• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 151 الي 175


[ 151 ]
المألوفة سترا فإن في الاطلاع على حقيقة مثل هذه الامور مظنة الهلاك والشقاء كمن تفحص عن يوم وفاته أو سبب هلاكه أو عمر أحبته وأعزته أو زوال ملكه وعزته، وربما كان ما يطلع عليه هو السبب الذى يخترمه بالفناء أو يهدده بالشقاء. فنظام الحياة الذى نظمه الله سبحانه ووضعه جاريا في الكون فأبدا أشياء وحجب أشياء لم يظهر ما أظهره إلا لحكمة، ولم يخف ما أخفاه إلا لحكمة أي إن التسبب إلى خفاء ما ظهر منها والتوسل إلى ظهور ما خفى منها يورث اختلال النظام المبسوط على الكون كالحياة الانسانية المبنية على نظام بدنى مؤلف من قوى وأعضاء وأركان لو نقص واحد منها أو زيد شئ عليها أوجب ذلك فقدان أجزاء هامة من الحياة ثم يعتبر ذلك مجرى القوى والاعضاء الباقية، وربما أدى ذلك إلى بطلان الحياة بحقيقتها أو معناها. ثم إن الاية أبهمت ثانيا أمر هذه الاشياء التى نهت عن السؤال عنها، ولم توضح من أمرها إلا أنها بحيث إن تبد لهم تسؤهم (الخ)، ومما لا يرتاب فيه أن قوله: " إن تبد لكم تسؤكم " نعت للاشياء، وهى جملة شرطية تدل على تحقق وقوع الجزاء على تقدير وقوع الشرط، ولازمه أن تكون هذه أشياء تسؤهم إن أبدئت لهم فطلب إبدائها وإظهارها بالمسألة طلب للمساءة. فيستشكل بأن الانسان العاقل لا يطلب مايسؤه، ولو قيل: لا تسألوا عن أشياء فيها ما إن تبد لكم تسؤكم، أو لا تسألوا عن أشياء لا تأمنون أن تسوءكم إن تبد لكم لم يلزم محذور. ومن عجيب ما أجيب به عن الاشكال: أن من المقرر في قوانين العربية أن شرط " إن " مما لا يقطع بوقوعه، والجزاء تابع للشرط في الوقوع وعدمه فكان التعبير بقوله " إن تبد لكم تسؤكم " دون " إذا أبديت لكم تسؤكم " دالا على أن احتمال إبدائها وكونها تسوء كاف في وجوب الانتهاء عن السؤال عنها، انتهى موضع الحاجة. وقد أخطأ في ذلك، وليت شعرى أي قانون من قوانين العربية يقرر أن يكون الشرط غير مقطوع الوقوع ؟ ثم الجزاء بما هو جزاء متعلق الوجود بالشرط غير مقطوع الوقوع ؟ وهل يفيد قولنا: إن جئتني أكرمتك إلا القطع بوقوع الاكرام على تقدير وقوع المجئ ؟ فقوله: إن التعبير بالشرط يدل على أن احتمال إبدائها وكونه يسوء كاف
________________________________________
[ 152 ]
في وجوب الانتهاء، انتهى. إنما يصح لو كان مفاد الشرط في الاية هو النهى عن السؤال عن أشياء يمكن أن تسوء إن أبدئت وليس كذلك كما عرفت بل المفاد النهى عن السؤال أشياء يقطع بمساءتها إن أبدئت، فالاشكال على حاله. ويتلو هذا الجواب في الضعف قول بعضهم - على ما في بعض الروايات: إن المراد بقوله: " أشياء إن تبد لكم تسؤكم " ما ربما يهواه بعض النفوس من الاطلاع على بعض المغيبات كالاجال وعواقب الامور وجريان الخير والشر والكشف عن كل مستور مما لا يخلو العلم به طبعا من أن يتضمن ما يسوء الانسان ويحزنه كسؤال الرجل عن باقى عمره، وسبب موته، وحسن عاقبته، وعن أبيه من هو ؟ وقد كان دائرا بينهم في الجاهلية. فالمراد بقوله: " لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " هو النهى عن السؤال عن هذه الامور التى لا يخلو انكشاف الحال فيها غالبا أن يشتمل على ما يسوء الانسان ويحزنه كظهور أن الاجل قريب، أو أن العاقبة وخيمة، أو أن أباه في الواقع غير من يدعى إليه. فهذه امور يتضمن غالبا مساءة الانسان وحزنه، ولا يؤمن من أن يجاب إذا سئل عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما لا يرتضيه السائل فيدعوه الاستكبار النفساني وأنفة العصبية أن يكذب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما يجيب به فيكفر بذلك كما يشير إليه قوله تعالى في الاية التالية: " قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين ". وهذا الوجه وإن كان سليما في بادئ النظر لكنه لا يلائم قوله تعالى: " وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبدلكم " سواء قلنا: إن مفاده تجويز السؤال عن هذه الاشياء حين نزول القرآن، أو تشديد النهى عنه حين نزول القرآن بالدلالة على أن المجيب - وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم - في غير حال نزول القرآن في سعة من أن لا يجيب عن هذه الاسئلة رعاية لمصلحة السائلين، لكنها أعنى الاشياء المسؤول عنها مكشوفة الحقيقة مرفوع عنها الحجاب لا محالة فلا تسألوا عنها حين ينزل القرآن البتة. أما عدم ملاءمته على المعنى الاول فلان السؤال عن هذه الاشياء لما اشتمل على المفسدة بحسب طبعه فلا معنى لتجويزه حال نزول القرآن، والمفسدة هي المفسدة. وأما على المعنى الثاني فلان حال نزول القرآن وإن كان حال البيان والكشف
________________________________________
[ 153 ]
عن ما يحتاج إلى الكشف والابداء غير أن هذه الخصيصة مرتبطة بحقائق المعارف وشرائع الاحكام وما يجرى مجراها، وأما تعيين أجل زيد وكيفية وفاة عمرو، وتشخيص من هو أبو فلان ؟ ونحو ذلك فهى مما لا يرتبط به البيان القرآني، فلا وجه لتذييل النهى عن السؤال عن أشياء كذا وكذا بنحو قوله: " وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم " وهو ظاهر. فالاوجه في الجواب ما يستفاد من كلام آخرين أن الاية الثانية: " قد سألها قوم من قبلكم، الخ " وكذا قوله: " وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبدلكم " تدل على أن المسؤول عنها أشياء مرتبطة بالاحكام المشرعة كالخصوصيات الراجعة إلى متعلقات الاحكام مما ربما يستقصى في البحث عنه والاصرار في المداقة عليه، ونتيجة ذلك ظهور التشديد ونزول التحريج كلما أمعن في السؤال وألح على البحث كما قصه الله سبحانه في قصة البقرة عن بنى إسرائيل حيث شدد الله سبحانه بالتضييق عليهم كلما بالغوا في السؤال عن نعوت البقرة التى أمروا بذبحها. ثم إن قوله تعالى: " عفا الله عنها " الظاهر أنه جملة مستقلة مسوقة لتعليل النهى في قوله: " لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " لا كما ذكروه: أنه وصف لاشياء، وأن في الكلام تقديما وتأخيرا، والتقدير: لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم، " الخ ". وهذا التعبير - أعنى تعدية العفو بعن - أحسن شاهد على أن المراد بالاشياء المذكورة هي الامور الراجعة إلى الشرائع والاحكام، ولو كانت من قبيل الامور الكونية كان كالمتعين أن يقال: عفاها الله. وكيف كان فالتعليل بالعفو يفيد أن المراد بالاشياء هي الخصوصيات الراجعة إلى الاحكام والشرائع والقيود والشرائط العائدة إلى متعلقاتها، وأن السكوت عنها ليس لانها مغفول عنها أو مما اهمل أمرها بل لم يكن ذلك إلا تخفيفا من الله سبحانه لعباده وتسهيلا كما قال: " والله غفور حليم " فما يقترحونه من السؤال عن خصوصياته تعرض منهم للتضييق والتحريج وهو مما يسوؤهم ويحزنهم البتة فإن في ذلك ردا للعفو الالهى الذى لم يكن البتة إلا للتسهيل والتخفيف، وتحكيم صفتي المغفرة والحلم الالهيين. فيرجع مفاد قوله: " لا تسألوا عن أشياء، الخ " إلى نحو قولنا: يا أيها الذين
________________________________________
[ 154 ]
آمنوا لا تسألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أشياء مسكوت عنها في الشريعة عفا الله عنها ولم يتعرض لبيانها تخفيفا وتسهيلا فإنها بحيث تبين لكم إن تسألوا عنها حين نزول القرآن، وتسوؤكم إن أبدئت لكم وبينت. وقد تبين مما مرأولا: أن قوله تعالى: " وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم " من تتمة النهى كما عرفت، لا لرفع النهى عن السؤال حين نزول القرآن كما ربما قيل. وثانيا: أن قوله تعالى: " عفا الله عنها " جملة مستقلة مسوقة لتعليل النهى عن السؤال فتفيد فائدة الوصف من غير أن يكون وصفا بحسب التركيب الكلامي. وثالثا: وجه تذييل الكلام بقوله: " والله غفور حليم " مع كون الكلام مشتملا على النهى غير الملائم لصفتي المغفرة والحلم