• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 276 الي 300


[ 276 ]
" ان الحكم إلا لله " (يوسف: 40) ولذلك تأدب عليه السلام ولم يذكر لنفسه حاجة لانه حكم بنحو، بل لوح إلى تهديد الجهل إياه بإبطال نعمة العلم الذى اكرمه بها ربه، وذكر ان نجاته من مهلكة الجهل واندفاع كيدهن تتوقف إلى صرفه تعالى فسلم الامر إليه وسكت. فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن وهو الصبوة وإلا فالسجن فتخلص من السجن والصبوة جميعا، ومنه يعلم ان مراده من كيدهن هو الصبوة والسجن جميعا، واما قوله عليه السلام: " رب السجن احب إلى، الخ " فإنما هو تمايل قلبى الى السجن على تقدير تردد الامر وكناية عن النفرة والمباغضة للفحشاء وليس بسؤال منه للسجن كما قال عليه السلام: الموت اولى من ركوب العار * والعار اولى من دخول النار لا كما ربما يظن انه سأل بذلك السجن فقضى له به، والدليل على ما ذكرناه قوله تعالى بعده: " ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الايات ليسجننه حتى حين " (يوسف: 35) لظهور الاية ان سجنه كان عن رأى بدا لهم بعد ذلك، وقد كان الله سبحانه صرف عند قبل ذلك كيدهن بالدعوة إلى انفسهن والتهديد بالسجن. ومنه ما حكى الله سبحانه من ثنائه ودعائه عليه السلام حيث قال: " فلما دخلوا على يوسف آوى إليه ابويه وقال ادخلوا مصر ان شاء الله آمنين، ورفع ابويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربى حقا وقد احسن بى إذ اخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد ان نزغ الشيطان بينى وبين اخوتى ان ربى لطيف لما يشاء انه هو العليم الحكيم، رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الاحاديث فاطر السماوات والارض انت وليى في الدنيا والاخرة توفنى مسلما وألحقني بالصالحين " (يوسف: 101). فليتدبر الباحث فيما يعطيه الايات من أدب النبوة وليمثل عنده ما كان عليه يوسف عليه السلام من الملك ونفوذ الامر وما كان عليه أبواه من توقان النفس إلى لقائه، وما كان عليه إخوته من التواضع وهم جميعا على ذكر من تاريخ حياته من حين فقدوه إلى حين وجدوه وهو عزيز مستو على عرش العزة والهيمنة.
________________________________________
[ 277 ]
لم يشق عليه السلام فما بكلام إلا ولربه فيه نصيب أو كل النصيب إلا ما أصدره من الامر بقوله: " ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين " فأمرهم بالدخول وحكم لهم بالامن، ولم يستتم الكلام حتى استثنى فيه بمشيئة الله لئلا يوهم الاستقلال في الحكم دون الله، وهو ععليه السلام القائل: " إن الحكم إلا لله ". ثم شرع في الثناء على ربه فيما جرى عليه منذ فارقهم إلى أن اجتمع بهم وبدأ في ذلك بقصة رؤياه وتحقق تأويلها وصدق فيه أباه لا فيما عبرها به فقط بل حتى فيما ذكره في آخر كلامه من علم الله وحكمته توغلا منه في الثناء على ربه حيث قال له أبوه: " وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك - إلى أن قال - إن ربك عليم حكيم " (يوسف: 6) وقال له يوسف هيهنا بعد ما صدقه فيما عبر به رؤياه: " إن ربى لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم " (يوسف: 100). ثم أشار إلى إجمال ما جرى عليه ما بين رؤياه وتأويلها فنسبها إلى ربه ووصفها بالحسن وهو من الله إحسان، ومن ألطف أدبه توصيفه ما لقى من إخوته حين ألقوه في غيابة الجب إلى أن شروه بثمن بخس دراهم معدودة، واتهموه بالسرقة بقوله: " نزغ الشيطان بينى وبين إخوتى ". ولم يزل يذكر نعم ربه ويثنى عليه ويقول: ربى وربى حتى غشيه الوله وأخذته جذبة إلهية فاشتغل بربه وتركهم كأنه لا يعرفهم، وقال: " رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الاحاديث، فأثنى على ربه بحاضر نعمه عنده، وهو الملك والعلم بتأويل الاحاديث، ثم انتقلت نفسه الشريفة من ذكر النعم إلى أن ربه الذى أنعم عليه بما أنعم لانه فاطر السماوات والارض، ومخرج كل شئ من العدم البحت إلى الوجود من غير أن يكون لشئ من الاشياء جدة من نفسه يملك به ضراأو نفعا أو نعمة أو نقمة أو صلاحية أن يدبر أمر نفسه في دنيا أو آخره. وإذ كان فاطر كل شئ فهو ولى كل شئ، ولذلك ذكر بعد قوله: " فاطر السماوات والارض " أنه عبد داخر لا يملك تدبير نفسه في دنيا ولا آخرة بل هو تحت ولاية الله سبحانه يختار له من الخير ما يشاء ويقيمه أي مقام أراد فقال: " أنت وليى في الدنيا والاخرة " وعندئذ ذكر ما له من مسألة يحتاج فيها إلى ربه وهو أن ينتقل من الدنيا
________________________________________
[ 278 ]
إلى الاخرة وهو في حال الاسلام إلى ربه على حد ما منحه الله آباؤه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب قال تعالى: " ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الاخرة لمن الصالحين، إذ قال له ربه أسلم - وهو الاصطفاء - قال أسلمت لرب العالمين، ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنى إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون " (البقرة: 132). وهو قوله: " توفنى مسلما وألحقني بالصالحين " يسأل التوفى على الاسلام ثم اللحوق بالصالحين، وهو الذى سأله جده إبراهيم عليه السلام بقوله: " رب هب لى حكما وألحقني بالصالحين " (الشعراء: 83) فاجيب إليه كما في الايات المذكورة، آنفا وهذا آخر ما ذكر الله من حديثه وختم به قصته، وأن إلى ربك المنتهى، وهذا مما في السياقات القرآنية من عجيب اللطف. ومن ذلك ما حكاه الله سبحانه عن نبيه موسى عليه السلام في أوائل نشوئه بمصر حين وكز القبطى فقضى عليه: " قال رب إنى ظلمت نفسي فاغفر لى فغفر له إنه هو الغفور الرحيم " (القصص: 16) وقوله حين فر من مصر فبلغ مدين وسقى لابنتي شعيب ثم تولى إلى الظل فقال: " رب إنى