• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 226 الي 250


[ 226 ]
والذى يمكن أن يقال في المقام أن هذه القصة بما صدر به من السؤال يمتاز بمعنى يختص به من بين سائر معجزات الانبياء التى أتوا بها لاقتراح من أممهم أو لضرورات أخر تدعو إلى ذلك. وذلك أن الايات المعجزة التى يقصها الكلام الالهى إما آيات آتاها الله الانبياء حين بعثهم لتكون حجة مؤيدة لنبوتهم أو رسالتهم كما أوتى موسى عليه السلام اليد البيضاء والعصا، وأوتى عيسى عليه السلام إحياء الموتى وخلق الطير وإبراء الاكمه والابرص، وأوتى محمد صلى الله عليه وآله وسلم القرآن، وهذه آيات أوتيت لحاجة الدعوة إلى الايمان وإتمام الحجة على الكفار ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة. وإما آيات معجزة أتى بها الانبياء والرسل لاقتراح الكفار عليهم كناقة صالح، ويلحق بها المخوفات والمعذبات المستعملة في الدعوة كآيات موسى عليه السلام على قوم فرعون من الجراد والقمل والضفادع وغير ذلك في سبع آيات، وطوفان نوح، ورجفة ثمود وصرصر عاد وغير ذلك، وهذه أيضا آيات متعلقة بالمعاندين الجاحدين. وإما آيات أراها الله المؤمنين لحاجة مستها، وضرورة دعت إليها، كانفجار العيون من الحجر ونزول المن والسلوى على بنى إسرائيل في التيه، ورفع الطور فوق رؤسهم وشق البحر لنجاتهم من فرعون وعمله، فهذه آيات واقعة لارهاب العاصين المستكبرين أو كرامة للمؤمنين لتتم كلمة الرحمة في حقهم من غير أن يكونوا قد اقترحوها. ومن هذا الباب المواعيد التى وعدها الله في كتابه المؤمنين كرامة لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم كوعد فتح مكة ومقت المشركين من كفار قريش وغلبة الروم إلى غير ذلك. فهذه أنواع الايات المقتصة في القرآن والمذكورة في التعليم الالهى، وأما اقتراح الاية بعد نزول الاية فهو من التهوس يعده التعليم الالهى من الهجر الذى لا يعبأ به كاقتراح أهل الكتاب أن ينزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم كتابا من السماء مع وجود القرآن بين أيديهم، قال تعالى: " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة - إلى أن قال - لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا " (النساء 166).
________________________________________
[ 227 ]
وكما سأل المشركون النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنزال الملائكة أو إراءة ربهم تعالى وتقدس قال تعالى: " وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا " (الفرقان: 21) وقال تعالى: " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الاسواق لولا انزل إليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا، انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " (الفرقان: 9) إلى غير ذلك من الايات الكثيرة. وليس ذلك كله إلا لان عنوان نزول الاية هو ظهور الحق وتمام الحجة فإذا نزلت فقد ظهر الحق وتمت الحجة فلو اعيد سؤال نزول الاية وقد نزلت وحصل الغرض فلا عنوان له إلا العبث بآيات الله واللعب بالمقام الربوبى والتذبذب في القبول، وفيه أعظم العتو والاستكبار. وهذا لو صدر عن المؤمنين لكان الذنب فيه أكثف والاثم فيه أعظم فماذا يصنع المؤمن بنزول الاية السماوية وهو مؤمن وخاصة إذا كان ممن شاهد آيات الله فآمن عن مشاهدتها ؟ وهل هو إلا أشبه شئ بما يقترحه أرباب الهوى والمترفون في مجالس الانس وحفل التفكه من المشعوذين أو أصحاب الرياضات العجيبة أن يطيبوا عيشهم بإتحافهم بأعجب ما يقدرون عليه من الشعبذة والاعمال الغريبة. والذى يفيده ظاهر قوله تعالى: " إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة " أنهم اقترحوا على المسيح عليه السلام أن يريهم آية خاصة وهم حواريوه المختصون به وقد رأوا تلك الايات الباهرة والكرامات الظاهرة فإنه (ع) لم يرسل إلى قومه إلا بالايات المعجزة كما يعطيه قوله تعالى: " ورسولا إلى بنى إسرائيل أنى قد جئتكم بآية من ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، الخ " (آل عمران: 49). وكيف يتصور في من آمن بالمسيح (ع) أن لا يعثر منه على آية وهو (ع) بنفس وجوده آية خلقه الله من غير أب وأيده بروح القدس يكلم الناس في المهد وكهلا ولم يزل مكرما بآية بعد آية حتى رفعه الله إليه وختم أمره بأعجب آية.
________________________________________
[ 228 ]
فاقتراحهم آية اختاروها لانفسهم بعد هاتيك الايات على كثرتها من قبيل اقتراح الاية بعد الاية وقد ركبوا أمرا عظيما ولذلك وبخهم عيسى (ع) بقوله: " اتقوا الله إن كنتم مؤمنين ". ولذلك بعينه وجهوا ما اقترحوا عليه وفسروا قولهم ثانيا بما يكسر سورة ما أوهمه إطلاق كلامهم، ويزيل عنه تلك الحدة فقالوا: " نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين " فضموا إلى غرض الاكل أغراضا اخر يوجه اقتراحهم، يريدون به أن اقتراحهم هذا ليس من قبيل التفكه بالامور العجيبة والعبث بايات الالهية بل له فوائد مقصودة: من كمال علمهم وإزالة خطرات السوء من قلوبهم وشهادتهم عليها. لكنهم مع ذلك لم يتركوا ذكر إرادة الاكل ومنه كانت الخطيئة ولو قالوا: " نريد أن نأكل منها فتطمئن قلوبنا، الخ " لم يلزمهم ما لزمهم إذ قالوا: " نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا، الخ " فإن الكلام الاول يقطع جميع منابت التهوس والمجازفة دون الثاني. ولما ألحوا عليه أجابهم عيسى عليه السلام إلى ما اقترحوا عليه والتمسوه وسأل ربه أن يكرمهم بها، وهى معجزة مختصة في نوعها بامته لانها الاية الوحيدة التى نزلت إليهم عن اقتراح في أمر غير لازم ظاهرا وهو أكل المؤمنين منها، ولذلك عنونها عليه السلام عنوانا يصلح به أن يوجه الوجه بسؤاله إلى ساحة العظمة والكبرياء فقال: " اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا " فعنونها بعنوان العيدية، والعيد عند قوم هو اليوم الذى نالوا فيه موهبة أو مفخرة مختصة بهم من بين الناس، وكان نزول المائدة عليهم منعوتا بهذا النعت. ولما سأل عيسى ربه ما سأل - وحاشاه أن يسأل إلا ما يعلم أن من المرجو استجابته وأن ربه لا يمقته ولا يفضحه، وحاشا ربه أن يرده خائبا في دعائه - استجاب له ربه دعاءه غير أنه شرط فيها لمن يكفر بها عذابا يختص به من بين جميع الناس كما أن الاية آية خاصة بهم لا يشاركهم في نوعها غيرهم من الامم فقال الله سبحانه " إنى منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنى اعذبه عذابا لا اعذبه أحدا من العالمين " هذا.
