• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 226 الي 250


[ 226 ]
كقولها: إن ملكى صادق ملك (شاليم) اخرج إليه خبزا وخمرا وكان كاهنا لله العلى وباركه (1). ومن ذلك قولها: أن ابراهيم أخبر تارة رؤساء فرعون مصر أن سارة اخته ووصى سارة أن تصدقه في ذلك إذ قال لها: قولى: إنك اختى ليكون لى خير بسببك، وتحيا نفسي من أجلك، وأظهر تارة اخرى لابي مالك ملك حرار أنها اخته، فأخذها للزوجية فرعون تارة، وأبى مالك اخرى، ثم ذكرت التوراة تأول إبراهيم في قوله: (إنها اختى) مرة بأنها اختى في الدين، واخرى أنها ابنة أبى من غير امى فصارت لى زوجة. وأيسر ما في هذا الكلام أن يكون إبراهيم (وحاشا مقام الخليل) يعرض زوجته سارة لامثال فرعون وأبى مالك مستغلا بها حتى يأخذاها زوجة وهى ذات بعل وينال هو بذلك جزيل العطاء ويستدرهما بما عندهما من الخير !. على أن كلام التوراة صريح في أن سارة كانت عندئذ وخاصة حينما أخذها أبى مالك عجوزا قد عمرت سبعين أو اكثر، والعادة تقضى أن المرأة تفتقد في سن العجائز نضارة شبابها ووضاءة جمالها، والملوك والجبابرة المترفون لا يميلون إلى غير الفتيات البديعة جمالا الطرية حسنا. وربماوجد ما يشاكل هذا المعنى في بعض الروايات ففى صحيحي البخاري ومسلم عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله قال: لم يكذب ابراهيم النبي عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات
________________________________________
(1) - ربما وجهوا ان ملكى صادق هذا كاهن الرب هو (امراقل) ملك شنعار النذكور في اول القصة وهو (حمورابي) الملك صاحب الشريعة الذى هو احد السلالة الاولى من ملوك بابل، وقد اختلف في تاريخ ملكه اختلافا شديدا لا ينطبق اكثر ما قيل فيه زمان حياة ابراهيم وهو (200) ق م فقد ذكر في كتاب العرب قبل الاسلام انه تملك بابل سنة 2287 - 2232 ق م وفى شريعة حمورابي نقلا عن اقدم شرائع العالم للاستاذ ف. ادوارد ان سنى ملكه 2205 - 2167 ق. م، وفى قاموس اعلام الشرق والغرب انه تولى سلطنة بابل سن 17278 - 1686 ق. م وفى قاموس الكتاب المقدس اته تولاها سنة 1975 - 1920 ق م. واوضح ما ينافى هذا الحدث ان الذى اكتشفو من النصب في خرائب بابل وعليها شريعة حمورابي تشتمل على ذكر عدة من آلهة البابليين، ويدل على كون حمورابي من الوثنيين، ولا يستقيم عليه ان يكون كاهنا للرب. (*)
________________________________________
[ 227 ]
اثنتين في ذات الله: قوله (إنى سقيم) وقوله (بل فعله كبيرهم هذا) وواحدة في شأن سارة فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن الناس فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبنى عليك فإن سألك فاخبريه أنك أختى فإنك اختى في الاسلام فإنى لا أعلم في الارض مسلما غيرك وغيري، فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار فأتاه فقال له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغى لها ان تكون إلا لك فأرسل إليها فاتى بها فقام إبراهيم إلى الصلاة فلما دخلت عليه لم يتمالك ان بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها: ادعى الله ان يطلق يدى ولا أضرك ففعلت فعاد فقبضت اشد من القبضتين (1) الاوليين فقال: ادعى الله ان يطلق يدى فلك الله ان لا أضرك ففعلت فاطلقت يده ودعا الذى جاء بها فقال له إنك إنما اتيتني بشيطان ولم تأتني بإنسان فأخرجها من ارضى واعطها هاجر. قال فأقبلت تمشى فلما رآها ابراهيم عليه السلام انصرف وقال لها: مهيم فقالت: خيرا كف الله يد الفاجر واخدم خادما. قال أبو هريرة: فتلك امكم يا بنى ماء السماء. وفي صحيح البخاري بطرق كثيرة عن انس وابى هريرة، وفي صحيح مسلم عن ابى هريرة و حذيفة، وفي مسند احمد عن انس وابن عباس واخرجه الحاكم عن ابن مسعود و الطبراني عن عبادة بن الصامت وابن ابى شيبة عن سلمان، والترمذي عن ابى هريرة، وابو عوانة عن حذيفة عن ابى بكر حديث شفاعة النبي صلى الله عليه وآله يوم القيامة، وهو حديث طويل فيه ان اهل الموقف يأتون الانبياء واحدا بعد واحد يسألونهم الشفاعة عند الله، وكلما اتوا نبيا وسألوه الشفاعة، ردهم إلى من بعده واعتذر بشئ من عثراته حتى ينتهوا إلى خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وآله فيجيبهم إلى مسألتهم وفي الحديث: انهم يأتون إبراهيم عليه السلام يطلبون منه ان يشفع لهم عند الله فيقول لهم: لست هناكم إنى كذبت ثلاث كذبات: قوله (انى سقيم) وقوله (بل فعله كبيرهم هذا) وقوله لامرأته (اخبريه انى اخوك). والاعتبار الصحيح لا يوافق مضمون الحديثين كما ذكره بعض الباحثين إذ لو كان المراد بهما ان الاقاويل الثلاث التى وصفت فيهما انها كذبات ليست كذبات حقيقية بل من قبيل التوريات والمعاريض البديعي‍ كما ربما يلوح من بعض الفاظ الحديث كالذى ورد في
________________________________________
(1) - كذا في الاصل المنقول عنه وكأن فيع سقطا. (*)
________________________________________
[ 228 ]
بعض طرقه من قول النبي صلى الله عليه وآله: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلها في ذات الله) وكذا قوله صلى الله عليه وآله: (مامنها كذبة إلا ماحل (1) بها عن دين الله) فما بال ابراهيم في حديث القيامة يعدها ذنوبا لنفسه ومانعة عن القيام بأمر الشفاعة ويعتذر بها عنها ؟ فإنها على هذا التقدير كانت من محنه في ذات الله وحسناته في الدين لو جاز لنبى من الانبياء أن يكذب لمصلحة الدين لكنك قد عرفت في ما تقدم من مباحث النبوة في الجزء الثاني من هذا الكتاب أن ذلك مما لا يجوز على الانبياء عليهم السلام قطعا لاستيجابه سلب الوثوق عن إخباراتهم وأحاديثهم من أصلها. على أن هذا النوع من الاخبار لو جاز عده كذبا ومنعه عن الشفاعة عند الله سبحانه كان قوله عليه السلام لما رأى كوكبا والقمر والشمس: هذا ربى وهذا ربى أولى بأن يعد كذبا مانعا عن الشفاعة المنبئة عن القرب من الله تعالى. على أن قوله عليه السلام على ما حكاه الله تعالى بقوله: (فنظر نظرة في النجوم فقال إنى سقيم) لا يظهر بشئ من قرائن الكلام كونه كذبا غير مطابق للواقع فلعله عليه السلام كان سقيما بنوع من السقم لا يحجزه عما هم به من كسر الاصنام. وكذا قوله عليه السلام للقوم إذ سألوه عن أمر الاصنام المكسورة بقولهم: (ءأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم) فأجابهم وهم يعلمون أن أصنامهم من الجماد الذى لا شعور فيه ولا إرادة له: (بل فعله كبيرهم هذا) ثم أردفه بقوله: (فاسألوهم إن كانوا ينطقون) لا سبيل إلى عده كذبا فإنه كلام موضوع مكان التبكيت مسوق لالزام الخصم على الاعتراف ببطلان مذهبه، ولذا لم يجد القوم بدا دون أن اعترفوا بذلك فقالوا: (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم اف لكم ولما تعبدون من دون الله) (الانبياء: 67). ولو كان المراد أن الاقاويل الثلاث كذبات حقيقية كان ذلك من المخالفة الصريحة لكتاب الله تعالى، ونحيل ذلك إلى فهم الباحث الناقد فليراجع ما تقدم في الفصل 2 من الكلام في منزلة إبراهيم عليه السلام عند الله تعالى وموقفه العبودي مما أثنى الله عليه بأجمل الثناء وحمد مقامه أبلغ الحمد.