لما أنزلت إلى من خير فقير " (القصص: 24). وقد استعمل عليه السلام في مسألتيه من الادب بعد الالتجاء بالله والتعلق بربوبيته أن صرح في دعائه الاول بالطلب لانه كان متعلقا بالمغفرة والله سبحانه يحب أن يستغفر كما قال: " واستغفروا الله إن الله غفور رحيم " (البقرة: 199) وهو الذى دعا إليه نوح فمن بعده من الانبياء عليهم السلام، ولم يصرح بحاجته بعينه في دعائه الثاني الذى ظاهره بحسب دلالة المقام أنه كان يريد رفع حوائج الحياة كالغذاء والمسكن مثلا بل إنما ذكر الحاجة ثم سكت فما للدنيا عند الله من قدر. واعلم أن قوله عليه السلام: " رب إنى ظلمت نفسي فاغفر لى " يجرى في الاعتراف بالظلم وطلب المغفرة مجرى قول آدم وزوجته: " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " بمعنى أن المراد بالظلم هو ظلمه على نفسه لاقترافه عملا يخالف مصلحة حياته كما أن الامر كان على هذا النحو في آدم وزوجته. فإن موسى ععليه السلام إنما فعل ما فعل قبل أن يبعثه الله بشريعته الناهية عن القتل وإنما قتل نفسا كافرة غير محترمة، ولا دليل على وجود النهى عن مثل هذا القتل قبل
________________________________________
[ 279 ]
شريعته وكان الامر في عصيان آدم وزوجته على هذه الوتيرة فقد ظلما أنفسهما بالاكل من الشجرة قبل أن يشرع الله شريعة بين النوع الانساني فإنما أسس الله الشرائع كائنة ما كانت بعد هبوطهما من الجنة إلى الارض. ومجرد النهى عن اقتراب الشجرة لا دليل على كونه مولويا مستلزما لتحقق المعصية المصطلحة بمخالفته، مع أن القرائن قائمة على كون النهى المتعلق بهما إرشاديا كما في آيات سورة طه على ما بيناه في تفسير قصة جنة آدم في الجزء الاول من الكتاب. على أن الكتاب الالهى نص في كون موسى عليه السلام مخلصا، وأن إبليس لا سبيل له إلى إغواء المخلصين من عباد الله تعالى ومن الضرورى ان لا معصية بدون إغواء إبليس قال الله تعالى: " واذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا وكان رسولا نبيا " (مريم: 51) وقال تعالى " " قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين " (ص: 83). ومن هنا يظهر أن المراد بالمغفرة المسؤلة في دعائه كما في دعائهما (ع) ليست هي إمحاء العقاب الذى يكتبه الله على المجرمين كما في المعاصي المولوية بل إمحاء الاثار السيئة التى كان يستتبعها الظلم على النفس في مجرى الحياة فقد كان موسى عليه السلام يخاف أن يفشو أمره ويظهر ما هو ذنب له عندهم فسأله تعالى أن يستر عليه ويغفره، والمغفرة في عرف القآن أعم من إمحاء العقاب بل هي امحاء الاثر السيئ كائنا ما كان، ولا ريب أن امر الجميع بيد الله سبحانه. ونظير هذا من وجه قول نوح عليه السلام فيما تقدم منن دعائه " وإن لم تغفر لي وترحمني " أي وإن لم تؤدبنى بأنك، ولم تعصمني بعصمتك ووقايتك وترحمني بذلك أكن من الخاسرين، فافهم ذلك. ومنه دعاؤه عليه السلام أول ما القي إليه الوحي وبععث بالرسالة إلى قومه على ما حكاه الله قل تعالى: " قال رب اشرح لي صدري * ويسر لي امري * واحلل عقدة من لساني * يفقهوا قولي * واجعل لي وزيرا من أهلي * هارون اخخي * اشدد به أزري * وأشركه في امري * كي نسبحك كثيرا * ونذكرك كثيرا * إنك كنت بنا بصيرا " (طه: 35 ".
________________________________________
[ 280 ]
ينصح عليه السلام لما بعث لها من الدعوة الدينية ويذكر لربه - على ما يفيده الكلام بإعانة من المقام - انك كنت بصيرا بحالى أنا منذ نشأنا نحب تسبيحك، وقد حملتني الليلة ثقل الرسالة وفى نفسي من الحدة وفى لساني من العقدة ما أنت أعلم به وإنى أخاف ان يكذبونى ان دعوتهم اليك وبلغتهم رسالتك فيضيق صدري ولا ينطلق لساني فاشرح لى صدري، ويسر لي امري، وهذا رفع التحرج الذي ذكره الله بقوله: " ما كام على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل " (الاحزاب: 38) واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي وأخي هارون أفصح منى لسانا وهو من أهلى فأشركه في هذا الامر واجعله وزيرا لي كي نسبحك - كماكنا نحبه - كثيرا ونذكرك عند ملا الناس بالتعاضد كثيرا، فهذا محصل ما سأله عليه السلام ربه من أسباب الدعوة والتبليغ، والادب الذى استعمل فيه أن ذكر غايته وغرضه من اسئلته لئلا يوهم كلامه أنه يسأل ما يسأل لنفسه فقال: " كى نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا " واستشهد على صدقه في دعواه بعلم الله نفسه بإلقاء أنفسهما بين يديه وعرضها عليه فقال: " إنك كنت بنا بصيرا " وعرض السائل المحتاج نفسه في حاجتها على المسؤول الغنى الجواد من أقوى ما يهيج عاطفة الرحمة لانه يفيد إراءة نفس الحاجة فوق ما يفيده ذكر الحاجة باللسان الذى لا يمتنع عليه ان يكذب. ومنه ما حكى الله عنه مما دعا به على فرعون وملائه إذ قال: " وقال موسى ربنا انك آتيت فرعون وملاءه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على اموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم، قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون " (يونس: 89). الدعاء لموسى وهارون ولذلك صدر بكلمة " ربنا " ويدل عليه ما في الاية التالية: " قال قد أجيبت دعوتكما " دعوا أولا على اموالهم ان يطمس الله عليها ثم على انفسهم ان يشد الله على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم فلا يقبل إيمانهم كما قال تعالى: " يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا ايمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيرا " (الانعام: 158) أي انتقم منهم بتحريم الايمان عليهم بمفاجأة العذاب كماحرموه على عبادك باضلالهم، وهذا أشد ما يمكن ان يدعى به على أحد فإنه الدعاء بالشقوة الدائمة ولا شئ شرا منه بالنسبة إلى انسان.