________________________________________
[ 229 ]
قوله تعالى: " إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء " " إذ " ظرف متعلق بمقدر والتقدير: اذكر إذ قال " الخ "، أو ما يقرب منه، وذهب بعضهم إلى أنه متعلق بقوله في الاية السابقة: " قالوا آمنا، الخ " أي قال الحواريون: آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون في وقت قالوا فيه لعيسى: " هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء والمراد أنهم ما كانوا على صدق في دعواهم، ولا على جد في إشهادهم عيسى عليه السلام على إسلامهم له. وفيه أنه مخالف لظاهر السياق، وكيف يكون إيمانهم غير خالص ؟ وقد ذكر الله أنه هو أوحى إليهم أن آمنوا بى وبرسولي، وهو تعالى يمتن بذلك على عيسى (ع)، عى أنه لا وجه حينئذ للاظهار في قوله: " إذ قال الحواريون، الخ ". و " المائدة " الخوان إذا كان فيه طعام، قال الراغب: والمائدة الطبق الذى عليه الطعام، ويقال لكل واحدة منهما مائدة، ويقال: ما دنى يميدنى أي أطعمني، انتهى. ومتن السؤال الذى حكى عنهم في الاية وهو قولهم: " هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء " بحسب ظاهر ما يتبادر من معناه مما يستبعد العقل صدوره عن الحواريين وهم أصحاب المسيح وتلامذته وأخصاؤه الملازمون له المقتبسون من أنوار علومه ومعارفه المتبعون آدابه وآثاره، والايمان بأدنى مراتبه ينبه الانسان على أن الله سبحانه على كل شئ قدير، لا يجوز عليه العجز ولا يغلبه العجز، فكيف جاز أن يستفهموا رسولهم عن استطاعة ربه على إنزال مائدة من السماء. ولذلك قرأ الكسائي من السبعة: " هل تستطيع ربك " بتاء المضارعة ونصب " ربك " على المفعولية أي هل تستطيع أنت أن تسأل ربك، فحذف الفعل الناصب للمفعول واقيم " تستطيع " مقامه، أو أنه مفعول لفعل محذوف فقط. وقد اختلف المفسرون في توجيهه على بناء من أكثريهم على أن المراد به غير ما يتبادر من ظاهره من الشك في قدرة الله سبحانه لنزاهة ساحتهم من هذا الجهل السخيف. وأوجه ما يمكن أن يقال هو أن الاستطاعة في الاية كناية عن اقتضاء المصلحة ووقوع الاذن كما أن الامكان والقدرة والقوة يكنى بها عن ذلك كما يقال: " لا يقدر الملك أن يصغى إلى كل ذى حاجة " بمعنى أن مصلحة الملك تمنعه من ذلك وإلا فمطلق
________________________________________
[ 230 ]
الاصغاء مقدور له، ويقال: " لا يستطيع الغنى أن يعطى كل سائل " أي مصلحة حفظ المال لا تقتضيه، ويقال: " لا يمكن للعالم أن يبث كل ما يعلمه " أي يمنعه عن ذلك مصلحة الدين أو مصلحة الناس والنظام الدائر بينهم، ويقول أحدنا لصاحبه: " هل تستطيع أن تروح معى إلى فلان ؟ وإنما السؤال عن الاستطاعة بحسب الحكمة والمصلحة لا بحسب أصل القدرة على الذهاب، هذا. وهناك وجوه اخرى ذكروها: منها: أن هذا السؤال لاجل تحصيل الاطمئنان بإيمان العيان لا للشك في قدرة الله سبحانه فهو على حد قول إبراهيم (ع) فيما حكى الله عنه: " رب أرنى كيف تحيى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبى ". وفيه: أن مجرد صحة أن تسأل الاية لزيادة الايمان واطمئنان القلب لا يصحح حمل سؤالهم عليه ولم تثبت عصمتهم كإبراهيم (ع) حتى تكون دليلا منفصلا يوجب حمل كلامهم على مالا حزازة فيه بل الدليل على خلافه حيث لم يقولوا: نريد أن نأكل منها فتطمئن قلوبنا كما قال إبراهيم عليه السلام: " بلى ولكن ليطمئن قلبى " بل قالوا: " نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا " فعدوا الاكل بحيال نفسه غرضا. على أن هذا الوجه إنما يستدعى تنزه قلوبهم عن شائبة الشك في قدرة الله سبحانه وأما حزازة ظاهر الكلام فعلى حالها. على أنه قد تقدم في تفسير قوله تعالى: " وإذ قال إبراهيم رب أرنى كيف تحيى الموتى " (الاية) (البقرة: 260) أن مراده عليه السلام لم يكن مشاهدة تلبس الموتى بالحياة بعد الموت كما عليه بناء هذا الوجه ولو كان كذلك لكان من قبيل طلب الاية بعد العيان وهو في مقام المشافهة مع ربه بل مراده مشاهدة كيفية الاحياء بالمعنى الذى تقدم بيانه. ومنها: أنه سؤال عن الفعل دون القدرة عليه فعبر عنه بلازمه. وفيه: أنه لادليل عليه، ولو سلم فإنه إنما ينفى عنهم الجهل بالقدرة المطلقة الالهية وأما منافاة إطلاق اللفظ للادب العبودي فعلى حالها.
________________________________________
[ 231 ]
ومنها: أن في الكلام حذفا تقديره: " هل تستطيع سؤال ربك ؟ ويدل عليه قراءة " هل تستطيع ربك " والمعنى: هل تستطيع أن تسأله من غير صارف يصرفك عن ذلك. وفيه: أن الحذف والتقدير لا يعيد لفظة " هل يستطيع ربك " إلى قولنا هل تستطيع سؤال ربك بأى وجه فرض لمكان اختلاف الفعل في القراءتين بالغيبة والحضور، والتقدير لا يحول الغيبة إلى الخطاب البتة، وإن كان ولا بد فليقل: إنه من قبيل إسناد الفعل المنسوب إلى عيسى (ع) إلى ربه من جهة أن فعله فعل الله أو أن كل ما له (ع) فهو لله سبحانه، وهذا الوجه مع كونه فاسدا من جهة أن الانبياء والرسل إنما ينسب من أفعالهم إلى الله ما لا يستلزم نسبته إليه النقص والقصور في ساحته تعالى كالهداية والعلم ونحوهما، وأما لوازم عبوديتهم وبشريتهم كالعجز والفقر والاكل والشرب ونحو ذلك فمما لا تستقيم نسبته إليه تعالى البتة فمشكلة ظاهر اللفظ على حالها. ومنها: أن الاستطاعة هنا بمعنى الاطاعة والمعنى: هل يطيعك ربك ويجيب دعاءك إذا سألته ذلك، وفيه: أنه من قبيل تبديل المشكل بما هو أشكل فإن الاستفهام عن إطاعة الله سبحانه لرسوله وانقياده له أشنع وأفظع من الاستفهام عن استطاعته. وقد انتصر بعضهم لهذا الوجه فقال في تقريره ما محصله: إن الاستطاعة والاطاعة من مادة الطوع مقابل الكره فإطاعة الامر فعله عن رضى واختيار، والاستفعال في هذه المادة كالاستفعال في مادة الاجابة فإذا كان معنى استجابه: أجاب دعاءه أو سؤاله فمعنى استطاعه: أطاعه أي انه انقاد له وصار في طوعه أو طوعا له، والسين والتاء في المادتين على أشهر معانيهما وهو الطلب، ولكنه طلب دخل على فعل محذوف دل عليه المذكور المترتب على المحذوف، ومعنى استطاع الشئ: طلب وحاول أن يكون ذلك الشئ طوعا له فأطاعه وانقاد له، ومعنى استجاب: سئل شيئا وطلب منه أن يجيب إليه فأجاب. قال: فبهذا الشرح الدقيق تفهم صحة قول من قال من المفسرين: إن " يستطيع " هنا بمعنى يطيع وإن معنى يطيع: يفعل مختارا راضيا غير كاره فصار حاصل معنى الجملة: هل يرضى ربك ويختار أن ينزل علينا مائدة من السماء إذا نحن سألناه أو سألته لنا ذلك، انتهى. وفيه أولا: أنه لم يأت بشئ دون أن قاس استطاع باستجاب ثم أعطى هذا
________________________________________
[ 232 ]
