• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 326الي 350


[ 326 ]
* * * أفغير الله أبتغى حكما وهو الذى أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين - 114. وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم - 115. وإن تطع أكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون - 116. إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين - 117. فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم باياته مؤمنين - 118. وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين - 119. وذروا ظاهر الاثم وباطنه إن الذين يكسبون الاثم سيجزون بما كانوا يقترفون - 120. ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون - 121.
________________________________________
[ 327 ]
(بيان) الايات على ما لها من الاتصال بما قبلها كما يدل عليه التفريع بالفاء في قوله: أفغير الله أبتغى حكما) الخ، لها فيما بينها أنفسها - وهى ثمان آيات - إتصال يرتبط به بعضها ببعض ويرجع بعضها إلى بعض فإن فيها إنكار أن يتخذ حكم إلا الله وقد فصل أحكامه في كتابه، ونهيا من اتباع الناس وإطاعتهم وأن إطاعة أكثر الناس من المضلات لاتباعهم الظن وبنائهم على الخرص والتخمين، وفي آخرها أن المشركين وهم أولياء الشياطين يجادلون المؤمنين في أمر أكل الميتة، وفيها الامر بأكل ما ذكر اسم الله عليه والنهى عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، وأن ذلك هو الذى فصله في كتابه وارتضاه لعباده. وهذا كله يؤيد ما نقل عن ابن عباس: أن المشركين خاصموا النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في أمر الميتة قائلين: أتاكلون مما قتلتم أنتم ولا تأكلون مما قتله الله ؟ فنزلت، فالغرض من هذه الايات بيان الفرق وتثبيت الحكم. قوله تعالى: (أفغير الله أبتغى حكما وهو الذى أنزل إليكم الكتاب مفصلا) قال في المجمع: الحكم والحاكم بمعنى واحد إلا أن الحكم أمدح لان معناه من يستحق أن يتحاكم إليه فهو لا يقضى إلا بالحق وقد يحكم الحاكم بغير حق. قال: ومعنى التفصيل تبيين المعاني بما ينفى التخليط المعمى للمعنى، وينفى أيضا التداخل الذى يوجب نقصان البيان عن المراد، انتهى. وفي قوله: (أفغير الله أبتغى حكما) تفريع على ما تقدم من البصائر التى جاءت من قبله تعالى، وقد ذكر قبل ذلك في القرآن أنه كتاب أنزله مبارك مصدق الذى بين يديه من التوراة والانجيل، والمعنى: أفغير الله من سائر من تدعون من الالهة أو من ينتمى إليهم أطلب حكما يتبع حكمه وهو الذى أنزل عليكم هذا الكتاب وهو القرآن مفصلا متميزا بعض معارفه من بعض غير مختلط بعض أحكامه ببعض، ولا يستحق الحكم إلا من هو على هذه الصفة فالاية كقوله تعالى: (والله يقضى بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشئ إن الله هو السميع البصير) (المؤمن: 20). وقوله: (أفمن يهدى إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدى إلا أن يهدى) (يونس: 35).
________________________________________
[ 328 ]
قوله تعالى: (والذين آتيناهم الكتاب يعلمون إلى آخر الاية رجوع إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما يتأكد به يقينه ويزيد في ثبوت قدمه فيما ألقاه إلى المشركين من الخطاب المشعر بأن الكتاب النازل إليه منزل من ربه بالحق ففى الكلام التفات، وهو بمنزلة المعترضة ليزيد بذلك رسوخ قدمه واطمئنان قلبه وليعلم المشركون أنه على بصيرة من أمره. وقوله: (بالحق) متعلق بقوله: (منزل من ربك) وكون التنزيل بالحق هو أن لا يكون بتنزيل الشياطين بالتسويل أو بطريق الكهانة كما في قوله تعالى: (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين، تنزل على كل أفاك أثيم) (الشعراء: 222) أو بتخليط الشياطين بعض الباطل بالوحى الالهى، وقد أمن الله رسول من ذلك بمثل قوله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم (الجن: 28). قوله تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) الكلمة - وهى ما دل على معنى تام أو غيره - ربما استعملت في القرآن في القول الحق الذى قاله الله عز من قائل من القضاء أو الوعد كما في قوله: (ولو لا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم) (يونس: 19) يشير إلى قوله لادم عند الهبوط: (ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين) (البقرة: 36) وقوله تعالى: (حقت عليهم كلمة ربك) (يونس: 96) يشير إلى قوله تعالى لابليس: (لاملان جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) (ص: 85) وقد فسرها في موضع آخر بقوله: (وتمت كلمة ربك لاملان جهنم من الجنة والناس أجمعين) (هود: 119) وكقوله تعالى: (وتمت كلمة ربك الحسنى) وعلى بنى إسرائيل بما صبروا (الاعراف: 137) يشير إلى ما وعدهم إنه سينجيهم من فرعون ويورثهم الارض كما يشير إليه قوله: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) (القصص: 5). وربما استعملت الكلمة في العين الخارجي كالانسان مثلا كقوله تعالى: (إن الله يبشرك بكلمة منه إسمه المسيح عيسى بن مريم) (آل عمران: 45) والعناية فيه إنه عليه السلام خرق عادة التدريج وخلق بكلمة إلهية موجدة قال تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) (آل عمران: 59). فظاهر سياق الايات فيما نحن فيه يعطى أن يكون المراد بقوله: (وتمت كلمة
________________________________________
[ 329 ]