________________________________________
[ 281 ]
والدعاء بالشر غير الدعاء بالخير حكما فإن الرحمة الالهية سبقت غضبه وقد قال لموسى فيما أوحى إليه:: " عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ " (الاعراف: 156) فسعة الرحمة الالهية تقضى بكراهية اصابة الشر والضر لعبد من عباده وإن كان ظالما، يشهد بذلك ما يفيض الله سبحانه من نعمه عليهم وسترهم بكرمه وأمره عباده بالحلم والتصبر عند جهالتهم وخرقهم اللهم إلا في إقامة حق لازم، أو عند اضطرار في مظلمة إذا كانوا على علم بأن مصلحة ملزمة كمصلحة الدين أو أهل الدين تقتضي ذلك. على أن جهات الخير والسعادة كلما كانت ارق لطافة وأدق رتبة كانت أوقع عند النفوس بالفطرة التى فطر الله الناس عليها بخلاف جهات الشر والشقاء فإن الانسان بحسب طبعه يفر من الوقوف عليها، ويحتال أن لا يلتفت إلى أصلها فضلا عن تفاصيل خصوصياتها، وهذا المعنى يوجب اختلاف الدعاءين أعنى الدعاء بالخير والدعاء بالشر من حيث الاداب. فمن أدب الدعاء بالشر أن تذكر الامور التى بعثت إلى الدعاء بالتكنية وخاصة في الامور الشنيعة الفظيعة بخلاف الدعاء بالخير فإن التصريح بعوامل الدعاء فيه هو المطلوب، وقد راعاه عليه السلام في دعائه حيث قال: " ليضلوا عن سبيلك ولم يأت بتفاصيل ما كانت تأتى به آل فرعون من الفظائع. ومن أدبه الاكثار من الاستغاثة والتضرع وقد راعاه فيما يقول: " ربنا " وتكرره مرات في دعائه على قصره. ومن أدبه أن لا يقدم عليه إلا مع العلم بأنه على مصلحة الحق من دين أو أهله من دون أن يجرى على ظن أو تهمة، وقد كان عععليه السلام على علم منه وقد قال الله فيه: " ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى " (طه: 56) وكأنه لذلك أمره الله سبحانه وأخاه عند ما أخبرهما بالاستجابة بقوله: " فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون " والله أعلم. ومن دعاء موسى ما حكاه الله عنه في قوله: " واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياى أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدى من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا
________________________________________
[ 282 ]
وارحمنا وأنت خير الراحمين، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفى الاخرة إنا هدنا إليك " (الاعراف: 156). يبتدئ الدعاء من قوله: " فاغفر لنا، الخ " غير أن الموقف لما كان موقفا صعبا قد أخذهم الغضب الالهى والبطش الذى لا يقوم له شئ، وما مسألة المغفرة والرحمة من سيد ساخط قد هتكت حرمته وأهين على سؤدده كمسألة من هو في حال سوى فلذلك قدم عليه السلام ما تسكن به فورة الغضب الالهى حتى يتخلص إلى طلب المغفرة والرحمة. فقال: " رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياى " يريد عليه السلام - كما تدل عليه قرينة المقام - رب إن نفسي ونفوسهم جميعا قبض قدرتك، وطوع مشيئتك، لو شئت أهلكتهم وأنا فيهم قبل اليوم كما أهلكتهم اليوم وأبقيتنى، فما ذا أقول لقومي إذا رجعت إليهم واتهمونى بأنى قتلتهم، وحالهم ما أنت أعلم به ؟ وهذا يبطل دعوتي ويحبط عملي. ثم عد ععليه السلام إهلاك السبعين إهلاكا له ولقومه فذكر أنهم سفهاء من قومه لا يعبأ بفعلهم فأخذ ربه برحمته حيث لم يكن من عادته تعالى أن يهلك قوما بفعل السفهاء منهم، وليس ذلك إلا موردا من موارد الامتحان العام الذى لا يزال جاريا على الانسان فيضل به كثير، ويهتدى به كثير، ولم تقابلها إلا بالصفح والستر. وإذ كان بيدك أمر نفسي ونفوسنا تقدر على إهلاكنا متى شئت، وكانت هذه الواقعة غير بدع في مسير امتحانك العام الذى يعقب ضلال قوم وهداية آخرين، ولا ينتهى إلا إلى مشيئتك فأنت ولينا الذى يقوم بأمرك ومشيئتك تدبير أمورنا، ولا صنع لنا فيها فاقض فينا بالمغفرة والرحمة فإن من جملة صفاتك أنك خير الغافرين، واكتب لنا في هذه الدنيا عيشة آمنة من العذاب وهى التى يستحسنها من أحاط به غمر السخط الالهى، وفى الاخرة حسنة بالمغفرة والجنة. وهذا ما ساقه عليه السلام في مسألته، وقد أخذتهم الرجفة وشملتهم البلية، فانظر كيف استعمل جميل أدب العبودية واسترحم ربه، ولم يزل يستوهب الرحمه، ويسكن بثنائه فورة السخط الالهى حتى أجيب إلى ما لم يذكره من الحاجة بين ما ذكره، وهو إعادة حياتهم إليهم بعد الاهلاك، وأوحى إليه بما حكاه الله تعالى: " قال عذابي
________________________________________
[ 283 ]
أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون " (الاعراف: 156) فما ظنك به تعالى بعد ما قال لموسى عليه السلام جوابا لمسألته: " ورحمتي وسعت كل شئ " ؟. وقد ذكر تعالى صريح عفوه عن هؤلاء، وإجابته إلى مسألته موسى عليه السلام بإعادة الحياة إليهم وقد اهلكوا وردهم إلى الدنيا بقوله: " وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون، ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون " (البقرة: 56) ويقرب من ذلك ما في سورة النساء. وقد استعمل عليه السلام من الادب في كلامه حيث قال: " تضل بها من تشاء " لم يذكر أن ذلك من سوء اختيار هؤلاء الضالين لينزهه تعالى لفظا كما كان ينزهه قلبا فيكون على حد قوله تعالى: " يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين " (البقرة: 26) لان المقام كان يصرفه عن التعرض إلا لكونه تعالى وليا على الاطلاق ينتهى إليه كل التدبير لا غير. ولم يورد في الذكر أيضا عمدة ما في نفسه من المسألة وهو أن يحييهم الله سبحانه بعد الاهلاك لان الموقف على ما كان فيه من هول وخطر كان يصرفه عن الاسترسال، وإنما أشار إليه إشارة بقوله: " رب لو شئت أهلكتهم وإياى، الخ ". ومن دعائه عليه السلام ما دعا به حين رجع إلى قومه من الميقات فوجدهم قد عبدوا العجل من بعده، وقد كان الله سبحانه أخبره بذلك قال تعالى " وألقى الالواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه، قال ابن ام إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بى الاعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين " (الاعراف: 150) فعند ذلك رق له ودعا له ولنفسه ليمتازا بذلك من القوم الظالمين: " قال رب اغفر لي ولاخى وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين " (الاعراف: 151). ولم يكن يريد التميز منهم وأن يدخلهما الله في رحمته إلا لما كان يعلم أن الغضب الالهى سينال القوم بظلمهم كما ذكره الله بقوله بعد ذلك: " إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا " (الاعراف: 152) ويعرف بما تقدم وجوه من الادب في كلامه.
________________________________________
[ 284 ]
