• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 151 الي 175


[ 151 ]
فعلا وقولا بتقطيع الايدى وتنزيه الحسن فلم يبق لهن الا ان يصدقنها فيما تقول ويعذرنها فيما تفعل. قوله تعالى: " قالت فذلكن الذى لمتننى فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم " إلى آخر الاية الكلام في موضع دفن الدخل كان قائلا يقول فماذا قالت امرأة العزيز لهن ؟ فقيل قالت فذلكن الذى لمتننى فيه. وقد فرعت كلامها على ما تقدمه من قولهن وفعلهن واشارت إلى شخص الذى لمنها فيه ووصفته بانه الذى لمنها فيه ليكون هو بعينه جوابا لما رمينها به من ترك شرف بيتها وعزة زوجها وعفة نفسها في حبه وعذرا قبال لومهن اياها في مراودته واقوى البيان ان يحال السامع إلى العيان ومن هذا الباب قوله تعالى: " أهذا الذى يذكر آلهتكم " الانبياء: 36 وقوله: " ربنا هؤلاء اضلونا " الاعراف: 38. ثم اعترفت بالمراودة وذكرت لهن انها راودته لكنه اخذ بالعفة وطلب العصمة وانما استرسلت واظهرت لهن ما لم تزل تخفيه لما رأت موافقة القلوب على التوله فيه فبثت الشكوى لهن ونبهت يوسف انها غير تاركته فليوطن نفسه على طاعتها فيما تأمر به وهذا معنى قولها ولقد راودته عن نفسه فاستعصم. ثم ذكرت لهن ما عزمت عليه من اجباره على الموافقة وسياسته لو خالفت فقالت: " ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين " وقد اكدت الكلام بوجوه من التأكيد كالقسم والنون واللام ونحوها ليدل على انها عزمت على ذلك عزيمة جازمة وعندها ما يجبره على ما ارادته ولو استنكف فليوطن نفسه على السجن بعد الراحة والصغار والهوان بعد الاكرام والاحترام وفي الكلام تجلد ونوع تعزز وتمنع بالنسبة اليهن ونوع تنبيه وتهديد بالنسبة إلى يوسف (ع). وهذا التهديد الذى يتضمنه قولها: " ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين " اشد واهول مما سألته زوجها يوم المراودة بقولها: " ما جزاء من اراد بأهلك سوء الا ان يسجن أو عذاب اليم ". اما اولا فلانها رددت الجزاء هناك بين السجن والعذاب الاليم وجمع ههنا بين الجزائين
________________________________________
[ 152 ]
وهو السجن والكون من الصاغرين. واما ثانيا فلانها ههنا قامت بالتهديد بنفسها لا بأن تسأل زوجها وكلامها كلام من لا يتردد فيما عزم عليه ولا يرجع عما جزم به وقد حققت انها تملك قلب زوجها وتقدر ان تصرفه مما يريده إلى ما تريده وتقوى على التصرف في امره كيفما شاءت ؟ قوله تعالى: " قال رب السجن احب إلى مما يدعونني إليه والا تصرف عنى كيدهن اصب اليهن واكن من الجاهلين " قال الراغب في المفردات صبا فلان يصبوصبوا وصبوة إذا نزع واشتاق وفعل فعل الصبيان قال تعالى: " اصب اليهن وأكن من الجاهلين " انتهى وفى المجمع الصبوة لطافة الهوى انتهى. تفاوضت امرأة العزيز والنسوة فقالت وقلن واسترسلن في بت ما في ضمائرهن ويوسف (ع) واقف امامهن يدعونه ويراودنه عن نفسه لكن يوسف (ع) لم يلتفت اليهن ولا كلمهن ولا بكلمة بل رجع إلى ربه الذى ملك قلبه بقلب لا مكان فيه الا له ولا شغل له الا به " وقال رب السجن احب إلى مما يدعونني إليه " الخ. وقوله هذا ليس بدعاء على نفسه بالسجن وان يصرف الله عنه ما يدعونه إليه بالقائه في السجن وانما هو بيان حال لربه وانه عن تربية الهية يرجح عذاب السجن في جنب الله على لذة المعصية والبعد منه فهذا الكلام منه نظير ما قاله لامرأة العزيز حين خلت به وراودته عن نفسه معاذ الله انه ربى احسن مثواى انه لا يفلح الظالمون ففى الكلامين معا تمنع وتعزز بالله وانما الفرق انه يخاطب باحدهما امرأة العزيز وبالاخر ربه القوى العزيز وليس شئ من الكلامين دعاء البتة. وفي قوله رب السجن احب إلى الخ نوع توطئة لقوله " والا تصرف عنى كيدهن اصب اليهن " الخ الذى هو دعاء في صورة بيان الحال. فمعنى الاية رب انى لو خيرت بين السجن وبين ما يدعونني إليه لا خترت السجن على غيره واسألك ان تصرف عنى كيدهن فانك ان لا تصرف عنى كيدهن انتزع وأمل اليهن واكن من الجاهلين فانى انما اتوقى شرهن بعلمك الذى علمتنيه وتصرف به عنى كيدهن فان امسكت عن افاضته علي صرت جاهلا ووقعت في مهلكه الصبوة والهوى.
________________________________________
[ 153 ]
وقد ظهر من الاية بمعونة السياق اولا: ان قوله رب السجن احب الي " الخ ليس دعاء من يوسف (ع) على نفسه بالسجن بل بيان حال منه لربه بالاعراض عنهن والرجوع إليه ومعنى احب الي انى اختاره على ما يدعونني إليه لو خيرت وليس فيه دلالة على كون ما يدعونه إليه محبوبا عنده بوجه الا بمقدار ما تدعو إليه داعية الطبع الانساني والنفس الامارة. وان قوله تعالى: " فاستجاب له ربه " اشارة إلى استجابة ما يشتمل عليه قوله والا تصرف عنى كيدهن الخ من معنى الدعاء ويؤيده تعقيبه بقوله فصرف عنه كيدهن وليس استجابة لدعائه بالسجن على نفسه كما توهمه بعضهم. ومن الدليل عليه قوله بعد في قصة دخوله السجن ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الايات ليسجننه حتى حين ولو كان دعاء بالسجن واستجابه الله سبحانه وقدر له السجن لم يكن التعبير بثم وفصل المعنى عما تقدمه بأنسب فافهم. وثانيا ان النسوة دعونه وراودنه كما دعته امرأة العزيز إلى نفسها وراودته عن نفسه واما انهن دعونه إلى انفسهن أو إلى امرأة العزيز أو أتين بالامرين فدعينه بحضرة من امرأة العزيز إليها ثم اسرت كل واحدة منهن داعية اياه إلى نفسها فالاية ساكتة عن ذلك سوى ما يستفاد من قوله والا تصرف عنى كيدهن اصب اليهن إذ لو لا دعوة منهن إلى انفسهن لم يكن معنى ظاهر للصبوة اليهن. والذى يشعر به قوله تعالى حكاية عن قوله في السجن لرسول الملك " ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتى قطعن ايديهن إلى ان قال قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين ذلك ليعلم انى لم اخنه بالغيب وان الله لا يهدى كيد الخائنين " الايات: 50 - 52 من السورة انهن دعينه إلى امرأة العزيز وقد اشركهن في القصة ثم قال لم اخنه بالغيب ولم يقل لم اخن بالغيب ولا قال لم اخنه وغيره فتدبر فيه. ومع ذلك فمن المحال عادة ان يرين منه ما يغيبهن عن شعورهن ويدهش عقولهن ويقطعن
________________________________________
[ 154 ]
ايديهن ثم ينسللن انسلالا ولا يتعرض له اصلا ويذهبن لوجوههن بل العادة قاضية انهن ما فارقن المجلس الا وهن متيمات فيه والهات لا يصبحن ولا يمسين الا وهو همهن وفيه هواهن يفدينه بالنفس ويطمعنه بأي زينة في مقدرتهن ويعرضن له انفسهن ويتوصلن إلى ما يردنه منه بكل ما يستطعن. وهو ظاهر مما حكاه الله من يوسف في قوله " رب السجن احب الي مما يدعونني إليه والا تصرف عنى كيدهن اصب اليهن " فانه لم يعرض عن تكليمهن إلى مناجاة ربه الخبير بحاله السميع لمقاله الا لشدة الامر عليه واحاطة المحنة والمصيبة من ناحيتهن به. وثالثا: ان تلك القوة القدسية التى استعصم بها يوسف (ع) كانت كأمر تدريجي يفيض عليه آنا بعد آن من جانب الله سبحانه وليست الامر الدفعي المفروغ عنه والا لانقطعت الحاجة إليه تعالى ولذا عبر عنه بقوله: " والا تصرف عنى " ولم يقل وان لم تصرف عنى وان كانت الجملة الشرطية منسلخة الزمان لكن في الهيئة اشارات. ولذلك ايضا قال تعالى: " فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن " الخ فنسب دفع الشر عنه إلى استجابة وصرف جديد. ورابعا ان هذه القوة القدسية من قبيل العلوم والمعارف ولذا قال (ع) واكن من الجاهلين ولم يقل وأكن من الظالمين كما قال لامرأة العزيز انه لا يفلح الظالمون أو اكن من الخائنين كما قال للملك وان الله لا يهدى كيد الخائنين وقد فرق في نحو الخطاب بينهما وبين ربه فخاطبهما بظاهر الامر رعاية لمنزلتهما في الفهم فقال: انه ظلم والظالم لا يفلح وانه خيانة والله لا يهدى كيد الخائن وخاطب ربه بحقيقة الامر وهو ان الصبوة اليهن من الجهل. وستوافيك حقيقة الحال في هذين الامرين (1) في ابحاث ملحقة بالبيان ان شاء الله تعالى. قوله تعالى: " فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن انه هو السميع العليم " أي استجاب الله مسألته في صرف كيدهن عنه حين قال والا تصرف عنى كيدهن اصب اليهن "