________________________________________
(1) أي جادل.
________________________________________
[ 229 ]
وليت شعرى كيف ترضى نفس باحث ناقد أو تجوز أن ينطبق مثل قوله تعالى: (واذكر الكتاب ابراهيم إنه كان صديقا نبيا) (مريم 41) على رجل كذاب يستريح إلى كذب القول كلما ضاقت عليه المذاهب ؟ أو كيف يمدح الله بتلك المدائح الكريمة رجلا لا يراقب الله سبحانه في حق أو صدق (حاشا ساحة خليل الله عن ذلك). وأما الاخبار المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام فإنها تصدق التوراة في أصل القصة غير أنها تجل إبراهيم عليه السلام عما نسب إليه من الكذب وسائر ما لا يلائم قدس ساحته، ومن أجمع ما يتضمن قصة الخليل عليه السلام ما في الكافي عن على عن أبيه وعدة من أصحابنا عن سهل جميعا عن ابن محبوب عن إبراهيم بن زيد الكرخي قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن إبراهيم عليه السلام كان مولده بكوثار (1) وكان أبوه من أهلها، وكانت ام ابراهيم وام لوط عليهما السلام وسارة وورقة - وفي نسخة رقبة - اختين وهما ابنتان للاحج، وكان لاحج نبيا منذرا ولم يكن رسولا. وكان إبراهيم عليه السلام في شبيبته على الفطرة التى فطر الله عزوجل الخلق عليها حتى هداه الله تبارك وتعالى إلى دينه واجتباه، وأنه تزوج سارة ابنة لاحج وهى ابنة خالته وكانت سارة صاحبة ماشية كثيرة وأرض واسعة وحال حسنة، وكانت قد ملكت إبراهيم جميع ما كانت تملكه فقام فيه وأصلحه وكثرت الماشية والزرع - حتى لم يكن بأرض كوثاريا رجل أحسن حالا منه. وإن إبراهيم عليه السلام لما كسر أصنام نمروذ وأمر به نمروذ فأوثق وعمل له حيرا (2) وجمع له فيه الحطب وألهب فيه النار ثم قذف إبراهيم عليه السلام في النار لتحرقه ثم اعتزلوها حتى خمدت النار ثم أشرفوا على الحير فإذا هم بإبراهيم عليه السلام سليما مطلقا من وثاقه فأخبر نمروذ خبره فأمرهم أن ينفوا إبراهيم عليه السلام من بلاده، وأن يمنعوه من الخروج بماشيته وماله فحاجهم إبراهيم عليه السلام عند ذلك فقال: إن أخذتم ماشيتي ومالى فإن حقى عليكم أن تردوا على ما ذهب من عمرى في بلادكم، واختصموا إلى قاضى نمروذ فقضى على إبراهيم عليه السلام أن يسلم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم، وقضى على أصحاب نمروذ أن يردوا على إبراهيم عليه السلام ما ذهب من عمره في بلادهم، وأخبر بذلك نمرود
________________________________________
(1) - كانت قرية من أعمال الكوفة وضبطه الجزرى كوئى. (2) - الحير مخفف الحاير وهو الجائط.
________________________________________
[ 230 ]
فأمرهم أن يخلوا سبيله وسبيل ماشيته وماله وأن يخرجوه، وقال: إنه إن بقى في بلادكم أفسد دينكم وأضر بآلهتكم فأخرجوا إبراهيم ولوطا عليهما السلام معه من بلادهم إلى الشام. فخرج إبراهيم ومعه لوط لا يفارقه وسارة، وقال لهم: إنى ذاهب إلى ربى سيهدين يعنى إلى بيت المقدس فتحمل إبراهيم بماشيته وماله وعمل تابوتا وجعل فيه سارة وشد عليها الاغلاق غيرة منه عليها ومضى حتى خرج من سلطان نمرود، وسار إلى سلطان رجل من القبط يقال له (عزارة) فمر بعاشر له فاعترضه العاشر ليعشر ما معه - فلما انتهى إلى العاشر ومعه التابوت قال العاشر لابراهيم عليه السلام: افتح هذا التابوت لنعشر ما فيه فقال له إبراهيم عليه السلام: قل ما شئت فيه من ذهب أو فضة حتى نعطى عشرة ولا نفتحة. قال: فأبى العاشر إلا فتحه قال: وغصب (1) إبراهيم عليه السلام: على فتحه فلما بدت له سارة وكانت موصوفة بالحسن والجمال قال له العاشر: ما هذه المرأة منك ؟ قال إبراهيم عليه السلام: هي حرمتي وابنة خالتي، فقال له العاشر فما دعاك إلى أن خبيتها في هذا التابوت ؟ فقال ابراهيم عليه السلام الغيرة عليها أن يراها أحد فقال له العاشر: لست ادعك تبرح حتى أعلم الملك حالها وحالك. قال: فبعث رسولا إلى الملك فأعلمه فبعث الملك رسولا من قبله ليأتوه بالتابوت فأتوا ليذهبوا به فقال لهم إبراهيم عليه السلام: إنى لست أفارق التابوت حتى يفارق روحي جسدي فأخبروا الملك بذلك فأرسل الملك أن احملوه والتابوت معه فحملوا إبراهيم عليه السلام والتابوت وجميع ما كان معه حتى أدخل على الملك فقال له الملك: افتح التابوت فقال له إبراهيم عليه السلام: أيها الملك إن فيه حرمتي وابنة خالتي وأنا مفتد فتحه بجميع ما معى. قال: فغصب الملك إبراهيم عليه السلام على فتحة فلماا رأى سارة لم سملك حلمه سقهه أن مد يده إلسها فأعرض إبراهيم عليه السلام وجهه عنها وعنه غيرة منه وقال: اللهم: إن إلهك هو الذى فعل بى هذا ؟ فقال له: معم إن إلهى غيور يكره الحرام، هو الذى ما إردته من الحرام فقال له له الملك: ف ع إلك يرد على يدى فإن أجابك فلم أعرض لها فقال إبراهيم عليه السلام: إلهى رد إليه يده لكيف عن حرمتي. قال: فرد الله عزوجل إليه يده فأقبل الملك نحوها ببصره ثم عاد بيده نحوها فأعرض إبراهيم عنه بوجهه غيرة
________________________________________
(1) بالمعجمة فالمهملة بقال: غصبه على كذا أي قهره. (*)
________________________________________
[ 231 ]
منه، وقال: اللهم احبس يده ولم تصل إليها. فقال الملك لابراهيم عليه السلام: إن إلهك لغيور وإم ك لغيور فدع إلهك يرد إلى يدى فإنه إن فعل لم أعد فقال ابراهيم عليه السلام: أسأله ذالك على إنك إن عدت لم تسألني أن أسأله فقال له الملك: نعم فقال ابراهيم عليه السلام: اللهم إن كان صادقا فرد يده عليه فرجعت إليه يده. فلما رأى ذلك من الغيرة ما رأى الاية في يده عظم ابراهيم عليه السلام وهاب و أكرمه واتقاه، وقال له: قد أمنت من أن أعرض لها أو لشئ مما معك فانطلق حيث شئت ولكن لى إليك حاجة فقال ابراهيم عليه السلام: ما هي ؟ فقال له: أحب أن تأذن لى أن اخدمها قبطيه ة عندي جميلة عاقلة تكون لها خادما قال: فأذن ابراهيم عليه السلام فدعا بها فوهبها لسارة وهى هاجر م اسماعيل عليه السلام. فسار ابراهيم عليه السلام بجميع ما معه، وخرج الملك معه يمشى خلف أبراهيم عليه السلام إعظاما لابراهيم وهيبة له فأوحى الله تبارك وتعالى إلى إبراهيم عليه السلام أن قف ولا تمش قدام الجبار المتسلط ويمشى وهو خلفك، ولكن اجعله أمامك وامش خلفه وعظمه وهبه فإنه مسلط ولا بد من إمرة في الارض برة أو فاجرة فوقف ابراهيم عليه السلام قال للملك: امض فإن إلهى أوحى إلى الساعة أن أعظمك وأهابك، وأن اقدمك أمامى وأمشى خلفك إحلالا لك فقال له الملك: أوحى إليك بهذا ؟ فقال ابراهيم عليه السلام نعم فقال له الملك: أشهد أن إلهك لرفيق حليم كريم وأنك ترغبني في دينك. قال: وودعه الملك فسار ابراهيم عليه السلام حتى نزل بأعلى الشامات، وخلف لوطا عليه السلام في أدنى الشامات. ثم أن ابراهيم عليه السلام لما أبطأ عليا لولد قال لسارة: لو شئت لبعتني هاجر لعل الله أن يرزقنا منها ولدا فيكون لنا خلفا، فابتاع ابراهيم عليه السلام هاجر من سارة فوقع عليها فولدت اسماعيل عليه السلام. ومن ذلك ما ذكرته أعنى التوراة في قصة الذبح أن الذبيح هو إسحاق دون إسماعيل عليهما السلام مع أن قصة إسكانه بأرض تهامة وبنائه الكعبة المشرفة وتشريع عمل الحج الحاكى لما جرى عليه وعلى امه من المحنة والمشقة في ذات الله، وقد اشتمل على الطواف والسعى والتضحية كل ذلك تؤيد كون الذبيح هو إسماعيل دون إسحاق عليهما السلام. وقد وقع في إنجيل برنابا أن المسيح لام اليهود ووبخهم على قولهم بأن الذبيح هو