ومن دعائه عليه السلام - وهو في معنى الدعاء على قومه إذقالوا له حين أمرهم بدخول الارض المقدسة: " يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هيهنا قاعدون " (المائدة: 24) - ما حكاه الله تعالى بقوله: " قال رب إنى لا أملك إلا نفسي وأخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " (المائدة: 25). وقد أخذ عليه السلام بالادب الجميل حيث كنى عن الامساك عن أمرهم وتبليغهم أمر ربهم ثانيا بعد ما جبهوا أمره الاول بأقبح الرد وأشنع القول بقوله: " رب إنى لا أملك إلا نفسي وأخى " أي لا يطيعني فيما أمرته إلا نفسي وأخى أي أنهم ردوا على بما لا مطمع فيهم بعده، فها أنا أكف عن أمرهم بأمرك وإرشادهم إلى ما فيه صلاح جماعتهم. وإنما نسب ملك نفسه وأخيه إلى نفسه لان مراده من الملك بقرينة المقام ملك الطاعة ولو كان هو الملك التكويني لم ينسبه إلى نفسه إلا مع بيان أن حقيقته لله سبحانه، وإنما له من الملك ما ملكه الله إياه، ولما عرض لربه من نفسه الامساك واليأس عن إجابتهم إليه أحال الحكم في ذلك فقال: " فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين ". ومن ذلك ما دعا به شعيب عليه السلام على قومه إذ قال: " ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين " (الاعراف: 89). وهذا استنجاز منه للوعد الالهى بعد ما يئس من نجاح دعوته فيهم، ومسألة للقضاء بينه وبينهم بالحق على ما قاله الله تعالى: " ولكل امة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون " (يونس: 48). وإنما قال " بيننا " لانه ضم المؤمنين به إلى نفسه، وقد كان الكافرون من قومه هددوا أياه والمؤمنين به جميعا إذ قالوا:: " لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا " (الاعراف: 88) فضمهم إلى نفسه وهاجر قومه في عملهم وسار بهم إلى ربه وقال: " ربنا افتح بيننا، الخ ". وقد استمسك في دعائه باسمه الكريم: " خير الفاتحين لما مر أن التمسك بالصفة المناسبة لمتن الدعاء تأييد بالغ بمنزلة الاقسام، وهذا بخلاف قول موسى عليه السلام: " رب
________________________________________
[ 285 ]
إنى لا أملك إلا نفسي وأخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " المنقول آنفا لما تقدم أن لفظه عليه السلام ليس بدعاء حقيقة بل هو كناية عن الامساك عن الدعوة وإرجاع للامر إلى الله فلا مقتضى للاقسام بخلاف قول شعيب. ومن ذلك ما حكاه الله من ثناء داود وسليمان عليهما السلام قال تعالى: " ولقد آتينا داود و سليمان علما وقالا الحمد لله الذى فضلنا على كثير من عباده المؤمنين " (النمل: 15.) وجه الادب في حمدهما وشكرهما ونسبة ما عندهما من فضيلة العلم إلى الله سبحانه ظاهر، فلم يقولا مثل ما حكى عن غيرهما كقول قارون لقومه إذ وعظوه أن لا يستكبر في الارض بماله: " إنما أوتيته على علم عندي " (القصص: 78) وكما حكى الله عن قوم آخرين: " فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون " (المؤمن: 83). ولا ضير في الحمد على تفضيل الله إياهما على كثير من المؤمنين فإنه من ذكر خصوص النعمة وبيان الواقع، وليس ذلك من التكبر على عباد الله حتى يلحق به ذم، وقد ذكر الله عن طائفة من المؤمنين سؤال التفضيل ومدحهم على علو طبعهم وسمو همتهم حيث قال: " والذين يقولون ربنا - إلى أن قال - واجعلنا للمتقين إماما " (الفرقان: 74). ومن ذلك ما حكاه عن سليمان عليه السلام في قصة النملة بقوله: " حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنودخ وهم لا يشعرون، قتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التى أنعمت علي وعلى والدى وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " (الفرقان: 19). ذكرته النملة بما قالته ماله من الملك العظيم الذى شيدت أركانه بتسخير الريح تجرى بأمره، والجن يعملون له ما يشاء، والعلم بمنطق الطير وغيره غير أن هذا الملك لم يقع في ذكره عليه السلام في صورة أجلى امنية يبلغها الانسان كما فينا ولم ينسه عبوديته ومسكنته بل إنما وقع في نفسه في صورة نعمة أنعمها عليه ربه فذكر ربه ونعمته أنعمها عليه وعلى والديه بما خصهم به، وهو من مثله عليه السلام والحال هذا الحال أفضل الادب مع ربه. وقد ذكر نعمته به، وهى وإن كانت كثيرة في حقه غير أن مورد نظره عليه السلام والمقام - هو الملك العظيم والسلطة القاهرة ج ولذلك ذكر العمل الصالح
________________________________________
[ 286 ]
سأل ربه أن يوزعه ليعمل صالحا لان العمل الصالح والسيرة الحسنة هو المطلوب ممن استوى على عرش الملك. فلذلك كله سأل ربه أولا أن يوزعه على شكر نعمته، وثانيا أن يعمل صالحا ولم يرض بسؤال العمل الصالح دون أن قيده بقوله: " ترضاه " فإنه عبد لا شغل له بغير ربه، ولا يريد الصالح من العمل إلا لان ربه يرضاه، ثم تمم مسألة التوفيق لصلاح العمل بمسألة صلاح الذات فقال: " وأدخلني برحمتك في عبادك الصلحين ". ومن ذلك ما حكاه الله عن يونس عليه السلام وقد دعا به وهو في بطن الحوت الذى التقمه قال تعالى: " وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين " (الانبياء: 87). كان عليه السلام - على ما يقصه القرآن - قد سأل ربه أن ينزل على قومه العذاب فأجابه إلى ذلك فأخبرهم به فلما أشرف عليهم العذاب بالنزول تابوا إلى ربهم فرفع عنهم العذاب، ولما شاهد يونس ذلك ترك قومه، وذهب لوجهه حتى ركب السفينة فاعترضها حوت فساهمهم في أن يدفعوا الحوت بإلقاء رجل منهم إليه ليلتقمه وينصرف عن الباقين، فخرجت القرعة باسمه فالقى في البحر فالتقمه الحوت فكان يسبح الله في بطنه إلى أن أمره الله أن يلقيه إلى ساحل البحر، ولم يكن ذلك إلا تأديبا إلهيا يؤدب به أنبياءه على حسب ما يقتضيه مختلف أحوالهم، وقد قال تعالى: " ولو لا أنه كان من المسبحين، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون " (الصافات: 144) فكان حاله في تركه العود إلى قومه وذهابه لوجهه يمثل حال عبد أنكر على ربه بعض عمله فغضب عليه فأبق منه وترك خدمته وما هو وظيفة عبوديته فلم يرتض الله له ذلك فأدبه فابتلاه وقبض عليه في سجن لا يقدر فيه أن يتوسع قدر أنملة في ظلمات بعضها فوق بعض فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين. ولم يكن ذلك كله إلا لان يتمثل له على خلاف ما كان يمثله حاله أن الله سبحانه قادر على أن يقبض عليه ويحبسه حيث شاء، وأن يصنع به ما شاء فلا مهرب من الله سبحانه إلا إليه، ولذلك لقنه الحال الذى تمثل له وهو في سجنه من بطن الحوت أن يقر لله بأنه هو المعبود الذى لا معبود غيره، ولا مهرب عن عبوديته فقال: " لا
________________________________________
[ 287 ]
إله إلا أنت " ولم يناده تعالى بالربوبية، وهذا أوحد دعاء من أدعية الانبياء عليهم السلام لم يصدر باسم الرب. ثم ذكر ما جرى عليه الحال من تركه قومه إثر عدم إهلاكه تعالى إياهم بما أنزل عليهم من العذاب فأثبت الظلم لنفسه ونزه الله سبحانه عن كل ما فيه شائبة الظلم والنقص فقال: " سبحانك إنى كنت من الظالمين ". ولم يذكر مسألته - وهى الرجوع إلى مقامه العبودي السابق - عدا لنفسه دون لياقة الاستعطاء واستحقاق العطاء استغراقا في الحياء والخجل، والدليل على مسألته قوله تعالى بعد الاية السابقة: " فاستجبنا له ونجيناه من الغم " (الانبياء: 88). والدليل على أن مسألته كانت هي الرجوع إلى سابق مقامه قوله تعالى: " فنبذناه بالعراء وهو سقيم، وأنبتنا عليه شجرة من يقطين، وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون، فآمنوا به فمتعناهم إلى حين " (الصافات: 148). ومن ذلك ما ذكره الله تعالى عن أيوب (ع) بعد ما أزمنه المرض وهلك عنه ماله وولده حيث قال: " وأيوب إذ نادى ربه أنى مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين " (الانبياء: 83). وجوه التأدب فيه ظاهرة مما تقدم بيانه، ولم يذكر (ع) حاجته صريحا على حد ما تقدم من أدعية آدم ونوح وموسى ويونس عليهم السلام هضما لنفسه واستحقارا لامره، وأدعية الانبياء كما تقدم ويأتى خالية عن التصريح بالحاجة إذا كان مما يرجع إلى امور الدنيا وإن كانوا لا يريدون شيئا من ذلك اتباعا لهوى أنفسهم. وبوجه آخر ذكره السبب الباعث إلى المسألة كمس الضر والصفة الموجودة في المسؤول المطمعة للسائل في المسألة ككونه تعالى أرحم الراحمين، والسكوت عن ذكر نفس الحاجة، أبلغ كناية عن أن الحاجة لا تحتاج إلى ذكر فإن ذكرها يوهم أن الاسباب المذكورة ليست بكافية في إثارة رحمة من هو أرحم الراحمين بل يحتاج إلى تأييد بالذكر وتفهيم باللفظ. ومن ذلك ما حكاه عن زكريا (ع): حيث قال: " ذكر رحمة ربك عبده