معنى ذاك وهو قياس في اللغة ممنوع. وثانيا: أن كون الاستطاعة والاطاعة راجعين بحسب المادة إلى الطوع مقابل الكره لا يستلزم وجوب جريان الاستعمال على رعاية معنى المادة الاصلية في جميع التطورات الطارئة عليها فكثير من المواد هجرت خصوصية معناها الاصلى في ما عرضها من الهيئات الاشتقاقية نظير ضرب وأضرب وقبل وأقبل وقبل وقابل واستقبل بحسب التبادر الاستعمالى. واعتبار المادة الاصلية في البحث عن الاشتقاقات اللغوية لايراد به إلا الاستعلام مبلغ ما يعيش المادة الاصلية بين مشتقاتها بحسب عروض تطورات الاشتقاق عليها، أو انقضاء أمد حياتها بحسب المعنى وتبدله إلى معنى آخر لا أن يلغى حكم التطورات ويحفظ المعنى الاصلى ما جرى اللسان، فافهم ذلك. فالاعتبار في اللفظ بما يفيده بحسب الاستعمال الدائر الحى لا بما تفيده المادة اللغوية وقد استعمل لفظ الاستطاعة في كلامه تعالى في أزيد من أربعين موضعا وهو في الجميع بمعنى القدرة، واستعمل لفظ الاطاعة فيما يقرب من سبعين موضعا وهو في الجميع بمعنى الانقياد، واستعمل لفظ الطوع فيما استعمل وهو مقابل الكره، فكيف يسوغ أن يؤخذ لفظ يستطيع بمعنى يطيع ثم يطيع بمعنى الطوع ثم يحكم بأن يستطيع في الاية بمعنى يرضى ؟. وأما حديث أجاب واستجاب فقد استعملا معا في كلامه تعالى بمعنى واحد وورد استعمال الاستجابة في موارد هي أضعاف ما استعملت فيه الاجابة فإنك تجد الاستجابة فيما يقرب من ثلاثين موضعا، ولا تجد الاجابة في أكثر من عشرة مواضع فكيف يقاس عليها أطاع واستطاع ؟. وكونهما بمعنى واحد ليس إلا لانطباق عنايتين مختلفتين على مورد واحد فمعنى اجاب ان الجواب تجاوز عن المسؤول إلى السائل، ومعنى استجاب ان المسؤول طلب من نفسه الجواب فأداه إلى السائل. ومن هنا يظهر أن الذى فسر به الاستجابة وهو قوله: (ومعنى استجاب سئل شيئا وطلب منه أن يجيب إليه فأجاب) ليس على ما ينبغى فإن باب الاستفعال هو
________________________________________
[ 233 ]
طلب " فعل " لا طلب " أفعل " وهو ظاهر. وثالثا: أن السياق لا يلائم هذا المعنى إذ لو كان معنى قولهم: " هل يستطيع ربك ان ينزل علينا مائدة من السماء " انه هل يرضى ربك ان نسأله نحن أو تسأله انت ان ينزل علينا مائدة من السماء، وكان غرضهم من هذا السؤال أو النزول ان يزدادوا إيمانا ويطمئنوا قلبا فما وجه توبيخ عيسى (ع) لهم بقوله: " اتقوا الله إن كنتم مؤمنين " ؟ وما وجه وعيده تعالى الكافرين بها بعذاب لا يعذبه احدا من العالمين، وهم لم يقولوا إلا حقا ولم يسألوا إلا مسألة مشروعة، وقد قال تعالى: " واسألوا الله من فضله " (النساء: 32) قوله تعالى: " قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين " توبيخ منه (ع) لهم لما يشتمل عليه ظاهر كلامهم من الاستفهام عن استطاعه ربه على إنزال المائدة فإن كلامهم مريب على أي حال. وأما على ما قدمناه من أن الاصل في مؤاخذتهم الذى يترتب عليه الوعيد الشديد في آخر الايات هو أنهم سألوا آية حيث لا حاجة إليها واقترحوا بما في معنى العبث بآيات الله سبحانه، ثم تعبيرهم بما يتبادر من ظاهره كونهم كأنهم لم يعقدوا قلوبهم على القدرة الربوبية فوجه توبيخه (ع) لهم بقوله: " اتقوا الله إن كنتم مؤمنين " أظهر. قوله تعالى: " قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم ان قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين " السياق ظاهر في أن قولهم هذا عذر اعتذروا به للتخلص من توبيخه (ع) وما ذكروه ظاهر التعلق باقتراحهم الاية بنزول المائدة دون ما يظهر من قولهم: هل يستطيع ربك ان ينزل "، من المعنى الموهم للشك في إطلاق القدرة، وهذا ايضا احد الشواهد على ان ملاك المؤاخذة في المقام هو انهم سألوا آية على آية من غير حاجة إليها. وأما قولهم: " نريد ان نأكل منها، الخ " فقد عدوا في بيان غرضهم من اقتراح الاية امورا أربعة: أحدها: الاكل وكأن مرادهم بذكره أنهم ما أرادوا به اللعب بآيات الله بل
________________________________________
[ 234 ]
أرادوا أن يأكلوا منها، وهو غرض عقلائي، وقد تقدم أن هذا القول منهم كالتسليم لاستحقاقهم التوبيخ من عيسى عليه السلام والوعيد الشديد من الله لمن يكفر منهم بآية المائدة. وذكر بعضهم: أن المراد بذكرالاكل إبانة أنهم في حاجة شديدة إلى الطعام ولا يجدون ما يسد حاجتهم. وذكر آخرون أن المراد: نريد أن نتبرك بأكله. وأنت تعلم أن المعنى الذى قرر في كل من هذين الوجهين أمر لا يدل عليه مجرد ذكر الاكل، ولو كان مرادهم ذلك وهو أمر يدفع به التوبيخ لكان مقتضى مقام الاعتذار التصريح بذكره، وحيث لم يذكر شئ من ذلك مع حاجة المقام إلى ذكره لو كان مرادا فليس المراد بالاكل إلا مطلق معناه من حيث إنه غرض عقلائي هو أحد أجزاء غرضهم في اقتراح نزول المائدة. الثاني: اطمئنان القلب وهو سكونه باندفاع الخطورات المنافية للخلوص والحضور. والثالث: العلم بأنه (ع) قد صدقهم فيما بلغهم عن ربه، والمراد بالعلم حينئذ هو العلم اليقيني الذى يحصل في القلب بعد ارتفاع الخطورات والوساوس النفسانية عنه، أو العلم بأنه قد صدقهم فيما وعدهم من ثمرات الايمان كاستجابة الدعاء كما ذكره بعضهم، لكن يبعده أن الحواريين ما كانوا يسألون إنزال المائدة من السماء إلا بدعاء عيسى (ع) ومسألته، وبالجملة بإعجاز منه (ع) وقد كانوا رأوا منه (ع) آيات كثيرة فإنه (ع) لم يزل في حياته قرينا لايات إلهية كبرى، ولم يرسل إلى قومه ولم يدعهم دعوة إلا مع آيات ربه فلم يزالوا يرون ثمرات إيمانه من استجابة الدعاء إن كان المراد الثمرة التى هي استجابة دعائه (ع) وإن كان المراد الثمرة التى هي استجابة دعائهم أنفسهم فإنهم لم يسألوا نزول الاية بدعاء أنفسهم، ولم تنزل إلا بدعاء عيسى (ع). الرابع: أن يكونوا عليها من الشاهدين عند ما يحتاج إلى الشهادة كالشهادة عند المنكرين، والشهادة عند الله يوم القيامة، فالمراد بها مطلق الشهادة، ويمكن أن يكون المراد مجرد الشهادة عند الله سبحانه كما وقع في بعض قولهم الذى حكاه الله تعالى إذ قال: " ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين " (آل عمران: 53). فقد تحصل أنهم - فيما اعتذروا به - ضموا امورا جميلة مرضية إلى غرضهم الاخر
________________________________________
[ 235 ]