________________________________________
[ 232 ]
إسحاق دون إسماعيل قال في الفصل 44: فكلم الله ابراهيم قائلا: خذ ابنك بكرك إسماعيل واصعد الجبل لتقدمه ذبيحة فكيف يكون إسحاق البكر وهو لما ولد كان اسماعيل ابن سبع سنين الفصل 44 آية 11 - 12. وأما القرآن فإن آياته كالصريحة في كون الذبيح هو إسماعيل عليه السلام قال تعالى بعد ما ذكر قصة كسر الاصنام وإلقائه في النار وجعلها بردا وسلاما: (فأرادوا به كيدا فجعلناهم الاسفلين وقال إنى ذاهب إلى ربى سيهدين رب هب لى من الصالحين فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بنى إنى أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزى المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الاخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزى المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين) (الصافات: 113). والمتدبر في الايات الكريمة لا يجد مناصا دون أن يعترف ان الذبيح هو الذى ذكر الله سبحانه البشارة به في قوله: (فبشرناه بغلام حليم) وأن البشارة الاخرى التى ذكرها أخيرا بقوله (وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين) غير البشارة الاولى، والذى بشر به في الثانية وهو إسحاق عليه السلام غير الذى بشر به في الاولى وأردفها بذكر قصة التضحية به. وأما الروايات فالتى وردت منها من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام تذكر أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، والتى رويت من طرق أهل السنة والجماعة مختلفة: فصنف يذكر إسماعيل وصنف يذكر إسحاق عليهما السلام غير أنك عرفت أن الصنف الاولى هو الذى يوافق الكتاب. قال الطبري في تاريخه: اختلف السلف من علماء امة نبينا محمد صلى الله عليه وآله في الذى امر إبراهيم بذبحه من ابنيه فقال بعضهم: هو إسحاق بن إبراهيم، وقال بعضهم: هو اسماعيل ابن ابراهيم. وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وآله كلا القولين لو كان فيهما صحيح لم نعده إلى غيره غير أن الدليل من القرآن على صحة الرواية التى رويت عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: هو إسحاق أوضح وأبين منه على صحة الاخرى.
________________________________________
[ 233 ]
إلى أن قال: وأما الدلالة من القرآن التى قلنا: إنها على أن ذلك إسحاق أصح فقوله تعالى مخبرا عن دعاء خليله إبراهيم حين فارق قومه مهاجرا إلى ربه إلى الشام مع زوجتة سارة قال: (إنى ذاهب إلى ربى سيهدين رب هب لى من الصالحين) وذلك قبل أن يعرف هاجر، وقبل أن تصير له ام اسماعيل ثم أتبع ذلك ربنا عزوجل الخبر عن إجابة دعائه وتبشيره إياه بغلام حليم ثم عن رؤيا ابراهيم أنه يذبح ذلك الغلام حين بلغ معه السعي. ولا نعلم في كتاب الله عزوجل تبشيرا لابراهيم بولد ذكر إلا بإسحاق وذلك قوله: (وأمراتة قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) وقوله: فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم). ثم ذلك كذلك في كل موضع ذكر فيه تبشير ابراهيم بغلام فإنما ذكر تبشير الله إياه به من زوجته سارة فالواجب أن يكون ذلك في قوله: (فبشرناه بغلام حليم) نظير ما في سائرسور القرآن من تبشيره إياه من زوجته سارة. وأما اعتلال من اعتل بأن الله لم يأمربذبح إسحاق وقد أتته البشارة من الله قبل ولادته بولادته وولادة يعقوب منه من بعده فإنها علة غير موجبة صحة ما قال، وذلك أن الله تعالى إنما أمر ابراهيم بذبح اسحاق بعد إدراك اسحاق السعي وجائز أن يكون يعقوب ولد له قبل أن يؤمرأبوه بذبحه. وكذلك لا وجه لاعتلال من اعتل في ذلك بقرن الكبش أنه رآه معلقا بالكعبة وذلك أنه غير مستحيل أن يكون حمل من الشام إلى الكعبة فعلق هنالك، انتهى كلامه. وليت شعرى كيف خفى عليه أن ابراهيم عليه السلام لما سأل ربه الولد عند مهاجرته إلى الشام وعنده سارة ولا خبر عن هاجر يومئذ سأل ذلك بقوله: (رب هب لى من الصالحين) فسأل ربه الولد، ولم يسأل أن يرزقه ذلك من سارة حتى تحمل البشارة المذكورة عقيبه على البشارة بإسحاق فإنما قال: (رب هب لى) ولم يقل: رب هب لى من سارة. وأما ما ذكره أن المعروف من سائر مواضع كتاب الله هو البشرى بإسحاق فيجب
________________________________________
[ 234 ]
أن نحمل البشرى في هذا الموضع عليه أيضا. فمع ما سيجئ من الكلام عليه في سائر الموارد التى أشار إليها هو في نفسه قياس لا دليل عليه بل الدليل على خلافه فإن الله سبحانه في هذه الايات لما ذكر البشارة بغلام حليم ثم ذكر قصة الذبح استأنف ثانيا ذكر البشارة بإسحاق ولا يرتاب المتدبر في هذا السياق أن المبشر به ثانيا غير المبشر به أولا فقد بشر إبراهيم عليه السلام قبل اسحاق بولد له آخر وليس إلا اسماعيل، وقد اتفق الرواة والنقلة وأهل التاريخ أن اسماعيل ولد لابراهيم قبل اسحاق عليهم السلام جميعا. ومن ذلك التدافع البين فيما تذكره التوراة من أمر اسماعيل فإنها تصرح أن اسماعيل ولد لابراهيم عليهم السلام قبل أن يولد له اسحاق بما يقرب من أربعة عشر عاما وان ابراهيم عليه السلام طرده وامه هاجر بعد تولد اسحاق لما استهزأ بسارة ثم تسرد قصة إسكانهما الوادي ونفاد الماء الذى حملته هاجر وعطش اسماعيل ثم إراءة الملك إياها الماء، ولا يرتاب الناظر المتدبر في القصة ان اسماعيل كان عندئذ صبيا مرضعا فعليك بالرجوع إليها والتأمل فيها، وهذا هو الذى يوافق المأثور من أخبارنا. 6 - القرآن الكريم يعتنى أبلغ الاعتناء بقصة ابراهيم عليه السلام من جهة نفسه ومن جهة ابنيه الكريمين اسماعيل واسحاق وذريتهما معا بخلاف ما يتعرض له في التوراة فإنها تقصر الخبر عنه بما يتعلق بإسحاق وشعب إسرائيل، ولا يلتفت إلى اسماعيل إلا ببعض ما يهون أمره ويحقر شأنه، ومع ذلك لا يخلو يسير ما تخبر عنه عن التدافع فتارة تذكر خطاب الله سبحانه لابراهيم عليه السلام أن نسلك الباقي هومن إسحاق، وتارة اخرى خطابه أن الله بارك لنسلك من عقب اسماعيل وسيجعله امة كبيرة، وتارة تعرفه إنسانا وحشيا يضاد الناس ويضاده الناس قد نشأ رامى قوس مطرودا عن بيت ابيه، وتاره تذكر ان الله معه. وبالتأمل فيما تقدم من قصته عليه السلام في القرآن يظهر الجواب عن إشكالين أشكل بهما على الكتاب العزيز. الاشكال الاول ما ذكره بعض المستشرقين (1) ان القرآن في سوره المكية لا
________________________________________
(1) نقله النجار في قصص الانبياء عن المستشرق هجرونييه والمستشرق فنسنك. في دائرة المعارف الاسلامية.