ربك صدقا وعدلا) كلمة الدعوة الاسلامية وما يلازمها من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن المهيمن على ما تقدم عليه من الكتب السماوية المشتمل على جوامع المعارف الالهية وكليات الشرائع الدينية كما أشار إليه فيما حكى من دعاء إبراهيم عليه السلام عند بناء الكعبة: (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم) (البقرة: 129). وأشار إلى تقدم ذكره في الكتب السماوية في قوله: (الذين يتبعون الرسول النبي الامي الذى يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل (الاعراف: 157) وبذلك يشعر قوله في الاية السابقة: (والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق) وقوله: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم) (البقرة: 146) إلى غير ذلك من الايات الكثيرة. فالمراد بتمام الكلمة - والله أعلم - بلوغ هذه الكلمة أعنى ظهور الدعوة الاسلامية بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول الكتاب المهيمن على جميع الكتب، مرتبة الثبوت واستقرارها في مستقر التحقق بعد ما كانت تسير دهرا طويلا في مدارج التدريج بنبوة بعد نبوة وشريعة بعد شريعة فإن الايات الكريمة دالة على أن الشريعة الاسلامية تتضمن جمل ما تقدمت عليه من الشرائع وتزيد عليها بما ليس فيها كقوله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى) (الشورى: 13). وبذلك يظهر معنى تمام الكلمة وأن المراد به انتهاء تدرج الشرائع من مراحل النقص إلى مرحلة الكمال ومصداقه الدين المحمدى قال تعالى: (والله متم نوره ولو كره الكافرون، هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (الصف: 9). وتمام هذه الكلمة الالهية صدقا هو أن يصدق القول بتحققها في الخارج بالصفة التى بين بها، وعدلا أن تتصف بالتقسيط على سواء فلا يتخلف بعض أجزائه عن بعض وتزن الاشياء على النحو الذى من شأنها أن توزن به من غير إخسار أو حيف وظلم، ولذلك بين هذين القيدين أعنى (صدقا وعدلا) بقوله (لا مبدل لكلماته) فإن الكلمة الالهية إذا لم تقبل تبديلا من مبدل سواء كان المبدل هو نفسه تعالى كأن ينقض ما قضى بتبدل
________________________________________
[ 330 ]
إرادة أو يخلف ميعاده، أو كان المبدل غيره تعالى كأن يعجزه غيره ويقهره على خلاف ما يريد كانت كلمته صدقا، تقع كما قال، وعدلا لا تنحرف عن حالها التى كانت عليها وصفها الذى وصفت به فالجملة أعنى قوله: (لا مبدل لكلماته) بمنزلة التعليل يعلل بها قوله: (صدقا وعدلا). ومن أقوال المفسرين في الاية أن المراد بالكلمة والكلمات القرآن وقيل: إن المراد بالكلمة القرآن، وبالكلمات ما فيه غير الشرائع فإنها تقبل التبديل بالنسخ والله سبحانه يقول: (لا مبدل لكلماته وقيل: المراد بالكلمة الدين، وقيل: المراد الحجة، وقيل: الصدق ما كان في القرآن من الاخبار والعدل ما فيه من الاحكام، هذا. وقوله تعالى: (وهو السميع العليم) أي السميع المستجيب لما تدعونه بلسان حاجتكم، العليم بحقيقة ما عندكم من الحاجة، أو السميع بما يحدث في ملكه بواسطة الملائكة الرسل، والعليم بذلك من غير واسطة، أو السميع لاقوالكم، العليم بأفعالكم. قوله تعالى: (وإن تطع أكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله) إلى آخر الاية. الخرص الكذب والتخمين، والمعنى الثاني هو الانسب بسياق الاية فإن الجملة أعنى قوله: (وإن هم إلا يخرصون) والتى قبلها أعنى قوله: (إن يتبعون إلا الظن) واقعتان موقع التعليل لقوله: (وإن تطع أكثر من في الارض الخ، واتباع الظن والقول بالخرص والتخمين سببان بالطبع للضلال في الامور التى يسوغ الاعتماد فيها إلا على العلم واليقين كالمعارف الراجعة إليه تعالى والشرائع المأخوذة من قبله. وسير الانسان وسلوكه الحيوى في الدنيا وإن كان لا يتم دون الركون إلى الظن والاستمداد من التخمين حتى أن الباحث عن علوم الانسان الاعتبارية والعلل والاسباب التى تدعوه إلى صوغه لها وتقليبها في قالب الاعتبار، وارتباطها بشؤونه الحيوية وأعماله وأحواله لا يكاد يجد مصداقا يركن الانسان فيه إلى العلم الخالص واليقين المحض اللهم إلا بعض الكليات النظرية التى ينتهى إليها مما يضطر إلى الاذعان بها والاعتماد عليها. إلا أن ذلك كله فيما يقبل التقريب والتخمين من جزئيات الامور في الحياة، وأما السعادة الانسانية التى فيه فوز هذا النوع وفلاحه، والشقاء الذى يرتبط به الهلاك الابدي والخسران الدائم، وما يتوقف عليه التبصر فيهما من النظر في العالم وصانعه
________________________________________
[ 331 ]
والغرض من إيجاده وما ينتهى إليه الامر من البعث والنشور وما يتعلق به من النبوة والكتاب والحكم فإن ذلك كله مما لا يقبل الركون إلى الظن والتخمين والله سبحانه لا يرتضى من عباده في ذلك إلا العلم واليقين، والايات في ذلك كثيرة جدا كقوله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم) (الاسراء: 36). ومن أوضحها دلالة هذه الاية التى نحن فيها يبين فيها أن أكثر أهل الارض لركونهم العام إلى الظن والتخمين لا يجوز طاعتهم فيما يدعون إليه ويأمرون به في سبيل الله وطريق عبوديته لان الظن ليس مما يكشف به الحق الذى يستراح إليه في أمر الربوبية والعبودية لملازمته الجهل بالواقع وعدم الاطمئنان إليه، ولا عبودية مع الجهل بالرب وما يريده من عبده. فهذا هو الذى يقضى به العقل الصريح، وقد إمضاه الله سبحانه كما في قوله في الاية التالية في معنى تعليل النهى عن الطاعة: (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) حيث علل الحكم بعلم الله دون حكم العقل، وقد جمع سبحانه بين الطريقين جميعا في قوله: (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن و إن الظن لا يغنى من الحق شيئا وهذا أخذ بحكم العقل - فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى) (النجم: 30) وفي ذيل الاية استناد إلى علم الله سبحانه وحكمه. قوله تعالى: (إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) ذكروا أن (أعلم) إذا لم يتم بمن ربما أفاد معنى التفضيل وربما استعمل بمعنى الصفة خالية عن التفضيل، والاية تحتمل المعنيين جميعا فإن أريد حقيقة العلم بالضالين والمهتدين فهو لله سبحانه لا يشاركه فيها أحد حتى يفضل عليه، وإن اريد مطلق العلم أعم مما كان المتصف به متصفا بذاته أو كان التصافه به بعطية منه تعالى كان المتعين هو معنى التفضيل فإن لغيره تعالى علما بالضال والمهتدى قدر ما أفاضه الله عليه من العلم. وتعدى أعلم بالباء في قوله: (أعلم بالمهتدين) يدل على أن قوله: (من يضل) منصوب بنزع الخافض والتقدير: (أعلم بمن يضل) ويؤيده ما نقلناه آنفا من آية سورة النجم.
