• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 201 الي 225


[ 201 ]
مسير حياته كالشمعة الصغيرة يحملها طارق الليل المظلم لا ينتفع من نورها إلا أن يميز ما يضع عليه قدمه من الارض. فما يتعلق به علم الانسان ناشب بوجوده متعلق بواقعيته بأطراف ثم بأطراف أطراف، وهكذا كل ذلك في غيب من إدراك الانسان فلا يتعلق العلم بحقيقة معنى الكلمة بشئ إلا إذا كان متعلقا بجميع الغيوب في الوجود، ولا يسع ذلك لمخلوق محدود مقدر إنسانا أو غيره إلا لله الواحد القهار الذى عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، قال الله تعالى: " والله يعلم وأنتم لا تعلمون " (البقرة: 216) فدل على أن من طبع الانسان الجهل فلا يرزق من العلم إلا محدودا مقدرا كما قال تعالى: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " (الحجر: 21) وهو قوله عليه السلام: حيث سئل عن علة احتجاب الله عن خلقه فقال: لانه بناهم بنية على الجهل، وقال تعالى: " ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء " (البقرة: 255) فدل على أن العلم كله لله، وإنما يحيط منه الانسان بما شاء الله، وقال تعالى: " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " (الاسراء: 85) فدل على أن هناك علما كثيرا لم يؤت الانسان إلا قليلا منه. فإذن حقيقة الامر أن العلم حق العلم لا يوجد عند غير الله سبحانه، وإذ كان يوم القيامة يوما يظهر فيه الاشياء بحقائقها على ما تفيده الايات الواصفة لامره فلا مجال فيه إلا للكلام الحق كما قال تعالى: " لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، ذلك اليوم الحق " (النبأ: 39) كان من الجواب الحق إذا ما سئل الرسل فقيل لهم: " ما ذا أجبتم " أن يجيبوا بنفى العلم عن أنفسهم لكونه من الغيب، ويثبتوه لربهم سبحانه بقولهم: " لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب ". وهذا الجواب منهم عليهم السلام نحو خضوع لحضرة العظمة والكبرياء واعتراف بحاجتهم الذاتية وبطلانهم الحقيقي قبال مولاهم الحق رعاية لادب الحضور وإظهارا لحقيقة الامر، وليس جوابا نهائيا لا جواب بعده البتة: أما أولا فلان الله سبحانه جعلهم شهداء على اممهم كما ذكره في قوله: " فكيف إذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا " (النساء: 41) وقال: " ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء " (الزمر: 69) ولا معنى لجعلهم شهداء
________________________________________
[ 202 ]
إلا ليشهدوا على اممهم يوم القيامة بما هو حق الشهادة يومئذ، فلا محالة هم سيشهدون يومئذ كما قدر الله ذلك فقولهم يومئذ: " لا علم لنا " جرى على الادب العبودي قبال الملك الحق الذى له الامر والملك يومئذ، وبيان لحقيقة الحال وهو أنه هو يملك العلم لذاته ولا يملك غيره إلا ما ملكه، ولا ضير أن يجيبوا بعد هذا الجواب بمالهم من العلم الموهوب المتعلق بأحوال اممهم، وهذا مما يؤيد ما قدمناه في البحث عن قوله تعالى: " وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس، الاية " (البقرة: 143) في الجزء الاول من هذا الكتاب: أن هذا العلم والشهادة ليسا من نوع العلم والشهادة المعروفين عندنا وأنهما من العلم المخصوص بالله الموهوب لطائفة من عباده المكرمين. وأما ثانيا فلان الله سبحانه أثبت العلم لطائفة من مقربى عباده يوم القيامة على ما له من الشأن، قال تعالى: " وقال الذين اوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث " (الروم: 56) وقال تعالى: " وعلى الاعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم " (الاعراف: 46) وقال تعالى: " ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون " (الزخرف: 87) وعيسى بن مريم عليه السلام ممن تعمه الاية وهو رسول فهو ممن يشهد بالحق وهم يعلمون، وقال تعالى: " وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا " (الفرقان: 31) والمراد بالرسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والذى تحكيه الاية من قوله هو بعينه جواب لما تشتمل عليه هذه الاية من السؤال أعنى قوله تعالى: " فيقول ما ذا أجبتم " فظهر أن قول الرسل عليهم السلام: " لا علم لنا " ليس جوابا نهائيا كما تقدم. وأما ثالثا فلان القرآن يذكر السؤال عن المرسلين والمرسل إليهم جميعا كما قال تعالى: " فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين " (الاعراف: 6) ثم ذكر عن الامم المرسل إليهم جوابات كثيرة عن سؤالات كثيرة، والجواب يستلزم العلم كما أن السؤال يقرره، وقال أيضا فيهم: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " (ق: 22)، وقال أيضا: ولو ترى إذا لمجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون " (السجدة: 12) إلى غير ذلك من الايات الكثيرة، وإذا كانت الامم - وخاصة المجرمون منهم - على علم في هذا اليوم فكيف يتصور أن يعدمه الرسل الكرام عليهم السلام فالمصير إلى ما قدمناه.
________________________________________
[ 203 ]
(كلام في معنى الشهادة) الاجتماع المدنى الدائر بيننا والتفاعل الواقع في عامة جهات الحياة الارضية بين قوانا الفعالة يسوقنا - ولا محيص - إلى أنواع الاختلافات والخصومات فالذي يختص بالتمتع به أحدنا ربما أحب الاخر أن يشاركه فيه أو يختص به هو مكانه فتاقت إليه نفسه ونازعته في ذلك فأدى إلى تنبه الانسان لوجوب اعتبار القضاء والحكم ليرتفع به هذه الخصومات. وأول ما يحتاج إليه القضاء أن تحفظ القضايا والوقائع على النحو الذى وقعت وتضبط ضبطا لا يتطرق إليه التغير والتبدل ليقع عليه قضاء القاضى، هذا ممالا شك فيه. ويتأتى ذلك بأن يستشهد على الواقعة بأن يطلع عليها إنسان فيتحملها ثم يؤدى ما تحمله عند اللزوم والاقتضاء أو يضبط بوجه آخر كالكتابة أو أدوات اخر معمولة لذلك اهتدى الانسان إلى التوصل بها. وتفارق الشهادة سائر أسباب الحفظ والضبط أولا بأن غير الشهادة من الاسباب امور غير عامة فإن أعمها وأعرفها الكتابة وهى لم تستوعب الانسانية حتى اليوم فكيف بغيرها وهذا بخلاف الشهادة والتحمل. وثانيا بأن الشهادة وهو البيان اللسانى من نفس الشاهد عن تحمله وحفظه أبعد من عروض الخلل وأمنع جانبا من طرو أنواع الافات بالقياس إلى الكتابة وغيره من أسباب الحفظ والضبط. ولذلك نرى أن الشهادة لا تتجافى عن اعتبارها امة من الامم في مجتمعاتهم على اختلافها الفاحش في السنن الاجتماعية والسلائق القومية والملية والتقدم والتأخر في الحضارة والتوحش، فهى لا تخلو عن اعتبار ما عندهم. والاعتبار فيها بالواحد من القوم المعدود فردا من الامة وجزء من الجماعة، ولذلك لا يعبأ بشهادة الصبى غير المميز ولا بشهادة المجنون الذى لا يدرى ما يقول مثلا، ولذلك
________________________________________
[ 204 ]