________________________________________
[ 288 ]
زكريا، إذ نادى ربه نداء خفيا، قال رب إنى وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا، وإنى خفت الموالى من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لى من لدنك وليا، يرثنى ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا " (مريم: 6). إنما حثه على هذا الدعاء ورغبه في أن يستوهب ولدا من ربه ما شاهده من أمر مريم ابنة عمران في زهدها وعبادتها، وما أكرمها الله سبحانه به من أدب العبودية، وخصها به من كرامة الرزق من عنده على ما يقصه الله تعالى في سورة آل عمران قال تعالى: " وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لى من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء " (آل عمران: 38). فغشيه شوق شديد إلى ولد طيب صالح يرثه ويعبد ربه عبادة مرضية كما ورثت مريم عمران وبلغت جهدها في عبادة ربها ونالت منه الكرامة غير أنه وجد نفسه وقد نال منه الشيب، وانهدت منه القوى، وكذلك امرأته وقد كانت عاقرة في سنى ولادتها فأدركته من حسرة الحرمان من نعمة الولد الطيب الرضى ما الله أعلم به، لكن لم يملك نفسه مما هاج فيه من الغيرة الالهية والاعتزاز بربه دون أن رجع إلى ربه وذكر له ما يثور به الرحمة والحنان من حاله أنه لم يزل عالقا على باب العبودية والمسألة منذ وحداثة سنه حتى وهن عظمه واشتعل رأسه شيبا، ولم يكن بدعائه شقيا، وقد وجده سبحانه سميع الدعاء فليسمع دعاءه وليهب له وارثا رضيا. والدليل على ما ذكر نا أنه إنما سأل ما سأل بما ملك نفسه من هيجان الوجد والحزن ما حكاه الله تعالى عنه بعد ما أوحى إليه بالاستجابة بقوله: " قال رب أنى يكون لى غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا، قال كذلك قال ربك هو على هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " (مريم: 9) فإنه ظاهر في أنه (ع) لما سمع الاستجابة صحا عن حاله وأخذ يتعجب من غرابة المسألة والاجابة حتى سأل ربه عن ذلك في صورة الاستبعاد وسأل لنفسه عليه آية فاجيب إليها أيضا. وكيف كان فالذي استعمله عليه السلام في دعائه من الادب هو ما ساقه إليه حال الوجد والحزن الذى ملكه، ولذلك قدم على دعائه بيان ما بلغ به الحال في سبيل ربه
________________________________________
[ 289 ]
فقد صرف دهره في سلوك سبيل الانابة والمسألة حتى وقف موقفايرق له قلب كل ناظر رحيم ثم سأل الولد وعلله بأن ربه سميع الدعاء. فهذا معنى ما ذكره مقدمة لمسألته لا أنه كان يمتن بطول عبوديته على ربه - حاشا مقام النبوة - فمعنى قوله على ما في سورة آل عمران: " رب هب لى من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء " أنى أسألك ما أسألك لا لان لطول عبوديتي - وهو دعاؤه المديد - قدرا عندك أو فيه منة عليك بل لانى أسألك، وقد وجدتك سميعا لدعاء عبادك ومجيبا لدعوة السائلين المضطرين، وقد اضطرني خوف الموالى من ورائي، والحث الشديد لذرية طيبة يعبدك أن أسألك. وقد تقدم أن من الادب الذى استعمله في دعائه أن ألحق تخوف الموالى قوله: " واجعله رب رضيا " والرضى وإن كان طبعه يدل بهيئته على ثبوت الرضا لموصوفه، والرضا يشمل بإطلاقه رضى الله ورضى زكريا ورضى يحيى لكن قوله في آية آل عمران: " ذرية طيبة " يدل على أن المراد بكونه رضيا كونه مرضيا عند زكريا لان الذرية إنما تكون طيبة لصاحبها لا غير. ومن ذلك ما حكاه الله سبحانه عن المسيح حين سأل المائدة بقوله: " قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين " (المائدة: 114). القصة المذكورة في كلامه تعالى في سؤال الحواريين عيسى عليه السلام نزول مائدة من السماء عليهم تدل بسياقه أن هذه المسألة كانت من الاسئلة الشاقة على عيسى عليه السلام لان ما حكى عنهم من قولهم له: " يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء " كان أولا مشتملا بظاهره على الاستفهام عن قدرة الله سبحانه، ولا يوافق ذلك أدب العبودية وإن كان حاق مرادهم السؤال عن المصلحة دون أصل القدرة فإن حزازة اللفظ على حالها. وكان ثانيا متضمنا لاقتراح آية جديدة مع أن آياته عليه السلام الباهرة كانت قد أحاطت بهم من كل جهة فكانت نفسه الشريفة آية، وتكلمه في المهد آية، وإحياؤه
________________________________________
[ 290 ]
الموتى وخلقه الطير وإبراؤه الاكمه والابرص وإخباره عن المغيبات وعلمه بالتوراة والانجيل والكتاب والحكمة آيات إلهية لا تدع لشاك شكا ولا لمرتاب ريبا فاختيارهم آية لانفسهم وسؤالهم إياه كان بظاهره كالعبث بآيات الله واللعب بجانبه، ولذلك وبخهم بقوله: " اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ". لكنهم أصروا على ذلك ووجهوا مسألتهم بقولهم: " نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين " وألجأوه إلى السؤال فسأل. أصلح عليه السلام بأدبه الموهوب من جانب الله سبحانه ما اقترحوه من السؤال بما يصلح به أن يقدم إلى حضرة العزة والكبرياء فعنونه أولا بعنوان أن يكون عيدا لهم يختصون هو وامته به فإنها آية اقتراحية عديمة النظير بين آيات الانبياء عليهم السلام حيث كانت آياتهم إنما تنزل لاتمام الحجة أو لحاجة الامة إلى نزولها، وهذه الاية لم تكن على شئ من هاتين الصفتين. ثم أجمل ثانيا ما فصله الحواريون من فوائد نزولها من اطمئنان قلوبهم بها وعلمهم بصدقه عليه السلام وشهادتهم عليها، في قوله: " وآية منك ". ثم ذكر ثالثا ما ذكروه من عرض الاكل وأخره وإن كانوا قدموه في قولهم: " نريد أن نأكل منها، الخ " وألبسه لباسا آخر أوفق بأدب الحضور فقال: " وارزقنا " ثم ذيله بقوله: " وأنت خير الرازقين " ليكون تأييدا للسؤال بوجه، وثناء له تعالى من وجه آخر. وقد صدر مسألته بندائه تعالى: " اللهم ربنا " فزاد على ما يوجد في سائر أدعية الانبياء عليهم السلام من قولهم " رب " أو " ربنا " لان الموقف صعب كما تقدم بيانه. ومنه مشافهته عليه السلام ربه المحكية بقوله تعالى: " وإذ قال الله يا عيسى بن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمى إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب، ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به أن اعبدوا الله ربى وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت انت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد، إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم "
________________________________________
[ 291 ]
" المائدة: 118 ". تأدب عليه السلام في كلامه أولا بأن صدره بتنزيهه تعالى عما لا يليق بقدس ساحته كما جرى عليه كلامه تعالى قال: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه " (الانبياء: 26). وثانيا بأن اخذ نفسه أدون واخفض من أن يتوهم في حقه ان يقول مثل هذا القول حتى يحتاج إلى أن ينفيه، ولذلك لم يقل من أول مقالته إلى آخرها: " ما قلت " أو " ما فعلت " وإنما نفى ذلك مرة بعد مرة على طريق الكناية وتحت الستر فقال: " ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق " فنفاه بنفى سببه أي لم يكن لى حق في ذلك حتى يسعنى أن أتفوه بمثل ذاك القول العظيم، ثم قال: " إن كنت قلته فقد علمته، الخ " فنفاه بنفى لازمه أي إن كنت قلته كان لازم ذلك أن تعلمه لان علمك أحاط بى وبجميع الغيوب. ثم قال: " ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به أن اعبدوا الله ربى وربكم " فنفاه بإيراد ما يناقضه مورده على طريق الحصر بما وإلا أي إنى قلت لهم قولا ولكنه هو الذى أمرتنى به وهو ان اعبدوا الله ربى وربكم، وكيف يمكن أن أقول لهم مع ذلك أن اتخذوني وامى إلهين من دون الله ؟. ثم قال: " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم " وهو نفى منه عليه السلام لذلك كالمتمم لقوله: " ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به " (الخ) وذلك لان معناه: ما قلت لهم شيئا مما ينسب إلى والذى قلت لهم إنما قلته عن أمر منك، وهو " أن اعبدوا الله ربى وربكم " ولم يتوجه إلى أمر فيما سوى ذلك، ولا مساس بهم إلا الشهادة والرقوب لاعمالهم ما دمت، فلما توفيتنى انقطعت عنهم، وكنت أنت الرقيب عليهم بشهادتك الدائم العام قبل أن توفيتنى وبعده وعليهم وعلى كل شئ غيرهم. وإذ قد بلغ الكلام هذا المبلغ توجه له عليه السلام أن ينفى ذلك القول عن نفسه بوجه آخر متمم للوجوه التى ذكرها، وبه يحصل تمام النفى فقال: " إن تعذبهم فإنهم عبادك، (الخ) يقول - على ما يؤيده السياق - وإذا كان الامر على ما ذكرت فأنا بمعزل منهم وهم بمعزل منى فأنت وعبادك هؤلاء إن تعذبهم فإنهم عبادك، وللسيد الرب أن يعذب عبيده بمخالفتهم وإشراكهم به وهم مستحقون للعذاب، وإن تغفر لهم فلا
