اطلق قوله مكين امين فأفاد بذلك عموم الحكم. والمعنى وقال الملك ائتونى بيوسف اجعله خالصا لنفسي وخاصة لى فلما اتى به إليه وكلمه قال له انك اليوم وقد ظهر من كمالك ما ظهر لدينا ذو مكانة مطلقة وامانة مطلقة يمكنك من كل ما تريد ويأتمنك على جميع شؤن الملك وفي ذلك حكم صدارته. قوله تعالى: " قال اجعلني على خزائن الارض انى حفيظ عليم " لما عهد الملك ليوسف انك اليوم لدينا مكين امين واطلق القول سأله يوسف (ع) ان ينصبه على خزائن الارض ويفوض إليه امرها والمراد بالارض ارض مصر.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page