أيضا لا يعبأ بعض الامم الهمجية بشهادة النسوان لما لم يعدوا المرأة جزء من المجتمع وعلى ذلك كانت تجرى اغلب السنن الاجتماعية في الامم القديمة كالروم واليونان وغيرهم. والاسلام وهو دين الفطرة يعتبر الشهادة ويعطيها وحدها من بين سائر الاسباب الحجية، وأما سائر الاسباب فلا عبرة بها إلا مع إفادة العلم، قال تعالى: " وأقيموا الشهادة لله " (الطلاق: 2) وقال تعالى: " ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه " (البقرة: 283) وقال تعالى: " والذين هم بشهاداتهم قائمون " (المعارج: 33). وقد اعتبر الاسلام في عامة الموارد غير مورد الزنا من العدد في الشهداء اثنين لتأييد أحدهما الاخر قال تعالى: " واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء ان تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا ان تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى اجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا " (البقرة: 282)، فأفاد أن ما بينته الاية واعتبرته من أحكام الشهادة - ومنها ضم الواحد إلى آخر ليكونا اثنين - أكثر مطابقة للقسط وقيام الشهادة ورفع الريب. ثم لما كان الاسلام في تشخيصه فرد المجتمع وبعبارة اخرى في اعتباره الواحد الذى يتكون منه المجتمع الانساني يعد المرأة جزء مشمولا للحكم أشركها مع الرجل في إعطاء حق إقامة الشهادات إلا أنه لما اعتبر في المجتمع الذى كونه أن يكون مبنيا على التعقل دون العواطف والمرأة إنسان عاطفي أعطاها من الحق والوزن نصف ما للرجل، فشهادة امرأتين اثنتين تعدل شهادة رجل واحد كما يشير إليه قوله تعالى في الاية السابقة: " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى "، وقد مر في الجزء الرابع من هذا الكتاب من الكلام في حقوق المرأه في الاسلام ما ينفع في المقام، وللشهادة أحكام كثيرة فرعية مبسوطة في الفقه خارجة من غرضنا في هذا البحث. (كلام في العدالة) كثيرا ما يعثر الباحث في الاحكام الاسلامية في خلال أبحاثه بلفظ العدالة وربما وجد للفظ تعريفات مختلفة وتفسيرات متنوعة حسب اختلاف الباحثين ومسالكهم.
________________________________________
[ 205 ]
لكن الذى يلائم مقامنا هذا من البحث - وهو بحث قرآني - في تحليل معناها وكيفية اعتبارها بالتطبيق على الفطرة التى عليها بنى الاسلام أن نسلك طريقا آخر من البحث فنقول: إن للعدالة وهى الاعتدال والتوسط بين النمطين: العالي والدانى، والجانبين: الافراط والتفريط قيمة حقيقية ووزنا عظيما في المجتمعات الانسانية، والوسط العدل هو الجزء الجوهرى الذى يركن إليه التركيب والتأليف الاجتماعي فإن الفرد العالي الشريف الذى يتلبس بالفضائل العالية الاجتماعية، ويمثل بغية الاجتماع النهائية لا يجود منه الزمان إلا بالنزر القليل والواحد بعد الواحد، ومن المعلوم أنه لا يتألف المجتمع بالفرد النادر، ولا تتم به كينونته وإن كان هو العضو الرئيس في جثمانه حيثما وجد. والفرد الدنئ الخسيس الذى لا يقوم بالحقوق الاجتماعية، ولا يتحقق فيه القدر المتوسط من أمانى المجتمع ممن لا داعى له يدعوه إلى رعاية الاصول العامة الاجتماعية التى بها حياة المجتمع، ولا رادع له يردعه عن اقتحام الاثام الاجتماعية التى تهلك الاجتماع وتبطل التجاذب الواجب بين أجزائه، وبالجملة لا اعتماد على جزئيته في بنية الاجتماع ولا وثوق بتأثيره الحسن ونصيحته الصالحة. وإنما الحكم لافراد المجتمع المتوسطين الذين تقوم بهم بنية المجتمع وتتحقق فيهم مقاصده ومآربه، وتظهر بهم آثاره الحسنة التى لم تأتلف أجزاؤه وأعضاؤه إلا للحصول عليها والتمتع بها. هذا كله مما لا يرتاب فيه الانسان الاجتماعي عند أول ما يجيل نظره في هذا الباب. فمن الضرورى عنده أنه على حاجة شديدة في حياته الاجتماعية إلى أفراد في المجتمع يعتمد على سلوكهم الاجتماعي متلبسين بالاعتدال في الامور والاحتراز عن الاسترسال في نقض القوانين ومخالفة السنن والاداب الجارية من غير مبالاة وانقباض في أبواب كثيرة كالحكومة والقضاء والشهادات وغيرها في الجملة. وهذا الحكم الضرورى أو القريب من الضرورى عند الفطرة هو الذى يعتبره الاسلام في الشاهد، قال تعالى: " واشهدوا ذوى عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الاخر " (الطلاق: 2)، وقال تعالى: " شهادة
________________________________________
[ 206 ]
بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم " (المائدة: 106) والخطاب في الايتين للمؤمنين فاشتراط كون الشاهدين ذوى عدل منهم مفاده كونهما ذوى حالة معتدلة متوسطة بالنسبة إلى مجتمعهم الدينى، وأما بالقياس إلى المجتمع القومي والبلدى فالاسلام لا يعبأ بأمثال هذه الروابط غير الدينية، وظاهر أن محصل كونهما على حالة معتدلة بالقياس إلى المجتمع الدينى هو كونهما ممن يوثق بدينه غير مقترفين ما يعد من المعاصي الكبيرة الموبقة في الدين، قال تعالى: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما " (النساء: 31)، وقد تكلمنا في معنى الكبائر في ذيل الاية في الجزء الرابع من هذا الكتاب. وعلى هذا المعنى جرى كلامه تعالى في قوله: " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعه شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا واولئك هم الفاسقون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " (النور: 5) ونظير الاية السابقة الشارطة للعدالة قوله تعالى: " ممن ترضون من الشهداء " (البقرة: 282) فإن الرضا المأخوذ في الاية هو الرضا من المجتمع الدينى، ومن المعلوم أن المجتمع الدينى بما هو دينى لا يرضى أحدا إلا إذا كان على نوع من السلوك يوثق به في أمر الدين. وهذا هو الذى نسميه في فن الفقه بملكة العدالة وهى غير ملكة العدالة بحسب اصطلاح فن الاخلاق فان العدالة الفقهية هي الهيئة النفسانية الرادعة عن ارتكاب الكبائر بحسب النظر العرفي، والتى في فن الاخلاق هي الملكة الراسخة بحسب الحقيقة. والذى استفدناه من معنى العدالة هو الذى يستفاد من مذهب أئمة أهل البيت عليهم السلام على ما ورد من طرقهم: ففى الفقيه بإسناده عن ابن أبى يعفور قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم ؟ فقال: أن تعرفوه (1) بالستر والعفاف وكف البطن والفرج واليد واللسان، ويعرف باجتناب الكبائر التى أوعد
________________________________________
(1) أن يعرفوه 0 خ (*)
________________________________________
[ 207 ]