الذى هو الاكل من المائدة السماوية ليحسموا به مادة الحزازة عن اقتراحهم الاية بعد مشاهدة الايات الكافية فأجابهم عيسى (ع) إلى مسألتهم بعد الاصرار. قوله تعالى: " قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين " خلط (ع) نفسه بهم في سؤال المائدة، وبدأ بنداء ربه بلفظ عام فقال: " اللهم ربنا " وقد كانوا قالوا له: " هل يستطيع ربك " ليوافق النداء الدعاء. وقد توحد هذا الدعاء من بين جميع الادعية والمسائل المحكية في القرآن عن الانبياء عليهم السلام بأن صدر " باللهم ربنا " وغيره من أدعيتهم مصدر بلفظ " رب " أو " ربنا " وليس إلا لدقة المورد وهول المطلع، نعم يوجد في أقسام الثناء المحكية نظير هذا التصدير كقوله: " قل الحمد لله " (النمل: 59) وقوله: " قل اللهم مالك الملك " (آل عمران: 26) وقوله: " قل اللهم فاطر السماوات والارض " (الزمر: 46). ثم ذكر (ع) عنوانا لهذه المائدة النازلة هو الغرض له ولاصحابه من سؤال نزولها وهو أن تنزل فتكون عيدا له ولجميع امته، ولم يكن الحواريون ذكروا فيما اقترحوه أنهم يريدون عيدا يخصون به لكنه (ع) عنون ما سأله بعنوان عام وقلبه في قالب حسن ليخرج عن كونه سؤالا للاية مع وجود آيات كبرى إلهية بين أيديهم وتحت مشاهدتهم، ويكون سؤالا مرضيا عند الله غير مصادم لمقام العزة والكبرياء فإن العيد من شأنه أن يجمع الكلمة، ويجدد حياة الملة، وينشط نفوس العائدين، ويعلن كلما عاد عظمة الدين. ولذلك قال: " عيدا لاولنا وآخرنا " أي أول جماعتنا من الامة وآخر من يلحق بهم - على ما يدل عليه السياق - فإن العيد من العود ولا يكون عيدا إلا إذا عاد حينا بعد حين، وفى الخلف بعد السلف من غير تحديد. وهذا العيد مما اختص به قوم عيسى (ع) كما اختصوا بنوع هذه الاية النازلة على ما تقدم بيانه. وقوله: " وآية منك " لما قدم مسألة العيد وهى مسألة حسنة جميلة لا عتاب عليها عقبها بكونها آية منه تعالى كأنه من الفائدة الزائدة المترتبة على الغرض الاصلى
________________________________________
[ 236 ]
غير مقصودة وحدها حتى يتعلق بها عتاب أو سخط، وإلا فلو كانت مقصودة وحدها من حيث كونها آية لم تخل مسألتها من نتيجة غير مطلوبة فإن جميع المزايا الحسنة التى كان يمكن أن يراد بها كانت ممكنة الحصول بالايات المشهودة كل يوم منه عليه السلام للحواريين وغيرهم. وقوله: " وارزقنا وأنت خير الرازقين " وهذه فائدة اخرى عدها مترتبة على ما سأله من العيد من غير أن تكون مقصودة بالذات، وقد كان الحواريون ذكروه مطلوبا بالذات حيث قالوا: " نريد أن نأكل منها " فذكروه مطلوبا لذاته وقدموه على غيره، لكنه عليه السلام عده غير مطلوب بالذات وأخره عن الجميع وأبدل لفظ الاكل من لفظ الرزق فأردفه بقوله " وأنت خير الرازقين ". والدليل على ما ذكرنا انه (ع) جعل ما أخذوه أصلا فائدة مترتبة أنه سأل أولا لجميع امته ونفسه، وهو سؤال العيد الذى أضافه إلى سؤالهم فصار بذلك كونها آية من الله ورزقا وصفين خاصين للبعض دون البعض كالفائدة المترتبة غير الشاملة. فانظر إلى أدبه (ع) البارع الجميل مع ربه، وقس كلامه إلى كلامهم - وكلا الكلامين يؤمان نزول المائدة - تر عجبا فقد أخذ (ع) لفظ سؤالهم فأضاف وحذف، وقدم وأخر، وبدل وحفظ حتى عاد الكلام الذى ما كان ينبغى أن يوجه به إلى حضرة العزة وساحة العظمة أجمل كلام يشتمل على أدب العبودية، فتدبر في قيود كلامه (ع) تر عجبا. قوله تعالى: " قال الله إنى منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنى اعذبه عذابا لا اعذبه أحدا من العالمين " قرأ أهل المدينة والشام وعاصم " منزلها " بالتشديد والباقون " منزلها " بالتخفيف - على ما في المجمع - والتخفيف اوفق لان الانزال هو الدال على النزول الدفعي، وكذلك نزلت المائدة، وأما التنزيل فاستعماله الشائع إنما هو في النزول التدريجي كما تقدم كرارا. وقوله تعالى: " إنى منزلها عليكم " وعد صريح بالانزال وخاصة بالنظر إلى الاتيان به في هيئة اسم الفاعل دون الفعل، ولازم ذلك أن المائدة قد نزلت عليهم. وذكر بعض المفسرين أنها لم تنزل كما روى ذلك في الدر المنثور ومجمع البيان
________________________________________
[ 237 ]
وغيرهما عن الحسن ومجاهد قالا: إنها لم تنزل وإن القوم لما سمعوا الشرط استعفوا عن نزولها وقالوا: لا نريدها ولا حاجة لنا فيها فلم تنزل. والحق ان الاية ظاهرة الدلالة على النزول فإنها تتضمن الوعد الصريح بالنزول وحاشاه تعالى ان يجود لهم بالوعد الصريح وهو يعلم انهم سيستعفون عنها فلا تنزل، والوعد الذى في الاية صريح والشرط الذى في الاية يتضمن تفرع العذاب وترتبه على الكفر بعد النزول، وبعبارة اخرى: الاية تتضمن الوعد المطلق بالانزال ثم تفريع العذاب على الكفر لا انها تشتمل على الوعد بالانزال على تقدير قبولهم العذاب على الكفر، حتى يرتفع موضوع الوعد عند عدم قبولهم الشرط فلا تنزل المائدة باستعفائهم عن نزولها، فافهم. وكيف كان فاشتمال وعده تعالى بانزال المائدة على الوعيد الشديد بعذاب الكافرين بها منهم ليس ردا لدعاء عيسى (ع) وإنما هو استجابة له غير انه لما كان ظاهر الاستجابة بعد الدعاء - على ما له من السياق - ان هذه الاية تكون رحمة مطلقة منه لهم يتنعم بها آخرهم واولهم، قيد تعالى هذا الاطلاق بالشرط الذى شرط عليهم، ومحصله ان هذا العيد الذى خصهم الله به لا ينتفع به جميعهم بل إنما ينتفع به المؤمنون المستمرون على الايمان منهم، وأما الكافرون بها فيستضرون بها أشد الضرر. فالايتان في كلامه تعالى من حيث إطلاق الدعاء بحسب لازمه وتقييد الاستجابة كقوله تعالى: " وإذ ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إنى جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين " (البقرة: 124) وقوله تعالى حكاية عن موسى (ع): " أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وانت خير الغافرين، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفى الاخرة إنا هدنا اليك قال عذابي اصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون " (الاعراف: 156). وقد عرفت فيما تقدم ان السبب الاصلى في هذا العذاب الموعود الذى يختص بهم إنما هو اقتراحهم آية هي في نوعها مختصة بهم لا يشاركهم فيها غيرهم من الامم فإذا اجيبوا إلى ذلك اوعدوا على الكفر عذابا لا يشاركهم فيها غيرهم كما شرفوا بمثل ذلك. ومن هنا يظهر ان المراد بالعالمين عالمو جميع الامم عالمو زمانهم فإن ذلك
________________________________________
[ 238 ]