________________________________________
(1) اي الامر الثالث والرابع. (*)
________________________________________
[ 155 ]
انه هو السميع باقوال عباده العليم باحوالهم (ابحاث حول التقوى الدينى ودرجاته) في فصول 1 - القانون والاخلاق الكريمة والتوحيد لا يسعد القانون الا بايمان تحفظه الاخلاق الكريمة والاخلاق الكريمه لا تتم الا بالتوحيد فالتوحيد هو الاصل الذى عليه تنمو شجرة السعادة الانسانية وتتفرع بالاخلاق الكريمة وهذه الفروع هي التى تثمر ثمراتها الطيبة في المجتمع قال تعالى: " ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى اكلها كل حين باذن ربها ويضرب الله الامثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار " ابراهيم: 26 فجعل الايمان بالله كشجرة لها اصل وهو التوحيد لا محالة " واكل تؤتيه كل حين باذن ربها " وهو العمل الصالح وفرع وهو الخلق الكريم كالتقوى والعفة والمعرفة والشجاعة والعدالة والرحمة ونظائرها. وقال تعالى: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " الفاطر: 10 فجعل سعادة الصعود إلى الله وهو القرب منه تعالى للكلم الطيب وهو الاعتقاد الحق وجعل العمل الذى يصلح له ويناسبه هو الذى يرفعه ويمده في صعوده. بيان ذلك: ان من المعلوم ان الانسان لا يتم له كماله النوعى ولا يسعد في حياته التى لا بغيه له اعظم من اسعادها الا باجتماع من افراد يتعاونون على اعمال الحياة على ما فيها من الكثرة والتنوع وليس يقوى الواحد من الانسان على الاتيان بها جميعا. وهذا هو الذى احوج الانسان الاجتماعي إلى ان يتسنن بسنن وقوانين يحفظ بها حقوق الافراد عن الضيعة والفساد حتى يعمل كل منهم ما في وسعه العمل به ثم يبادلوا اعمالهم فينال كل من النتائج المعدة ما يعادل عمله ويقدره وزنه الاجتماعي من غير ان يظلم القوى المقتدر أو يظلم الضعيف العاجز. ومن المسلم ان هذه السنن والقوانين لا تثبت مؤثرة الا بسنن وقوانين اخرى جزائية
________________________________________
[ 156 ]
تهدد المتخلفين عن السنن والقوانين المتعدين على حقوق ذوى الحقوق وتخوفهم بالسيئة قبال السيئة وباخرى تشوقهم وترغبهم في عمل الخيرات وتضمن اجراء الجميع القوة الحاكمة التى تحكم فيهم وتتسيطر عليهم بالعدل والصدق. وانما تتحقق هذه الامنية إذا كانت القوة المجرية للقوانين عالمة بالجرم وقوية على المجرم واما إذا جهلت ووقع الاجرام على جهل منها أو غفلة وكم له من وجود فلا مانع يمنع من تحققه والقوانين لا ايدى لها تبطش بها وكذا إذا ضعفت الحكومة بفقد القوى اللازمة أو مساهلة في السياسة والعمل فظهر عليها المجرم أو كان المجرم اشد قوة ضاعت القوانين وفشت التخلفات والتعديات على حقوق الناس والانسان كما مر مرارا في المباحث السابقة من هذا الكتاب مستخدم بالطبع يجر النفع إلى نفسه ولو اضر غيره. ويشتد هذا البلوى إذا تمركزت هذه القوة في القوة المجرية أو من يتولى ازمة جميع الامور فاستضعف الناس وسلب منهم القدرة على رده إلى العدل وتقويمه بالحق فصار ذا قوة وشوكة لا يقاوم في قوته ولا يعارض في ارادته. والتواريخ المحفوظة مملوءة من قصص الجبابرة والطواغيت وتحكماتهم الجائرة على الناس وهو ذا نصب اعيننا في اكثر اقطار الارض. فالقوانين والسنن وان كانت عادلة في حدود مفاهيمها واحكام الجزاء وان كانت بالغة في شدتها لا تجرى على رسلها في المجتمع ولا تسد باب الخلاف وطريق التخلف الا باخلاق فاضلة انسانية تقطع دابر الظلم والفساد كملكة اتباع الحق واحترام الانسانية والعدالة والكرامة والحياة ونشر الرحمة ونظائرها. ولا يغرنك ما تشاهده من القوة والشوكة في الامم الراقية والانتظام والعدل الظاهر فيما بينهم ولم يوضع قوانينهم على اسس اخلاقية حيث لا ضامن لاجرائها فانهم امم يفكرون فكرة اجتماعية لا يرى الفرد منهم الا نفع الامة وخيرها ولا يدفع الا ما يضر امته ولا هم لامته الا استرقاق سائر الامم الضعيفة واستدرارهم واستعمار بلادهم واستباحة نفوسهم واعراضهم واموالهم فلم يورثهم هذا التقدم والرقى الا نقل ما كان يحمله الجبابرة الماضون على الافراد إلى المجتمعات فقامت الامة اليوم مقام الفرد بالامس
________________________________________
[ 157 ]
وهجرت الالفاظ معانيها إلى اضدادها تطلق الحرية والشرافة والعدالة والفضيلة ولا يراد بها الا الرقية والخسة والظلم والرذيلة. وبالجملة السنن والقوانين لا تأمن التخلف والضيعة الا إذا تأسست على اخلاق كريمة انسانية واستظهرت بها. ثم الاخلاق لا تفى بإسعاد المجتمع ولا تسوق الانسان إلى صلاح العمل الا إذا اعتمدت على التوحيد وهو الايمان بأن للعالم ومنه الانسان الها واحدا سرمديا لا يعزب عن علمه شئ ولا يغلب في قدرته عن احد خلق الاشياء على اكمل نظام لا لحاجة منه إليها وسيعيدهم إليه فيحاسبهم فيجزى المحسن باحسانه ويعاقب المسئ باساءته ثم يخلدون منعمين أو معذبين. ومن المعلوم ان الاخلاق إذا اعتمدت على هذه العقيدة لم يبق للانسان هم الا مراقبة رضاه تعالى في اعماله وكان التقوى رادعا داخليا له عن ارتكاب الجرم ولولا ارتضاع الاخلاق من ثدي هذه العقيدة عقيدة التوحيد لم يبق للانسان غاية في اعماله الحيوية الا التمتع بمتاع الدنيا الفانية والتلذذ بلذائذ الحياة المادية واقصى ما يمكنه ان يعدل به معاشه فيحفظ به القوانين الاجتماعية الحيوية ان يفكر في نفسه ان من الواجب عليه ان يلتزم القوانين الدائرة حفظا للمجتمع من التلاشى وللاجتماع من الفساد وان من اللازم عليه ان يحرم نفسه من بعض مشتهياته ليحتفظ به المجتمع فينال بذلك البعض الباقي ويثنى عليه الناس ويمدحوه ما دام حيا أو يكتب اسمه في اوراق التاريخ بخطوط ذهبية. اما ثناء الناس وتقديرهم العمل فانما يجرى في امور هامة علموا بها اما الجزئيات وما لم يعلموا بها كالاعمال السرية فلا وقاء يقيها واما الذكر الجارى والاسم السامى ويؤثر غالبا فيما فيه تفدية وتضحية من الامور كالقتل في سبيل الوطن وبذل المال والوقت في ترفيع مباني الدولة ونحو ذلك فليس ممن يبتغيه ويذعن به ثم لا يذعن بما وراء الحياة الدنيا الا اعتقادا خرافيا إذ لا انسان على هذا بعد الموت والفوت حتى يعود إليه شئ من النفع بثناء أو حسن ذكر واى عاقل يشترى تمتع غيره بحرمان نفسه من غير أي فائدة عائدة أو يقدم الحياة لغيره باختيار الموت لنفسه وليس عنده بعد الموت الا البطلان والاعتقاد الخرافى يزول بأدنى تنبه والتفات.