الله تعالى عليها النار من شرب الخمر والزنا والربا وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وغير ذلك. والدلالة على ذلك كله أن يكون ساترا لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه، ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته بين الناس، ويكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن وحفظ مواقيتهن بحضور جماعة من المسلمين وأن لا يتخلف عن جماعتهم في مصلاهم إلا من علة. فإذا كان كذلك لازما لمصلاه عند حضور الصلوات الخمس فإذا سئل عنه في قبيلته ومحلته قالوا: ما رأينا منه إلا خيرا، مواظبا على الصلوات، متعاهدا لاوقاتها في مصلاه، فإن ذلك يجيز شهادته وعدالته بين المسلمين وذلك أن الصلاة ستر وكفارة للذنوب، وليس يمكن الشهادة على الرجل بأنه يصلى إذا كان لا يحضر مصلاه ولا يتعاهد جماعة المسلمين. وإنما جعل الجماعة والاجتماع إلى الصلاة لكى يعرف من يصلى ممن لا يصلى ومن يحفظ مواقيت الصلاة ممن يضيع، ولو لا ذلك لم يكن لاحد أن يشهد على آخر بصلاح لان من لا يصلى لا صلاح له بين المسلمين فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم بأن يحرق قوما في منازلهم بتركهم الحضور لجماعة المسلمين وقد كان منهم من يصلى في بيته فلم يقبل منه ذلك فكيف تقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممن جرى الحكم من الله عزوجل ومن رسوله فيه الحرق في جوف بيته بالنار ؟ وقد كان يقول صلى الله عليه وآله وسلم: لا صلاة لمن لا يصلى في المسجد مع المسلمين إلا من علة. أقول: ورواه في التهذيب مع زيادة تركناها، والستر والعفاف كلاهما بمعنى الترك على ما في الصحاح، والرواية - كما ترى - تجعل أصل العدالة أمرا معروفا بين المسلمين وتبين أن الاثر المترتب عليه الدال على هذه الصفة النفسية هو ترك محارم الله والكف عن الشهوات الممنوعة، ومعرف ذلك اجتناب الكبائر من المعاصي، ثم تجعل الدليل على ذلك كله حسن الظاهر بين المسلمين على ما بينه عليه السلام تفصيلا. وفيه عن عبد الله بن المغيرة عن أبى الحسن الرضا عليه السلام قال: من ولد على الفطرة وعرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته.
________________________________________
[ 208 ]
وفيه: روى سماعة عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام: قال: لا بأس بشهادة الضعيف إذا كان عفيفا صائنا. وفي الكافي بإسناده عن على بن مهزيار عن أبى على بن راشد قال: قلت لابي جعفر عليه السلام: إن مواليك قد اختلفوا فاصلي معهم جميعا ؟ فقال لا تصل إلا خلف من تثق بدينه. اقول: دلالة الروايات على ما قدمناه ظاهرة، وفيها أبحاث أخر خارجة عن غرضنا في المقام. (كلام في اليمين) حقيقة معنى قولك: " لعمري إن كذا وكذا، وحياتي إن الامر على ما أخبرته " أنك تعلق ما أخبرت به من الخبر وتقيده نوع تقييد في صدقه بعمرك وحياتك التى لها مكانة واحترام عندك بحيث يتلازمان في الوجود والعدم، ولو كنت كاذبا في خبرك أبطلت مكانة حياتك واحترامها عندك فسقطت بذلك عن مستوى الانسانية الداعية إلى الاحترام لامر الحياة. ومعنى قولك: " أقسمك بالله أن تفعل كذا أو تترك كذا " أنك ربطت أمرك أو نهيك بالمكانة والعزة التى لله عز اسمه عند المؤمنين بحيث تكون مخالفة الامر أو معصية النهى استهانة بمقامه تعالى وإذهابا لحرمة الايمان به. وكذا معنى قولك: " والله لافعلن كذا " وصل خاص بين عزيمتك على ما عزمت عليه من الامر وبين ما لله سبحانه عندك من المكانة والحرمة بحسب إيمانك به بحيث يكون فسخك عزيمتك ونقضك همتك إبطالا لما له سبحانه من المكانة عندك، والغرض من ذلك أن تكون على رادع من فسخ العزيمة ونقض الهمة فالقسم إيجاد ربط خاص بين شئ من الخبر أو الانشاء وبين شئ آخر ذى مكانة وشرف بحيث يبطل المربوط إليه ببطلان المربوط بحسب الدعوى، وحيث كان المربوط إليه ذا مكانة وشرف عند الجاعل مثلا لا يرضى بإذهاب مكانته والاهانة بمقامه فهو صادق في خبره أو مطاع فيما يأمر به أو ينهى عنه، أو ماض في عزيمته من غير فسخ لا محالة، ونتيجته التأكيد البالغ.
________________________________________
[ 209 ]
ويوجد في اللغات نوع آخر من جعل الربط يقابل القسم وهو ربط الخبر مثلا بما لا قيمة له ولا شرافة عند المخبر ليدل بذلك على الاستهانة بما يخبر به أو بلغه من الخبر ويعد نوعا من الشتم وهو في اللغة العربية نادر جدا. والحلف واليمين - فيما نعلم - من العادات الدائرة في ألسنة الناس الموروثة جيلا بعد جيل، ولا يختص بلغة دون لغة، وهو الدليل على أنه ليس من الشؤون اللغوية اللفظية بل إنما يهدى الانسان إليه حياته الاجتماعية في موارد يتنبه على وجوب الالتجاء إليه والاستفادة منه. ولم تزل اليمين دائرا بين الامم ربما يبنى عليه ويركن إليه في موارد متفرقة غير مضبوطة تحدث في مجتمعاتهم لاغراض متنوعة لدفع التهمة ورفع الفرية وتطييب النفس وتأييد الخبر حتى اعتنى بأمره القوانين المدنية وأعطتها وجهة قانونية في بعض من الموارد كحلف الرؤساء وأولياء الامور عند تقلد المناصب الهامة وإشغال المقامات العظيمة العالية وغير ذلك. وقد اعتنى الاسلام بشأن اليمين اعتناء تاما إذا وقع على الله سبحانه خاصة، وليس ذلك إلا في ظل العناية برعاية حرمة المقام الربوبى ووقاية ساحته تعالى أن يواجه بما يأباه ناموس الربوبية والعبودية، ولذلك وضعت كفارة خاصة عند حنث اليمين، وكره الاكثار من الحلف بالله عز شأنه، قال تعالى: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته إطعام عشرة مساكين، الاية " (المائدة: 89) وقال تعالى: " ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم " (البقرة: 224). واعتبر اليمين في موارد من القضاء خلت عن البينة، قال تعالى: " فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا " الاية " المائدة: 107) ومن كلامه صلى الله عليه وآله وسلم: البينة على المدعى واليمين على من أنكر. وحقيقة اعتبار اليمين الاكتفاء بدلالة نفس الايمان فيما لا دليل سواه، وذلك أن المجتمع الدينى مبنى على إيمان الافراد بالله، والانسان المؤمن هو الجزء من هذا المركب المؤلف، وهو المنبع الذى ينبع منه السنن المتبعة والاحكام الجارية، وبالجملة
________________________________________
[ 210 ]
جميع الاثار البارزة في القوم الناشئة من حالتهم الدينية كما أن المجتمع غير الدينى مبنى على إيمان الافراد بمقاصدهم القومية، ومنها تنشأ السنن والقوانين المدنية والاداب والرسوم الدائرة بينهم. فإذا كان كذلك وصح الاعتماد في جميع الشؤون الاجتماعية والاتكاء في عامة لوازم الحياة على إيمان الافراد بطرق مختلفة كان من الجائز أن يعتمد على إيمانهم في ما لا دليل آخر يعتمد عليه، وهو اليمين فيما لا بينة عليه بأن يربط المنكر ما ينكره من دعوى المدعى ويقيده بإيمانه بحيث يزول اعتبار إيمانه بالله ببطلان إنكاره وظهور كذبه فيما أظهره وأخبر به. فإيمانه بسبب ما عقده باليمين بمنزلة مال الرهن الذى يجعل تحت تسلط الدائن ويراعى في عوده إلى سلطة راهن صدق وعده وتأديته الدين إلى أجل وإلا ذهب المال وبقى صفر اليد. كذلك الحالف يعتبر مرهون الايمان بما حلف عليه ما لم يظهر خلافه وإذا ظهر الخلاف عاد صفر الكف من الايمان ساقطا عن درجة الاعتبار محروما من التمتع بثمرة الايمان وهى في المجتمع الدينى جميع المزايا الاجتماعية، ورجع مطرودا من المجتمع المتلائم الاجزاء، لا سماء تظله ولا أرض تقله. ويتأيد هذا البيان بما يروى من تظاهر الناس على مقت المتخلفين عن السنن الدينية كالصلاة مع الجماعة والشخوص في الجهاد ونحوهما في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين كان تمام السلطة والحكومة للدين على الاهواء. وأما في أمثال هذه الاعصار التى ضعف فيها نفوذ الدين وتسرب الهوى في القلوب وانعقد بيننا مجتمع مؤتلف من المقاصد الدينية على وهن في بنيتها وإعراض من الناس عنها ومن مقاصد المدنية الحديثة ويجمعها الاسترسال في التمتعات المادية على شيد في أساسها وإقبال عام من عامة الناس إليها، ثم أخذ التنازع والتشاجر الشديد بين الدواعى الدينية والمدنية الطارقة ولا يزال يغلب هذا وينهزم ذاك، وانثلمت وحدة النظام الواجب انبساطه على مستوى المجتمع، وبدا الهرج والمرج في الروحيات فحينئذ لا يكاد ينفع اليمين ولا ما هو أقوى من ذلك وأحفظ لحقوق الناس، وزال الاعتماد لا على الاسباب