________________________________________
[ 332 ]
قوله تعالى: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين) لما تمهد ما قدمه من البيان الذى هو حجه على أن الله سبحانه هو أحق بأن يطاع من غيره استنتج منه وجوب الاخذ بالحكم الذى شرعه وهو الذى يدل عليه هذه الاية، ووجوب رفض ما يبيحه غيره بهواه من غير علم ويجادل المؤمنين فيه بوحى الشياطين إليه، وهو الذى يدل عليه قوله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه إلى آخر الاية. ومن هنا يظهر أن العناية الاصلية متعلقة بجملتين من بين الجمل المتسقة في الاية إلى تمام أربع آيات، وسائر الجمل مقصودة بتبعها يبين بها ما يتوقف عليه المطلوب بجهاته فأصل الكلام: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه أي فرقوا بين المذكى والميتة فكلوا من هذه ولا تأكلوا من ذاك، وإن كان المشركون يجادلونكم في أمر التفريق. فقوله: (فكلوا مما ذكر اسم الله) تفريع للحكم على البيان السابق، ولذاأردفه بقوله: (إن كنتم بآياته مؤمنين) والمراد بما ذكر اسم الله عليه الذبيحة المذكاة. قوله تعالى: (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه) إلى آخر الاية، بيان تفصيلي لاجمال التفريع الذى في الاية السابقة، والمعنى: أن الله فصل لكم ما حرم عليكم واستثنى صورة الاضطرار وليس فيما فصل لكم ما ذكر اسم الله عليه فلا بأس بأكله وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين المتجاوزين عن حدوده وهؤلاء هم المشركون القائلون: لا فرق بين ما قتلتموه أنتم وما قتله الله فكلوا الجميع أو دعوا الجميع. ويظهر بما مر أن معنى قوله: (وما لكم أن لا تأكلوا) ما لكم من نفع في أن لا تأكلوا، وما للاستفهام التعجيبى، وقيل: المعنى ليس لكم أن لا تأكلوا، وما للنفي. ويظهر من الاية أن محرمات الاكل نزلت قبل سورة الانعام وقد وقعت في سورة النحل من السور المكية فهى نازلة قبل الانعام. قوله تعالى: (وذروا ظاهر الاثم وباطنه) إلى آخر الاية، وإن كانت مطلقة بحسب المضمون تنهى عن عامة الاثم ظاهرة وباطنه غير أن ارتباطها بالسياق المتصل الذى لسابقتها ولاحقتها يقضى بكونها تمهيدا للنهى الاتى في قوله: (ولا تأكلوا مما لم
________________________________________
[ 333 ]
يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) ولازم ذلك أن يكون الاكل مما لم يذكر اسم الله عليه من مصاديق الاثم حتى يرتبط بالتمهيد السابق عليه فهو من الاثم الظاهر أو الباطن لكن التأكيد البليغ الذى في قوله: (وإنه لفسق) يفيد أنه من الاثم الباطن وإلا لم تكن حاجة إلى تأكيده ذاك التأكيد الاكيد. وبهذا البيان يظهر أن المراد بظاهر الاثم المعصية التى لا ستر على شؤم عاقبته ولا خفاء في شناعة نتيجته كالشرك والفساد في الارض والظلم، وبباطن الاثم ما لا يعرف منه ذلك في بادئ النظر كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير وإنما يتميز هذا النوع بتعريف إلهى وربما أدركه العقل، هذا هو الذى يعطيه السياق من معنى ظاهر الاثم وباطنه. وللمفسرين في تفسيرهما أقوال أخر، من ذلك: أن ظاهر الاثم وباطنه هما المعصية في السر والعلانية، وقيل: أريد بالظاهر أفعال الجوارح، وبالباطن أفعال القلوب، وقيل: الظاهر من الاثم هو الزنا، والباطن اتخاذ الاخدان، وقيل: ظاهر الاثم نكاح امرأة الاب، وباطنه الزنا، وقيل: ظاهر الاثم الزنا الذى اظهر به، وباطنه الزنا إذا استسر به صاحبه على ما كان يراه أهل الجاهلية من العرب أن الزنا لا بأس به إذا لم يتجاهر به، وإنما الفحشاء هو الذى أظهره صاحبه، وهذه الاقوال - كما ترى - على أن جميعها أو أكثرها لا دليل عليها يخرج الاية عن حكم السياق. وقوله تعالى: (إن الذين يكسبون الاثم سيجزون بما كانوا يقترفون) تعليل للنهى وإنذار بالجزاء السيئ. قوله تعالى: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) نهى هو زميل قوله: (وكلوا مما ذكر اسم الله عليه) كما تقدم. وقوله: (وإنه لفسق) إلى آخر الاية، بيان لوجه النهى وتثبيت له أما قوله: (وإنه لفسق) فهو تعليل والتقدير: إنه لفسق وكل فسق يجب اجتنابه فالاكل مما لم يذكر اسم الله عليه واجب الاجتناب. وأما قوله: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم) ففيه رد ما كان المشركون يلقونه إلى المؤمنين من الشبهة، والمراد بأولياء الشياطين هم المشركون، ومعناه أن ما يجادلكم به المشركون وهو قولهم: إنكم تأكلون مما قتلتم ولا تأكلون مما قتله الله
________________________________________
[ 334 ]
يعنون الميتة، هو مما أوحاه إليهم الشياطين من باطل القول، والفارق أن أكل الميتة فسق دون أكل المذكى، وأن الله حرم أكل الميتة ولم يحرم أكل المذكى فليس فيما حرمه الله ذكر ما ذكر اسم الله عليه. وأما قوله و: (إن أطعتموهم إنكم لمشركون) فهو تهديد وتخويف بالخروج من الايمان، والمعنى: إن أطعتم المشركين في أكل الميتة الذى يدعونكم إليه صرتم مشركين مثلهم إما لانكم استننتم بسنه المشركين، أو لانكم بطاعتهم تكونوا أولياء لهم فتكونون منهم قال تعالى: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) (المائدة: 51). ووقوع هذه الجملة أعنى قوله: (وإن أطعتموهم) الخ، في ذيل النهى عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه دون الامر باكل ما ذكر اسم الله عليه يدل على أن المشركين كانوا يريدون من المؤمنين بجدالهم أن لا يتركوا أكل الميتة لا أن يتركوا أكل المذكى. (بحث روائي) في الدر المنثور: أخرج ابن مردويه عن أبى اليمان جابر بن عبد الله قال: دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسجد الحرام يوم فتح مكة ومعه مخصرة، ولكل قوم صنم يعبدونه فجعل يأتيها صنما صنما ويطعن في صدر الصنم بعصا ثم يعقره كلما صرع صنما أتبعه الناس ضربا بالفؤوس - حتى يكسرونه ويطرحونه خارجا من المسجد والنبى صلى الله عليه وآله وسلم يقول: وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم. وفيه: أخرج ابن مردويه وابن النجار عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا) قال: لا إله إلا الله. وفي الكافي بإسناده عن محمد بن مروان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن الامام ليسمع في بطن امه فإذا ولد خط بين كتفيه: (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) فإذا صار الامر إليه جعل الله له عمودا من نور يبصر به ما يعمل أهل كل بلدة. أقول: وروى هذا المعنى بطرق اخرى عن عده من أصحابنا عن أبى عبد الله عليه السلام ورواه أيضا القمى والعياشي في تفسيريهما عنه عليه السلام، وفي بعضها: أن الاية تكتب
________________________________________
[ 335 ]
بين عينيه، وفي بعضها: على عضده الايمن. واختلاف مورد الكتابة في الروايات تكشف عن أن المراد بها القضاء بظهور الحكم الالهى به عليه السلام واختلاف ما كتب عليه لاختلاف الاعتبار فكأن المراد بكتابتها فيما بين عينيه جعلها وجهة له يتوجه إليها، وبكتابتها بين كتفيه حملها عليه وإظهاره وتأييده بها وبكتابتها على عضده الايمن جعلها طابعا على عمله وتقويته وتأييده بها. وهذه الرواية والروايتان السابقتان عليها تؤيد ما قدمناه أن ظاهر الاية كون المراد بتمام الكلمة ظهور الدعوة الاسلامية بما يلازمها من نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونزول القرآن والامامة من ذلك. وفي تفسير العياشي في قوله تعالى: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه) الاية عن محمد بن مسلم قال: سألته عن الرجل يذبح الذبيحة فيهلل أو يسبح أو يحمد ويكبرقال: هذا كله من أسماء الله. وفيه عن ابن سنان عن أبى عبد الله عليه السلام قال: سألته عن ذبيحة المرأة والغلام هل تؤكل ؟ قال: نعم إذا كانت المرأة مسلمة وذكرت اسم الله حلت ذبيحتها، وإذا كان الغلام قويا على الذبح وذكر اسم الله حلت ذبيحته، وإن كان الرجل مسلما فنسى أن يسمى فلا بأس بأكله إذا لم تتهمه. أقول وفي هذه المعاني أخبار من طرق أهل السنة. وفيه عن حمران قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: في ذبيحة الناصب واليهودى قال: لا تأكل ذبيحته حتى تسمعه يذكر اسم الله، إما سمعت قول الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه). وفي الدر المنثور أخرج أبو داود والبيهقي في سننه وابن مردويه عن ابن عباس: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) فنسخ واستثنى من ذلك فقال: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم. أقول وروى النسخ عن أبى حاتم عن مكحول وقد تقدم في أول المائدة: أن الاية إن نسخت فإنما تنسخ اشتراط الاسلام في المذكى - اسم فاعل - دون وجوب التسمية إذ لا نظر لها إليه ولا تنافى بين الايتين في ذلك وللمسألة ارتباط بالفقه.