________________________________________
[ 235 ]
يتعرض لشأن ابراهيم واسماعيل عليهما السلام إلا كما يتعرض لشأن سائر الرسل من أنهم كانوا على دين التوحيد ينذرون الناس ويدعونهم إلى الله سبحانه من غير أن يذكر بناءه الكعبة وصلته بإسماعيل وكونهما داعيين للعرب إلى دين الفطرة والملة الحنيفية. لكن السور المدينة كالبقرة والحج وغيرهما تذكر ابراهيم واسماعيل متصلين اتصال الابوة والبنوة وأبوين للعرب مشرعين لها دين الاسلام بانيين للكعبة البيت الحرام. وسر هذا الاختلاف أن محمدا كان قد اعتمد على اليهود في مكة فما لبثوا أن اتخذوا حياله خطة عداء فلم يكن له بد أن التمس غيرهم ناصرا. هناك هداه ذكاء مسدد إلى شأن جديد لابي العرب ابراهيم وبذلك استطاع أن يخلص من يهودية عصره ليصل حبله بيهودية إبراهيم فعده أبا للعرب مشيدا لدينهم الاسلام بانيا لبيتهم المقدس الذى في مكه لما أن هذه المدينة كانت تشغل جل تفكيره. انتهى ملخصا. وقد أزرى المستشكل على نفسه بهذه الفرية التى نسبها إلى الكتاب العزيز الذى له شهرته العالمية التى لا يتحجب معها على شرقي ولا غربي فكل باحث متدبر يشاهد ان القرآن الكريم لم يداهن مشركا ولا يهوديا ولا نصرانيا ولا غيرهم في سورة مكية ولا مدنية ولم يختلف لحن قوله في تخطئة اليهود ولا غيرهم بحسب مكية السور ومدنيتها. غير أن الايات القرآنية لما نزلت نجوما بحسب وقوع الحوادث المرتبطة بالدعوة الدينيه، وكان الابتلاء بأمر اليهود بعد الهجرة كان التعرض لشؤونهم والابانة عن التشديد في قهم لا محالة في الايات النازلة في تضاعيف السور المدينة كتفاصيل الاحكام المشرعة التى أنزلت فيها حسب مسيس الحاجة بحدوث الحوادث. وأما ما ذكراه من اختصاص حديث اتصال اسماعيل بإبراهيم عليهما السلام وبناء الكعبة وتأسيس الدين الحنيف بالسور المدنية فيكذبه قوله تعالى في سورة ابراهيم وهى مكية فيما حكاه من دعاء ابراهيم عليه السلام: (وإذ قال ابراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبنى أن نعبد الاصنام - إلى أن قال - ربنا إنى أسكنت من ذريتي بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئده من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون - إلى ان قال - الحمد لله الذى وهب لى على الكبر اسماعيل وإسحاق إن ربى لسميع الدعاء) (ابراهيم: 39). وقد مر نظيره في الايات المنقولة من سورة الصافات آنفا المنبئة عن قصة الذبيح.
________________________________________
[ 236 ]
وأما ما ذكراه من يهودية ابراهيم عليه السلام فإن القرآن يرده بقوله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تحاجون في ابراهيم وما أنزلت التوراة والانجيل إلا من بعده أفلا تعقلون - إلى ان قال - ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (آل عمران 67). الاشكال الثاني: أن الصابئين وهم عبدة الكواكب الذين يذكر القرآن تعرض ابراهيم عليه السلام لالهتهم بقوله: ((فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربى) إلى آخر الايات إنما كانوا بمدينة حران التى هاجر إليها ابراهيم عليه السلام من بابل أو من (اور) ولازمه ان يكون حجاجه عبدة الكواكب بعد مدة من حجاجه عبدة الاصنام وكسره الاصنام ودخوله النار، ولا يلائم ذلك ما هو ظاهر الايات أن قصة الحجاج مع عبدة الاصنام والكواكب وقعت جميعا في يومين عند أول شخوصه إلى أبيه وقومه كما تقدم بيانه. أقول: وهذا في الحقيقة إشكال على التفسير الذى تقدم إيراده في بيان الايات لا على أصل الكتاب. ومع ذلك ففيه غفلة عما يثبته التاريخ ويعطيه الاعتبار الصحيح أما الاعتبار فإن المملكة التى ينتحل في بعض بلاده العظيمة بدين من الاديان الشائعة المعروفة كالصابئية التى كانت يؤمئذ من الاديان المعروفة في الدنيا لا يخلو من شيوع في سائر بلادها ووجود جماعة من منتحليه منتشرة في أقطارها. وأما التاريخ فقد ذكر شيوعه كشيوع الوثنية ببابل ووجود معابد كثيرة فيها بنيت على اسماء الكواكب وأصنام لها منصوبة فيها فقد جاء في تاريخ ارض بابل وما والاها ذكر بناء معبد إله الشمس وإله القمر في حدود سنة ثلاثة آلاف ومائتين قبل المسيح، وفي نصب شريعة حمورابي ذكر إله الشمس وإله القمر وهو مما يقرب زمن الخليل ابراهيم عليه السلام. وقد تقدم فيما نقلناه من كتاب الاثار الباقية لابي ريحان البيرونى (1): أن يوذاسف ظهر عند مضى سنة من ملك طهمورث بأرض الهند، وأتى بالكتابة الفارسية، ودعا إلى
________________________________________
(1) في بحث تاريخي في ذيل الاية 62 من سورة البقره.