________________________________________
[ 211 ]
الدينية الموجودة عند المجتمع فحسب بل عليها وعلى النواميس الحديثة جميعا. غير أن الله سبحانه لا ينسخ أحكامه ولا يغمض عن شرائعه بتولى الناس عنها وسأمهم منها، وإن الدين عند الله الاسلام ولا يرضى لعباده الكفر، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات، والارض وإنما الاسلام دين متعرض لجميع شؤون الحياة الانسانية شارح لها مبين لاحكامها ذو أجزاء متلائمة متناسبة متلازمة تعيش بروح التوحيد الواحد إذا اعتل بعض أجزائه اعتل الجميع، وإذا فسد بعضها أثر ذلك في عمل الجميع كالواحد من الانسان بعينه. فإذا فسد بعض أجزائه أو اعتل كان من الواجب إبقاء السالم منها على سلامته وعلاج المعتل وإصلاح الفاسد، ولم يكن من الجائز إبقاء المعتل على علته والفاسد على فساده، والاعراض عن السالم. والاسلام وإن كان ملة حنيفية سهلة سمحة ذات مراتب مختلفة وسيعة يقدر تكاليفه على قدر ما يستطاع من إتيانها وإجرائها، يتمدد حبلها الموصول من حالة اجتماعية آمنة تتضمن شرائعها وقوانينها جمعاء من غير استثناء إلى حالة انفرادية اضطرارية تكتفى فيها من الصلاة بالاشارة لكن التنزل من مرتبة من مراتبها إلى ما هي دونها مشروطة بالاضطرار النافي للتكليف والمبيح للتوسع، قال تعالى: " من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم - إلى أن قال - ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم " (النحل: 110). وأما بناء الحياة على التمتع المادى ثم التعلل في رفض ما يناقضه من المواد الدينية بأنه لا يوافق السنة الجارية في الدنيا الحاضرة فإنه جرى على المنطق المادى دون منطق الدين. ومن البحث المتعلق بهذا الباب ما في قول بعض: (إن الحلف بغير الله من الشرك بالله) فينبغي أن يستفهم هذا القائل ما ذا يريد بهذا الشرك الذى ذكره ؟. فإن أراد به أن في اليمين بغير الله إعظاما للمقسم به وإجلالا لامره لابتناء معنى القسم على ذلك ففيه نوع خضوع وعبادة له وهو الشرك فما كل إعظام شركا إلا إعطاء عظمة الربوبية المستقلة التى يستغنى بها عن غيره.
________________________________________
[ 212 ]
وقد أقسم الله تعالى بكثير من خلقه كالسماء والارض والشمس والقمر والكنس الخنس من الكواكب وبالنجم إذا هوى، وأقسم بالجبل والبحر والتين والزيتون والفرس وأقسم بالليل والنهار والصبح والشفق والعصر والضحى ويوم القيامة، وأقسم بالنفس، وأقسم بالكتاب والقرآن العظيم وحياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالملائكة إلى غير ذلك في آيات كثيرة ولا يستقيم قسم إلا عن إعظام. فما المانع من أن نجرى على ما جرى عليه كلامه تعالى من إعظامها بالعظمة الموهوبة ونقتصر على ذلك، ولو كان ذلك من الشرك لكان كلامه تعالى أولى بالتحرز منه وأحرى برعايته. وأيضا قد عظم الله تعالى امور كثيرة في كلامه كالقرآن والعرش وخلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى: " والقرآن العظيم " (الحجر: 87)، وقال: " وهو رب العرش العظيم " (التوبة: 129)، وقال: " وإنك لعلى خلق عظيم " (ن: 4)، وجعل لانبيائه ورسله والمؤمنين حقوقا على نفسه وعظمها واحترمها، قال تعالى: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، إنهم لهم المنصورون " (الصافات: 172)، وقال: " وكان حقا علينا نصر المؤمنين " (الروم: 47)، فما المانع من أن نعظمها ونجرى على ما جرى عليه كلامه في مطلق القسم، وأن نقسمه تعالى بشئ مما أقسم به أو بحق من الحقوق التى جعلها لاوليائه على نفسه ؟ نعم اليمين الشرعي الذى له آثار شرعية في باب اليمين أو القضاء لا ينعقد بغير الله سبحانه كما بين في الفقه وليس كلامنافيه. وإن أراد به أن مطلق الاعظام كيفما كان لا يجوز في غير الله حتى إعظامها بما عظمها الله تعالى فهو مما لا دليل عليه بل القاطع من الدليل على خلافه. وربما قيل: إن في الاقسام بحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسائر الاولياء والتقرب إليهم والاستشفاع بهم بأى وجه كان عبادة وإعطاء سلطة غيبية لها. والكلام فيه كالكلام في سابقه: فإن أريد بهذه السلطة الغيبية السلطة المستقلة الخاصة بالله فلا يذعن بها مسلم مؤمن بكتاب الله في غيره تعالى، وإن اريد بها مطلق السلطة غير المادية ولو كان بإذن الله فما الدليل على امتناع أن يتصف بها بعض عباد الله كأوليائه مثلا بإذنه، وقد نص القرآن الشريف على كثير من السلطات الغيبية في الملائكة كما قال: " حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون " (الانعام: 61)، وقال: " قل يتوفاكم ملك
________________________________________
[ 213 ]
الموت " (السجدة: 11)، وقال: " والنازعات غرقا، والناشطات نشطا، والسابحات سبحا، فالسابقات سبقا، فالمدبرات أمرا " (النازعات: 5)، وقال: " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك " (البقرة: 97) والايات في هذا الباب كثير، جدا. وقال في إبليس وجنوده: " إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون " (الاعراف: 27) وقد نزلت في شفاعة الانبياء وغيرهم في الاخرة، وآياتهم المعجزة في الدنيا آيات كثيرة. وليت شعرى ما الفرق بين الاثار المادية التى يثبتها هؤلاء في الموضوعات من غير استنكاف وبين الاثار غير المادية التى يسمونها بالسلطة الغيبية ؟ فإن كان إثبات التأثير لغير الله ممنوعا لم يكن فرق بين الاثر المادى وغيره وإن كان جائزا بإذن الله سبحانه كان الجميع فيه سواء. (بحث روائي) في الكافي عن على بن ابراهيم عن رجاله رفعه قال: خرج تميم الدارى وابن بندى وابن أبى مارية في سفر، وكان تميم الدارى مسلما وابن بندى وابن أبى مارية نصرانيين، وكان مع تميم الدارى خرج له فيه متاع وآنية منقوشة بالذهب وقلادة أخرجها إلى بعض أسواق العرب للبيع. فاعتل تميم الدارى علة شديدة فلما حضره الموت دفع ما كان معه إلى ابن بندى وابن أبى مارية وأمرهما أن يوصلاه إلى ورثته فقدما المدينة، وقد أخذا من المتاع الانية والقلادة، وأوصلا سائر ذلك إلى ورثته، فافتقد القوم الانية والقلادة فقال أهل تميم لهما: هل مرض صاحبنا مرضا طويلا أنفق فيه نفقة كثيرة ؟ فقالا: لا ما مرض إلا أياما قلائل، قالوا: فهل سرق منه شئ في سفره هذا ؟ قالا: لا، فقالوا: فهل اتجر تجارة خسر فيها ؟ قالا: لا، قالوا فقد افتقدنا أفضل شئ كان معه: آنية منقوشة بالذهب مكللة بالجواهر وقلادة، فقالا: ما دفعه إلينا فقد أدنياه إليكم. فقدموهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأوجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهما اليمين فحلفا فخلا عنهما، ثم ظهرت تلك الانية والقلادة عليهما فجاء أولياء تميم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