فالاسمان يعودان إلى مفاد العفو المذكور في قوله: " عفا الله عنها " دون النهى الموضوع في الاية. قوله تعالى: " قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين " يقال: سأله وسأل عنه بمعنى، و " ثم " يفيد التراخي بحسب الرتبة الكلامية دونه بحسب الزمان. والباء في قوله: " بها " متعلقة بقوله: " كافرين " على ما هو ظاهر الاية من كونها مسوقة للنهى عن السؤال عما يتعلق بقيود الاحكام والشرائع المسكوت عنها عند التشريع، فالكفر كفر بالاحكام من جهة استلزامها تحرج النفوس عنها وتضيق القلوب من قبولها، و يمكن أن تكون الباء للسببية ولا يخلو عن بعد. والاية وإن أبهمت القوم المذكورين ولم يعرفهم لكن في القرآن الكريم ما يمكن أن تنطبق عليه الاية من القصص كقصة المائدة من قصص النصارى وقصص اخرى من قوم موسى وغيرهم. (بحث روائي) في الدر المنثور: أخرج ابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبى هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس كتب الله عليكم الحج فقام عكاشة بن محصن الاسدي فقال: أفى كل عام يا رسول الله ؟ قال: أما إنى لو قلت: نعم لوجبت، ولو وجبت ثم تركتم لضللتم اسكتوا عنى ما سكت عنكم فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم
________________________________________
[ 155 ]
واختلافهم على أنبيائهم فأنزل الله: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألواعن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " إلى آخر الاية. اقول: وروى القصة عن أبى هريرة وأبى أمامة وغيرهما عدة من الرواة، ورويت في المجمع وغيره من كتب الخاصة، وهى تنطبق على ما قدمناه في البيان المتقدم. وفيه أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن السدى في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء، الاية " قال: غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما من الايام فقام خطيبا فقال: سلونى فإنكم لا تسألونى عن شئ إلا أنبأتكم به فقام إليه رجل من قريش من بنى سهم يقال له: عبد الله بن حذاقة - وكان يطعن فيه - فقال: يا رسول الله من أبى ؟ فقال: أبوك فلان فدعاه لابيه فقام إليه عمر فقبل رجله وقال: يا رسول الله رضينا بالله ربا ولك نبيا وبالقرآن إماما فاعف عنا عفا الله عنك فلم يزل به حتى رضى فيومئذ قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر، وأنزل عليه: " قد سألها قوم من قبلكم ". اقول: والرواية مروية بعدة طرق على اختلاف في متونها، وقد عرفت فيما تقدم أنها غير قابلة الانطباق على الاية. وفيه أيضا: أخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه عن ثعلبة الخشنى قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض لكم فرائض فلا تضيعوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وترك أشياء في غير نسيان ولكن رحمة منه لكم فاقبلوها ولا تبحثوا عنها. وفي المجمع والصافى عن على عليه السلام قال: إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها وحد لكم حدودا فلا تعتدوها، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت لكم عن أشياء ولم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها. وفي الكافي بإسناده عن أبى الجارود قال: قال أبو جعفر عليه السلام: إذا حدثتكم بشئ فاسألوني عنه من كتاب الله، ثم قال في بعض حديثه: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن القيل والقال، وفساد المال، وكثرة السؤال فقيل له: يا ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله ؟ قال: إن الله عزوجل يقول: " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو اصلاح بين الناس " وقال: " ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التى جعل الله لكم قياما " وقال: " لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ".