________________________________________
[ 237 ]
ملة الصابئين فأتبعه خلق كثير، وكانت الملوك البيشدادية وبعض الكيانية ممن كان يستوطن بلخ يعظمون النيرين والكواكب وكليات العناصر إلى وقت ظهور زراتشت عند مضى ثلاثين سنة من ملك بشتاسف. وساق الكلام إلى أن قال: وينسبون التدبير إلى الفلك وأجرامه ويقولون بحياتها ونطقها وسمعها وبصرها، ويعظمون الانوار، ومن آثارهم القبة التى فوق المحراب عند المقصورة من جامع دمشق كان مصلاهم، وكان اليونانيون والروم على دينهم، ثم صارت في أيدى اليهود فعملوها كنيستهم، ثم تغلب عليها النصارى فصيروها بيعة إلى أن جاء الاسلام وأهله فاتخذو ها مسجدا. وكانت لهم هياكل وأصنام بأسماء الشمس معلومة الاشكال كما ذكرها أبو معشر البلخى في كتابه في بيوت العبادات مثل هيكل بعلبك كان لصنم الشمس، وقران فإنها منسوبة إلى القمر وبناؤها على صورته كالطيلسان، وبقربها قرية تسمى سلمسين واسمها القديم: صنم سين أي صنم القمر: وقرية اخرى تسمى ترع عوز أي باب الزهرة. ويذكرون أن الكعبة وأصنامها كانت لهم، وعبدتها كانوا من جملتهم وأن اللات كان باسم زحل، والعزى باسم الزهرة، انتهى. وذكر المسعودي أن مذهب الصابئة كان نوعا من التحول والتكامل في دين الوثنية وأن الصبوة ربما كانت تتحول إلى الوثنية لتقارب مأخذيهما، وأن الوثنية ربما كانوا يعبدون أصنام الشمس والقمر والزهرة وسائر الكواكب تقربا بها إلى آلهتها ثم إلى إله الالهة. قال في مروج الذهب: كان كثير من أهل الهند والصين وغيرهم من الطوائف يعتقدون أن الله عزوجل جسم، وأن الملائكة أجسام لها أقدار وأن الله تعالى وملائكتة احتجبوا بالسماء، فدعاهم ذلك إلى ان اتخذوا تماثيل وأصناما على صورة الباري عزوجل وبعضها على صورة الملائكة مختلفة القدود والاشكال، ومنها على صورة الانسان وعلى خلافها من الصور يعبدونها، وقربوا لها القرابين، ونذروا لها النذور لشبهها عندهم بالبارى تعالى وقربها منه. فأقاموا على ذلك برهة من الزمان وجملة من الاعصار حتى نبههم بعض حكمائهم على أن الافلاك والكواكب أقرب الاجسام المرئية إلى الله تعالى وأنها حية ناطقة، وأن
________________________________________
[ 238 ]
الملائكة تختلف فيهما بينها وبين الله، وأن كل ما يحدث في هذا العالم فإنما هو على قدر ما تجرى به الكواكب عن أمر الله فعظموها وقربوا لها القرابين لتنفعهم فمكثوا على ذلك دهرا. فلما رأوا الكواكب تخفى بالنهار وفي بعض أوقات الليل لما يعرض في الجو من السواتر أمرهم بعض من كان فيهم من حكمائهم أن يجعلوا لها أصناما وتماثيل على صورها وأشكالها فجعلوا لها أصناما وتماثيل بعدد الكواكب الكبار المشهورة، وكل صنف منهم يعظم كوكبا منها، ويقرب لها نوعا من القربان خلاف ما للاخر على أنهم إذا عظموا ما صوروا من الاصنام تحركت لهم الاجسام العلوية من السبعة بكل ما يريدون، وبنوا لكل صنم بيتا وهيكلا مفردا، وسموا تلك الهياكل بأسماء تلك الكواكب. وقد ذهب قوم إلى أن البيت الحرام هو بيت زحل، وإنما طال عندهم بقاء هذا البيت على مرور الدهور معظما في سائر الاعصار لانه بيت زحل، وأن زحل تولاه لان زحل من شأنه البقاء والثبوت، فما كان له فغير زائل ولا داثر، وعن التعظيم غير حائل وذكروا امورا أعرضنا عن ذكرها لشناعة وصفها. ولما طال عليهم العهد عبدوا الاصنام على أنها تقربهم إلى الله وألغوا عبادة الكواكب فلم يزالوا على ذلك حتى ظهر يوذاسف بأرض الهند وكان هنديا، وكان يوذاسف خرج من أرض الهند إلى السند ثم سار إلى بلاد سجستان وبلاد زابلستان وهى بلاد فيروز بن كبك ثم دخل السند ثم إلى كرمان. فتنبأ وزعم أنه رسول الله، وأنه واسطة بين الله وبين خلقه، وأتى أرض فارس، وذلك في أوائل ملك طهمورث ملك فارس، وقيل: ذلك في ملك جم، وهو أول من أظهر مذاهب الصابئة على حسب ما قدمنا آنفا فيما سلف من هذا الكتاب. وقد كان يوذاسف أمر الناس بالزهد في هذا العالم، والاشتغال بما علا من العوالم، إذ كان من هناك بدء النفوس وإليها يقع الصدر من هذا العالم، وجدد يوذاسف عند الناس عبادة الاصنام والسجود لها لشبه ذكرها، وقرب لعقولهم عبادتها بضروب من الحيل والخدع. وذكرذووا الخبرة بشأن هذا العالم وأخبار ملوكهم: أن جم الملك أول من عظم
________________________________________
[ 239 ]
النار ودعا الناس إلى تعظيمها، وقال إنها تشبه ضوء الشمس والكواكب لان النور عنده أفضل من الظلمة، وجعل للنور مراتب. ثم تنازع هؤلاء بعده فعظم كل فريق منهم ما يرون تعظيمه من الاشياء تقربا إلى الله بذلك. ثم ذكر المسعودي البيوت المعظمة عندهم وهى سبعة الكعبة البيت الحرام باسم زحل، وبيت على جبل مارس بإصفهان، وبيت مندوسان ببلاد الهند، وبيت نوبهار بمدينة بلخ على اسم القمر، وبيت غمدان بمدينة صنعاء من بلاد اليمن على اسم الزهرة، وبيت كاوسان بمدينة فرغانة على اسم الشمس، وبيت بأعالى بلاد الصين على اسم العلة الاولى. واليونان والروم القديم والصقالبة بيوت معظمة بعضهما مبنية على اسم الكواكب كالبيت الذى بتونس للروم الذى على اسم الزهرة ثم ذكر المسعودي أن للصابئين من الحرانيين (1) هياكل على أسماء الجواهر العقلية والكواكب فمن ذلك هيكل العلة الاولى وهيكل العقل. قال: ومن هياكل الصابئة هيكل السلسلة، وهيكل الصورة وهيكل النفس وهذه مدورات الشكل، وهيكل زحل مسدس، وهيكل المشترى مثلث، وهيكل المريخ مربع مستطيل، وهيكل الشمس مربع، وهيكل عطارد مثلث الشكل، وهيكل الزهر. مثلث في جوف مربع مستطيل، وهيكل القمر مثمن الشكل، وللصابئة فيما ذكرنا رموز وأسرار يخفونها، انتهى. وقريب منه ما في الملل والنحل للشهرستاني. وقد تبين مما نقلناه أولا: أن الوثنية كما كانت تعبد أصناما للالهة وأرباب الانواع كذلك كانت تعبد أصنام الكواكب والشمس والقمر، وكانت عندهم هياكل على أسمائها، ومن الممكن أن يكون حجاج إبراهيم عليه السلام في أمر الكواكب والقمر والشمس، مع الوثنية العابدين لها المتقربين بها دون الصابئة كما يمكن أن يكون مع بعض الصابئين في مدينة بابل أو بلدة اور أو كوثاريا على ما في بعض الروايات المنقولة سالفا. على أن ظاهر ما يقصه القرآن الكريم: أن إبراهيم عليه السلام حاج أباه وقومه وتحمل أذاهم في الله حتى اعتزلهم وهجرهم بالمهاجرة من أرضهم إلى الارض المقدسة من غير أن يتغرب من أرضهم إلى حران أولا ثم من حران إلى الارض المقدسة، والذى ضبطه كتب
________________________________________
(1) يطلق الحرانيون على الصابئين مطلقا لاشتهار حران بهذا الدين.
________________________________________
[ 240 ]
التاريخ من مهاجرته إلى حران أولا ثم من حران إلى الارض المقدسة لا مأخذ له غير التوراة أو أخبار غير سليمة من نفثة إسرائيلية كما هو ظاهرلمن تدبر تاريخ الطبري وغيره. على ان بعضهم ذكروا أن حران المذكور في التوراة كان بلدا قرب بابل بين الفرات وخابور، وهو غير حران الواقع قرب دمشق الموجود اليوم (1). نعم ذكر المسعودي ان الذى بقى من هياكلهم - الصابئة - المعظمة في هذا الوقت - وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة - بيت لهم بمدينة حران في باب الرقة يعرف (بمغليتيا) وهو هيكل آزر أبى إبراهيم الخليل عليه السلام عندهم، وللقوم في آزر وابنة إبراهيم كلام كثير، انتهى. ولا حجة في قولهم على شئ. وثانيا: أنه كما اأ الوثنية ربما كانت تعبد الشمس والقمر والكواكب كذلك الصابئة كانت تبنى بيوتا وهياكل لعبادة غير الكواكب والقمر والشمس كالعلة الاولى والعقل والنفس وغيرها كالوثنية وتتقرب إليها مثلهم وقد ذكر هيرودوتوس في تاريخه في ما يصف معبد بابل أنه كان مشتملا على ثمانية أبراج بعضها مبنية على بعض وأن آخر الابراج وهو أعلاها كان مشتملا على قبة وسيعة ما فيها غير عرش عظيم حياله طاولة من ذهب، وليس في القبة شئ من التماثيل والاصنام، ولا يبيت فيها أحد إلا امرأة يزعم الناس أن الله هو اختارها للخدمة ووظفها للملازمة. انتهى (2). ولعله كان للعلة الاولى المنزهة عن الهيئات والاشكال وإن كانوا ربما يصورونه بما يتوهمونه من الصور كما ذكره المسعودي. وقد ثبت أن فلا سفتهم كانوا ينزهون الله تعالى عن الهيئات الجسمانية والاشكال والاوضاع المادية ويصفونة بما يليق به من الصفات غير أنهم كانوا يتقون العامة أن يظهروا ما يعتقدونه فيه سبحانه إما لعدم استعداد أفهامهم لتلقى ذلك، أو لمقاصد وأغراض سياسية توجب كتمان الحق.