________________________________________
[ 336 ]
* * * أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون - 122. وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون - 123. وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله ألله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون - 124. فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون - 125. وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الايات لقوم يذكرون 126. لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون - 127. (بيان) قوله تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) الاية واضحة المعنى وهى بحسب ما يسبق إلى الفهم البسيط الساذج مثل مضروب لكل من المؤمن والكافر يظهر بالتدبر فيه حقيقة حاله في الهدى والضلال.
________________________________________
[ 337 ]
فالانسان قبل أن يمسه الهدى الالهى كالميت المحروم من نعمة الحياة الذى لا حس له ولا حركة فإن آمن بربه إيمانا يرتضيه كان كمن أحياه الله بعد موته، وجعل له نورا يدور معه حيث دار يبصر في شعاعه خيره من شره ونفعه من ضره فيأخذ ما ينفعه ويدع ما يضره وهكذا يسير في مسير الحياة. وأما الكافر فهو كمن وقع في ظلمات لا مخرج له منها ولا مناص له عنها ظلمة الموت وما بعد ذلك من ظلمات الجهل في مرحلة تمييز الخير من الشر والنافع من الضار، ونظير هذه الاية في معناها بوجه قوله تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله) (الانعام: 36) وقال تعالى: (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة) (النحل: 97). ففى الكلام استعارة الموت للضلال واستعارة الحياة للايمان أو الاهتداء والاحياء للهداية إلى الايمان والنور للتبصر بالاعمال الصالحة، والظلمة للجهل كل ذلك في مستوى التفهيم والتفهم العموميين لما أن اهل هذا الظرف لا يرون للانسان بما هو إنسان حياة وراء الحياة الحيوانية التى هي المنشا للشعور باللذائذ المادية والحركة الارادية نحوها. فهؤلاء يرون أن المؤمن والكافر لا يختلفان في هذه الموهبة وهى فيهما شرع سواء فلا محالة عد المؤمن حيا بحياة الايمان ذا نور يمشى به في الناس، وعد الكافر ميتا بميتة الضلال في ظلمات لا مخرج منها ليس إلا مبتنيا على عناية تخييلية واستعارة تمثيلية يمثل بها حقيقة المعنى المقصود. لكن التدبر في أطراف الكلام والتأمل فيما يعرفه القرآن الكريم يعطى للاية معنى وراء هذا الذى يناله الفهم العامي فإن الله سبحانه ينسب للانسان الالهى في كلامه حياة خالدة أبدية لا تنقطع بالموت الدنيوي هو فيها تحت ولاية الله محفوظ بكلاءته مصون بصيانته لا يمسه نصب ولا لغوب، ولا يذله شقاء ولا تعب، مستغرب في حب ربه مبتهج ببهجة القرب لا يرى إلا خيرا، ولا يواجه إلا سعادة وهو في أمن وسلام لا خوف معه ولا خطر، وسعادة وبهجة ولذة لا نفاذ لها ولا نهاية لامدها. ومن كان هذا شأنه فإنه يرى ما لا يراه الناس، ويسمع ما لا يسمعونه، ويعقل
________________________________________
[ 338 ]
ما يعقلونه، ويريد ما لا يريدونه وإن كانت ظواهر أعماله وصور حركاته وسكناته تحاكي أعمال غيره وحركاتهم وسكناتهم وتشابهها فله شعور وإرادة فوق ما لغيره من الشعور والارادة فعنده من الحياة التى هي منشأ الشعور والارادة ما ليس عند غيره من الناس فللمؤمن مرتبة من الحياة ليست عند غيره. فكما أن العاة ه من الانسان في عين أنها تشارك سائر الحيوان في الشعور بواجبات الحياة والحركة الارادية نحوها، ويشاركها الحيوان لكنا مع ذلك لا نشك أن الانسان نوع أرقي من سائر الانواع الحيوانية وله حياة فوق الحياة التى فيها لما نرى في الانسان آثاره العجيبة المترشحة من أفكار الكلية وتعقلاته المختصة به، ولذلك نحكم في الحيوان إذا قسناه إلى النبات وفي النبات إذا قسناه إلى ما قبله من مراتب الكون أن لكل منهما كعبا أعلى وحياة هي أرقي من حياة ما قبله. فلنقض في الانسان الذى أوتى العلم والايمان واستقر في دار الايقان واشتغل بربه وفرغ واستراح من غيره وهو يشعر بما ليس في وسع غيره ويريد ما لا يناله سواه أن له حياة فوق حياة غيره، ونورا يستمد به في شعوره، وإرادة لا توجد إلا معه وفي ظرف حياته. يقول الله سبحانه: (فلنحيينه حياة طيبة) (النحل: 97) فلهم الحياة لكنها بطبعها طيبة وراء مطلق الحياة (ويقول: (لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالانعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) (الاعراف: 179) فيثبت لهم أمثال القلوب والاعين والاذان التى في المؤمنين لكنه ينفى كمال آثارها التى في المؤمنين، ولم يكتف بذلك حتى أثبت لهم روحا خاصا بهم فقال: (أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه) (المجادلة: 22). فتبين بذلك أن للحياة وكذا للنور حقيقة في المؤمن واقعية وليس الكلام جاريا على ذاك التجوز الذى لا يتعدى مقام العناية اللفظية فما في خاصة الله من المؤمنين من الصفة الخاصة بهم احق باسم الحياة مما عند عامة الناس من معنى الحياة كما أن حياة الانسان كذلك بالنسبة إلى حياة الحيوان، وحياة الحيوان كذلك بالنسبة إلى حياة النبات. فقوله: (أو من كان ميتا فأحييناه) أي ضالا من حيث نفسه أو ضالا كافرا قبل
________________________________________
[ 339 ]