________________________________________
[ 214 ]
فقالوا: يا رسول الله قد ظهر على ابن بندى وابن أبى مارية ما ادعيناه عليهما، فانتظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الله عزوجل الحكم في ذلك. فأنزل الله تبارك وتعالى: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الارض، فأطلق الله عزوجل شهادة أهل الكتاب على الوصية فقط إذا كان في سفر ولم يجد المسلمين. ثم قال: " فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشترى به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الاثمين "، فهذه الشهادة الاولى التى حلفها رسول الله صل ى الله عليه وآله وسلم " فإن عثر على أنهما استحقا إثما " أي أنهما حلفا على كذب " فآخران يقومان مقامهما " يعنى من أولياء المدعى " من الذين استحق عليهم الاوليان " الاولين " فيقسمان بالله " أي يحلفان بالله أنهما أحق بهذه الدعوى منهما وأنهما قد كذبا فيما حلفا بالله " لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين ". فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولياء تميم الدارى أن يحلفوا بالله على ما أمرهم به فحلفوا فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القلادة والانية من ابن بندى وابن أبى مارية وردهما إلى أولياء تميم الدارى " ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ". اقول: وأورده القمى في تفسيره مثله وفيه بعد قوله: " تحبسونهما من بعد الصلاة: يعنى صلاة العصر، وقوله عليه السلام: " الاولين " الظاهر أنه بصيغة التثنية والمراد بهما الشاهدان الاولان تفسيرا لقوله تعالى: " الاوليان " وظاهره على قراءته عليه السلام " استحق " بالبناء للفاعل كما نسبت إلى على عليه السلام، وقد قدمنا في البيان السابق أنه أوضح المعاني المحتملة على هذه القراءة. وفي الدر المنثور: أخرج الترمذي وضعفه وابن جرير وابن أبى حاتم والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم في المعرفة من طريق أبى النضر وهو الكلبى عن باذان مولى ام هانئ عن ابن عباس عن تميم الدارى في هذه الاية: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت " قال: برئ الناس منهما غيرى وغير عدى ابن بداء، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الاسلام فأتيا الشام لتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبنى سهم يقال له: بديل بن أبى مريم بتجارة، ومعه جام من فضة يريد
________________________________________
[ 215 ]
به الملك وهو عظم تجارته، فمرض فأوصى إليهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله. قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه أنا وعدى بن بداء فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا: ما ترك غير هذا وما دفع الينا غيره. قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمسمأة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف فأنزل الله: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم - إلى قوله - أن ترد أيمان بعد أيمانهم " فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمأة درهم من عدى بن بداء. اقول: والرواية على ضعفها لا تنطبق على الاية تمام الانطباق وهو ظاهر، وروى عن ابن عباس وعن عكرمة ما يقرب من رواية القمى السابقة. وفيه: أخرج الفاريابى وعبد بن حميد وأبو عبيد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن على بن أبى طالب: أنه كان يقرأ: " من الذين استحق عليهم الاوليان " بفتح التاء. وفيه: أخرج ابن مردويه والحاكم وصححه، عن على بن أبى طالب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ: " الذين استحق عليهم الاوليان ". وفيه: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: هذه الاية منسوخة. اقول: ولا دليل على ما في الرواية من حديث النسخ. وفي الكافي عن محمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان وعلى بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبى عمير عن هشام بن الحكم عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله تبارك وتعالى: " أو آخران من غيركم " قال: إذا كان الرجل في بلد ليس فيه مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصية. اقول: ومعنى الرواية مستفاد من الاية. وفيه بإسناده عن يحيى بن محمد قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز
________________________________________
[ 216 ]
وجل: " يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم " ؟ قال: " اللذان منكم " مسلمان " واللذان من غيركم " من أهل الكتاب، فإن لم يجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس لان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سن في المجوس سنة أهل الكتاب في الجزية. وذلك إذا مات الرجل في أرض غربة فلم يجد مسلمين أشهد رجلين من أهل الكتاب يحبسان بعد العصر فيقسمان بالله عزوجل " لا نشترى به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الاثمين " قال: وذلك إذا ارتاب ولى الميت في شهادتهما، فإن عثر على أنهما شهدا بالباطل فليس له أن ينقض شهادتهما حتى يجئ بشاهدين فيقومان مقام الشاهدين الاولين " فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا إنا إذا لمن الظالمين " فإن فعل ذلك نقض شهادة الاولين، وجازت شهادة الاخرين يقول الله عزوجل: " ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ". اقول: والرواية - كما ترى - توافق ما تقدم من معنى الاية، وفى معناها روايات أخر في الكافي وتفسير العياشي عن أبى عبد الله وأبى الحسن عليهما السلام. وفى بعض الروايات تفسير قوله: " أو آخران من غيركم " بالكافرين، وهو أعم من أهل الكتاب كما رواه في الكافي عن أبى الصباح الكنانى عن أبى عبد الله. وفي تفسير العياشي عن أبى اسامة عنه عليه السلام أيضا في الاية: ما " آخران من غيركم " ؟ قال: هما كافران قلت: " ذوا عدل منكم " ؟ فقال: مسلمان، والرواية السابقة المقيدة بأهل الكتاب وإن لم تصلح لتقييد هذا الاطلاق بحسب صناعة الاطلاق والتقييد لكونهما متوافقين إيجابيين لكن سياق الرواية الاولى يصلح لتفسير إطلاق الثانية بما يوافق التقييد. وفى تفسير البرهان عن الصدوق بإسناده إلى أبى زيد عياش بن يزيد بن الحسن عن أبيه يزيد بن الحسن قال: حدثنى موسى بن جعفر عليه السلام قال: قال الصادق عليه السلام في قول الله عزوجل: " يوم يجمع الله الرسل فيقول ما ذا أجبتم قالوا لا علم لنا " قال: يقولون لا علم لنا بسواك، قال: " وقال الصادق عليه السلام: القرآن كله تقريع وباطنه تقريب.