________________________________________
(1) ذكره في قاموس الكتاب المقدس في (حران). (2) تاريخ هيرودوتوس اليونانى المؤلف في حدود 500 ق. م.
________________________________________
[ 241 ]
* * * ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزى المحسنين - 84. وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين - 85. وإسمعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين - 86. ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم - 87. ذلك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون - 88. أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين - 89. أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لا اسئلكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين - 90. (بيان) اتصال الايات بما قبلها واضح لا يحتاج بعض الامتنان عليه وعلى من عد معه من الانبياء كما هو ظاهر قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) وقوله: (و كذلك نجزى المحسنين) وقوله: (وكلا فضلنا على العالمين) إلى غير ذلك لكنها ليست مسوقة لذلك فحسب كما يظهر من بعض المفسرين بل لبيان النعم الجسيمة والايادي الجميلة الالهية التى يتعقبها التوحيد الفطري والاهتداء بالهداية الالهية.
________________________________________
[ 242 ]
فإن ذلك هو الموافق لغرض هذه السورة التى تبين فيها مسألة التوحيد على ما تهدى إليه الفطرة التى فطر الناس عليها، وقد تقدم أن قصة إبراهيم عليه السلام بالنسبة إلى الايات السابقة من السورة بمنزلة المثال المضروب لبيان عام. وفي سياق الايات مضافا إلى بيان التوحيد بيان أن عقيدة التوحيد محفوظة بين الناس في سلسلة متصلة ركبت حلقاتها بعضها على بعض بهداية إلهية وعناية خاصة ربانية حفظ الله بها الفطرة الالهية من أن تضيع بالاهواء الشيطانية، وتسقط رأسا من الفعلية فيبطل بذلك غرض الخلقة ويذهب سدى كما يشعر بذلك قوله: (ووهبنا له) الخ. وقوله: (ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته) الخ، وقوله: (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم وقوله فان يكفر بها هؤلاء الخ. وفي طى الايات بيان ما تمتاز به الهداية الالهية من غيرها من الخصائص وهى الاجتباء واستقامة الصراط وإيتاء الكتاب والحكم والنبوة على ما سيجئ من البيان إن شاء الله. قوله تعالى: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا) إسحاق هو ابن ابراهيم ويعقوب هو ابن إسحاق عليهما السلام، وقوله: (كلاهدينا) قدم فيه كلا للدلالة على أن الهداية الالهة تعلقت بكل واحد من المعدودين استقلالا لا انها تعلقت ببعضهم استقلالا كإبراهيم وبغيره بتبعه، فهو بمنزلة أن يقال هدينا إبراهيم وهدينا إسحاق وهدينا يعقوب. كما قيل. قوله تعالى: (ونوحا هدينا من قبل) فيه إشعار بأن سلسلة الهداية غير منقطعة ولا مبتدئة من إبراهيم عليه السلام بل كانت الرحمة قبله شاملة لنوح عليه السلام. قوله تعالى: (ومن ذريته داود وسليمان - إلى قوله - وكذلك نجزى المحسنين) الضمير في (ذريته) راجع إلى نوح ظاهرا لانه المرجع القريب لفظا، ولان في المعدودين من ليس هو من ذرية إبراهيم مثل لوط وإلياس، على ما قيل. وربما قيل: إن الضمير يعود إلى إبراهيم عليه السلام وقد ذكر لوط وإلياس عليهما السلام من الذرية تغليبا قال: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب) (العنكبوت: 27) أو أن المراد بالذرية هم الستة المذكورون في هذه الاية
________________________________________
[ 243 ]
دون الباقين، وأما قوله: (وزكريا) الخ، وقوله: (وإسماعيل) الخ، فمعطوفان على قوله: ومن (ذريته) لا على قوله: (داود) الخ، وهو بعيد من السياق. وأما قوله: (وكذلك نجزى المحسنين) فالظاهر أن المراد بهذا الجزاء هو الهداية الالهية المذكورة، وإليها الاشارة بقوله (كذلك) والاتيان بلفظ الاشارة البعيدة لتفخيم أمر هذه الهداية فهو نظير قوله: (كذلك يضرب الله الامثال) (الرعد: 17) والمعنى نجزى المحسنين على هذا المثال. قوله تعالى: (وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين) تقدم الكلام في معنى الاحسان والصلاح فيما سلف من المباحث وفي ذكر عيسى بين المذكورين من ذرية نوح عليهما السلام وهو إنما يتصل به من جهة أمة ه مريم دلالة واضحة على أن القرآن الكريم يعتبرأولاد البنات وذريتهن أولادا وذرية حقيقة، وقد تقدم استفادة نظير ذلك من آية الارث وآية محرمات النكاح، وللكلام تتمة ستوافيك في البحث الروائي الاتى إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: (وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين) الظاهر أن المراد بإسماعيل هو ابن ابراهيم أخو إسحاق عليهم السلام وقوله: (اليسع) بفتحتين كأسد وقرئ (الليسع) كالضيغم أحد أنبياء بنى إسرائيل ذكر الله اسمه مع إسماعيل عليهما السلام كما في قوله: (واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الاخيار) (ص: 48) ولم يذكر شيئا من قصته في كلامه. وأما قوله: (وكلا فضلنا على العالمين) فالعالم هو الجماعة من الناس كعالم العرب وعالم العجم وعالم الروم، ومعنى تفضيلهم على العالمين تقديمهم بحسب المنزلة على عالمى زمانهم لما أن الهداية الخاصة الالهية أخذتهم بلا واسطة، وأما غيرهم فإنما تشملهم رحمة الهداية بواسطتهم، ويمكن أن يكون المراد تفضيلهم بما أنهم طائفة مهدية بالهداية الفطرية الالهية من غير واسطة على جميع العالمين من الناس سواء عاصروهم أو لم يعاصروهم فإن الهداية الالهية من غير واسطة نعمة يتقدم بها من تلبس بها على من لم يتلبس، وقد شملت المذكورين من الانبياء ومن لحق بهم من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم فالمجتمع الحاصل منهم مفضل على غيرهم جميعا بتفضيل إلهى.
________________________________________
[ 244 ]
وبالجملة الملاك في أمر هذا التفضيل هو التلبس بتلك الهداية الالهية التى لا واسطة فيها، والانبياء فضلوا على غيرهم بسبب التلبس بها فلو فرض تلبس من غيرهم بهذه الهداية كالملائكة كما ربما يظهر من كلامه تعالى وكالائمة على ما تقدم في البحث عن قوله تعالى: (وإذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات) (البقرة: 124) في الجزء الاول من الكتاب فلا يفضل عليهم الانبياء عليه السلام من هذه الحيثية وإن أمكن أن يفضلوا عليهم من جهة اخرى غير جهة الهداية. ومن هنا يظهر: أن استدلال بعضهم بالاية على أن الانبياء أفضل من الملائكة ليس في محله. ويظهر أيضا أن المراد بالتفضيل إنما هو التفضيل من حيث الهداية الالهية الخاصة التى أخذتهم من غير توسط أحد، وأما كونهم أهل الاجتباء وأهل الصراط المستقيم وأهل الكتاب والحكم والنبوة فأمر خارج عن مصب التفضيل المذكور في هذه الاية. واعلم أن الذى وقع في الايات الثلاث من ذكر من عدده الله تعالى من الانبياء بأسمائهم - وهم سبعة عشر نبيا - لم يراع فيه الترتيب الذى بينهم لا بحسب الزمان وهو ظاهر، ولا بحسب الرتبة والفضيلة فإن فيهم نوحا وموسى وعيسى عليه السلام، وهم أفضل من باقى المذكورين بنص الكتاب كما تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب وقد قدم عليهم غيرهم في الذكر. وقد ذكر صاحب المنار في وجه الترتيب المأخوذ في الايات الثلاث بين الانبياء المسمين فيها - وهم أربعة عشر نبيا - ما ملخصه: أنه تعالى جعلهم ثلاثة أقسام لمعان في ذلك جامعة بين كل قسم منهم. فالقسم الاول: داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون، والمعنى الجامع بينهم أن الله تعالى آتاهم الملك والامارة والحكم والسيادة مع النبوة والرسالة، وقد قدم ذكر داود وسليمان وكانا ملكين غنيين منعمين، وذكر بعدهما أيوب ويوسف، وكان أيوب أميرا غنيا عظيما محسنا، وكان يوسف وزيرا عظيما وحاكما متصرفا، وقد ابتليا بالضراء فصبرا وبالسراء فشكرا، وبعد ذلك موسى وهارون وكانا حاكمين في قومهما ولم يكونا ملكين.