________________________________________
[ 158 ]
فقد تبين ان شيئا من هذه الامور ليس من شأنه ان يقوم مقام التوحيد ولا ان يخلفه في صد الانسان عن المعصية ونقض السنن والقوانين وخاصة إذا كان العمل مما من طبعه ان لا يظهر للناس وخاصة إذا كان من طبعه ان لو ظهر ظهر على خلاف ما هو عليه لاسباب تقتضي ذلك كالتعفف الذى يزعم انه كان شرها وبغيا كما تقدم من حديث مراودة امرأة العزيز يوسف (ع) وقد كان امره يدور بين خيانة العزيز في امرأته وبين اتهام المرأة اياه عند العزيز بقصدها بالسوء فلم يمنعه (ع) ولا كان من الحري ان يمنعه شئ الا العلم بمقام ربه. 2 - يحصل التقوى الدينى بأحد امور ثلاثة وان شئت فقل انه سبحانه يعبد بأحد طرق ثلاثة الخوف والرجاء والحب قال تعالى: " في الاخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور " الحديد: 20 فعلى المؤمن ان يتنبه لحقيقة الدنيا وهى انها متاع الغرور كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا فعليه ان لا يجلعها غاية لاعماله في الحيوة وان يعلم ان له وراءها دارا وهى الدار الاخرة فيها ينال غاية اعماله وهى عذاب شديد للسيئات يجب ان يخافه ويخاف الله فيه ومغفرة من الله قبال اعماله الصالحة يجب ان يرجوها ويرجو الله فيها ورضوان من الله يجب ان يقدمه لرضى نفسه. وطباع الناس مختلفة في ايثار هذه الطرق الثلاثة واختيارها فبعضهم وهو الغالب يغلب على نفسه الخوف وكلما فكر فيما اوعد الله الظالمين والذين ارتكبوا المعاصي والذنوب من انواع العذاب الذى اعد لهم زاد في نفسه خوفا ولفرائصه ارتعادا ويساق بذلك إلى عبادته تعالى خوفا من عذابه. وبعضهم يغلب على نفسه الرجاء وكلما فكر فيما وعده الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات من النعمة والكرامة وحسن العاقبة زاد رجاء وبالغ في التقوى والتزام الاعمال الصالحات طمعا في المغفرة والجنة. وطائفة ثالثا وهم العلماء بالله لا يعبدون الله خوفا من عقابه ولا طمعا في ثوابه وانما يعبدونه لانه اهل للعبادة وذلك لانهم عرفوه بما يليق به من الاسماء الحسنى والصفات العليا فعلموا انه ربهم الذى يملكهم وارادتهم ورضاهم وكل شئ غيرهم ويدبر الامر
________________________________________
[ 159 ]
وحده وليسوا الا عباد الله فحسب وليس للعبد الا ان يعبد ربه ويقدم مرضاته وارادته على مرضاته وارادته فهم يعبدون الله ولا يريدون في شئ من اعمالهم فعلا أو تركا الا وجهه ولا يلتفتون فيها إلى عقاب يخوفهم ولا إلى ثواب يرجيهم وان خافوا عذابه ورجوا رحمته والى هذا يشير قوله (ع) " ما عبدتك خوفا من نارك ولا رغبة في جنتك بل وجدتك اهلا للعبادة فعبدتك ". وهؤلاء لما خصوا رغباتهم المختلفة بابتغاء مرضات ربهم ومحضوا اعمالهم في طلب غاية هو ربهم تظهر في قلوبهم المحبة الالهية وذلك انهم يعرفون ربهم بما عرفهم به نفسه وقد سمى نفسه باحسن الاسماء ووصف ذاته بكل صفة جميلة ومن خاصة النفس الانسانية ان تنجذب إلى الجميل فكيف بالجميل على الاطلاق وقال تعالى: " ذلكم الله ربكم لا اله الا هو خالق كل شئ فاعبدوه " الانعام: 102 ثم قال: " الذى احسن كل شئ خلقه " الم السجدة: 7 فأفاد ان الخلقة تدور مدار الحسن وانهما متلازمان متصادقان ثم ذكر سبحانه في آيات كثيرة ان ما خلقه من شئ آية تدل عليه وان في السماوات والارض لايات لاولى الالباب فليس في الوجود ما لا يدل عليه تعالى ولا يحكى شيئا من جماله وجلاله. فالاشياء من جهة انواع خلقها وحسنها تدل على جماله الذى لا يتناهى ويحمده ويثنى على حسنه الذى لا يفنى ومن جهة ما فيها من انواع النقص والحاجة تدل على غناه المطلق وتسبح وتنزه ساحة القدس والكبرياء كما قال تعالى: " وان من شئ الا يسبح بحمده " اسرى 44. فهؤلاء يسلكون في معرفة الاشياء من طريق هداهم إليه ربهم وعرفها لهم وهو انها آيات له وعلامات لصفات جماله وجلاله وليس لها من النفسية والاصالة والاستقلال الا انها كمرائى تجلى بحسنها ما وراءها من الحسن غير المتناهى وبفقرها وحاجتها ما احاط بها من الغنى المطلق وبذلتها واستكانتها ما فوقها من العزة والكبرياء ولا يلبث الناظر إلى الكون بهذه النظرة دون ان تنجذب نفسه إلى ساحة العزة والعظمة ويغشى قلبه من المحبة الالهية ما ينسيه نفسه وكل شئ ويمحو رسم الاهواء والاميال النفسانية عن باطنه ويبدل فؤاده قلبا سليما ليس فيه الا الله عز اسمه قال تعالى: " والذين آمنوا اشد حبا لله " البقرة: 165. ولذلك يرى اهل هذا الطريق ان الطريقين الاخرين اعني طريق العبادة خوفا
________________________________________
[ 160 ]
وطريق العبادة طمعا لا يخلوان من شرك فان الذى يعبده تعالى خوفا من عذابه يتوسل به تعالى إلى دفع العذاب عن نفسه كما ان من يعبده طمعا في ثوابه يتوسل به تعالى إلى الفوز بالنعمة والكرامة ولو امكنه الوصول إلى ما يبتغيه من غير ان يعبده لم يعبده ولا حام حول معرفته وقد تقدمت الرواية عن الصادق (ع) " هل الدين الا الحب " وقوله (ع) في حديث: وانى اعبده حبا له وهذا مقام مكنون لا يمسه الا المطهرون " الحديث وانما كان اهل الحب مطهرين لتنزههم عن الاهواء النفسانية والالواث المادية فلا يتم الاخلاص في العبادة الا من طريق الحب 3 - كيف يورث الحب الاخلاص ؟ عبادته تعالى خوفا من العذاب تبعث الانسان إلى التروك وهو الزهد في الدنيا للنجاة في الاخرة فالزاهد من شأنه ان يتجنب المحرمات أو ما في معنى الحرام اعني ترك الواجبات وعبادته تعالى طمعا في الثواب تبعث إلى الافعال وهو العبادة في الدنيا بالعمل الصالح لنيل نعم الاخرة والجنة فالعابد من شأنه ان يلتزم الواجبات أو ما في معنى الواجب وهو ترك الحرام والطريقان معا انما يدعو ان إلى الاخلاص للدين لا لرب الدين. واما محبة الله سبحانه فانها تطهر القلب من التعلق بغيره تعالى من زخارف الدنيا وزينها من ولد أو زوج أو مال أو جاه حتى النفس وما لها من حظوظ وآمال وتقصر القلب في التعلق به تعالى وبما ينسب إليه من دين أو نبى أو ولى وسائر ما يرجع إليه تعالى بوجه فان حب الشئ حب لآثاره. فهذا الانسان يحب من الاعمال ما يحبه الله ويبغض منها ما يبغضه الله ويرضى برضا الله ولرضاه ويغضب بغضب الله ولغضبه وهو النور الذى يضئ له طريق العمل قال تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس " الانعام: 122 والروح الذى يشير إليه بالخيرات والاعمال الصالحات قال تعالى: " وايدهم بروح منه " المجادلة: 22 وهذا هو السر في انه لا يقع منه الا الجميل والخير ويتجنب كل مكروه وشر. واما الموجودات الكونية والحوادث الواقعة فانه لا يقع بصره على شئ منها خطير أو حقير كثير أو يسير الا احبه واستحسنه لانه لا يرى منها الا انها آيات محضة تجلى له
________________________________________
[ 161 ]
ما وراءها من الجمال المطلق والحسن الذى لا يتناهى العارى من كل شين ومكروه. ولذلك كان هذا الانسان محبورا بنعمة ربه بسرور لا غم معه ولذة وابتهاج لا الم ولا حزن معه وامن لا خوف معه فان هذه العوارض السوء انما تطرء عن ادراك للسوء وترقب للشر والمكروه ومن كان لا يرى الا الخير والجميل ولا يجد الا ما يجرى على وفق ارادته ورضاه فلا سبيل للغم والحزن والخوف وكل ما يسوء الانسان ويؤذيه إليه بل ينال من السرور والابتهاج والامن ما لا يقدره ولا يحيط به الا الله سبحانه وهذا امر ليس في وسع النفوس العادية ان تتعقله وتكتنهه الا بنوع من التصور الناقص. واليه يشير امثال قوله تعالى: " الا ان اولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون " يونس: 63 وقوله: " الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون " الانعام: 82. وهؤلاء هم المقربون الفائزون بقربه تعالى إذ لا يحول بينهم وبين ربهم شئ مما يقع عليه الحس أو يتعلق به الوهم أو تهواه النفس أو يلبسه الشيطان فان كل ما يترائى لهم ليس الا آية كاشفة عن الحق المتعال لا حجابا ساترا فيفيض عليهم ربهم علم اليقين ويكشف لهم عما عنده من الحقائق المستورة عن هذا الاعين المادية العمية بعد ما يرفع الستر فيما بينه وبينهم كما يشير إليه قوله تعالى: " كلا ان كتاب الابرار لفى عليين وما ادراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون " المطففين: 21 وقوله تعالى: " كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم " التكاثر: 6 وقد تقدم كلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: " يا ايها الذين آمنوا عليكم انفسكم " المائدة: 105 في الجزء السادس من الكتاب. وبالجملة هؤلاء في الحقيقة هم المتوكلون على الله المفوضون إليه الراضون بقضائه المسلمون لامره إذ لا يرون الا خيرا ولا يشاهدون الا جميلا فيستقر في نفوسهم من الملكات الشريفة والاخلاق الكريمة ما يلائم هذا التوحيد فهم مخلصون لله في اخلاقهم كما كانوا مخلصين له في اعمالهم هذا معنى اخلاص العبد دينه لله قال تعالى: " هو الحى لا اله هو فادعوه مخلصين له الدين " المؤمن: 65. 4 - واما اخلاصه تعالى عبده له فهو ما يجده العبد في نفسه من الاخلاص له منسوبا
________________________________________
[ 162 ]
إليه تعالى فان العبد لا يملك من نفسه شيئا الا بالله والله سبحانه هو المالك لما ملكه اياه فاخلاصه دينه وان شئت فقل اخلاصه نفسه لله هو اخلاصه تعالى اياه لنفسه. نعم ههنا شئ وهو ان الله سبحانه خلق بعض عباده هؤلاء على استقامة الفطرة واعتدال الخلقة فنشأوا من بادئ الامر بأذهان وقادة وادراكات صحيحة ونفوس طاهرة وقلوب سليمة فنالوا بمجرد صفاء الفطرة وسلامة النفس من نعمة الاخلاص ما ناله غيرهم بالاجتهاد والكسب بل اعلى وارقى لطهارة داخلهم من التلوث بألواث الموانع والمزاحمات والظاهر ان هؤلاء هم المخلصون بالفتح لله في عرف القرآن. وهؤلاء هم الانبياء والائمة وقد نص القرآن بأن الله اجتباهم أي جمعهم لنفسه واخلصهم لحضرته قال تعالى: " واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم " الانعام: 87 وقال: " هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج " الحج: 78. وآتاهم الله سبحانه من العلم ما هو ملكة تعصمهم من اقتراف الذنوب وارتكاب المعاصي وتمتنع معه صدور شئ منها عنهم صغيرة أو كبيرة وبهذا يمتاز العصمة من العدالة فانهما معا تمنعان من صدور المعصية لكن العصمة يمتنع معها الصدور بخلاف العدالة. وقد تقدم آنفا ان من خاصة هؤلاء القوم انهم يعلمون من ربهم ما لا يعلمه غيرهم والله سبحانه يصدق ذلك بقوله: " سبحان الله عما يصفون الا عباد الله المخلصين " الصافات 160 وان المحبة الالهية تبعثهم على ان لا يريدوا الا ما يريده الله وينصرفوا عن المعاصي والله سبحانه يقرر ذلك بما حكاه عن ابليس في غير مورد من كلامه كقوله: " قال فبعزتك لا غوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين " ص 83. ومن الدليل على ان العصمة من قبيل العلم قوله تعالى خطابا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: " ولو لا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم ان يضلوك وما يضلون الا انفسهم وما يضرونك من شئ وانزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما " النساء: 113 وقد فصلنا الكلام في معنى الاية في تفسير سورة النساء. وقوله تعالى حكاية عن يوسف (ع): " قال رب السجن احب الي مما يدعونني إليه والا تصرف عنى كيدهن اصب اليهن واكن من الجاهلين " يوسف: 33 وقد اوضحنا وجه دلالة الاية على ذلك.