مرتبطا بمن يمتازون عنهم من الناس وهم جميع الامم لا اهل زمان عيسى (ع) خاصة من امم الارض. ومن هناك يظهرايضا ان قوله " فإنى اعذبه عذابا لا اعذبه احدا من العالمين " وإن كان وعيدا شديدا بعذاب بئيس لكن الكلام غير ناظر إلى كون العذاب فوق جميع العذابات والعقوبات في الشدة والالم، وإنما هو مسوق لبيان انفراد العذاب في بابه، واختصاصهم من بين الامم به. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: " هل يستطيع ربك " عن أبى عبد الله (ع) قال: معنى الاية هل تستطيع أن تدعو ربك. أقول: وروى هذا المعنى من طريق الجمهور عن بعض الصحابة والتابعين كعائشة وسعيد بن جبير، وهو راجع إلى ما استظهرناه من معنى الاية فيما تقدم فإن السؤال عن استطاعة عيسى (ع) إنما يصح بالنسبة إلى استطاعته بحسب الحكمة والمصلحة دون استطاعته بحسب أصل القدرة. وفي تفسير العياشي عن عيسى العلوى عن أبيه عن أبى جعفر (ع) قال: المائدة التى نزلت بنى إسرائيل مدلاة بسلاسل من ذهب عليها تسعة أحوتة وتسعة أرغفة. أقول: وفي لفظ آخر تسعة أنوان وتسعة أرغفة " والانوان " جمع نون وهو الحوت. وفي المجمع عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: نزلت المائدة خبزا، ولحما، وذلك لانهم سألوا عيسى طعاما لا ينفد يأكلون منها، قال: فقيل لهم: فإنها مقيمة لكم ما لم تخونوا وتخبأوا وترفعوا فإن فعلتم ذلك عذبتم، قال: فما مضى يومهم حتى خبأوا ورفعوا وخانوا. اقول: ورواه في الدر المنثورعن الترمذي وابن جرير وابن أبى حاتم وابن الانباري وأبى الشيخ وابن مردويه عن عمار بن ياسر عنه صلى الله عليه وآله وسلم وفي آخره فمسخوا قردة وخنازير. قال في الدر المنثور: وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم من وجه آخر
________________________________________
[ 239 ]
عن عمار بن ياسر موقوفا مثله، قال الترمذي: والوقف أصح، انتهى. والذى ذكر في الخبر من أنهم سألوا طعاما لا ينفد يأكلون منها لا ينطبق على الاية ذاك الانطباق بناء على ظاهر ما حكاه الله تعالى من قولهم: " ونكون عليها من الشاهدين " فإن الطعام الذى لا يقبل النفاد لا يحتاج إلى شاهد يشهد عليه إلا أن يراد من الشهادة الشهادة عند الله يوم القيامة. والذى ذكر فيه من مسخهم قردة وخنازير ظاهر السياق أن ذلك هو العذاب الموعود لهم، وهذا مما يفتح بابا آخر من المناقشة فيه فإن ظاهر قوله تعالى " فإنى أعذبه عذابا لا اعذبه أحدا من العالمين " اختصاص هذا العذاب بهم، وقد نص القرآن الشريف على مسخ آخرين بالقردة، قال تعالى: " ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين " (البقرة: 65)، والمروى في هذا الباب عن بعض طرق أئمة أهل البيت عليهم السلام: أنهم مسخوا خنازير. وفى تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار عن أبى الحسن (ع) قال: إن الخنازير من قوم عيسى سألوا نزول المائدة فلم يؤمنوا بها فمسخهم الله خنازير. وفيه: عن عبد الصمد بن بندارقال: سمعت أبا الحسن (ع) يقول: كانت الخنازير قوما من القصارين كذبوا بالمائدة فمسخوا خنازير. أقول: وفيما رواه في الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن محمد بن الحسن الاشعري عن أبى الحسن الرضا (ع) قال: الفيل مسخ كان ملكا زناء، والذئب مسخ كان أعرابيا ديوثا، والارنب مسخ كانت امرأة تخون زوجها ولا تغتسل من حيضها، والوطواط مسخ كان يسرق تمور الناس، والقردة والخنازير قوم من بنى إسرائيل اعتدوا في السبت، والجريث والضب فرقة من بنى إسرائيل لم يؤمنوا حيث نزلت المائدة على عيسى بن مريم فتاهوا فوقعت فرقة في البحر وفرقة في البر، والفارة فهى الفويسقة، والعقرب كان نماما، والدب والوزغ والزنبور كانت لحاما يسرق في الميزان. والرواية لا تعارض الروايتين السابقتين لامكان أن يمسخ بعضهم خنزيرا وبعضهم جريثا وضبا غير أن هذه الرواية لا تخلو عن شئ آخر وهو ما تضمنه من مسخ أصحاب
________________________________________
[ 240 ]
السبت قردة وخنازير، والاية الشريفة المذكورة ونظيرتها ما في سورة الاعراف إنما تذكران مسخهم قردة بسياق كالمنافي لغيرها، والله أعلم. * * * وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمى إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب - 116. ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به أن اعبدوا الله ربى وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد - 117. إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم - 118. قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم - 119. لله ملك السموات والارض وما فيهن وهو على كل شئ قدير - 120. (بيان) مشافهة الله رسوله عيسى بن مريم في أمر ما قالته النصارى في حقه، وكأن الغرض من سرد الايات ذكر ما اعترف به (ع) وحكاه عن نفسه في حياته الدنيا: أنه لم يكن من حقه أن يدعى لنفسه ما ليس فقد كان بعين الله التى لا تنام ولا تزيغ، وأنه لم يتعد
________________________________________
[ 241 ]
ما حده الله سبحانه له فلم يقل إلا ما أمر أن يقول ذلك، واشتغل بالعمل بما كلفه الله أن يشتغل به وهو أمر الشهادة، وقد صدقه الله تعالى فيما ذكره من حق الربوبية والعبودية. وبهذا تنطبق الايات على الغرض النازل لاجله السورة، وهو بيان الحق المجعول لله على عباده أن يفوا بالعهد الذى عقدوه وأن لا ينقضوا الميثاق، فليس لهم أن يسترسلوا كيفما أرادوا وأن يرتعوا رغدا حيث شاؤا فلم يملكوا هذا النوع من الحق من قبل ربهم، ولا أنهم قادرون على ذلك من حيال أنفسهم، ولله ملك السماوات والارض وما فيهن وهو على كل شئ قدير، وبذلك تختتم السورة. قوله تعالى: " وإذ قال الله يا عيسى بن مريم، أأنت قلت للناس اتخذوني وامى إلهين من دون الله " " إذ " ظرف متعلق بمحذوف يدل عليه المقام، والمراد به يوم القيامة لقوله تعالى فيها: " قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم " وقول عيسى عليه السلام فيها " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم ". وقد عبرت الاية عن مريم بالامومة فقيل: " اتخذوني وأمى إلهين " دون ان يقال: " اتخذوني ومريم إلهين " للدلالة على عمدة حجتهم في الالوهية وهو ولادته منها بغيرأب، فالبنوة والامومة الكذائيتين هما الاصل في ذلك فالتعبير به وبامه أدل وأبلغ من التعبير بعيسى ومريم. و " دون " كلمة تستعمل بحسب المآل في معنى الغير، قال الراغب: يقال للقاصر عن الشئ " دون " قال بعضهم: هو مقلوب من الدنو، والادون الدنى، وقوله تعالى: " لا تتخذوا بطانة من دونكم " أي من لم يبلغ منزلتكم في الديانة، وقيل: في القرابة، وقوله: " ويغفر ما دون ذلك " أي ما كان أقل من ذلك، وقيل: ما سوى ذلك، والمعنيان متلازمان، وقوله: " ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمى إلهين من دون الله " أي غير الله، انتهى. وقد استعمل لفظ " من دون الله " كثيرا في القرآن في معنى الاشراك دون
________________________________________
[ 242 ]