________________________________________
[ 156 ]
وفي تفسير العياشي عن أحمد بن محمد قال: كتبت إلى أبى الحسن الرضا عليه السلام وكتب في آخره: أولم تنهوا عن كثرة المسائل ؟ فأبيتم أن تنتهوا، إياكم وذلك، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم فقال الله تبارك وتعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء - إلى قوله تعالى - كافرين ". * * * ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون - 103. وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون - 104. (بيان) قوله تعالى: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، هذه أصناف من الانعام كان أهل الجاهلية يرون لها أحكاما مبنية على الاحترام ونوع من التحرير، وقد نفى الله سبحانه أن يكون جعل من ذلك شيئا، فالجعل المنفى متعلق بأوصافها دون ذواتها فإن ذواتها مخلوقة لله سبحانه من غير شك، وكذلك أوصافها من جهة أنها أوصاف فحسب، وإنما الذى تقبل الاسناد إليه تعالى ونفيه هي أوصافها من جهة كونها مصادر لاحكام كانوا يدعونها لها فهى التى تقبل الاسناد ونفيه، فنفى جعل البحيرة وأخواتها في الاية نفى لمشروعية الاحكام المنتسبة إليها المعروفة عندهم. وهذه الاصناف الاربعة من الانعام وإن اختلفوا في معنى أسمائها ويتفرع عليه الاختلاف في تشخيص أحكامها كما ستقف عليه، لكن من المسلم أن أحكامها مبنية على نوع من تحريرها والاحترام لها برعاية حالها، ثلاثة منها وهى البحيرة والسائبة والحامي
________________________________________
[ 157 ]
من الابل، وواحدة وهى الوصيلة من الشاة. أما البحيرة ففى المجمع: أنها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا بحروا أأذنها (أي شقوها شقا واسعا) وامتنعوا عن ركوبها ونحرها، ولا تطرد عن ماء ولا تمنع عن مرعى، فإذا لقيها المعيى لم تركبها، عن الزجاج. وقيل: إنهم كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن نظروا في البطن الخامس فإن كان ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء جميعا، وإن كانت أنثى شقو أذنها فتلك البحيرة ثم لا يجز لها وبر، ولا يذكر لها اسم الله إن ذكيت، ولا حمل عليها، وحرم على النساء أن يذقن من لبنها شيئا، ولا أن ينتفعن بها، وكان لبنها و منافعها للرجال خاصة دون النساء حتى تموت فإذا ماتت اشتركت الرجال والنساء في أكلها، عن ابن عباس، وقيل " إن البحيرة بنت السائبة، عن محمد بن إسحاق. وأما السائبة ففى المجمع أنها ما كانوا يسيبونه فإن الرجل إذا نذر القدوم من سفر أو البرء من علة أو ما أشبه ذلك قال: ناقتي سائبة فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها، وإن لا تخلى عن ماء ولا تمنع من مرعى، عن الزجاج، وهو قول علقمة. وقيل: هي التى تسيب للاصنام أي تعتق لها، وكان الرجل يسيب من ماله ما يشاء فيجئ به إلى السدنة - وهم خدمة آلهتهم - فيطعمون من لبنها أبناء السبيل ونحو ذلك عن ابن عباس وابن مسعود. وقيل: إن السائبة هي الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس فيهن ذكر سيبت فلم تركبوها، ولم يجزوا وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف فما نتجت بعد ذلك من انثى شق اذنها ثم تخلى سبيلها مع امها، وهى البحيرة، عن محمد بن إسحاق. وأما الوصيلة ففى المجمع: وهى في الغنم، كانت الشاة إذا ولدت انثى فهى لهم، وإذا ولدت ذكرا جعلوه لالهتهم، فإن ولدت ذكرا وانثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لالهتهم. عن الزجاج. وقيل: كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان السابع جديا ذبحوه لالهتهم ولحمه للرجال دون النساء، وإن كان عناقا، استحيوها وكانت من عرض الغنم، وإن