________________________________________
[ 163 ]
ويظهر من ذلك اولا ان هذا العلم يخالف سائر العلوم في ان اثره العملي وهو صرف الانسان عما لا ينبغى إلى ما ينبغى قطعي غير متخلف دائما بخلاف سائر العلوم فان الصرف فيها اكثري غير دائم قال تعالى: " وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم " النمل: 14 وقال: " أفرأيت من اتخذ الهه هواه وأضله الله على علم " الجاثية: 23 وقال: " فما اختلفوا الا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم " الجاثية: 17. ويدل على ذلك ايضا قوله تعالى: " سبحان الله عما يصفون الا عباد الله المخلصين " الصافات: 160 وذلك ان هؤلاء المخلصين من الانبياء والائمة (ع) قد بينوا لنا جمل المعارف المتعلقة باسمائه تعالى وصفاته من طريق السمع وقد حصلنا العلم به من طريق البرهان ايضا والاية مع ذلك تنزهه تعالى عن ما نصفه به دون ما يصفه به اولئك المخلصون فليس الا ان العلم غير العلم وان كان متعلق العلمين واحدا من وجه. وثانيا ان هذا العلم اعني ملكة العصمة لا يغير الطبيعة الانسانية المختارة في افعالها الارادية ولا يخرجها إلى ساحة الاجبار والاضطرار كيف ؟ والعلم من مبادئ الاختيار ومجرد قوة العلم لا يوجب الا قوة الارادة كطالب السلامة إذا ايقن بكون مانع ما سما قاتلا من حينه فانه يمتنع باختياره من شربه قطعا وانما يضطر الفاعل ويجبر إذا اخرج من يجبره احد طرفي الفعل والترك من الامكان إلى الامتناع. ويشهد على ذلك قوله: " واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده ولو اشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون " الانعام: 88 تفيد الاية انهم في امكانهم ان يشركوا بالله وان كان الاجتباء والهدى الالهى مانعا من ذلك وقوله: " يا ايها النبي بلغ ما انزل اليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته " المائدة: 67 إلى غير ذلك من الايات. فالانسان المعصوم انما ينصرف عن المعصية بنفسه ومن عن اختياره وارادته ونسبة الصرف إلى عصمته تعالى كنسبة انصراف غير المعصوم عن المعصية إلى توفيقه تعالى. ولا ينافى ذلك ايضا ما يشير إليه كلامه تعالى ويصرح به الاخبار ان ذلك من الانبياء والائمة بتسديد من روح القدس فان النسبة إلى روح القدس كنسبة تسديد المؤمن إلى روح الايمان ونسبة الضلال والغواية إلى الشيطان وتسويله فان شيئا من ذلك لا يخرج الفعل عن كونه فعلا صادرا عن فاعله مستندا إلى اختياره وارادته فافهم ذلك.
________________________________________
[ 164 ]
نعم هناك قوم زعموا ان الله سبحانه انما يصرف الانسان عن المعصية لا من طريق اختياره وارادته بل من طريق منازعة الاسباب ومغالبتها بخلق ارادة أو ارسال ملك يقاوم ارادة الانسان فيمنعها عن التأثير أو يغير مجراها ويحرفها إلى غير ما من طبع الانسان ان يقصده كما يمنع الانسان القوى الضعيف عما يريده من الفعل بحسب طبعه. وبعض هؤلاء وان كانوا من المجبرة لكن الاصل المشترك الذى يبتنى عليه نظرهم هذا واشباهه انهم يرون ان حاجة الاشياء إلى البارئ الحق سبحانه انما هي في حدوثها واما في بقائها بعد ما وجدت فلا حاجة لها إليه فهو سبحانه سبب في عرض الاسباب الا انه لما كان اقدر واقوى من كل شئ كان له ان يتصرف في الاشياء حال البقاء أي تصرف شاء من منع أو اطلاق واحياء أو اماتة ومعافاة أو تمريض وتوسعة أو تقتير إلى غير ذلك بالقهر. فإذا اراد الله سبحانه ان يصرف عبدا عن شر مثلا ارسل إليه ملكا ينازعه في مقتضى طبعه ويغير مجرى ارادته مثلا عن الشر إلى الخير أو اراد ان يضل عبدا لاستحقاقه ذلك سلط عليه ابليس فحوله من الخير إلى الشر وان كان ذلك لا بمقدار يوجب الاجبار والاضطرار. وهذا مدفوع بما نشاهده من انفسنا في اعمال الخير والشر مشاهدة عيان انه ليس هناك سبب آخر يغايرنا وينازعنا فيغلب علينا غير انفسنا التى تعمل اعمالها عن شعور بها وارادة مترتبة عليه قائمين بها فالذي يثبته السمع والعقل وراء نفوسنا من الاسباب كالملك والشيطان سبب طولى لا عرضى وهو ظاهر. مضافا إلى ان المعارف القرآنية من التوحيد وما يرجع إليه يدفع هذا القول من اصله وقد تقدم شطر وافر من ذلك في تضاعيف الابحاث السالفة. (بحث روائي) في المعاني باسناده عن ابى حمزة الثمالى عن السجاد (ع) في حديث تقدم صدره في البحث الروائي السابق.
________________________________________
[ 165 ]
قال (ع): وكان يوسف من اجمل اهل زمانه فلما راهق يوسف راودته امرأة الملك عن نفسه فقال معاذ الله انا اهل بيت لا يزنون فغلقت الابواب عليها وعليه وقالت لا تخف والقت نفسها عليه فافلت منها هاربا إلى الباب ففتحه فلحقته فجذبت قميصه من خلفه فاخرجته منه فأفلت يوسف منها في ثيابه فألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من اراد باهلك سوءا الا ان يسجن أو عذاب اليم. قال فهم الملك بيوسف ليعذبه فقال له يوسف - ما اردت باهلك سوءا - بل هي راودتني عن نفسي - فسل هذا الصبى اينا راود صاحبه عن نفسه ؟ قال كان عندها من اهلها صبى زائر لها - فانطق الله الصبى لفصل القضاء - فقال ايها الملك انظر إلى قميص يوسف فان كان مقدودا من قدامه فهو الذى راودها وان كان مقدودا من خلفه فهى التى راودته. فلما سمع الملك كلام الصبى وما اقتصه - افزعه ذلك فزعا شديدا فجئ بالقميص فنظر إليه فلما رآه مقدودا من خلفه قال لها انه من كيدكن ان كيدكن عظيم وقال ليوسف اعرض عن هذا ولا يسمعه منك احد واكتمه. قال فلم يكتمه يوسف واذاعه في المدينة حتى قلن نسوة منهن امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه فبلغها ذلك فارسلت اليهن وهيات لهن طعاما ومجلسا ثم اتتهن باترنج وآتت كل واحدة منهن سكينا ثم قالت ليوسف اخرج عليهن فلما رأينه اكبرنه وقطعن ايديهن وقلن ما قلن يعنى النساء فقالت لهن هذا الذى لمتننى فيه تعنى في حبه وخرجن النسوة من تحتها - فارسلت كل واحدة منهن إلى يوسف سرا من صاحبتها تسأله الزيارة فأبى عليهن وقال الا تصرف عنى كيدهن اصب اليهن واكن من الجاهلين وصرف الله عنه كيدهن. فلما شاع امر يوسف وامرأة العزيز والنسوة في مصر بدا للملك بعد ما سمع قول الصبى ليسجنن يوسف فسجنه في السجن ودخل السجن مع يوسف فتيان وكان من قصتهما وقصة يوسف ما قصه الله في الكتاب قال أبو حمزة ثم انقطع حديث على بن الحسين (ع). اقول وروى ما في معناه العياشي في تفسيره عن ابى حمزة عنه (ع) باختلاف
________________________________________
[ 166 ]