أن يؤمن بربه وهو نوع من الموت فأحييناه بحياة الايمان أو الهداية - والمال واحد - وجعلناله نورا أي علما متولدا من إيمانه كما قال صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الفريقان: (من عمل بما علم رزقه الله علم ما لم يعلم أو علمه الله ما لم يعلم). فإن روح الايمان إذا تمكنت من نفس الانسان واستقرت فيها حولت الاراء والاعمال إلى صور تناسبها ولا تخالفها وكذلك سائر الملكات أعم من الفضائل والرذائل إذا استقرت في باطن الانسان لم تلبث دون أن تحول آراءه وأعماله إلى أشكال تحاكيها. وربما قيل: أن المراد بالنور هو الايمان أو القرآن وهو بعيد من السياق. وهذا النور أثره في المؤمن إنه يمشى به في الناس) أي يتبصر به في مسير حياته الاجتماعية المظلمة ليأخذ من الاعمال ما ينفعه في سعادة حياته ويترك ما يضره. فهذا هو حال المؤمن في حياته ونوره فهل هو (كمن مثله) ووصفه أنه (في الظلمات ظلمات الضلال وفقدان نور الايمان (ليس بخارج منها) لان الموت لا يستتبع آثار الحياة البتة فلا مطمع في أن يهتدى الكافر إلى أعمال تنفعه في أخراه وتسعده في عقباه. وقد ظهر مما تقدم أن قوله: (كمن مثله في الظلمات) الخ، في تقدير: هو في الظلمات ليس بخارج منها، ففى الكلام مبتدأ محذوف هو الضمير العائد إلى الموصول، وقيل: التقدير: كمن مثله مثل من هو في الظلمات، ولا بأس به لو لا كثرة التقدير. قوله تعالى: (كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) ظاهر سياق صدر الاية أن يكون التشبيه في قوله: (كذلك) من قبيل تشبيه الفرع بالاصل بعناية إعطاء القاعدة الكلية كقوله تعالى: (كذلك يضرب الله الحق والباطل) وقوله: (كذلك يضرب الله الامثال) (الرعد: 17) أي اتخذ ما ذكرناه من المثل أصلا وقس عليه كل ما عثرت به من مثل مضروب فمعنى قوله: (كذلك زين) الخ، على هذا المثال المذكور أن الكافر لا مخرج له من الظلمات، زين للكافرين أعمالهم فقد زينت لهم اأمالهم زينة تجذبهم إليها وتحبسهم ولا تدعهم يخرجوا منها إلى فضاء السعادة وفسحة النور أبدا والله لا يهدى القوم الظالمين. وقيل: إن وجه التشبيه في قوله: (كذلك زين) الخ، أنه زين لهؤلاء الكفر فعملوه مثل ما زين لاولئك الايمان فعملوه. فشبه حال هؤلاء في التزيين بحال أولئك فيه
________________________________________
[ 340 ]
(انتهى) وهو بعيد من سياق الصدر. قوله تعالى: (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها) إلى آخر الاية، كأن المراد بالاية أنا أحيينا جمعا وجعلنا لهم نورا يمشون به في الناس، وآخرين لم نحيهم فمكثوا في الظلمات فهم غير خارجين منها ولا أن عمالهم المزينة تنفعهم وتخلصهم منها كذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها بالدعوة الدينية والنبى والمؤمنين لكنه لا ينفعهم فإنهم في ظلمات لا يبصرون بل إنما يمكرون بأنفسهم ولا يشعرون. وعلى هذا فقوله: (كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) مسوق لبيان أن أعمالهم المزينة لهم لا تنفعهم في استخلاصهم من الظلمات التى هم فيها، وقوله: (وكذلك جعلنا في كل قرية) الخ، مسوق لبيان أن أعمالهم ومكرهم لا يضر غيرهم إنما وقع مكرهم على أنفسهم وما يشعرون لمكان ما غمرهم من الظلمة. وقيل: معنى التشبيه في الاية أن مثل ذلك الذى قصصنا عليك زين للكافرين عملهم، ومثل ذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها، وجعلنا ذا المكر من المجرمين كما جعلنا ذا النور من المؤمنين فكل ما فعلنا بهؤلاء فعلنا بهم إلا أن أولئك اهتدوا بحسن اختيارهم وهؤلاء ضلوا بسوء اختيارهم لان في كل واحد منهما الجعل بمعنى الصيرورة إلا أن الاول باللطف والثانى بالتمكين من المكر (انتهى). ولا يخلو من بعد من السياق. والجعل في قوله: (جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها) كالجعل في قوله: (وجعلنا له نورا) فالانسب أنه بمعنى الخلق، والمعنى: خلقنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وكون مكرهم غاية للخلقة وغرضا للجعل نظير كون دخول النار غرضا إلهيا في قوله: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس) (الاعراف: 179) وقد مر الكلام في معنى ذلك في مواضع من هذا الكتاب. وإنما خص بالذكر أكابر مجرميها لان المطلوب بيان رجوع المكر إلى ما كره، والمكر بالله وآياته إنما، يصدر منهم وأما أصاغر المجرمين وهم العامة من الناس فإنما هم أتباع وأذناب. وأما قوله: (وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون) فذلك أن المكر هو العمل الذى يستبطن شرا وضرا يعود إلى الممكور به فيفسد به غرضه المطلوب ويضل به سعيه ويبطل نجاح عمله، ولا غرض لله سبحانه في دعوته الدينية، ولا نفع فيها إلا ما
________________________________________
[ 341 ]
يعود إلى نفس المدعوين فلو مكر الانسان مكرا بالله وآياته ليفسد بذلك الغرض من الدعوة ويمنع عن نجاح السعي فيها فإنما مكر بنفسه من حيث لا يشعر: واستضر بذلك هو نفسه دون ربه. قوله تعالى: (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن - إلى قوله - رسالته) قولهم: (لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله) يريدون به أن يؤتوا نفس الرسالة بماها من مواد الدعوة الدينية دون مجرد المعارف الدينية من أصول وفروع وإلا كان اللفظ المناسب له أن يقال: (مثل ما أوتى أنبياء الله) أو ما يشاكل ذلك كقولهم: (لو لا يكلمنا الله أو تأتينا آية) (البقرة: 118) وقولهم: (لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا) (الفرقان: 21). فمرادهم أنا لن نؤمن حتى نؤتى الرسالة كما أوتيها الرسل، وفيه شئ من الاستهزاء فإنهم ما كانوا قائلين بالرسالة فهو بوجه نظير قولهم: (لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) (الزخرف: 31) كما أن جوابه نظير جوابه وهو قوله تعالى: (أهم يقسمون رحمة ربك) (الزخرف: 32) كقوله: (الله أعلم حيث يجعل رسالته). ومما تقدم يظهر أن الضمير في قوله: (وإذا جاءتهم آية قالوا) الخ، عائد إلى (أكابر مجرميها) في الاية السابقة، إذلو رجع إلى عامة المشركين لغى قولهم: (حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله) إذ لا معنى لرسالة جميع الناس حيث لا أحد يرسلون إليه، ولم يقع قوله: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) موقعه بل كان حق الجواب أنه لغو من القول كما عرفت. ويؤيده الوعيد الذى في ذيل الاية: (سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون) حيث وصفهم بالاجرام وعلل الوعيد بمكرهم، ولم ينسب المكر في الاية السابقة إلا إلى أكابر مجرميها، والصغار الهوان والذلة. قوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام) الشرح هو البسط وقد ذكر الراغب في مفرداته أن أصله بسط اللحم ونحوه، وشرح الصدر الذى يعد في الكلام وعاء للعلم والعرفان هو التوسعة فيه بحيث يسع ما يصادفه من المعارف الحقة ولا يدفع كلمة الحق إذا ألقيت إليه كما يدل عليه ما ذكر في وصف الاضلال بالمقابلة وهو