________________________________________
[ 158 ]
ولدت في البطن السابع جديا وعناقا قالوا: إن الاخت وصلت أخاها لحرمته علينا فحرما جميعا فكانت المنفعة واللبن للرجال دون النساء، عن ابن مسعود ومقاتل. وقيل: الوصيلة الشاة إذا تأمت عشر إناث في خمسة أبطن ليس فيها ذكر جعلت وصيلة فقالوا: قد وصلت فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون الاناث، عن محمد بن إسحاق. وأما الحامى ففى المجمع: هو الذكر من الابل كانت العرب إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يحمل عليه، ولا يمنع من ماء ولا من مرعى، عن ابن عباس وابن مسعود، وهو قول أبى عبيدة والزجاج. وقيل: إنه الفحل إذا لقح ولد ولده قيل: حمى ظهره فلا يركب، عن الفراء. وهذه الاسماء وإن اختلفوا في تفسيرها إلا أن من المحتمل قريبا أن يكون ذلك الاختلاف ناشئا من اختلاف سلائق الاقوام في سننهم، فإن أمثال ذلك كثيرة في السنن الدائرة بين الاقوام الهمجية. وكيف كان فالاية ناظرة إلى نفى الاحكام التى كانوا قد اختلقوها لهذه الاصناف الاربعة من الانعام، ناسبين ذلك إلى الله سبحانه بدليل قوله أولا: " ما جعل الله، إلخ " وثانيا: " ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب، إلخ ". ولذلك كان قوله: " ولكن الذين كفروا، إلخ " بمنزلة الجواب عن سؤال مقدر كأنه لما قيل: " ما جعل الله من بحيرة، إلخ " سئل فقيل: فما هذا الذى يدعيه هؤلاء الذين كفروا ؟ فاجيب بأنه افتراء منهم على الله الكذب ثم زيد في البيان فقيل: " وأكثرهم لا يعقلون " ومفاده أنهم مختلفون في هذا الافتراء فأكثرهم يفترون ما يفترون وهم لا يعقلون، والقليل من هؤلاء المفترين يعقلون الحق وأن ما ينسبونه إليه تعالى من الافتراء، وهم المتبوعون المطاعون لغيرهم المديرون لازمة امورهم فهم أهل عناد ولجاج. قوله تعالى: " وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله، إلى آخر الاية " في حكاية دعوتهم إلى ما أنزل الله إلى الرسول الذى شأنه البلاغ، فقط فالدعوة دعوة إلى الحق وهو الصدق الخالى عن الفرية، والعلم المبرى من الجهل فإن الاية السابقة تجمع الافتراء وعدم التعقل في جانبهم فلا يبقى لما يدعون إليه - أعنى جانب الله سبحانه - إلا الصدق والعلم. لكنهم ما دفعوه إلا بالتقليد حيث قالوا: حسبنا وجدنا عليه آباءنا، والتقليد
________________________________________
[ 159 ]
وإن كان حقا في بعض الاحيان وعلى بعض الشروط وهو رجوع الجاهل إلى العالم، وهو مما استقر عليه سير المجتمع الانساني في جميع أحكام الحياة التى لا يتيسر فيها للانسان أن يحصل العلم بما يحتاج إلى سلوكه من الطريق الحيوى، لكن تقليد الجاهل في جهله بمعنى رجوع الجاهل إلى جاهل آخر مثله مذموم في سنة العقلاء كما يذم رجوع العالم إلى عالم آخر بترك ما يستقل بعمله من نفسه والاخذ بما يعلم غيره. ولذلك رده تعالى بقوله: " أولو كان آباؤهم لا يعلمون ولا يهتدون " ومفاده أن العقل - لو كان هناك عقل - لا يبيح للانسان الرجوع إلى من لا علم عنده ولا اهتداء فهذه سنة الحياة لا تبيح سلوك طريق لا تؤمن مخاطره، ولا