يسير وقوله (ع) " قال معاذ الله انا اهل بيت لا يزنون " تفسير بقرينة المحاذاة لقوله في الاية " انه ربى احسن مثواى " الخ وهو يؤيد ما قدمناه في بيان الاية ان الضمير إلى الله سبحانه لا إلى عزيز مصر كما ذهب إليه اكثر المفسرين فافهم ذلك. وقوله فأبى عليهن وقال " الا تصرف عنى " الخ ظاهر في انه (ع) لم ياخذ قوله رب السجن احب إلى مما يدعونني إليه جزءا من الدعاء فيوافق ما قدمناه في بيان الاية انه ليس بدعاء. وفي العيون باسناده عن حمدان عن على بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا على بن موسى فقال له المأمون يا ابن رسول الله - ا ليس من قولك: ان الانبياء معصومون قال بلى وذكر الحديث إلى ان قال فيه: (قال ظ) فاخبرني عن قول الله تعالى: " ولقد همت به وهم بها لو لا ان رأى برهان ربه " فقال الرضا (ع) لقد همت به ولو لا ان راى برهان ربه لهم بها لكنه كان معصوما والمعصوم لا يهم بذنب ولا ياتيه. ولقد حدثنى ابى عن ابيه الصادق (ع) انه قال همت بان تفعل وهم بان لا يفعل فقال المأمون لله درك يا ابا الحسن. اقول: تقدم ان ابن الجهم هذا لا يخلو عن شئ لكن صدر الحديث اعني جواب الرضا (ع) يوافق ما قدمناه في بيان الاية واما ما نقله عن جده الصادق (ع) انها همت بان تفعل وهم بان لا يفعل فلعل المراد به ما ذكره الرضا (ع) من الجواب لقبوله الانطباق عليه ولعل المراد به همه بقتلها كما يؤيده الحديث الاتى فينطبق على بعض الاحتمالات المتقدمة في بيان الاية. وفيه باسناده عن ابى الصلت الهروي قال: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (ع) اهل المقالات من اهل الاسلام ومن الديانات من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وسائر اهل المقالات فلم يقم احد الا وقد الزمه حجته كأنه القم حجرا. قام إليه على بن محمد بن الجهم فقال يا ابن رسول الله أ تقول بعصمة الانبياء ؟ فقال نعم فقال له فما تقول في قوله عزوجل في يوسف " ولقد همت به وهم بها " ؟ فقال له اما قوله تعالى في يوسف " ولقد همت به وهم بها " فانها همت بالمعصية وهم يوسف
________________________________________
[ 167 ]
بقتلها ان اجبرته لعظيم ما تداخله فصرف الله عنه قتلها والفاحشة وهو قوله عزوجل " كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء " والسوء القتل والفحشاء الزنا. وفي الدر المنثور اخرج أبو نعيم في الحلية عن على بن ابى طالب في قوله: " ولقد همت به وهم بها " قال طمعت فيه وطمع فيها وكان من الطمع ان هم بحل التكة فقامت إلى صنم مكلل بالدر والياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب ابيض بينها وبينه فقال أي شئ تصنعين ؟ فقالت استحيى من الهى ان يرانى على هذه الصورة فقال يوسف (ع) تستحين من صنم لا ياكل ولا يشرب ولا استحيى انا من الهى الذى هو قائم على كل نفس بما كسبت ؟ ثم قال لا تنالينها منى ابدا وهو البرهان الذى راى. اقول والرواية من الموضوعات كيف ؟ وكلامه وكلام سائر ائمة اهل البيت (ع) مشحون بذكر عصمة الانبياء ومذهبهم في ذلك مشهور. على ان سترها الصنم وانتقاله من ذلك إلى ما ذكره لها من الحجة لا يعد من رؤية البرهان وقد ورد هذا المعنى في عدة روايات من طرق اهل البيت (ع) لكنها آحاد لا تعويل عليها نعم لا يبعدان تقوم المراة إلى ستر صنم كان هناك فتنزع نفس يوسف (ع) إلى مشاهدة آية التوحيد عند ذلك فيرتفع الحجاب بينه وبين ساحة الكبرياء فيرى ما يصرفه عن كل سوء وفحشاء كما كان له ذلك من قبل وقد قال تعالى في حقه: انه من عبادنا المخلصين فان صح شئ من هذه الروايات فليكن هذا معناه. وفيه اخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال ": عثر يوسف (ع) ثلاث عثرات حين هم بها فسجن وحين قال اذكرني عند ربك فلبث في السجن بضع سنين فأنساه الشيطان ذكر ربه وحين قال انكم لسارقون قالوا ان يسرق فقد سرق اخ له من قبل. اقول والرواية تخالف صريح كلامه تعالى حيث يذكر ان الله اجتباه واخلصه لنفسه وان الشيطان لا سبيل له إلى من اخلصه الله لنفسه وكيف يستقيم لمن هم على افحش معصية وانساه الشيطان ذكر ربه ثم كذب في مقاله فعاقبه الله بالسجن ثم بلبثه فيه بضع سنين وجبه بالسرقة ان يعده الله صديقا من عباده المخلصين والمحسنين ويذكر انه آتاه الحكم والعلم واجتباه واتم عليه نعمته وعلى هذا السبيل روايات جمة رواها في الدر
________________________________________
[ 168 ]
المنثور وقد تقدم نقل شطر منها عند بيان الايات ولا تعويل على شئ منها. وفيه اخرج احمد وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: تكلم اربعة وهم صغار ابن ماشطه بنت فرعون وشاهد يوسف وصاحب جريح وعيسى بن مريم. وفي تفسير القمى قال وفي رواية ابى الجارود عن ابى جعفر (ع): في قوله " قد شغفها حبا " يقول قد حجبها حبه عن الناس فلا تعقل غيره والحجاب هو الشغاف والشغاف هو حجاب القلب. وفيه في حديث جمعها النسوة وتقطيعهن ايديهن قال ": فما امسى يوسف (ع) في ذلك اليوم - حتى بعثت إليه كل امرأه رأته تدعوه إلى نفسها فضجر يوسف في ذلك اليوم فقال رب السجن احب إلى مما يدعونني إليه والا تصرف عنى كيدهن اصب اليهن واكن من الجاهلين فاستجاب له ربه - فصرف عنه كيدهن الحديث. * * * ثم بدا لهم من بعد ما راوا الايات ليسجننه حتى حين - 35. ودخل معه السجن فتيان قال احدهما انى ارانى اعصر خمرا وقال الاخر انى ارانى احمل فوق راسى خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله انا نراك من المحسنين - 36. قال لا ياتيكما طعام ترزقانه الا نبأتكما بتأويله قبل ان ياتيكما ذلكما مما علمني ربى انى تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالاخرة هم كافرون - 37. واتبعت ملة آبائى ابراهيم واسحق ويعقوب مكان لنا ان نشرك بالله من شئ ذلك من فضل الله علينا
________________________________________
[ 169 ]
وعلى الناس ولكن اكثر الناس لا يشكرون - 38. يا صاحبي السجن ء أرباب متفرقون خير ام الله الواحد القهار - 39. ما تعبدون من دونه الا اسماء سميتموها انتم وآباؤكم ما انزل الله بها من سلطان ان الحكم الا لله امر الا تعبدوا الا اياه ذلك الدين القيم ولكن اكثر الناس لا يعلمون - 40. يا صاحبي السجن اما احدكما فيسقي ربه خمرا واما الاخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الامر الذى فيه تستفتيان - 41. وقال للذى ظن انه ناج منهما اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين - 42. (بيان) تتضمن الايات شطرا من قصته (ع) وهو دخوله السجن ومكثه فيه بضع سنين وهو مقدمة تقربه التام عند الملك ونيله عزة مصر وفيه دعوته في السجن إلى دين التوحيد وقد جاء ببيان عجيب واظهاره لاول مرة انه من اسرة ابراهيم واسحاق ويعقوب. قوله تعالى: " ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الايات ليسجننه حتى حين " البداء هو ظهور رأى بعد ما لم يكن يقال ؟ بدا لى في امر كذا اي ظهر لى فيه راى جديد والضمير في قوله لهم إلى العزيز وامراته ومن يتلوهما من اهل الاختصاص واعوان الملك والعزة. والمراد بالايات الشواهد والادلة الدالة على براءة يوسف (ع) وطهارة ذيله مما