________________________________________
[ 217 ]
قال صاحب البرهان: قال ابن بابويه: يعنى بذلك أنه من وراء آيات التوبيخ والوعيد آيات الرحمة والغفران. اقول: وما نقله عن الصدوق رحمه الله في معنى قوله عليه السلام: " القرآن كله تقريع وباطنه تقريب " لا ينطبق عليه لا بالنظر إلى صدر الرواية فإن كون معنى قول الرسل عليه السلام: " لا علم لنا " أنه لا علم لنا بسواك غير مرتبط بكون القرآن مشتملا على نوعين من الايات: آيات الوعد وآيات الوعيد. ولا بالنظر إلى سياق نفس الجملة أعنى قوله: " القرآن كله تقريع وباطنه تقريب " فإن الكلام ظاهر في أن القرآن كله تقريع وكله تقريب، وإنما يختلف الامر بحسب الباطن والظاهر فباطنه تقريب وظاهره تقريع، لا أن القرآن منقسم إلى قسمين فقسم منه آيات التقريع ووراءه القسم الاخر وهو آيات التقريب. والتأمل في كلامه عليه السلام مع ملاحظة صدر الرواية يعطى أن مراده عليه السلام من التقريع بالنظر إلى مقابلة التقريب لازم معناه وهو التبعيد المقابل للتقريب، والقرآن كله معارف وحقائق فظاهره تبعيد الحقائق بعضها من بعض وتفصيل أجزائها، وباطنه تقريب البعض من البعض وإحكامها وتوحيدها، ويعود محصل المراد إلى أن القرآن بحسب ظاهره يعطى حقائق من المعارف مختلفة بعضها بائن منفصل من بعض لكنها على كثرتها وبينونتها وابتعاد بعضها من بعض بحسب الباطن يقترب بعضها من بعض وتلتئم شتى معانيها حتى تتحد حقيقة واحدة كالروح السارى في الجميع، وليست إلا حقيقة التوحيد قال الله تعالى: " كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير " (هود: 1). ويظهر حينئذ انطباقه على ما ذكره عليه السلام في صدر الرواية أن معنى قول الرسل: " لا علم لنا " أن لا علم لنا بسواك فإن الانسان أو أي عالم فرض إنما يعلم ما يعلم بالله بمعنى أن الله سبحانه هو المعلوم بذاته وغيره معلوم به، وبعبارة اخرى إذا تعلق العلم بشئ فإنما يتعلق أولا بالله سبحانه على ما يليق بساحة قدسه وكبريائه ثم يتعلق من جهته بذلك الشئ لما أن الله سبحانه عنده علم كل شئ يرزق منه لمن يشاء من عباده على قدر ما يشاء كما قال تعالى: " ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء وسع
________________________________________
[ 218 ]
كرسيه السماوات والارض " (البقرة: 255) وقد تقدم رواية عبد الاعلى مولى آل سام عن الصادق عليه السلام وغيره من الروايات في هذا المعنى. وعلى هذا فمعنى قولهم: " لا علم لنا بسواك إنك أنت علام الغيوب " على تفسيره عليه السلام أنه لا علم لنا بشئ من دونك وإنما نعلم ما نعلم من جهة علمنا بك لان العلم كله لك وإذا كان كذلك فأنت أعلم به منا لان الذى نعلمه من شئ هو علمك الذى أحطنا بشئ منه بمشيئتك ورزقك. وعلى هذا يتجلى معنى آخر لقوله: " إنك أنت علام الغيوب " هو أرفع منالا مما تقدم من المعنى، وهو أن كل شئ من الخليقة لما كان منفصل الوجود عن غيره كان في غيب منه لما أن وجوده محدود مقدر لا يحيط إلا بما شاء الله أن يحيط به، والله سبحانه هو المحيط بكل شئ العالم بكل غيب لا يعلم شئ شيئا إلا من جهته تعالى وتقدس عن كل نقص. وعلى هذا فتقسيم الامور إلى غيب وشهادة تقسيم بالحقيقة إلى غيب شاء الله إحاطتنا به وغيب مستور عنا، وربما تؤيد هذا المعنى بظاهر قوله تعالى: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبة أحدا، إلا من ارتضى من رسول " (الجن: 27) بالنظر إلى ما تفيده إضافة الغيب إلى الضمير، وعليك بإجادة التأمل في هذا المقام. وفي تفسير العياشي عن يزيد الكناسى عن أبى جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " يوم يجمع الله الرسل، الاية " قال: يقول: ماذا أجبتم في أوصيائكم الذين خلفتم على امتكم ؟ قال: فيقولون: لا علم لنا بما فعلوا من بعدنا. اقول: ورواه القمى في تفسيره عن محمد بن مسلم عنه عليه السلام. وفي الكافي عن يزيد عن أبى عبد الله عليه السلام ما في معناه، وهو من الجرى أو من قبيل الباطن. * * * إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى
________________________________________
[ 219 ]
والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذنى وتبرئ الاكمه والابرص بإذنى وإذ تخرج الموتى بإذنى واذ كففت بنى إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين - 110. وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بى وبرسولي قالوا آمنا وأشهد بأننا مسلمون - 111). (بيان) الايتان وكذا الايات التالية لها القاصة قصة نزول المائدة والتالية لها المخبرة عما سيسأل الله عيسى بن مريم عليه السلام عن اتخاذ الناس إياه وامه إلهين من دون الله سبحانه وما يجيب به عن ذلك، كلها مرتبطة بغرض السورة الذى افتتحت به، وهو الدعوة إلى الوفاء بالعهد والشكر للنعمة والتحذير عن نقض العهود وكفران النعم الالهية وبذلك يتم رجوع آخر السورة إلى أولها وتحفظ وحدة المعنى المراد. قوله تعالى: " إذ قال الله يا عيسى بن مريم - إلى قوله - وإذ تخرج الموتى بإذنى " الاية تعد عدة من الايات الباهرة الظاهرة بيده عليه السلام إلا أنها تمتن بها عليه وعلى امه جميعا، وهى مذكورة بهذا اللفظ تقريبا فيما يحكيه تعالى من تحديث الملائكة مريم عند بشارتها بعيسى عليه اليلام في سورة آل عمران، قال تعالى: " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم إلى أن قال - ويكلم الناس في المهد وكهلا - إلى أن قال - ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل ورسولا إلى بنى إسرائيل، إنى قد جئتكم بآية من ربكم أنى أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فتكون طيرا بإذن الله وأبرئ الاكمه والابرص وأحيى الموتى بإذن الله " (الايات)
________________________________________
[ 220 ]