________________________________________
[ 292 ]
عتب عليك لانك عزيز غير مغلوب وحكيم لا يفعل الفعل السفهى اللغو، وإنما يفعل ما هو الاصلح. وبما بينا يظهر وجوه لطيفة من أدب العبودية في كلامه عليه السلام ولم يورد جملة في كلامه إلا وقد مزجها بأحسن الثناء بأبلغ بيان وأصدق لسان. ومن ذلك ما حكاه الله تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ألحق به في ذلك المؤمنين من امته فقال تعالى: " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخدنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين " (البقرة: 286). كلامه تعالى - كما ترى - يحكى إيمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن الكريم فيما اشتمل عليه من اصول المعارف، وفيما اشتمل عليه من الاحكام الالهية جميعا، ثم يلحق به صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين من امته دون المعاصرين الحاضرين عنده صلى الله عليه وآله وسلم منهم فحسب، بل المؤمنين من جميع الامة على ما هو ظاهر السياق. ولازم ذلك أن يكون ما ذكر فيه من إقرار أو ثناء أو دعاء بالنسبة إلى بعضهم محكيا عن لسان حالهم، وإن أمكن أن يكون ذلك مما قاله آخرون بلسان قالهم، أو يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو القائل ذلك مشافها ربه عن نفسه الشريفة وعن المؤمنين لانهم بإيمانهم من فروع شجرة نفسه الطيبة المباركة. والايتان تشتملان على ما هو كالمقايسة والموازنة بين أهل الكتاب وبين مؤمنى هذه الامة من حيث تلقيهم ما أنزل إليهم في كتاب الله، وإن شئت قلت: من حيث تأدبهم بأدب العبودية تجاه الكتاب النازل إليهم، فإنه ظاهر ما أثنى الله سبحانه على هؤلاء وخفف الله عنهم في الايتين بعين ما وبخ اولئك عليه وعيرهم به في الايات السابقة من سورة البقرة فقد ذم أهل الكتاب بالتفريق بين ملائكة الله فأبغضوا جبريل وأحبوا غيره، وبين كتب الله المنزلة فكفروا بالقرآن وآمنوا بغيره، وبين رسل الله فآمنوا
________________________________________
[ 293 ]
بموسى أو به وبعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وعليهم، بين أحكامه فآمنوا ببعض ما في كتاب الله وكفروا ببعض، والمؤمنون من هذه الامة آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله. فقد تأدبوا مع ربهم بالتسليم لما أحقه الله من المعارف الملقاة إليهم ثم تأدبوا بالتلبية لما ندب الله إليه من أحكامه إذ قالوا: " سمعنا وأطعنا " لا كقول اليهود: " سمعنا وعصينا " ثم تأدبوا فعدوا أنفسهم عبادا مملوكين لربهم لا يملكون منه شيئا ولا يمتنون عليه بإيمانهم وطاعتهم فقالوا: " غفرانك ربنا " لا كما قالت اليهود: " سيغفر لنا " وقالت: " إن الله فقير ونحن أغنياء " و قالت: " لن تمسنا النار إلا أياما معدودة " إلى غير ذلك من هفواتهم. ثم قال الله سبحانه: " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " فإن التكليف الالهى يتبع بحسب طبعه الفطرة التى فطر الناس عليها، ومن المعلوم أن الفطرة التى هي نوع الخلقة لا تدعو إلا إلى ما جهزت به، وفي ذلك سعادة الحياة البتة. نعم لو كان الامر على ضرب من الاهمية القاضية بزيادة الاهتمام به، أو خرج العبد المأمور عن حكم الفطرة وزى العبودية جاز بحكم آخر من قبل الفطرة أن يوجه المولى أو كل من بيده الامر إليه من الحكم ما هو خارج عن سعته المعتادة كأن يأمره بالاحتياط بمجرد الشك، واجتناب النسيان والخطأ إذا اشتد الاهتمام بالامر، نظير وجوب الاحتياط في الدماء والفروج والاموال في الشرع الاسلامي، أو يحمل عليه الكلفة ويزيد في التضييق عليه كلما زاد في اللجاج وألح في المسألة كما أخبر الله بنظائر ذلك في بنى إسرائيل. وكيف كان فقوله: " لا يكلف الله نفسا " إما ذيل كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون، وإنما قالوه تقدمة لقولهم: " ربنا لا تؤاخذنا، الخ " ليجرى مجرى الثناء عليه تعالى ودفعا لما يتوهم أن الله سبحانه يؤاخذ بما فوق الطاقة ويكلف بالحرجى من الحكم فيندفع بأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وأن الذى سألوه بقولهم: " ربنا لا تؤاخذنا، الخ " إنما هو الاحكام بعناوين ثانوية ناشئة من قبل الحكم أو من قبل المكلفين بالعناد
________________________________________
[ 294 ]
لا من قبله تعالى. وإما كلام له تعالى موضوع بين فقرتين من دعائم المحكى في كلامه أعنى قولهم: " غفرانك ربنا، الخ " وقولهم: " ربنا لا تؤاخذنا، الخ " ليفيد ما مر من الفائدة ويكون تأديبا وتعليما لهم منه تعالى فيكون جاريا مجرى كلامهم لانهم مؤمنون بما أنزل الله، وهو منه، وعلى أي حال فهو مما يعتمد عليه كلامهم، ويتكئ عليه دعاؤهم. ثم ذكر بقية دعائهم وإن شئت فقل: طائفة اخرى من مسائلهم: " ربنا لا تؤاخذنا " الخ " ربنا لا تحمل علينا إصرا " الخ " ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا " وكأن مرادهم به العفو عما صدر منهم من النسيان والخطأ وسائر موجبات الحرج " واغفر لنا وارحمنا " في سائر ذنوبنا وخطيئاتنا، ولا يلزم من ذكر المغفرة هيهنا التكرار بالنظر إلى قولهم سابقا: " غفرانك ربنا " لانها كلمة حكيت عنهم لفائدة قياس حالهم وأدبهم مع ربهم على أهل الكتاب في معاملتهم مع ربهم وبالنسبة إلى كتابهم المنزل إليهم، على أن مقام الدعاء لا يمانع التكرار كسائر المقامات. واشتمال هذا الدعاء على أدب العبودية في التمسك بذيل الربوبية مرة بعد مرة والاعتراف بالمملوكية والولاية، والوقوف موقف الذلة ومسكنة العبودية قبال رب العزة مما لا يحتاج إلى بيان. وفى القرآن الكريم تأديبات إلهية وتعليمات عالية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بأقسام من الثناء يثنى بها على ربه أو المسألة التى يسأله بها كما في قوله تعالى: " قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء " إلى آخر الايتين " (آل عمران: 26) وقوله تعالى: " قل اللهم فاطر السماوات والارض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك " (الزمر: 46) وقوله تعالى: " قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى " (النمل: 59) وقوله تعالى: " قل إن صلاتي ونسكى ومحياى ومماتي لله " (الخ) (الانعام: 162) وقوله تعالى: " وقل رب زدنى علما " (طه: 114) وقوله: " وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين " (الخ) (لمؤمنون: 97) إلى غير ذلك من الايات وهى كثيرة جدا. ويجمعها جميعا أنها تشتمل على أدب بارع أدب الله به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وندب هو إليه أمته.