________________________________________
[ 170 ]
اتهموه به كشهادة الصبى وقد القميص من خلفه واستباقهما الباب معا ولعل منها تقطيع النسوة ايديهن برؤيته واستعصامه عن مراودتهن اياه عن نفسه واعتراف امراة العزيز لهن انها راودته عن نفسه فاستعصم. وقوله ليسجننه اللام فيه للقسم أي اقسموا وعزموا ليسجننه البتة وهو تفسير للرأى الذى بدا لهم ويتعلق به قوله حتى حين ولا يخلو من معنى الانتظار بالنظر إلى قطع حين عن الاضافة والمعنى على هذا ليسجننه حتى ينقطع حديث المراودة الشائع في المدينة وينساه الناس. ومعنى الاية ثم ظهر للعزيز ومن يتلوه من امرأته وسائر مشاوريه رأي جديد في يوسف من بعد ما راوا هذه الايات الدالة على براءته وعصمته وهو ان يسجنوه حينا من الزمان حتى ينسى حديث المراودة الذى يجلب لهم العار والشين واقسموا على ذلك. ويظهر بذلك انهم انما عزموا على ذلك لمصلحة بيت العزيز وصونا لاسرته عن هوان التهمة والعار ولعل من غرضهم ان يتحفظوا على امن المدينة العام ولا يخلوا الناس وخاصة النساء ان يفتتنوا به فان هذا الحسن الذى أو له امراة العزيز والسيدات من شرفاء المدينة وفعل بهم ما فعل من طبعه ان لا يلبث دون ان يقيم في المدينة بلوى. لكن الذى يظهر من قوله في السجن لرسول الملك " ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتى قطعن ايديهن " إلى آخر ما قال ثم قول الملك لهن ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه وقولهن حاش لله ما علمنا عليه من سوء ثم قول امرأة العزيز الآن حصحص الحق انا راودته عن نفسه وانه لمن الصادقين كل ذلك يدل على ان المراة البست الامر بعد على زوجها وارابته في براءة يوسف (ع) فاعتقد خلاف ما دلت عليه الايات أو شك في ذلك ولم يكن ذلك الا عن سلطة تامة منها عليه وتمكن كامل من قلبه ورأيه. وعلى هذا فقد كان سجنه بتوسل أو بامر منها لتدفع بذلك تهمة الناس عن نفسها وتؤدب يوسف لعله ينقاد لها ويرجع إلى طاعتها فيما كانت تأمره به كما هددته به بمحضر من النسوة بقولها " ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين ". قوله تعالى: " ودخل معه السجن فتيان " إلى آخر الاية الفتى العبد وسياق الايات
________________________________________
[ 171 ]
يدل على انهما كانا عبدين من عبيد الملك وقد وردت به الروايات كما سيأتي ان شاء الله تعالى. وقوله: " قال احدهما انى ارانى اعصر خمرا " فصل قوله قال احدهما للدلالة على الفصل بين حكاية الرؤيا وبين الدخول كما يشعر به ما في السياق من قوله ارانى وخطابه له بصاحب السجن. وقوله ارانى لحكاية الحال الماضية كما قيل وقوله اعصر خمرا أي اعصر عنبا كما يعصر ليتخذ خمرا فقد سمى العنب خمرا باعتبار ما يؤول إليه. والمعنى اصبح احدهما وقال ليوسف (ع) انى رايت فيما يرى النائم انى اعصر عنبا للخمر. وقوله " وقال الاخر انى ارانى احمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه " أي تنهشه وهى رؤيا اخرى ذكرها صاحبه وقوله " نبئنا بتأويله انا نراك من المحسنين " أي قالا نبئنا بتأويله فاكتفى عن ذكر الفعل بقوله قال وقال وهذا من لطائف تفنن القرآن والضمير في قوله بتأويله راجع إلى ما يراه المدلول عليه بالسياق وفي قوله " انا نراك من المحسنين " تعليل لسؤالهما التأويل ونراك أي نعتقدك من المحسنين لما نشاهد فيك من سيماهم وانما اقبلا عليه في تأويل رؤياهما لاحسانه لما يعتقد عامة الناس ان المحسنين الابرار ذووا قلوب طاهرة ونفوس زاكية فهم ينتقلون إلى روابط الامور وجريان الحوادث انتقالا احسن واقرب إلى الرشد من انتقال غيرهم. والمعنى قال احدهما ليوسف انى رايت فيما يرى النائم كذا وقال الاخر انى رايت كذا وقالا له اخبرنا بتأويل ما رآه كل منا لانا نعتقد انك من المحسنين ولا يخفى لهم امثال هذه الامور الخفية لزكاء نفوسهم وصفاء قلوبهم. قوله تعالى: " قال لا يأتيكما طعام ترزقانه الا نبأتكما بتأويله قبل ان ياتيكما " لما اقبل صاحبا السجن على يوسف (ع) في سؤاله عن تأويل رؤيا رأياها عن حسن ظن به من جهة ما كانا يشاهدان منه سيماء المحسنين اغتنم (ع) الفرصة في بث ما عنده من اسرار التوحيد والدعوة إلى ربه سبحانه الذى علمه ذلك فاخبرهما انه عليم بذلك بتعليم
________________________________________
[ 172 ]
من ربه خبير بتأويل الاحاديث وتوسل بذلك إلى الكشف عن سر التوحيد ونفى الشركاء ثم اول رؤياهما. فقال اولا لا ياتيكما طعام ترزقانه وانتما في السجن الانبأتكما بتأويله اي بتأويل ذاكما الطعام وحقيقته وما يؤول إليه امره فانا خبير بذلك فليكن آية لصدقي فيما ادعوكما إليه من دين التوحيد. هذا على تقدير عود الضمير في قوله بتأويله إلى الطعام ويكون عليه اظهارا منه (ع) لاية نبوته نظير قول المسيح (ع) لبنى اسرائيل " وانبؤكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ان في ذلك لاية لكم ان كنتم مؤمنين " آل عمران: 49 ويؤيد هذا المعنى بعض الروايات الواردة من طرق اهل البيت (ع) كما سيأتي في بحث روائي ان شاء الله تعالى. واما على تقدير عود ضمير بتأويله إلى ما رأياه من الرؤيا فقوله لا يأتيكما طعام الخ وعد منه لهما تأويل رؤياهما ووعد بتسريعه غير ان هذا المعنى لا يخلو من بعد بالنظر الى السياق. قوله تعالى: " ذلكما مما علمني ربى انى تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالاخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائى ابراهيم واسحاق ويعقوب " بين (ع) ان العلم والتنبؤ بتأويل الاحاديث ليس من العلم العادى الاكتسابى في شئ بل هو مما علمه اياه ربه ثم علل ذلك بتركه ملة المشركين واتباعه ملة آبائه ابراهيم اسحاق ويعقوب أي رفضه دين الشرك واخذه بدين التوحيد. والمشركون من اهل الاوثان يعتقدون بالله سبحانه ويثبتون يوم الجزاء بالقول بالتناسخ كما تقدم في الجزء السابق من الكتاب لكن دين التوحيد يحكم ان الذى يقدر له شركاء في التأثير أو في استحقاق العبادة ليس هو الله وكذا عود النفوس بعد الموت بأبدان اخرى تتنعم فيها أو تعذب ليس من المعاد في شئ ولذلك نفى (ع) عنهم الايمان بالله وبالاخرة واكد كفرهم بالاخرة بتكرار الضمير حيث قال وهم بالاخرة هم كافرون وذلك لان من لا يؤمن بالله فأحرى به ان لا يؤمن برجوع العباد إليه. وهذا الذى يقصه الله سبحانه من قول يوسف (ع) واتبعت ملة آبائى ابراهيم