(45 - 50). والتأمل في سياق الايات يوضح الوجه في عد ما ذكره من الايات المختصة ظاهرا بالمسيح نعمة عليه وعلى والدته جميعا كما تشعر به آيات آل عمران فإن البشارة إنما تكون بنعمة، والامر على ذلك فإن ما اختص به المسيح عليه السلام من آية وموهبة كالولادة من غير أب والتأييد بروح القدس وخلق الطير وإبراء الاكمه والابرص وإحياء الموتى بإذن الله سبحانه فهى بعينها كرامة لمريم كما أنها كرامة لعيسى عليهما السلام فهما معا منعمان بالنعمة الالهية كما قال تعالى: " نعمتي التي أنعمت عليك وعلى والدتك ". وإلى ذلك يشير تعالى بقوله: " وجعلناها وابنها آية للعالمين " (الانبياء: 91) حيث عدهما معا آية واحدة لا آيتين. وقوله: " إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس " الظاهر أن التأييد بروح القدس هو السبب المهيئ له لتكليم الناس في المهد، ولذلك وصل قوله " تكلم الناس " من غير أن يفصله بالعطف إلى الجملة السابقة إشعارا بأن التأييد والتكليم معا أمر واحد مؤلف من سبب ومسبب، واكتفى في موارد من كلامه بذكر أحد الامرين عن الاخر كقوله في آيات آل عمران المنقولة آنفا: " وتكلم الناس في المهد وكهلا "، وقوله: " وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس " (البقرة: 253). على أنه لو كان المراد بتأييده بروح القدس مسألة الوحى بوساطة الروح لم يختص بعيسى بن مريم عليه السلام وشاركه فيها سائر الرسل مع أن الاية تأبى ذلك بسياقها. وقوله: " وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والانجيل " من الممكن أن يستفاد منه أنه عليه السلام إنما تلقى علم ذلك كله بتلق واحد عن أمر إلهى واحد من غير تدريج وتعدد كما أنه أيضا ظاهر جمع الجميع وتصديرها بإذ من غير تكرار لها. وكذلك قوله: " إذ تخلق من الطين كهيئة الطير فتنفخ فيه فيكون طيرا بإذنى وتبرء الاكمه والابرص بإذنى " ظاهر السياق من جهة عدم تكرار لفظة " إذ " أن خلق الطير وإبراء الاكمه والابرص كانا متقارنين زمانا، وأن تذييل خلق الطير بذكر الاذن من غير أن يكتفى بالاذن المذكور في آخر الجملة إنما هو لعظمة أمر الخلق بإفاضة
________________________________________
[ 221 ]
الحياة فتعلقت العناية به فاختص بذكر الاذن بعده من غير أن ينتظر فيه آخر الكلام صونا لقلوب السامعين من أن يخطر فيها أن غيره تعالى يستقل دونه بإفاضة الحياة أو تلبث فيها هذه الخطرة ولو لحظات يسيرة، والله أعلم. وقوله: " وإذ تخرج الموتى بإذنى " إخراج الموتى كناية عن إحيائها، وفيه عناية ظاهرة بأن الاحياء الذى جرى على يديه عليه السلام كان إحياء لموتي مقبورين بإفاضة الحياة عليهم وإخراجهم من قبورهم إلى حياة دنيوية، وفى اللفظ دلالة على الكثرة، وقد تقدم في الكلام على آيات آل عمران بقية ما يتعلق بهذه الايات من الكلام فراجع ذلك. قوله تعالى: " وإذ كففت بنى إسرائيل عنك " إلى آخر الاية. فيه دلالة على أنهم قصدوه بشر فكفهم الله عن ذلك فينطبق على ما ذكره الله في سورة آل عمران في قصصه عليه السلام بقوله: " ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ". قوله تعالى: " وإذ أوحيت إلى الحواريين " الاية، الاية منطبقة على آيات سورة آل عمران بقوله: " فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بإنا مسلمون " (آل عمران: 52). ومن هنا يظهر أن هذا الايمان الذى ذكره في الاية بقوله: " وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بى وبرسولي قالوا آمنا، الاية غير إيمانهم الاول به عليه السلام فإن ظاهر قوله في آية آل عمران: " فلما أحس عيسى منهم الكفر " إنه كان في أواخر أيام دعوته وقد كان الحواريون وهم السابقون الاولون في الايمان به ملازمين له. على أن ظاهر قوله في آية آل عمران: " قال من أنصارى إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون " أن الدعوة إنما سيقت لاخذ الميثاق على نصرة دين الله لا أصل الايمان بالله، ولذلك ختم الاية بقولهم: " وأشهد بأنا مسلمون " وهو التسليم لامر الله بإقامة دعوته وتحمل الاذى في جنبه، وكل ذلك بعد أصل الايمان بالله طبعا. فتبين أن المراد بقوله: " وإذ أوحيت إلى الحواريين، الخ " قصة أخذ الميثاق من الحواريين، وفى الاية أبحاث أخر مرت في تفسير سورة آل عمران.
________________________________________
[ 222 ]
(بحث روائي) في المعاني بإسناده عن أبى يعقوب البغدادي قال: قال ابن السكيت لابي الحسن الرضا عليه السلام: لما ذا بعث الله موسى بن عمران بيده البيضاء والعصا وآلة السحر، وبعث عيسى بآلة الطب، وبعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم بالكلام والخطب ؟. فقال أبو الحسن عليه السلام: إن الله تعالى لما بعث موسى عليه السلام كان الاغلب على أهل عصره السحر فأتاهم من عند الله تعالى بما لم يكن عند القوم وفي وسعهم مثله، وبما أبطل به سحرهم، وأثبت به الحجة عليهم، وإن الله تعالى بعث عيسى في وقت ظهرت فيه الزمانات واحتاج الناس إلى الطب فأتاهم من عند الله تعالى بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيى لهم الموتى، وأبرأ الاكمه والابرص بإذن الله، وإثبت به الحجة عليهم، وإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم في وقت كان الاغلب على أهل عصره الخطب والكلام والشعر فأتاهم من كتاب الله والموعظة والحكمة بما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجة عليهم. قال ابن السكيت ما رأيت مثلك اليوم قط فما الحجة على الخلق اليوم ؟ فقال: العقل يعرف به الصادق على الله فيصدقه والكاذب على الله فيكذبه، قال ابن السكيت: هذا والله هو الجواب. وفي الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن الحسن بن محبوب عن أبى جميلة عن ابان بن تغلب وغيره عن أبى عبد الله عليه السلام: أنه سئل هل كان عيسى بن مريم أحيى أحدا بعد موته بأكل ورزق ومدة وولد ؟ فقال: نعم إنه كان له صديق مواخ له في الله تبارك وتعالى ة وكان عيسى عليه السلام يمر به وينزل عليه، وإن عيسى غاب عنه حينا ثم مر به ليسلم عليه فخرجت عليه امه فسألها عنه فقالت له: مات يا رسول الله، فقال: أتحبين أن تراه ؟ قالت: نعم. فقال: إذا كان غدا أتيتك حتى احييه لك بإذن الله تعالى. فلما كان من الغد أتاها فقال لها: انطلقي معى إلى قبره فانطلقا حتى أتيا قبره فوقف عليه عيسى عليه السلام ثم دعا الله عزوجل فانفرج القبر فخرج ابنها حيا فلما رأته امه ورآها بكيا فرحمهما عيسى عليه السلام فقال له عيسى: أتحب أن تبقى مع امك
________________________________________
[ 223 ]
في الدنيا ؟ فقال: يارسول الله بأكل ورزق ومدة أم بغير أكل ورزق ومدة ؟ فقال له عيسى عليه السلام: بأكل ورزق ومدة تعمر عشرين سنة وتزوج ويولد لك، قال: نعم إذا. قال: فدفعه عيسى عليه السلام إلى امه فعاش عشرين سنة وولد له. وفى تفسير العياشي عن محمد بن يوسف الصنعانى عن أبيه قال: سألت أبا جعفر عليه السلام " إذ أوحيت إلى الحواريين " قال: الهموا. اقول: واستعمال الوحى في مورد الالهام جاء في القرآن في غير مورد كقوله تعالى: " وأوحينا إلى ام موسى أن أرضعيه " (القصص: 7)، وقوله تعالى: " وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا " (النحل: 68) وقوله في الارض: " بأن ربك أوحى لها " (الزلزال: 5). * * * إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين - 112. قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين - 113. قال عيسى بن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لاولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين - 114. قال الله إنى منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإنى أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين - 115.