________________________________________
[ 295 ]
7 - رعايتهم الادب عن ربهم فيما حاوروا قومهم، وهذا أيضا باب واسع وهو ملحق بالادب في الثناء على الله سبحانه، وهو من جهة اخرى من أبواب التبليغ العملي الذى لا يقصر أو يزيد أثرا على التبليغ القولى. وفى القرآن من ذلك شئ كثير قال تعالى في محاورة جرت بين نوح وقومه: " قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين، ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم واليه ترجعون " (هود: 34) ينفى عليه السلام عن نفسه ما نسبوا إليه من إتيان الاية ليعجزوه به، وينسبه إلى ربه ويبالغ في الادب بقوله: " إن شاء " ثم بقوله " وما أنتم بمعجزين " أي لله، ولذلك نسبه إليه تعالى بلفظ " الله " دون لفظ " ربى " لان الله هو الذي ينتهى إليه كل جمال وجلال، ولم يكتف بنفى القدرة على إتيان الاية عن نفسه وإثباته حتى ثناه بنفى نفع نصحه لهم إن لم يرد الله أن ينتفعوا به فأكمل بذلك نفى القدرة عن نفسه وإثباته لربه، وعلل ذلك بقوله: " هو ربكم واليه ترجعون ". فهذه محاورة غاصة بالادب الجميل في جنب الله سبحانه حاور بها نوح عليه السلام الطغاة من قومه محاجا لهم، وهو أول نبى من الانبياء عليهم السلام فتح باب الاحتجاج في الدعوة إلى التوحيد، وانتهض على الوثنية على ما يذكره القرآن الشريف. وهذا أوسع هذه الابواب مسرحا لنظر الباحث في أدب الانبياء عليهم السلام يعثر على لطائف من سيرتهم المملوءة أدبا وكمالا فإن جميع اقوالهم أفعالهم وحركاتهم وسكناتهم مبنية على أساس المراقبة والحضور العبودي، وإن كانت صورتها صورة عمل من غاب عن ربه وغاب عنه ربه سبحانه قال تعالى: " ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون " (الانبياء: 20). وقد حكى الله تعالى في كلامه محاورات كثيرة عن هود وصالح وإبراهيم وموسى وشعيب ويوسف وسليمان وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم من الانبياء عليهم السلام في حالات لهم مختلفة كالشدة والرخاء والحرب والسلم والاعلان ولاسرار والتبشير والانذار وغير ذلك.
________________________________________
[ 296 ]
تدبر في قوله تعالى: " فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدى " (طه: 86) يذكر موسى عليه السلام إذ رجع إلى قومه وقد امتلا غيظا وحنقا لا يصرفه ذلك عن رعاية الادب في ذكر ربه. وقوله تعالى: " وراودته التى هو في بيتها عن نفسه وغلقت الابواب و قالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربى أحسن مثواى إنه لا يفلح الظالمون " (يوسف: 23) وقوله تعالى: " قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين " (يوسف: 92) يذكر يوسف في خلاء المراودة الذى يملك من الانسان كل عقل، ويبطل عنده كل حزم لا يشغله ذلك عن التقوى ثم عن رعاية الادب في ذكر ربه ومع غيره. وقوله تعالى: " فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربى ليبلونئ أشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربى غنى كريم " (النمل: 40) وهذا سليمان عليه السلام وقد اوتى من عظيم الملك ونافذ الامر وعجيب القدرة أن أمر بإحضار عرش ملكة سبأ من سبأ إلى فلسطين فاحضر في أقل من طرفة عين فلم يأخذه كبر النفس وخيلاؤها، ولم ينس ربه ولم يمكث دون أن أثنى على ربه في ملائه بأحسن الثناء. وليقس ذلك إلى ما ذكره الله من قصة نمرود مع إبراهيم عليه السلام إذ قال: " ألم تر إلى الذى حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربى الذى يحيى ويميت قال إنا احيى واميت " (البقرة: 258) وقد قال ذلك إذ أحضر رجلين من السجن فأمر بقتل أحدهما وإطلاق الاخر. أو إلى ما ذكره فرعون مصر إذ قال كما حكاه الله: " يا قوم أليس لى ملك مصر وهذه الانهار تجرى من تحتي أفلا تبصرون، أم أنا خير من هذا الذى هو مهين ولا يكاد يبين، فلو لا ألقى عليه أسورة من ذهب " (الزخرف: 53) يباهى بملك مصر وأنهاره ومقدار من الذهب كان يملكه هو وملاؤه ولا يلبث دون أن يقول كما حكى الله: " أنا ربكم الاعلى " وهو الذى كانت تستذله آيات موسى يوما بعد يوم من طوفان وجراد وقمل
________________________________________
[ 297 ]
وضفادع وغير ذلك. وقوله تعالى: " إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا " (التوبة: 40) وقوله: " وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا - إلى أن قال - فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأنى العليم الخبير " (التحريم: 3) فلم يهزهزه صلى الله عليه وآله وسلم شدة الامر والهول والفزع في يوم الخوف أن يذكر أن ربه معه ولم تنجذب نفسه الشريفة إلى ما كان يهدده من الامر، وكذا ما أسر به إلى بعض أزواجه في الخلوة في اشتماله على رعاية الادب في ذكر ربه. وعلى وتيرة هذه النماذج المنقولة تجرى سائر ما وقع في قصصهم عليهم السلام في القرآن الكريم من الادب الرائع والسنن الشريفة، ولو لا أن الكلام قد طال بنا في هذه الابحاث لاستقصينا قصصهم وأشبعنا فيها البحث. 8 - أدب الانبياء عليهم السلام مع الناس في معاشرتهم ومحاورتهم، مظاهر هذا القسم هي الاحتجاجات المنقولة عنهم في القرآن مع الكفار، والمحاورات التى حاوروا بها المؤمنين منهم، ثم شئ يسير من سيرتهم المنقولة. أما الادب في القول فإنك لا تجد فيما حكى من شذرات أقوالهم مع العتاة والجهلة أن يخاطبوهم بشئ مما يسوؤهم أو شتم أو إهانة أو إزراء وقد نال منهم المخالفون بالشتم والطعن والاستهزاء والسخرية كل منال فلم يجيبوهم إلا بأحسن القول وأنصح الوعظ معرضين عنهم بسلام وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما. قال تعالى: " فقال الملا الذين كفروا من قومه - يعنى قوم نوح - ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين، قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربى وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون " (هود: 28). وقال تعالى حكاية عن عاد قوم هود: " إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إنى أشهد الله واشهدوا أنى برئ مما تشركون، من دونه " (هود: 55) يريدون باعتراء بعض آلهتهم إياه بسوء ابتلاءه عليه السلام بمثل جنون أو سفاهة ونحو ذلك. وقال تعالى حكاية عن آزر: " قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم
________________________________________
[ 298 ]