________________________________________
[ 173 ]
واسحاق ويعقوب هو اول ما انبأ في مصر نسبه وانه من اهل بيت ابراهيم واسحاق ويعقوب (ع). قوله تعالى: " ما كان لنا ان نشرك بالله من شئ ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن اكثر الناس لا يشكرون " أي لم يجعل الله سبحانه لنا اهل البيت سبيلا إلى ان نشرك به شيئا ومنعنا من ذلك ذلك المنع من فضل الله ونعمته علينا اهل البيت وعلى الناس ولكن اكثر الناس لا يشكرون فضله تعالى بل يكفرون به. واما انه تعالى جعلهم بحيث لا سبيل لهم إلى ان يشركوا به فليس جعل اجبار والجاء بل جعل تأييد وتسديد حيث أنعم عليهم بالنبوة والرسالة والله اعلم حيث يجعل الرسالة فاعتصموا بالله عن الشرك ودانوا بالتوحيد. واما ان ذلك من فضل الله عليهم وعلى الناس فلانهم ايدوا بالحق وهو افضل الفضل والناس في وسعهم ان يرجعوا إليهم فيفوزوا باتباعهم ويهتدوا بهداهم. واما ان اكثر الناس لا يشكرون فلانهم يكفرون بهذه النعمة وهى النبوة والرسالة فلا يعبؤون بها ولا يتبعون اهلها أو لانهم يكفرون بنعمة التوحيد ويتخذون لله سبحانه شركاء من الملائكة والجن والانس يعبدونهم من دون الله. هذا ما ذكره اكثر المفسرين في معنى الاية. ويبقى عليه شئ وهو ان التوحيد ونفى الشركاء ليس مما يرجع فيه إلى بيان النبوة فأنه مما يستقل به العقل وتقضى به الفطرة فلا معنى لعده فضلا على الناس من جهة الاتباع بل هم والانبياء في امر التوحيد على مستوى واحد وشرع سواء ولو كفروا بالتوحيد فانما كفروا لعدم اجابتهم لنداء الفطرة لا لعدم اتباع الانبياء. لكن يجب ان يعلم انه كما ان من الواجب في عناية الله سبحانه ان يجهز نوع الانسان مضافا إلى الهامه من طريق العقل الخير والشر والتقوى والفجور بما يدرك به احكام دينه وقوانين شرعه وهو سبيل النبوة والوحى وقد تكرر توضيحه في ابحاثنا السابقة كذلك من الواجب في عنايته ان يجهز افرادا منه بنفوس طاهرة وقلوب سليمة مستقيمة على فطرتها الاصلية لازمة لتوحيده ممتنعة عن الشرك به يستبقي به اصل التوحيد عصرا بعد
________________________________________
[ 174 ]
عصر ويحيى به روح السعادة جيلا بعد جيل والبرهان عليه هو البرهان على النبوة والوحى فان الواحد من الانسان العادى لا يمتنع عليه الشرك ونسيان التوحيد والجائز على الواحد جائز على الجميع وفي تلبس الجميع بالشرك فساد النوع في غايته وبطلان الغرض الالهى في خلقته. فمن الواجب ان يكون في النوع رجال متلبسون باخلاص التوحيد يقومون بأمره ويدافعون عنه وينبهون الناس عن رقدة الغفلة والجهالة بالقاء حججه وبث شواهده وآياته وبينهم وبين الناس رابطة التعليم والتعلم دون السوق والاتباع. وهذه النفوس ان كانت فهى نفوس الانبياء والائمة (ع) وفى خلقهم وبعثهم فضل من الله سبحانه عليهم بتعليم توحيده لهم وعلى الناس بنصب من يذكرهم الحق الذى تقضى به فطرتهم ويدافع عن الحق تجاه غفلتهم وضلالتهم فان اشتغال الناس بالاعمال المادية ومزاولتهم للامور الحسية تجذبهم إلى اللذات الدنيوية وتحرضهم على الاخلاد إلى الارض فتبعدهم عن المعنويات وتنسيهم ما في فطرهم من المعارف الالهية ولو لا رجال متألهون متولهون في الله الذين اخلصهم بخالصة ذكرى الدار في كل برهة من الزمان لا حيطت الارض بالعماء وانقطع السبب الموصول بين الارض والسماء وبطلت غاية الخلقة وساخت الارض باهلها. ومن هنا يظهر ان الحق ان تنزل الاية على هذه الحقيقة فيكون معنى الاية لم يجعل لنا بتأييد من الله سبيل إلى ان نشرك بالله شيئا ذلك أي كوننا في امن من الشرك من فضل الله علينا لانه الهدى الذى هو سعادة الانسان وفوزه العظيم وعلى الناس لان في ذلك تذكيرهم إذا نسوا وتنبيههم إذا غفلوا وتعليمهم إذا جهلوا وتقويمهم إذا عوجوا ولكن اكثر الناس لا يشكرون الله بل يكفرون بهذا الفضل فلا يعبؤون به ولا يقبلون عليه بل يعرضون عنه هذا. وذكر بعضهم في معنى الاية ان المشار إليه بقوله ذلك من فضل الله علينا الخ هو العلم بتأويل الاحاديث وهو كما ترى بعيد من سياق الاية قوله تعالى: " يا صاحبي السجن ءأرباب متفرقون خيرام الله الواحد القهار لفظة الخير بحسب الوزن صفة من قولهم خار يخار خيره إذا انتخب واختار احد شيئين يتردد
________________________________________
[ 175 ]
بينهما من حيث الفعل أو من حيث الاخذ بوجه فالخير منهما هو الذى يفضل على الاخر في صفة المطلوبية فيتعين الاخذ به فخير الفعلين هو المطلوب منهما الذى يتعين القيام به وخير الشيئين هو المطلوب منهما من جهة الاخذ به كخير المالين من جهة التمتع به وخير الدارين من جهة سكناها وخير الانسانين من جهة مصاحبته وخير الرأيين من جهة الاخذ به وخير الالهين من جهة عبادته ومن هنا ذكر اهل الادب ان الخير في الاصل اخير افعل تفضيل والحقيقة انه صفة مشبهة تفيد بحسب المادة ما يفيده افعل التفضيل من الفضل في القياس. وبما مر يتبين ان قوله (ع) ءأرباب متفرقون خيرام الله الواحد القهار الخ مسوق لبيان الحجة على تعينه تعالى للعبادة إذا فرض تردد الامر بينه وبين سائر الارباب التى تدعى من دون الله لا لبيان انه تعالى هو الحق الموجود دون غيره من الارباب أو انه تعالى هو الا له الذى تنتهى إليه الاشياء بدءا وعودا دونها أو غير ذلك فان الشئ انما يسمى خيرا من جهة طلبه وتعيينه بالاخذ به بنحو فقوله (ع) أهو خيرام سائر الارباب يريد به السؤال عن تعين احد الطرفين من جهة الاخذ به والاخذ بالرب هو عبادته. ثم انه (ع) سمى آلهتهم اربابا متفرقين لانهم كانوا يعبدون الملائكة وهم عندهم صفات الله سبحانه أو تعينات ذاته المقدسة التى تستند إليها جهات الخير والسعادة في العالم فيفرقون بين الصفات بتنظيمها طولا وعرضا ويعبدون كلا بما يخصه من الشأن فهناك إله العلم واله القدرة واله السماء واله الارض واله الحسن واله الحب واله الا من والخصب وغير ذلك ويعبدون الجن وهم مبادئ الشر في العالم كالموت والفناء والفقر والقبح والا لم والغم وغير ذلك ويعبدون افرادا كالكملين من الاولياء والجبابرة من السلاطين والملوك وغيرهم وهم جميعا متفرقون من حيث اعيانهم ومن حيث اصنامهم والتماثيل المتخذة لهم المنصوبة للتوجه بها إليهم. وقابل الارباب المتفرقين بذكر الله عز اسمه ووصفه بالواحد القهار حيث قال ام الله الواحد القهار فالكلمة تفيد بحسب المعنى خلاف ما يفيده قوله " ءأرباب متفرقون لضرورة التقابل بين طرفي الترديد. فالله علم بالغلبة يراد به الذات المقدسة الالهية التى هي حقيقة لا سبيل للبطلان إليه


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page