يعلم وصفه لا بالاستقلال ولا باتباع من له به خبرة. ولعل إضافة قوله: " ولا يهتدون " إلى قوله: " لا يعلمون شيئا " لتتميم قيود الكلام بحسب الحقيقة، فإن رجوع الجاهل إلى مثله وإن كان مذموما لكنه إنما يذم إذا كان المسؤول المتبوع مثل السائل التابع في جهله لا يمتاز عنه بشئ، وأما إذا كان المتبوع نفسه يسلك الطريق بهداية عالم خبير به ودلالته فهو مهتد في سلوكه، ولا ذم على من اتبعه في مسيره وقلده في سلوك الطريق، فإن الامر ينتهى إلى العلم بالاخرة كمن يتبع عالما بأمر الطريق ثم يتبعه آخر جاهل به. ومن هنا يتضح أن قوله: " أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا " غير كاف في تمام الحجة عليهم لاحتمال أن يكون آباءهم الذين اتبعوهم بالتقليد مهتدين بتقليد العلماء الهداة فلا يجرى فيهم حكم الذم، ولا تتم عليهم الحجة فدفع ذلك بأن آباءهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون، ولا مسوغ لاتباع من هذا حاله. ولما تحصل من الاية الاولى أعنى قوله: " ما جعل الله من بحيرة، إلخ " أنهم بين من لا يعقل شيئا وهم الاكثرون، ومن هو معاند مستكبر تحصل أنهم بمعزل من أهلية توجيه الخطاب وإلقاء الحجة ولذلك لم تلق إليهم الحجة في الاية الثانية بنحو التخاطب بل سيق الكلام على خطاب غيرهم والصفح عن مواجهتهم فقيل: " أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون ". وقد تقدم في الجزء الاول من أجزاء هذا الكتاب بحث علمي أخلاقي في معنى
________________________________________
[ 160 ]
التقليد يمكنك أن تراجعه. ويتبين من الاية أن الرجوع إلى كتاب الله وإلى رسوله - وهو الرجوع إلى السنة - ليس من التقليد المذموم في شئ. (بحث روائي) في تفسير البرهان عن الصدوق بإسناده إلى محمد بن مسلم، عن أبى عبد الله عليه السلام: في قول الله عزوجل: " ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام " قال: إن أهل الجاهلية كانوا إذا ولدت الناقة ولدين في بطن واحد قالوا: وصلت، فلا يستحلون ذبحها ولا أكلها، وإذا ولدت عشرا جعلوها سائبة، ولا يستحلون ظهرها ولا أكلها، والحام فحل الابل لم يكونوا يستحلونه فأنزل الله: أنه لم يكن يحرم شيئا من ذلك. قال: ثم قال ابن بابويه: وقد روى: أن البحيرة الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن وإن كان الخامس ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس انثى بحروا اذنها أي شقوها وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها فإذا ماتت حلت للنساء، والسائبة البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه الله من مرض أو بلغه منزله أن يفعل ذلك. والوصيلة من الغنم، كانوا إذا ولدت شاة سبعة أبطن فكان السابع ذكرا ذبح فأكل منه الرجال والنساء، وإن كان انثى تركت في الغنم، وإن كان ذكرا وانثى قالوا: وصلت أخاها فلم تذبح وكان لحمها حراما على النساء إلا أن تموت منها شئ فيحل أكلها للرجال والنساء. والحام الفحل إذا ركب ولد ولده قالوا: قد حمى ظهره، قال: وقد يروى: أن الحام هو من الابل إذا أنتج عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يمنع من كلاء ولا ماء. أقول: ومن طرق الشيعة وأهل السنة روايات أخر في معاني هذه الاسماء: البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وقد مر شطر منها في الكلام المنقول عن الطبرسي في مجمع البيان في البيان المتقدم.