________________________________________
[ 342 ]
قوله: (يجعل صدره ضيقا حرجا) الخ، فمن شرح الله صدره للاسلام وهو التسليم لله سبحانه فقد بسط صدره ووسعه لتسليم ما يستقبله من قبله تعالى من اعتقاد حق أو عمل دينى صالح فلا يلقى إليه قول حق إلا وعاه ولا عمل صالح إلا أخذ به وليس إلا أن لعين بصيرته نورا يقع على الاعتقاد الحق فينوره أو العمل الصالح فيشرقه خلاف من عميت عين قلبه فلا يميز حقا من باطل ولا صدقا من كذب قال تعالى: (فإنها لا تعمى الابصار ولكن تعمى القلوب التى في الصدور) (الحج: 46). وقد بين تعالى شرح الصدر بهذا البيان في قوله: (أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) فوصفه فعرفه بأن صاحبه راكب نور من الله يشرق قدامه في مسيره ثم عرفه بالمقابلة بلينة في القلب يقبل به ذكر الله ولا يدفعه لقسوة ثم قال: (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدى به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد) (الزمر: 23) فذكر لين القلب إلى ذكر الله وطوعه للحق وأفاد أن ذلك هو الهدى الالهى الذى يهدى به من يشاء، وعند ذلك يرجع الايتان أعنى آية الزمر والاية التى نحن فيها إلى معنى واحد وهو أن الله سبحانه عند هدايته عبدا من عباده يبسط صدره فيسع كل اعتقاد حق وعمل صالح ويقبله بلين ولا يدفعه بقسوة وهو نوع من النور المعنوي الذى ينور القول الحق والعمل الصالح وينصر صاحبه فيمسك بما نوره فهذا معرف يعرف به الهداية الالهية. ومن هنا يظهر أن الاية أعنى قوله: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام) بمنزلة بيان آخر لقوله: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس) التفريع الذى في قوله. (فمن يرد الله) الخ، من قبيل تفريع أحد البيانين على الاخر بدعوى أنه نتيجته كأن التصادق بين البيانين يجعل أحدهما نتيجة مترتبة وفرعا متفرعا على الاخر، وهو عناية لطيفة. والمعنى: فإذا كان من أحياه الله بعد ما كان ميتا على هذا الصفة وهى أنه على نور من ربه يستضئ به لواجب الاعتقاد والعمل فيأخذ به فمن يرد الله أن يهديه يوسع صدره لان يسلم لربه ولا يستنكف عن عبادته فالاسلام نور من الله، والمسلمون لربهم على نور من ربهم.
________________________________________
[ 343 ]
قوله تعالى: (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا) إلى آخر الاية، الاضلال مقابل الهداية، ولذا كان أثره مقابلا لاثرها وهو التضييق المقابل للشرح والتوسعة وأثره أن لا يسع ما يتوجه إليه من الحق، والصدق، يتحرج عن دخولهما فيه، ولذا أردف كون الصدر ضيقا بكونه حرجا. والحرج على ما في المجمع أضيق الضيق، وقال في المفردات: أصل الحرج والحراج مجتمع الشئ وتصور منه ضيق ما بينهما فقيل للضيق حرج وللاثم حرج. انتهى. فقوله: (حرجا كأنما يصعد في السماء) في محل التفسير لقوله: (ضيقا) وإشارة إلى أن ذلك نوع من الضيق يناظر بوجه التضيق والتحرج الذى يشاهد من الظروف والاوعية إذا أريد إدخال ما هو أعظم منها ووضعه فيها. وقوله: (كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) إعطاء ضابط كلى في إضلال الذين لا يؤمنون إنهم يفقدون حال التسليم لله والانقياد للحق، وقد أطلق عدم الايمان وإن كان مورد الايات عدم الايمان بالله سبحانه وهو الشرك به لكن الذى سبق من البيان في الاية يشمل عدم الايمان بالله وهو الشرك، وعدم الايمان بآيات الله وهو رد بعض ما أنزله الله من المعارف والاحكام فقد دل على ذلك كله بقوله: (يشرح صدره للاسلام) الخ، وبقوله سابقا: (وجعلنا له نورا يمشى به) إلخ، وقوله: (يجعل صدره ضيقا حرجا) إلخ، وبقوله سابقا: (في الظلمات ليس بخارج منها). وقد سمى في الاية الضلال الذى يساوق عدم الايمان رجسا والرجس هو القذر غير إنه اعتبر فيه نوعا من الاستعلاء الدال عليه قوله: (على الذين لا يؤمنون) كأن الرجس يعلوهم ويحيط بهم فيحول بينهم وبين غيرهم فيتنفر منهم الطباع كما يتنفر من الغذاء الملطخ بالقذر. وقد استدل بالاية على أن الهدى والضلال من الله لا صنع فيهما لغيره تعالى وهو خطأ فإن الاية - كما عرفت - في مقام بيان حقيقة الهدى والضلال اللذين من الله ونوع تعريف لهما وتحديد لا في مقام بيان انحصارهما فيه وانتفائهما عن غيره كما هو المدعى وهو ظاهر. ونظير ذلك ما ذكره بعضهم: أن الاية كما تدل بلفظها على قولنا: إن الهداية
________________________________________
[ 344 ]