الاستقلال بمعنى أن المراد من اتخاذ إله أو إلهين أو آلهة من دون الله هو أن يتخذ غير الله شريكا لله سبحانه في الوهيته لا أن يتخذ غير الله إلها وتنفى الوهية الله سبحانه فإن ذلك من لغو القول الذى لا يرجع إلى محصل فإن الذى أثبته حينئذ يكون هو الاله سبحانه وينفى غيره، ويعود النزاع إلى بعض الاوصاف التى أثبتها فمثلا لو قال قائل: " إن الاله هو المسيح ونفى إله المسيح عاد مفاد كلامه إلى إثبات الاله تعالى وتوصيفه بصفات المسيح البشرية، ولو قال قائل: إن الاصنام أو أرباب الاصنام آلهة ونفى الله تعالى وتقدس فإنه يقول بأن للعالم إلها فقد أثبت الله سبحانه لكنه نعته بنعت الكثرة والتعدد فقد جعل لله شركاء، أو يقول كما يقوله النصارى: إن الله ثالث ثلاثة أي واحد هو ثلاث وثلاث هو واحد. ومن قال: إن مبدأ العالم هو الدهرأو الطبيعة ونفى أن يكون للعالم إله تعالى عن ذلك فقد أثبت للعالم صانعا وهو الله عزاسمه لكنه نعته بنعوت القصور والنقص والامكان. ومن نفى أن يكون لهذا النظام العجيب مبدأ أصلا ونفى العلية والتأثير على الرغم من صريح ما تقضى به فطرته فقد أثبت عالما موجودا ثابتا لا يقبل النفى والانعدام من رأس أي هو واجب الثبوت وحافظ ثبوته ووجوده إما نفسه وليس لطرو الزوال والتغير إلى أجزائه، وإما غيره فهو الله تبارك وتعالى، وله نعوت كماله. فتبين أن الله سبحانه لا يقبل النفى إصلا إلا بظاهر من القول من غير أن يكون له معنى معقول. والملاك في ذلك كله أن الانسان إنما يثبت الاله تعالى من جهة الحاجة العامة في العالم إلى من يقيم أود وجوده ويدبر أمر نظامه ثم يثبت خصوصيات وجوده فما أثبته من شئ لسد هذه الخلة ورفع تلك الحاجة فهو الله سبحانه ثم إذا أثبت إلها غيره أو أثبت كثرة فإما أن يكون قد أخطأ في تشخيص صفاته والحد في اسمائه، أو يثبت له شريكا أو شركاء تعالى عن ذلك، وأما نفيه وإثبات غيره فلا معنى له. فظهر أن معنى قوله: " إلهين من دون الله " شريكين لله هما من غيره، وإن سلم أن الكلمة لا تؤدى معنى الشركة بوجه، قلنا: إن معناها لا يتعدى إتخاذ إلهين هما
________________________________________
[ 243 ]
من سنخ غير الله سبحانه وأما كون ذلك مقارنا لنفى الوهيته تعالى أو إثباتها فهو مسكوت عنه لا يدل عليه لفظ وإنما يعلم من خارج، والنصارى لا ينفون الوهيته تعالى مع اتخاذهم المسيح وامه إلهين من دون الله سبحانه. وربما استشكل بعضهم الاية بأن النصارى غير قائلين بالوهية مريم العذراء (ع)، وذكروا في توجيهها وجوها. لكن الذى يجب أن يتنبه عليه أن الاية إنما ذكرت اتخاذهم إياها إلهة ولم يذكر قولهم بأنها إلهة بمعنى التسمية، واتخاذ الاله غير القول بالالوهية إلا من باب الالتزام، واتخاذ الاله يصدق بالعبادة والخضوع العبودي قال تعالى: " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه " (الجاثية: 23) وهذا المعنى مأثور عن أسلاف النصارى مشهود في أخلافهم. قال الالوسى في روح المعاني: إن أبا جعفر الامامي حكى عن بعض النصارى أنه كان فيما مضى قوم يقال لهم: " المريمية " يعتقدون في مريم أنها إله. وقال في تفسير المنار: أما اتخاذهم المسيح إلها فقد تقدم في مواضع من تفسير هذه السورة، وأما امه فعبادتها كانت متفقا عليها في الكنائس الشرقية والغربية بعد قسطنطين، ثم أنكرت عبادتها فرقة البروتستانت التى حدثت بعد الاسلام بعدة قرون (1). إن هذه العبادة التى توجهها النصارى إلى مريم والدة المسيح (ع) منها ما هو صلاة ذات دعاء وثناء واستغاثة واستشفاع، ومنها صيام ينسب إليها ويسمى باسمها، وكل ذلك يقرن بالخضوع والخشوع لذكرها ولصورها وتماثيلها، واعتقاد السلطة الغيبية لها التى يمكنها بها في اعتقادهم أن تنفع وتضر في الدنيا والاخرة بنفسها أو بواسطة ابنها، وقد صرحوا بوجوب العبادة لها، ولكن لا يعرف عن فرقة من فرقهم إطلاق كلمة " إله " عليها بل يسمونها " والدة الاله " ويصرح بعض فرقهم أن ذلك حقيقة لا مجاز.
________________________________________
(1) كما أن القول برسالة المسيح ونفى الوهيته لا يزال يشيع في هذه الايام وهى سنة 1958 م بين نصاري إمريكا، وقد ذكر المحقق ه‍. ج‍. فلز في مجمل التاريخ: أن هذه الععبادة التي تأتي بها عامة النصاري للمسيح وامه لا توافق تعليم المسيح لانه نهى كما في إنجيل مرقس أن يعبد غير الله الواحد ليراجع ص 526 و 539 من الكتاب المزبور. (*)
________________________________________
[ 244 ]
والقرآن يقول هنا: إنهم اتخذوها وامها إلهين، والاتخاذ غير التسمية فهو يصدق بالعبادة وهى واقعة قطعا، وبين في آية اخرى أنهم قالوا: إن الله هو المسيح عيسى بن مريم، وذلك معنى آخر، وقد فسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله تعالى في أهل الكتاب: " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " أنهم اتبعوهم فيما يحلون ويحرمون لا أنهم سموهم أربابا. وأول نص صريح رأيته في عبادة النصارى لمريم عبادة حقيقية ما في كتاب " السواعى " من كتب الروم الارثوذكس، وقد اطلعت على هذا الكتاب في دير يسمى " دير التلميد " وأنا في أول العهد بمعاهد التعليم، وطوائف الكاثوليك يصرحون بذلك ويفاخرون به. وقد زين الجزويت في بيروت العدد التاسع من السنة السابعة لمجلتهم " المشرق " بصورتها وبالنقوش الملونة إذ جعلوه تذكارا لمرور خمسين سنة على إعلان البابا بيوس التاسع: أن مريم البتول " حبل بها بلا دنس الخطية " وأثبتوا في هذا العدد عبادة الكنائس الشرقية لمريم كالكنائس الغربية. ومنه قول الاب " لويس شيخو " في مقالة له فيه عن الكنائس الشرقية: " إن تعبد الكنيسة الارمنية للبتول الطاهرة أم الله لامر مشهور " وقوله " قد امتازت الكنيسة القبطية بعبادتها للبتولة المغبوطة ام الله " انتهى كلامه. ونقل أيضا بعض مقالة للاب " إنستاس الكرملى " نشرت في العدد الرابع عشر من السنة الخامسة من مجلة المشرق الكاثوليكية البيروتية قال تحت عنوان " قدم التعبد للعذراء " بعد ذكر عبارة سفر التكوين في عداوة الحية للمرأة ونسلها وتفسير المرأة بالعذراء: " ألا ترى أنك لا ترى من هذا النص شيئا ينوه بالعذراء تنويها جليا إلى أن جاء ذلك النبي العظيم " إيليا " الحى فأبرز عبادة العذراء من حيز الرمز والابهام إلى عالم الصراحة والتبيان ". ثم فسر هذه الصراحة والتبيان بما في سفر الملوك الثالث (بحسب تقسيم الكاثوليك) من أن إيليا حين كان مع غلامه في رأس الكرمل أمره سبع مرات أن يتطلع نحو البحر فأخبره الغلام بعد تطلعه المرة السابعة: أنه رأى سحابة قدر راحة
________________________________________
[ 245 ]