________________________________________
[ 245 ]
فكل زوجين من هذه الازواج الثلاثة ممتاز بمزية والترتيب مع ذلك من حيث نعم الدنيا فداود وسليمان كانا أكثر تمتعا من نعمها من أيوب ويوسف، وهما من موسى وهارون، أو الترتيب من حيث الفضل الدينى فالظاهر أن موسى وهارون أفضل من أيوب ويوسف، وهما أفضل من داود وسليمان لجمعهما بين الصبر في الضراء والشكر في السراء. والقسم الثاني: زكريا ويحيى وعيسى وإلياس، وهؤلاء قد امتازوا بشدة الزهد في الدنيا، والاعراض عن لذائذها، والرغبة عن زينتها، ولذلك خصهم هنا بوصف الصالحين لان هذا الوصف أليق بهم عند مقابلتهم بغيرهم وإن كان كل نبى صالحا ومحسنا على الاطلاق. والقسم الثالث: إسماعيل واليسع ويونس ولوط، وأخر ذكرهم لعدم الخصوصية إذ لم يكن لهم من ملك الدنيا وسلطانها ما كان للقسم الاول ولا من المبالغة من الاعراض عن الدنيا ما كان للقسم الثاني، انتهى ملخصا. وفي تفسير الرازي ما يقرب منه وإن كان ما ذكره أوجه بالنسبة إلى ما ذكره الرازي، ويرد على ذكراه جميعا أنهما جعلا القسم الثالث من لا خصوصية له يمتاز به وهو غير مستقيم فإن إسماعيل عليه السلام قد ابتلاه الله بأمر الذبح فصبر على ما امتحنه الله تعالى به قال تعالى: فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السعي قال يا بنى إنى أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني أن شاء الله من الصابرين - إلى أن قال - إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الاخرين) (الصافات: 108) وهذا من الخصائص الفاخرة التى اختص الله بها إسماعيل عليه السلام، وبلاء مبين امتاز به حتى جعل الله تعالى التضحية في الحج طاعة عامة مذكرة لمحنته في جنب الله وترك عليه في الاخرين على أنه شارك أباه الكريم في بناء الكعبة وكفى به ميزا. وكذلك يونس النبي عليه السلام امتحنه الله تعالى بما لم يمتحن به أحدا من أنبيائه وهو ما التقمه الحوت فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين. وأما لوط فمحنه في جنب الله مذكورة في القرآن الكريم فقد قاسى المحن في أول أمره مع إبراهيم عليهما السلام حتى هاجر قومه وأرضه في صحابته، ثم أرسله الله إلى
________________________________________
[ 246 ]
أهل سدوم وما والاه مهد الفحشاء التى لم يسبقهم إليها أحد من العالمين حتى إذا شملهم الهلاك لم يوجد فيهم غير بيت المسلمين وهو من بيت لوط خلا امرأته. وأما اليسع فلم يذكر له في القرآن قصة، وإنما ورد في بعض الروايات أنه كان وصى إلياس وقد أتى قومه بما أتى به عيسى بن مريم عليه السلام من إحياء الموتى وإبراء الاكمه والابرص وقد ابتلى الله قومه بالسنة والقحط العظيم. فالاحسن أن يتمم الوجه المذكور لترتيب الاسماء المعدودة في الاية بأن يقال: إن الطائفة الاولى المذكورين - وهم ستة - اختصوا بالملك والرئاسة مع الرسالة، والطائفة الثانية - وهم أربعة - امتازوا بالزهد في الدنيا والاعراض عن زخارفها، والطائفة الثالثة - وهم أربعة - أولوا خصائص مختلفة ومحن إلهية عظيمة يختص كل بشئ من المميزات. والله أعلم. ثم إن الذى ذكره في أثناء كلامه من تفضيل موسى وهارون على أيوب ويوسف، وتفضيلهما على داود وسليمان بما ذكره من الوجه، وكذا جعله الصلاح بعنى الزهد والاحسان كل ذلك ممنوع لا دليل عليه. قوله تعالى: (ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم) هذا التعبير يؤيد ما قدمناه أن المراد بيان اتصال سلسلة الهداية حيث أضاف الباقين إلى المذكورين بأنهم متصلون بهم بابوة أو بنوة أو اخوة. قوله تعالى: (واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم) قال الراغب في المفردات: يقال: جبيت الماء في الحوض جمعته والحوض الجامع له جابية وجمعها (جواب) قال الله تعالى: وجفان كالجواب، ومنه استعير جبيت الخراج جباية ومنه قوله تعالى: يجبى إليه ثمرات كل شئ، والاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء قال عزوجل: فاجتباه ربه. قال: واجتباء الله العبد تخصيصه إياه بفيض إلهى يتحصل له منه أنواع من النعم بلا سعى من العبد، وذلك للانبياء وبعض من يقارنهم من الصديقين والشهداء كما قال تعالى: وكذلك يجتبيك ربك، فاجتباه ربه فجعله من الصالحين واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم وقوله تعالى: ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى، وقال عزوجل: يجتبى إليه من يشاء ويهدى إليه من ينيب، انتهى.