والضلال من الله، كذلك تدل بلفظها على الدليل العقلي القاطع في هذه المسأله. بيانه: أن العبد قادر على الايمان والكفر معا على حد سواء فيمتنع صدرأحدهما عنه بدلا من الاخر إلا إذا اقترن بمرجح يستدعى صدور ما يرجح به وهو الداعي القلبى الذى ليس إلا العلم أو الاعتقاد أو الظن بكون الفعل مشتملا على مصلحة زائدة ومنفعة راجحة من غير ضرر زائد أو مفسدة راجحة، وقد بينا بالدليل أن حصول هذه الدواعى في القلب إنما يكون من الله تعالى، وأن مجموع القدره والداعى يوجب العمل. إذا ثبت هذا فنقول: يستحيل صدور الايمان من العبد إلا إذا خلق الله في قلبه اعتقاد رجحان الايمان، ومعه يحصل من القلب ميل إليه ومن النفس رغبة فيه وهذا هو انشراح الصدر، ويمتنع الكفر إلا بخلقه ما يقابل ذلك في القلب، ويحصل حينئذ النفرة عنه والاشمئزاز منه وهو المراد بجعل القلب ضيقا حرجا فصار تقدير الاية: أن من أراد الله منه الايمان قوى دواعيه إليه، ومن أراد منه الكفرقوى صوارفه عن الايمان وقوى دواعيه إلى الكفر، ولما ثبت بالدليل العقلي أن الامر كذلك ثبت أن لفظ القرآن مشتمل على هذه الدلائل العقلية. انتهى ملخصا. وفيه أولا: أن انتساب الشئ إليه تعالى من جهة خلقه أسباب وجوده ومقدماته لا يوجب انتفاء نسبته إلى غيره تعالى وإلا أوجب ذلك بطلان قانون العلية العام وببطلانه يبطل القضاء العقلي من رأس فمن الممكن أن تستند الهداية والضلال إلى غيره تعالى استنادا حقيقيا في حين أنهما يستندان إليه تعالى استنادا حقيقيا من غير تناقض. وثانيا: أن الذى ذكرته الاية من صنعه تعالى في موردى هدايته وإضلاله هو سعة القلب وضيقة، وهما غير رغبة النفس ونفرته البتة فالاية أجنبية عما ذكره أصلا، ومجرد استلزام إرادة الفعل من العبد رغبته وكراهته نفرته منه لا يوجب أن يكون المراد من سعة القلب وضيقة الارادة والكراهة بالنسبة إلى الاعمال، ففيه مغالطة من باب أخذ أحد المقارنين مكان الاخر ومن عجيب الكلام قوله: إن انطباق الدليل العقلي الذى إقامة بزعمه على الاية يوجب دلالة لفظ الاية عليه. وثالثا: أنك عرفت أن الاية إنما هي في مقام تعريف ما يصنع الله بعبده إذا أراد هدايته أو ضلالته، وأما أن كل هداية أو ضلالة فهى من الله تعالى دون غيره فذلك
________________________________________
[ 345 ]
أمر أجنبي عن غرض الاية فالاية لا دلالة لها على أن الهداية والضلال من الله سبحانه وإن كان ذلك هو الحق. قوله تعالى: (وهذا صراط ربك مستقيما) إلى آخر الاية الاشارة إلى ما تقدم بيانه في الاية السابقة من صنعه عند الهداية والاضلال وقد تقدم معنى الصراط واستقامته، وقد بين تعالى في الاية أن ما ذكره من شرح الصدر للاسلام إذا أراد الهداية ومن جعل الصدر ضيقا حرجا عند إرادة الاضلال هو صراطه المستقيم وسنته الجارية التى لا تختلف ولا تتخلف فما من مؤمن إلا وهو منشرح الصدر للاسلام بالله وغير المؤمن بالعكس من ذلك. فقوله: (وهذا صراط ربك مستقيما) بيان ثان وتأكيد لكون المعرف المذكور في الاية السابقة معرفا جامعا مانعا للهداية والضلالة ثم أكد سبحانه البيان بقوله: (قد فصلنا الايات لقوم يذكرون) أي إن القول حق بين عند من تذكر ورجع إلى ما أودعه الله في نفسه من المعارف الفطرية والعقائد الاولية التى بتذكرها يهتدى الانسان إلى معرفة كل حق وتمييزه من الباطل، والبيان مع ذلك لله سبحانه فإنه هو الذى يهدى الانسان إلى النتيجة بعد هدايته إلى الحجة. قوله تعالى: (لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون) المراد بالسلام هو معناه اللغوى - على ما يعطيه ظاهر السياق - وهو التعري من الافات الظاهرة والباطنه، ودار السلام هي المحل الذى لا آفة تهدد من حل فيه من موت وعاهة ومرض وفقر وأى عدم وفقد آخر وغم وحزن، وهذه هي الجنة الموعودة ولا سيما بالنظر إلى تقييده بقوله: (عند ربهم). نعم أولياء الله تعالى يجدون في هذه النشأة ما وعدهم الله من إسكانهم دار السلام لانهم يرون الملك لله فلا يملكون شيئا حتى يخافوا فقده أو يحزنوا لفقده قال تعالى: (إلا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (يونس: 62) وهم لا شغل لهم إلا بربهم خلوا به في حياتهم فلهم دار السلام عند ربهم - وهم قاطنون في هذه الدنيا - وهو وليهم بما كانوا يعملون وهو سيرهم في الحياة بنور الهداية الالهية الذى جعله في قلوبهم، ونور به أبصارهم وبصائرهم.
________________________________________
[ 346 ]
وربما قيل: المراد بالسلام هو الله، وداره الجنة، والسياق يأباه وضمائر الجمع في الاية راجعة إلى القوم في قوله: (لقوم يذكرون) - على ما قيل - لانه أقرب المراجع لرجوعها إليها غير أن التدبر في الايات يؤيد رجوعها إلى المهتدين بالهداية المذكورة بما أن الكلام فيهم والايات مسوقة لبيان حسن صنع الله بهم فالوعد الحسن المذكور يجب أن يعود إليهم، وأما القوم المتذكرون فإنما ذكروا ودخلوا في غرض الكلام بالتبع. (كلام في معنى الهداية الالهية) الهداية بالمعنى الذى نعرفه كيفما اتخذت هي من العناوين التى تعنون بها الافعال وتتصف بها، تقول هديت فلانا إلى أمر كذا إذا ذكرت له كيفية الوصول إليه أو أريته الطريق الذى ينتهى إليه، وهذه هي الهداية بمعنى إراءة الطريق، أو أخذت بيده وصاحبته في الطريق حتى توصله إلى الغاية المطلوبة، وهذه هي الهداية بمعنى الايصال إلى المطلوب. فالواقع في الخارج في جميع هذه الموارد هو اقسام الافعال التى تأتى بها من ذكر الطريق أو إراءته أو المشى مع المهدى وأما الهداية فهى عنوان للفعل يدور مدار القصد كما أن ما يأتيه المهدى من الفعل في إثره معنون بعنوان الاهتداء فما ينسب إليه تعالى من الهداية ويسمى لاجله هاديا وهو أحد الاسماء الحسنى من صفات الفعل المنتزعة من فعله تعالى كالرحمة والرزق ونحوهما. وهدايته تعالى نوعان: أحدهما الهداية التكوينية وهى التى تتعلق بالامور التكوينية كهدايته كل نوع من أنواع المصنوعات إلى كماله الذى خلق لاجله وإلى أفعاله التى كتبت له، وهدايته كل شخص من أشخاص الخليقة إلى الامر المقدر له والاجل المضروب لوجوده قال تعالى: (الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) (طه: 50) وقال: (الذى خلق فسوى، والذى قدر فهدى) (الاعلى: 3). والنوع الثاني: الهداية التشريعية وهى التى تتعلق بالامور التشريعية من الاعتقادات الحقة والاعمال الصالحة التى وضعها الله سبحانه للامر والنهى والبعث والزجر ووعد على الاخذ بها ثوابا وأو عد على تركها عقابا.