الرجل طالعة من البحر. قال صاحب المقالة: فمن ذلك النشئ (أول ما ينشأ من السحاب) (1) قلت: إن هو إلا صورة مريم على ما أحقه المفسرون بل وصورة الحبل بلا دنس أصلى، ثم قال: هذا أصل عبادة العذراء في الشرق العزيز، وهو يرتقى إلى المائة العاشرة قبل المسيح، والفضل في ذلك عائد إلى هذا النبي إيليا العظيم، ثم قال: ولذلك كان أجداد الكرمليين أول من آمن أيضا بالاله يسوع بعد الرسل والتلامذة، وأول من أقام للعذراء معبدا بعد انتقالها إلى السماء بالنفس والجسد، انتهى. (2) قوله تعالى: " قال سبحانك ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق " إلى آخر الاية هذه الاية والتى تتلوها جواب المسيح عيسى بن مريم عليه السلام عما سئل عنه وقد أتى ععليه السلام فيه بأدب عجيب: فبدأ بتسبيحه تعالى لما فاجأه أن سمع ذكر مالا يليق نسبته إلى ساحة الجلال والعظمة وهو اتخاذ الناس إلهين من دون الله شريكين له سبحانه فمن أدب العبودية أن يسبح العبد ربه إذا سمع ما لا ينبغى أن يسمع فيه تعالى أو ما يخطر بالبال تصور ذلك، وعليه جرى التأديب الالهى في كلامه كقوله: " وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه " (الانبياء: 26) وقوله: " ويجعلون لله البنات سبحانه " (النحل: 57). ثم عاد إلى نفى ما استفهم عن انتسابه إليه، وهو أن يكون قد قال للناس اتخذوني وأمى إلهين من دون الله، ولم ينفه بنفسه بل بنفى سببه مبالغة في التنزيه فلو قال: " لم أقل ذلك أو لم أفعل لكان فيه إيماء إلى إمكان وقوعه منه لكنه لم يفعل، لكن إذا نفاه بنفى سببه فقال: " ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق " كان ذلك نفيا لما يتوقف عليه ذلك القول، وهو أن يكون له أن يقول ذلك حقا فنفى هذا الحق نفى ما يتفرع عليه بنحو أبلغ نظير ما إذ قال المولى لعبده: لم فعلت ما لم آمرك أن تفعله ؟ فإن أجاب العبد بقوله: " لم أفعل " كان نفيا لما هو في مظنة الوقوع، وإن
________________________________________
(1) يشير به إلى السحابة التى شاهدها الغلام ناشئة من البحر. (2) وإنما نقلنا ما نقلناه بطوله لان فيه ما يطلع به الباحث التأمل على نوع منطقهم في إثبات العبادة لها ويشاهد بعض مجازفاتهم في الدين. (*)
________________________________________
[ 246 ]
قال: " إنا أعجز من ذلك " كان نفيا بنفى السبب وهو القدرة، وإنكارا لاصل إمكانه فضلا عن الوقوع. وقوله: " ما يكون لى إن أقول ما ليس لى بحق " إن كان لفظ " يكون " ناقصة فاسمها قوله: " أن أقول " وخبرها قوله: " لى " واللام للملك، والمعنى: ما أملك ما لم أملكه وليس من حقى القول بغير حق، وإن كانت تامة فلفظ " لى " متعلق بها وقوله: " أن أقول، الخ " فاعلها، والمعنى: ما يقع لى القول بغير حق، والاول من الوجهين أقرب، وعلى أي حال يفيد الكلام نفى الفعل بنفى سببه. وقوله عليه السلام: " إن كنت قلته فقد علمته " نفى آخرللقول المستفهم عنه لا نفيا لنفسه بنفسه بل بنفى لازمه فإن لازم وقوع هذا القول أن يعلم به الله لانه الذى لا يخفى عليه شئ في الارض ولا في السماء وهو القائم على كل نفس بما كسبت، المحيط بكل شئ. وهذا الكلام منه عليه السلام يتضمن أولا فائدة إلقاء القول مع الدليل من غير أن يكتفى بالدعوى المجردة، وثانيا الاشعار بأن الذى كان يعتبره في أفعاله وأقواله هو علم الله سبحانه من غير أن يعبأ بغيره من خلقه علموا أو جهلوا، فلا شأن له معهم. وبلفظ آخر السؤال إنما يصح طبعا في ما كان مظنة الجهل فيراد به نفى الجهل وإفادة العلم، إما لنفس السائل إذا كان هو الجاهل بواقع الامر، أو لغيره إذا كان السائل عالما وأراد أن يعلم غيره بما يعلم هو من واقع الامر كما يحمل عليه نوع السؤال الواقع في كلامه تعالى، وقوله عليه السلام في الجواب في مثل المقام: " إن كنت قلته فقد علمته " إرجاع للامر إلى علمه تعالى وإشعار أنه لا يعتبر شيئا في أفعاله وأقواله غير علمه تعالى. ثم أشار بقوله: " تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب " ليكون تنزيها لعلمه تعالى عن مخالطة الجهل إياه، وهو وإن كان ثناء أيضا في نفسه لكنه غير مقصود لان المقام ليس بمقام الثناء بل مقام التبرى عن انتساب ما نسب إليه. فقوله عليه السلام: " تعلم ما في نفسي " توضيح لنفوذ العلم الذى ذكره في قوله: " إن كنت قلته فقد علمته " وبيان أن علمه تعالى بأعمالنا وهو الملك الحق يومئذ ليس من قبيل علم الملوك منا بأحوال رعيته بارتفاع أخبار المملكة إليه ليعلم بشئ ويجهل بشئ، ويستحضر حال بعض ويغفل عن حال بعض، بل هو سبحانه لطيف خبير
________________________________________
[ 247 ]
بكل شئ ومنها نفس عيسى بن مريم بخصوصه. ومع ذلك لم يستوف حق البيان في وصف علمه تعالى فإنه سبحانه يعلم كل شئ، لا كعلم أحدنا بحال الاخر وعلم الاخر بحاله، بل يعلم ما يعلم بالاحاطة به من غير أن يحيط به شئ ولا يحيطون به علما فهو تعالى إله غير محدود وكل من سواه محدود مقدر لا يتعدى طور نفسه المحدود، ولذلك ضم عليه السلام إلى الجملة جملة اخرى فقال: " تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ". أما قوله: " إنك أنت علام الغيوب " ففيه بيان العلة لقوله: " تعلم ما في نفسي " " الخ "، وفيه استيفاء حق البيان من جهة اخرى وهو رفع توهم أن حكم العلم في قوله: " تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك " مقصور بما بينه وبين ربه لا يطرد في كل شئ فبين بقوله: " إنك أنت علام الغيوب " أن العلم التام بجميع الغيوب منحصر فيه فما كان عند شئ من الاشياء وهو غيب عن غيره فهو معلوم لله سبحانه وهو محيط به. ولازم ذلك أن لا يعلم شئ من الاشياء بغيبه تعالى ولا بغيب غيره الذى هو تعالى عالم به لانه مخلوق محدود لا يتعدى طور نفسه فهو علام جميع الغيوب، ولا يعلم شئ غيره تعالى بشئ من الغيوب لا الكل ولا البعض. على أنه لو أحيط من غيبه تعالى بشئ فإن أحاط تعالى به لم يكن هذا المحيط محيطا حقيقة بل محاطا له تعالى ملكه الله بمشيئته أن يحيط بشئ من ملكه من غير أن يخرج بذلك من ملكه كما قال تعالى: " ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء " (البقرة: 255). وإن لم يحط سبحانه تعالى بما أحاط به كان مضروبا بحد فكان مخلوقا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. قوله تعالى: " ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به أن اعبدوا الله ربى وربكم " لما نفى عليه السلام القول المسؤول عنه عن نفسه بنفى سببه أولا نفاه ببيان وظيفته التى لم يتعدها ثانيا فقال: " ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به " الخ "، وأتى فيه بالحصر بطريق النفى والاثبات ليدل على الجواب بنفى ما سئل عنه وهو القول: " أن اتخذوني وامى إلهين من دون الله ". وفسر ما أمره به ربه من القول بقوله: " أن اعبدوا الله " ثم وصف الله سبحانه
________________________________________
[ 248 ]