________________________________________
[ 247 ]
والذى ذكره من معنى الاجتباء وإن كان كذلك على ما يفيده موارد وقوعه في كلامه تعالى لكنه لازم المعنى الاصلى بحسب انطباقه على صنعه فيهم والذى يعطيه سياق الايات إن العناية تعلقت بمعنى الكلمة الاصلى وهو الجمع من مواضع وأمكنة مختلفة متشتتة فيكون تمهيدا لما يذكر بعده من الهداية إلى صراط مستقيم كأنه يقول: وجمعناهم على تفرقهم حتى إذا اجتمعوا وانضم بعضهم إلى بعض هديناهم جميعا إلى صراط كذا وكذا. وذلك لما عرفت أن المقصود بالسياق بيان اتصال سلسلة المهتدين بهذه الهداية الفطرية الالهية، والمناسب لذلك أن يتصور لهم اجتماع وتوحد حتى تشمل جمعهم الرحمة الالهية، ويهتدوا مجتمعين بهداية واحدة توردهم صراطا واحدا مستقيما لا اختلاف فيه أصلا فلا يختلف بحسب الاحوال، ولا بحسب الازمان، ولا بحسب الاجزاء، ولا بحسب الاشخاص السائرين فيه، ولا بحسب المقصد. وذلك أن صراطهم الذى هداهم الله إليه وإن كان يختلف بحسب ظاهر الشرائع سعة وضيقا إلا أن ذلك إنما هو بحسب الاجمال والتفصيل وقلة استعداد الامم وكثرته، والجميع متفق في حقيقة واحدة وهو التوحيد الفطري والعبودية التى تهدى إليه البنية الانسانية بحسب نوع الخلقة التى أظهرها الله سبحانه على ذلك ومن المعلوم أن الخلقة الانسانية بما أنها خلقة إنسانية لا تتغير ولا تتبدل تبدلا يقضى بتبدل أصول الشعور والارادة الانسانيين فحواس الانسان الظاهرة وإحساساته وعواطفه الباطنة ومبدء القضاء والحكم الذى فيه وهو العقل الفطري لا تزال تجرى بحسب الاصول على وتيرة واحدة وإن اختلفت الاراء والمقاصد بحسب الاستكمال التدريجي الذى يتعلق بالنوع والتنبه بجهات حوائج الحياة. فلا يزال الانسان يشعر بحاجته في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمنكح ويشتهي ما يريح نفسه الشحيحة، ويكره ما يؤلمه ويضربه، ويأمل سعادة الحياة ويخشى الشقاء وسوء العاقبة وأن اختلفت مظاهر حياته وصور أعماله عصرا بعد عصر وجيلا بعد جيل. قال تعال: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (الروم: 30) فالدين الحنيف
________________________________________
[ 248 ]
الالهى الذى هو قيم على المجتمع الانساني هو الذى تهدى إليه الفطرة وتميل إليه الخلقة البشرية بحسب ما تحس بحوائجها الوجودية، وتلهم بما يسعدها فيها من الاعتقاد والعمل، وبتعبير آخر من المعارف والاخلاق والاعمال. وهذا أمر لا يتغير ولا يتبدل لانه مبنى على الفطرة التكوينية التى لا سبيل للتغير والتبدل إليها فلا يختلف بحسب الاحوال والازمان بأن يدعو إلى السعادة الانسانية في حال دون حال أو في زمان دون زمان، ولا بحسب الاجزاء بأن يزاحم بعض أحكام الدين الحنيف بعضه الاخر بتناقض أو تضاد أو أي شئ آخر يؤدى إلى إبطال بعضها بعضا فإن الجميع ترتضع من ثدى التوحيد الذى يعدلها أحسن تعديل كما أن القوى البدنية إذا تنافت أو أراد بعضها أن يطغى على بعض فإن هناك حاكما مدبرا يدبر كلا على حسب ما له من الوزن والتأثير في تقويم الحياة الانسانية. ولا بحسب الاشخاص فإن المهتدين بهذه الهداية القيمة الفطرية لا يختلف مسيرهم، ولا يدعو آخرهم إلا إلى ما دعا إليه أولهم وإن اختلفت دعوتهم بالاجمال والتفصيل بحسب اختلاف أعصار الانسانية تكاملا ورقيا كما قال تعالى: (إن الدين عند الله الاسلام) (آل عمران: 19)، وقال: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذى أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيمو الدين ولا تتفرقوا فيه، (الشورى: 13). ولا بحسب المقصد والغاية فإنه التوحيد الذى يؤول إليه شتات المعارف الدينية والاخلاق الفاضلة والاحكام الشرعية قال تعالى: (وهديناهم إلى صراط مستقيم) وقد نكر الصراط من غير أن يذكر على طريق العهد كما في قوله: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم) (الحمد) لننوجه عناية الذهن إلى اتصافه بالاستقامة - والاستقامة في الشئ كونه على وتيرة واحدة في صفته وخاصته - فالصراط الذى هدوا إليه صراط لا اختلاف فيه في جهات وولا حال من الاحوال لما أنه صراط مبنى على الفطرة كما أن الفطرة الانسانية وهى نوع خلقته وكونه لا تختلف من الاحوال لما أنه صراط مبنى على الفطرة الانانية وهى نوع خلقته إنسانية والاهتداء إلى مقاصد الانسان التكوينية. فهؤلاء المهديون إلى مستقين الصراط في أمن إلهى من خطرات السير وعثرات
________________________________________
[ 249 ]
الطريق إذا كان الصراط الذى يسلكونه والمسير الذى يضربونه فيه لا اختلاف فيه بالهداية والاضلال والحق والباطل والسعادة واشقاوة بل هو مؤتلف الاجزاء ومتساوى الاحوال يقوم على الحق ويؤدى إلى الحق لا يدع صاحبه في حيرة، ولا يورده إلى ظلم وشقاء ومعصية قال تعالى: (الذين آمنو ولم يلبسو إيمانهم بظلم اولئك لهم الامن وهم مهتدون) (الانعام 82). قوله تعالى: (ذالك هدى الله يهدى به من يشاء من عباده) إلى آخر الاية. تعالى أن الذى ذكره من صفة الهداية التى هدى بها المذكورين من أنبيائه هو المعرف لهداه الخاص به الذى يهدى به من يشاء من عباده فالهدى إنما يكون هدى - حق الهدى - إذا كان من الله سبحانه، والهدى إنما يكون هدى الله إذا أورد المتلبس به صراطا مستقيما اتفق على الورود فيه أصحاب الهدى وهم الانبياء المكرمون عليهم السلام واتفق أجزاء ذلك الصراط في الدعوة إلى كلمة التوحيد وإقامة دعوة الحق والاتسام بسمة العبودية والتقوى. أما الطريق الذى يفرق فيه بين رسل الله فيؤمن فيه ببعض ويكفر ببعض أو يفرق فيه بين أحكام الله وشرائعه فيؤخذ فيه ببعض ويترك بعض، والطرق التى لا تضمن سعادة حياة المجتمع الانساني أو يسوق إلى بعض ما ليس فيه السعادة الانسانية فتلك هي الطرق التى لا مرضاة فيها لله سبحانه وقد انحرفت فيها عن شريعة الفطرة إلى مهابط الضلال ومزالق الاهواء، والاهتداء إليها ليس اهتداء بهدى الله سبحانه. قال تعالى: (إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، اولئك هم الكافرون حقا) (النساء: 151) وقال: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزى في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب) (البقرة: 85) وقال: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدى القوم الظالمين) (القصص: 50) يريد أن الطريق الذى فيه اتباع الهوى إنما هو ضلال لا يورد سالكه سعادة الحياة وليس بهدى الله لان فيه ظلما والله سبحانه لم يجعل الظلم ولن يجعله مما يتوسل به إلى سعادة ولا أن السعادة تنال بظلم.
________________________________________
[ 250 ]
وبالجملة هدى الله سبحانه من خاصته أنه لا يشتمل على ضلال ولا يجامع ضلالا بالتأدية إليه، وإنما هو الهدى محضا تتلوه السعادة محضة عطاء غير مجذوذ لكن لا على حد العطايا المعمولة فيما بيننا التى ينقطع معها ملك المعطى (بالكسر) عن عطيته وينتقل إلى المعطى (بالفتح) فيحوزه على أي حال سواء شكرأو كفر. بل هذه العطية الالهية إنما تقوم على شريطة التوحيد والعبودية فلا كرامة لاحد عليه تعالى ولا أمن له منه إلا بالعبودية محضا، ولذلك ذيل الكلام بقوله: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) وإنما ذكر الاشراك لان محط البيان إنما هو التوحيد. قوله تعالى: (أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة) الاشارة باللفظ المفيد للبعد للدلالة على علو شأنهم ورفعة مقامهم، والمراد بإيتائهم الكتاب وغيره إيتاء جمعهم ذلك بوصف المجموع وإن كان بعضهم لم يؤتوا بعض المذكورات كما مر في تفسير قوله: (واجتبيناهم وهديناهم) فإن الكتاب إنما أوتيه بعض الانبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليه السلام. والكتاب إذا نسب في كلامه تعالى إلى الانبياء عليهم السلام نوعا من النسبة يراد به الصحف التى تشتمل على الشرائع ويقضى بها بين الناس فيما اختلفوا فيه كقوله تعالى: (كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه) (البقرة: 213) وقوله: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون - إلى أن قال - وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله) (المائدة: 48). إلى غير ذلك من الايات. والحكم هو إلقاء النسبة التصديقية بين أجزاء الكلام كقولنا: فلان عالم، وإذا كان ذلك في الامور الاجتماعية والقضايا العملية التى تدور بين المجتمعين عد نوع النسبة حكما كما تسمى نفس القضية حكما كما يقال: يجب على الانسان أن يفعل كذا ويحرم عليه أن يفعل كذا أو يجوز له أن يفعل كذا أو احب أو أكره أن تفعل كذا فتسمى الوجوب والحرمة والجواز والاستحباب والكراهة أحكاما كما تسمى القضايا المشتملة عليها أحكاما، ولاهل الاجتماع أحكام اأخرنا شئة من نسب أخرى كالملك والرئاسة والنيابة والكفاية


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page