________________________________________
[ 224 ]
(بيان) الايات تذكر قصة نزول المائدة على المسيح عليه السلام وأصحابه، وهى وإن لم تصرح بأن الله أنزلها عليهم غير أن الاية الاخيرة تتضمن الوعد المنجز منه بإنزالها من غير تقييد وقد وصف تعالى نفسه بأنه لا يخلف الميعاد. وقول بعضهم: (إنهم استقالوا عيسى عليه السلام بعد ما سمعوا الوعيد الشديد من الله تعالى لمن يكفر منهم بعد نزول المائدة) قول من غير دليل من كتاب أو حديث يعتمد عليه. وقد نقل ذلك عن جمع من المفسرين، وممن يذكر منهم: المجاهد والحسن، ولا حجة في قولهما ولا قول غيرهما ولو عد قولهما رواية كانت من الموقوفات التى لا حجية لها لضعفها على أنها معارضة بغيرها من الروايات الدالة على نزولها، على أنها لو صحت لم تكن إلا من الاحاد التى لا يعتمد عليها في غير الاحكام. وربما يستدل على عدم نزولها بأن النصارى لا يعرفونها وكتبهم المقدسة خالية عن حديثها، ولو كانت نازلة لتوفرت الدواعى على ذكره في كتبهم وحفظه فيما بينهم بسيرة مستمرة كما تحفظوا على العشاء الربانى لكن الخبير بتاريخ شيوع النصرانية وظهور الاناجيل لا يعبأ بأمثال هذه الاقاويل فلا كتبهم مكتوبة محفوظة على التواتر إلى زمن عيسى عليه السلام، ولا هذه النصرانية الحاضرة تتصل بزمنه حتى ينتفع بها فيها يعتورونه يدا بيد، أو فيمالا يعرفونه مما ينسب إلى الدعوة العيسوية أو يتعلق بها. نعم وقع في بعض الاناجيل إطعام المسيح تلاميذه وجماعة من الناس بالخبز والسمك القليلين على طريق الاعجاز، غير أن القصة لا تنطبق على ما قصه القرآن في شئ من خصوصياته، ورد في إنجيل يوحنا، الاصحاح السادس ما هذا نصه: (1) " بعد هذا مضى يسوع إلى عبر بحر الجليل وهو بحر طبرية (2) وتبعه جمع كثير لانهم أبصروا آياته التى كان يصنعها في المرضى (3) فصعد يسوع إلى جبل وجلس هناك مع تلاميذه (4) وكان الفصح عند اليهود قريبا (5) فرفع يسوع عينيه ونظر أن جمعا كثيرا مقبل إليه فقال لفيلبس من أين نبتاع خبزا ليأكل هؤلاء (6) وإنما قال هذا ليمتحنه لانه هو علم ما هو مزمع أن يفعل (7) أجابه فيلبس لا يكفيهم خبز بمأتى دينار
________________________________________
[ 225 ]
ليأخذ كل واحد منهم شيئا يسيرا (8) قال له واحد من تلاميذه وهو أندراوس أخو سمعان بطرس (9) هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان ولكن ما هذا لمثل هؤلاء (10) فقال يسوع اجعلوا الناس يتكئون - وكان في المكان عشب كثير فاتكأ الرجال وعددهم نحو خمسة آلاف (11) وأخذ يسوع الارغفة وشكر ووزع على التلاميذ والتلاميذ أعطوا المتكئين وكذلك من السمكتين بقدر ما شاؤوا (12) فلما شبعوا قال لتلاميذه اجمعوا الكسر الفاضلة لكى لا يضيع شئ (13) فجمعوا وملاوا اثنتى عشرة قفة من الكسر من خمسة أرغفة الشعير التى فضلت عن الاكلين (14) فلما رأى الناس الاية التى صنعها يسوع قالوا إن هذا هو بالحقيقة النبي الاتى إلى العالم (15) وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكا انصرف أيضا إلى الجبل وحده ". ثم إن التدبر في هذه القصة بما لها من سياق مسرود في كلامه تعالى يهدى إلى جهة أخرى من البحث فإن السؤال المذكور في أولها بظاهره خال عن رعاية الادب والواجب حفظه في جنب الله سبحانه، وقد انتهى الكلام إلى وعيد منه تعالى لمن يكفر بهذه الاية وعيدا لا يوجد له نظير في شئ من الايات التى اختص الله سبحانه بها أنبياءه أو اقترحها أممهم عليهم كاقتراح أمم نوح وهود وصالح وشعيب وموسى ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم. فهل كان ذلك لكون الحواريين وهم السائلون أساؤا الادب في سؤالهم ؟ لان لفظهم لفظ من يشك في قدرة الله سبحانه، ففى اقتراحات الامم السابقة عليهم من الاهانة بمقام ربهم والسخرية والهزء بأنبيائهم وكذا ما توجد حكايته في القرآن من طواغيت قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم واليهود المعاصرين له ما هو أوقح من ذلك وأشنع !. أو أنهم لكونهم مؤمنين قبل السؤال والنزول لو كفروا بعد النزول ومشاهدة الاية الباهرة استحقوا هذا الوعيد على هذه الشدة ؟ فالكفر بعد مشاهدة الاية الباهرة وإن كان عتوا وطغيانا كبيرا لكنه لا يختص بهم، ففى سائر الامم أمثال لهم في ذلك ولم يوعدوا بمثل هذا الوعيد قط حتى الذين ارتدوا منهم بعد التمكن في مقام القرب والتحقق بآيات الله سبحانه كالذى يذكره الله سبحانه في قوله: " واتل عليهم نبأ الذى آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين " (الاعراف: 175).


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page