تنته لارجمنك واهجرني مليا، قال سلام عليك سأستغفر لك ربى إنه كان بى حفيا " (مريم: 47). وقال تعالى حكاية عن قوم شعيب عليه السلام: " قال الملا الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين، قال يا قوم ليس بى سفاهة ولكني رسول من رب العالمين، أبلغكم رسالات ربى وأنا لكم ناصح أمين " (الاعراف: 68). وقال تعالى: " قال فرعون وما رب العالمين، قال رب السماوات والارض وما بينهما - إلى أن قال - قال إن رسولكم الذى ارسل إليكم لمجنون، قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون " (الشعراء: 28). وقال تعالى حكاية عن قوم مريم: " قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا، يا اخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت امك بغيا، فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا، قال إنى عبد الله آتانى الكتاب وجعلني نبيا " (الخ) (مريم: 30). وقال تعالى يسلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فيما رموه به من الكهانة والجنون والشعر: " فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون، أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون، قل تربصوا فإنى معكم من المتربصين " (الطور: 31). وقال: " وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا، انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " (الفرقان: 9). إلى غير ذلك من أنواع الشتم والرمى والاهانة التى حكى عنهم في القرآن، ولم ينقل عن الانبياء عليهم السلام أن يقابلوهم بخشونة أو بذاء بل بالقول الصواب والمنطق الحسن اللين اتباعا للتعليم الالهى الذى لقنهم خير القول وجميل الادب قال تعالى خطابا لموسى وهارون عليهما السلام: " إذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " (طه: 44) وقال لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: " وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا " (الاسراء: 28). ومن أدبهم في المحاورة والخطاب أنهم كانوا ينزلون أنفسهم منزلة الناس فيكلمون كل طبقة من طبقاتهم على قدر منزلته من الفهم، وهذا ظاهر بالتدبر فيما حكى من
________________________________________
[ 299 ]
محاوراتهم الناس على اختلافهم المنقولة عن نوح فمن بعده، وقد روى الفريقان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم " إنا معاشر الانبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم ". وليعلم أن البعثة بالنبوة إنما بنيت على أساس الهداية إلى الحق وبيانه والانتصار له فعليهم أن يتجهزوا بالحق في دعوتهم، وينخلعوا عن الباطل ويتقوا شبكات الضلال أيا ما كانت سواء وافق ذلك رضى الناس أو سخطهم، واستعقب طوعهم أو كرههم ولقد ورد منه تعالى أشد النهى في ذلك لانبيائه وأبلغ التحذير حتى عن اتباع الباطل قولا وفعلا بغرض نصرة الحق فإن الباطل باطل سواء وقع في طريق الحق أو لم يقع، والدعوة إلى الحق لا يجامع تجويز الباطل ولو في طريق الحق، والحق الذى يهدى إليه الباطل وينتجه ليس بحق من جميع جهاته. ولذلك قال تعالى: " وما كنت متخذ المضلين عضدا " (الكهف: 51) وقال: " ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا، إذن لاذقناك ضعف الحياة وضعف المماة ثم لا تجد لك علينا نصيرا " (الاسراء: 75) فلا مساهلة ولا ملابسة ولا مداهنة في حق ولا حرمة لباطل. ولذلك جهز الله سبحانه رجال دعوته وأولياء دينه وهم الانبياء عليهم السلام بما يسهل لهم الطريق إلى اتباع الحق ونصرته، قال تعالى: " ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا، الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا " (الاحزاب: 39) فأخبر أنهم لا يتحرجون فيما فرض الله لهم ويخشونه ولا يخشون أحدا غيره فليس أي مانع من إظهارهم الحق ولو بلغ بهم أي مبلغ وأوردهم أي مورد. ثم وعدهم النصر فيما انتهضوا له فقال: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون، وإن جندنا لهم الغالبون " (الصافات: 173) وقال: " إنا لننصر رسلنا " (المؤمن: 51). ولذلك نجدهم فيما حكى عنهم لا يبالون شيئا في إظهار الحق وقول الصدق وإن لم يرتضه الناس واستمروه في مذاقهم، قال تعالى حاكيا عن نوح يخاطب قومه: " ولكني أراكم قوما تجهلون " (هود: 29) وقال عن قول هود: " إن أنتم إلا مفترون "
________________________________________
[ 300 ]
(هود: 50) وقوله لقومه: " قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب أتجادلونني في اسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان " (الاعراف: 71)، وقال تعالى يحكى عن لوط: " بل أنتم قوم مسرفون " (الاعراف: 81) وحكى عن إبراهيم من قوله لقومه: " أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون " (الانبياء: 67) وحكى عن موسى في جواب قول فرعون له: " إنى لاظنك يا موسى مسحورا " قال لقد علمت ما انزل هؤلاء إلا رب السماوات والارض بصائر وإنى لاظنك يا فرعون مثبورا " (الاسراء: 102) أي ممنوعا من الايمان بالحق مطرودا هالكا، إلى غير ذلك من الموارد. فهذه كلها من رعاية الادب في جنب الحق واتباعه، ولا مطلوب أعز منه ولا بغية أشرف منه وأغلى، وإن كان في بعضها ما ينافى الادب الدائر بين الناس لابتناء حياتهم على اتباع جانب الهوى والسلوك إلى أمتعة الحياة بمداهنة المبطلين والخضوع والتملق إلى المفسدين والمترفين سياسة في العمل. وجملة الامر أن الادب كما تقدم في أول هذه المباحث إنما يتأتى في القول السائغ والعمل الصالح، ويختلف حينئذ باختلاف مسالك الحياة في المجتمعات والاراء والعقائد التى تتمكن فيهاو تتشكل هي عنها، والدعوة الالهية التى تستند إليها المجتمع الدينى إنما تتبع الحق كى الاعتقاد والعمل، والحق لا يخالط الباطل ولا يمازجه ولا يستند إليه ولا يعتضد به، فلا محيص عن إظهاره واتباعه، والادب الذى يتأتى فيه أن يسلك في طريق الحق أحسن المسالك ويتزيى فيه بأظرف الازياء كاختيار لين القول إذا صح أن يتكلم بلينة وخشونة، واخختيار الاستعجال في الخير إذا أمكن فيه كل من المسارعة والتبطى. وهذا هو الذى يأمر به في قوله تعالى: " وكتبنا له - أي لموسى - في الالواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها " (الاعراف: 145) وبشر عباده الاخذين به في قوله: " فبشر عباد، الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه اولئك الذين هداهم الله واولئك هم اولوا الالباب " (الزمر: 18) فلا أدب في باطل ولا أدب في ممزوج من حق وباطل فإن الخارج من صريح الحق ضلال لا يرتضيه ولى الحق وقد قال: " فماذا بعد الحق إلا الضلال " (يونس: 32).


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page