بقوله: " ربى وربكم " لئلا يبقى أدنى شائبة من الوهم في أنه عبد رسول يدعو إلى الله ربه ورب جميع الناس وحده لا شريك له. وعلى هذه الصراحة كان يسلك عيسى بن مريم عليه السلام في دعوته ما دعاهم إلى التوحيد على ما يحكى عنه القرآن الشريف، قال تعالى حكاية عنه: " إن الله هو ربى وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم " (الزخرف: 64) وقال: " وإن الله ربى وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم " (مريم: 36). قوله تعالى: " وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد " ثم ذكر عليه السلام وظيفته الثانية من جانب الله سبحانه وهو الشهادة على أعمال أمته كما قال تعالى: " ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا " (النساء: 159). يقول عليه السلام ما كان لى من الوظيفة فيهم إلا الرسالة إليهم والشهادة على أعمالهم: أما الرسالة فقد أديتها على أصرح ما يمكن، وأما الشهادة فقد كنت عليها ما دمت فيهم، ولم أتعد ما رسمت لى من الوظيفة فأنا براء من أن أكون القى إليهم أن اتخذوني وامى إلهين من دون الله. وقوله: " فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم " الرقوب والرقابة هو الحفظ، والمراد به في المقام بدلالة السياق هو الحفظ على الاعمال، وكأنه أبدل الشهيد من الرقيب احتراز عن تكرر اللفظ بالنظر إلى قوله بعد: " وأنت على كل شئ شهيد "، ولا نكتة تستدعى الاتيان بلفظ " الشهيد " ثانيا بالخصوص. واللفظ أعنى قوله: " كنت أنت الرقيب عليهم " يدل على الحصر، ولازمه أنه تعالى كان شهيدا ما دام عيسى عليه السلام شهيدا وشهيدا بعده، فشهادته عليه السلام كانت وساطة في الشهادة لا شهادة مستقلة على حد سائر التدبيرات الالهية التى وكل عليها بعض عبادة ثم هو على كل شئ وكيل كالرزق والاحياء والاماتة والحفظ والدعوة والهداية وغيرها، والايات الشريفة في ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها. ولذلك عقب عليه السلام قوله: " فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم " بقوله: " وأنت على كل شئ شهيد " ليدل بذلك على أن الشهادة على أعمال امته التى كان
________________________________________
[ 249 ]
يتصداها مادام فيهم كانت حصة يسيرة من الشهادة العامة المطلقة إلى هي شهادة الله سبحانه على شئ فإنه تعالى شهيد على أعيان الاشياء وعلى أفعالها التى منها أعمال عباده التى منها أعمال امة عيسى ما دام فيهم وبعد توفيه، وهو تعالى شهيد مع الشهداء وشهيد بدونهم. ومن هنا يظهر أن الحصر صادق في حقه تعالى مع قيام الشهداء على شهادتهم فإنه (ع) حصر الشهادة بعد توفيه في الله سبحانه مع أن لله بعده شهداء من عباده ورسله وهو (ع) يعلم ذلك. ومن الدليل على ذلك بشارته عليه السلام بمجئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم - على ما يحكيه القرآن - بقوله: " يا بنى إسرائيل إنى رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدى من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدى اسمه أحمد " (الصف: 6) وقد نص القرآن على كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الشهداء قال تعالى: " وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " (النساء: 41). على أن الله سبحانه حكى عنه هذا الحصر: " فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم " ولم يرده بالابطال فالله سبحانه هو الشهيد لا غير مع وجود كل شهيد أي إن حقيقة الشهادة هي لله سبحانه كما أن حقيقة كل كمال وخير هو لله سبحانه، وأن ما يملكه غيره من كمال أو خير أو حسن فإنما هو بتمليكه تعالى من غير أن يستلزم هذا التمليك انعزاله تعالى عن الملك ولا زوال ملكه وبطلانه، وعليك بالتدبر في أطراف ما ذكرناه. فبان بما أورده من بيان حاله المحكى عنه في الايتين أنه برئ مما قاله الناس في حقه وأن لا عهدة عليه فيما فعلوه، ولذلك ختم (ع) كلامه بقوله: " إن تعذبهم فإنهم عبادك " إلى آخر الاية. قوله تعالى: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " لما اتضح بما أقام (ع) من الحجة أن لم يكن له من الوظيفة بالنسبة إلى الناس إلا أداء الرسالة والقيام بأمر الشهادة، وأنه لم يشتغل فيهم إلا بذلك ولم يتعده إلى ما ليس له بحق فهو غير مسؤول عما تفوهوا به من كلمة الكفر، بان أنه (ع) بمعزل عن الحكم الالهى المتعلق بهم فيما بينهم وبين ربهم، ولذلك استأنف الكلام ثانيا فقال من غير
________________________________________
[ 250 ]
وصل وتفريع: " إن تعذبهم، الخ ". فالاية كالصالحة لان يوضع موضع البيان السابق، ومفادها أنه لا عهدة على فيما وقعوا فيه من الشرك الشنيع، ولم اداخل أمرهم في شئ حتى اشاركهم فيما بينك وبينهم من الحكم عليهم بما شئت فهم وحكمك في حقهم بما أردت، وهم وصنعك فيهم بما صنعت، إن تعذبهم بما حكمت فيمن أشرك بك بدخول النار فإنهم عبادك، وإليك تدبير أمرهم، ولك أن تسخط عليهم به لانك المولى الحق وإلى المولى أمر عباده، وإن تغفر لهم بإمحاء أثر هذا الظلم العظيم فإنك أنت العزيز الحكيم لك حق العزة والحكمة، وللعزيز (وهو الذى له من الجدة والقدرة ما ليس لغيره) ولا سيما إذا كان حكيما (لا يقدم على أمر إلا إذا كان مما ينبغى أن يقدم عليه) أن يغفر الظلم العظيم فإن العزة والحكمة إذا اعتنقتا في فاعل لم تدعا قدرة تقوم عليه ولا مغمضة في ما قضى به من أمر. وبما تقدم من البيان ظهر أولا: أن قوله: " فإنهم عبادك " بمنزلة أن يقال: " فإنك مولاهم الحق " على ما هو دأب القرآن من ذكر أسماء الله بعد ذكر أفعاله كما في آخر الاية. وثانيا: أن قوله: " فإنك أنت العزيز الحكيم " ليس مسوقا للحصر بل الاتيان بضمير الفصل وإدخال اللام في الخبر للتأكيد، ويؤول معناه إلى أن عزتك وحكمتك مما لا يداخله ريب فلا مجال للاعتراض عليك إن غفرت لهم. وثالثا: أن المقام (مقام المشافهة بين عيسى بن مريم عليه السلام وربه) لما كان مقام ظهور العظمة الالهية التى لا يقوم لها شئ كان مقتضاه أن يراعى فيه جانب ذلة العبودية للغاية بالتحرز عن الدلال والاسترسال والتجنب عن مداخلة في الامر بدعاء أو سؤال، ولذلك قال (ع): " وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " ولم يقل " فإنك غفور رحيم " لان سطوع آية العظمة والسطوة الالهية القاهرة الغالبة على كل شئ لا يدع للعبد إلا أن يلتجئ إليه بما له من ذلة العبودية ومسكنة الرقية والمملوكية المطلقة، والاسترسال عند ذلك ذنب عظيم. وأما قول إبراهيم (ع) لربه: " فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفور رحيم " (إبراهيم: 36) فإنه من مقام الدعاء وللعبد أن يثير فيه ناشئة الرحمة الالهية


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page