________________________________________
[ 347 ]
ومن هذه الهداية ما هي إراءة الطريق كما في قوله تعالى: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) (الدهر: 3). ومنها ما هي بمعنى الايصال إلى المطلوب كما في قوله تعالى: (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الارض واتبع هواه) (الاعراف: 176) وقد عرف الله سبحانه هذه الهداية تعريفا بقوله: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام) (الاية: 125) فهى انبساط خاص في القلب يعى به القول الحق والعمل الصالح من غير أن يتضيق، به وتهيؤ مخصوص لا يأبى به التسليم لامر الله ولا يتحرج عن حكمه. وإلى هذا المعنى يشير تعالى بقوله: (أفمن شرح الله صدره للاسلام فهو على نور من ربه - إلى أن قال - ذلك هدى الله يهدى به من يشاء) (الزمر: 23) وقد وصفه في الاية بالنور لانه ينجلى به للقلب ما يجب عليه أن يعيه من التسليم لحق القول وصدق العمل عما يجب عليه أن لا يعيه ولا يقبله وهو باطل القول وفاسد العمل. وقد رسم الله سبحانه لهذه الهداية رسما آخر وهو ما في قوله عقيب ذكره هدايته أنبياءه الكرام وما خصهم به من النعم العظام: (واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده) (الانعام: 88) فقد أوضحنا في تفسير الاية أن الاية تدل على أن من خاصة الهداية الالهية أنها تورد المهتدين بها صراطا مستقيما وطريقا سويا لا تخلف فيه ولا اختلاف. فلا بعض أجزاء صراطه الذى هو دينه بما فيه من المعارف والشرائع يناقض البعض الاخر لما أن الجميع يمثل التوحيد الخالص الذى ليس إلا حقيقة ثابتة واحدة، ولما أن كلها مبنية على الفطرة الالهية التى لا تخطئ في حكمها ولا تتبدل في نفسها ولا في مقتضياتها. ولا بعض الراكبين عليه السائرين فيه يالفون بعضا آخر فالذي يدعو إليه نبى من أنبياء الله هو الذى يدعو إليه جميعهم، والذى يندب إليه خاتمهم وآخرهم هو الذى يندب إليه آدمهم وأولهم من غير أي فرق إلا من حيث الاجمال والتفصيل. (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن زيد قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول في قول الله تبارك وتعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس) فقال: ميت لا
________________________________________
[ 348 ]
يعرف شيئا (نورا يمشى به في الناس) إماما يأتم به (كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها) قال: الذى لا يعرف الامام. أقول: وهو من قبيل الجرى والانطباق فسياق الاية يأبى إلا أن تكون الحياة هو الايمان والنور هو الهداية الالهية إلى القول الحق والعمل الصالح. وقد روى السيوطي في الدر المنثورعن زيد بن أسلم أن الاية نزلت في عمار بن ياسر، وروى أيضا عن ابن عباس وزيد بن أسلم أنها نزلت في عمر بن الخطاب وأبى جهل بن هشام والسياق يأبى كون الاية خاصة. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبى شيبة وابن أبى الدنيا وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم والبيهقي في الشعب من طرق عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين نزلت هذه الاية: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام) قال: إذا أدخل الله النور القلب انشرح وانفسح. قالوا: فهل لذلك آية يعرف بها ؟ قال: الانابة إلى دار الخلود - والتجافى عن دارالغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت. أقول: ورواه أيضا عدة من المفسرين عن جمع من التابعين كأبى جعفر المدائني والفضل والحسن وعبد الله بن السور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي العيون بإسناده عن حمدان بن سليمان النيشابوري قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن قول الله عزوجل: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام) قال: فمن يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا وإلى جنته ودار كرامته في الاخرة يشرح صدره للتسليم لله والثقة به والسكون إلى ما وعد من ثوابه حتى يطمئن إاليه، ومن يرد أن يضله عن جنته ودار كرامته في الاخرة لكفره به وعصيانه له في الدنيا يجعل صدره ضيقا حرجا حتى يشك في كفره (1) ويضطرب عن اعتقاده حتى يصير كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون. أقول: وفي الحديث نكات حسنة تشير إلى ما شرحناه في البيان المتقدم. وفي الكافي بإسناده عن سليمان بن خالد عن أبى عبد الله عليه السلام قال: قال: إن
________________________________________
(1) ايمانه ظ. (*)
________________________________________
[ 349 ]
الله عزوجل إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور، وفتح مسامع قلبه، ووكل به ملكا يسدده وإذا أراد بعبد سوء نكت في قلبه نكتة سوداء وسد مسامع قلبه، ووكل به شيطانا يضله ثم تلا هذه الاية: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء. أقول: ورواه العياشي في التفسير مرسلا والصدوق في التوحيد مسندا عنه عليه السلام. وفي الكافي بإسناده عن الحلبي عن أبى عبد الله عليه السلام قال: إن القلب يتلجلج في الجوف يطلب الحق فإذا جاء به اطمأن وقر ثم تلا: (فمن يرد الله أن يهديه - إلى قوله - في السماء). أقول: ورواه العياشي في تفسيره عن أبى جميلة عن عبد الله بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام. وفي تفسير العياشي عن أبى بصير عن خيثمة قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إن القلب يتقلب من لدن موضعه إلى حنجرته ما لم يصب الحق فإذا أصاب الحق قر ثم ضم أصابعه ثم قرأ هذه الاية: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره في الاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا). قال: وقال أبو عبد الله عليه السلام لموسى بن أشيم: أتدرى ما الحرج ؟ قال: قلت: لا فقال (1) بيده وضم أصابعه ؟ كالشئ المصمت - لا يدخل فيه شئ ولا يخرج منه شئ. أقول: وروى ما يقرب منه في تفسير البرهان عن الصدوق وروى صدر الحديث البرقى في المحاسن عن خيثمة عن أبى جعفر عليه السلام وما فسر به الحرج يناسب ما تقدم نقله من الراغب. وفي الاختصاص بإسناده عن آدم بن الحرقال: سأل موسى بن أشيم أبا عبد الله عليه السلام وأنا حاضر عن آية في كتاب الله فخبره بها فلم يبرح حتى دخل رجل فسأله عن تلك الاية بعينها فخبره بخلاف ما خبر به موسى بن أشيم. ثم قال ابن أشيم: فدخلني من ذلك ما شاء الله حتى كأن قلبى يشرح بالسكاكين
________________________________________
(1) كأن القو ل مضمن معنى الايماء والمعنى: أومأ بيده وضم اصابعه قائلا: كاشئ الصمت الخ. (*)
________________________________________
[ 350 ]
وقلت: تركنا أبا قتادة لا يخطئ في الحرف الواحد: الواو وشبهها، وجئت لمن يخطئ هذا الخطا كله فبينا أنا في ذلك إذ دخل عليه رجل آخر فسأله عن تلك الاية بعينها فخبر بخلاف ما خبرني وخلاف الذى خبر به الذى سأله بعدى فتجلى عنى وعلمت أن ذلك بعمد فحدثت نفسي بشئ. فالتفت إلى أبو عبد الله عليه السلام فقال: يا بن أشيم لا تفعل كذا وكذا فبان حديثى عن الامر الذى حدثت به نفسي ثم قال: يا بن أشيم إن الله فوض إلى سليمان بن داود فقال: (هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) وفوض إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فقد فوض إلينا يا بن أشيم فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للاسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا، أتدرى ما الحرج: فقلت لا، فقال بيده وضم أصابعه: هو الشئ المصمت الذى لا يخرج منه شئ ولا يدخل فيه شئ. أقول: مسألة التفويض إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمة من ولده وإن وردت في تفسيره عدة أحاديث لكن الذى يدل عليه هذا الحديث معناه إنباؤهم من العلم بكتاب الله ما لا ينحصر في وجه ووجهين وتسليطهم عليه بالاذن في بث ما شاءوا منها، يستفاد ذلك من تطبيق ما ذكره عليه السلام في أمر سليمان بن داود من التفويض المستفاد من الاية الكريمة، ولا يبعد أن يكون المراد من تلاوة الاية الاشارة إلى ذلك، وإن كان الظاهر أن المراد به بيان حال القلوب بمناسبة ما ابتلى به موسى بن أشيم من اضطراب القلب وقلقه. وفي تفسير القمى في الاية قال: قال: مثل شجرة حولها أشجار كثيرة فلا تقدر أن تلقى أغصانها يمنة ويسرة فتمر في السماء ويستمر حرجه. أقول: وذلك أيضا يناسب ما فسر به الراغب معنى الحرج. وفي تفسير العياشي عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام في قوله: (كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) قال: هو الشك. أقول: وهو من قبيل التطبيق وبيان بعض المصاديق.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page