________________________________________
[ 161 ]
والمتيقن من معانيها - كما عرفت - أن هذه الاصناف من الانعام كانت في الجاهلية محررة نوعا من التحرير ذات أحكام مناسبة لذلك كحماية الظهر وحرمة أكل اللحم وعدم المنع من الماء والكلاء، وأن الوصيلة من الغنم والثلاثة الباقية من الابل. وفي المجمع: روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف كان قد ملك مكة، وكان أول من غير دين اسماعيل، واتخذ الاصنام ونصب الاوثان، وبحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحامى. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فلقد رأيته في النار يؤذى أهل النار ريح قصبه، ويروى يجر قصبه في النار. اقول: وروى في الدر المنثور هذا المعنى بعدة طرق عن ابن عباس وغيره. وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنى لاعرف أول من سيب السوائب، ونصب النصب، وأول من غير دين إبراهيم، قالوا: من هو يا رسول الله ؟ قال: عمرو بن لحى أخو بنى كعب لقد رأيته يجر قصبه في النار يؤذى أهل النار ريح قصبه. وإنى لاعرف من نحر النحائر، قالوا: من هو يا رسول الله ؟ قال: رجل من بنى مدلج كانت له ناقتان فجذع آذانهما وحرم ألبانهما وظهورهما وقال: هاتان لله ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما وركب ظهورهما. قال: فلقد رأيته في النار، وهما يقصمانه بأفواههما ويطئانه بأخفافهما. وفيه: أخرج أحمد وعبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الاصول، وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي في الاسماء والصفات، عن أبى الاحوص، عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلقان من الثياب فقال لى: هل لك من مال ؟ قلت نعم، قال: من أي المال ؟ قلت: من كل المال: من الابل والغنم والخيل والرقيق قال: فإذا آتاك الله فلير عليك. ثم قال: تنتج إبلك رافية آذانها ؟ قلت: نعم وهل تنتج الابل إلا كذلك ؟
________________________________________
[ 162 ]
قال: فلعلك تأخذ موسى فتقطع آذان طائفة منها، وتقول: هذه بحر، وتشق آذان طائفة منها وتقول: هذه الصرم ؟ قلت: نعم، قال: فلا تفعل إن كل ما آتاك الله لك حل، ثم قال: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام. * * * يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون - 105. (بيان) الاية تأمر المؤمنين أن يلزموا أنفسهم، ويلازموا سبيل هدايتهم ولا يوحشهم ضلال من ضل من الناس فإن الله سبحانه هو المرجع الحاكم على الجميع حسب أعمالهم، والكلام مع ذلك لا يخلو عن غور عميق. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " لفظة " عليكم " اسم فعل بمعنى ألزموا، و " أنفسكم " مفعوله. ومن المعلوم أن الضلال والاهتداء - وهما معنيان متقابلان - إنما يتحققان في سلوك الطريق لا غير، فالملازم لمتن الطريق ينتهى إلى ما ينتهى إليه الطريق، وهو الغاية المطلوبة التى يقصدها الانسان السالك في سلوكه، أما إذا استهان بذلك وخرج عن مستوى الطريق فهو الضلال الذى تفوت به الغاية المقصودة فالاية تقدر للانسان طريقا يسلكه ومقصدا يقصده غير أنه ربما لزم الطريق فاهتدى إليه أو فسق عنه فضل وليس هناك مقصد يقصده القاصد إلا الحياة السعيدة، والعاقبة الحسنى بلا ريب لكنها مع ذلك تنطق بأن الله سبحانه هو المرجع الذى يرجع إليه الجميع: المهتدى والضال. فالثواب الذى يريده الانسان في مسيره بالفطرة إنما هو عند الله سبحانه يناله المهتدون، ويحرم عنه الضلال، ولازم ذلك أن يكون جميع الطرق المسلوكة لاهل
________________________________________
[ 163 ]
الهداية والطرق المسلوكة لاهل الضلال تنتهى إلى الله سبحانه، وعنده سبحانه الغاية المقصودة وإن كانت تلك الطرق مختلفة في إيصال الانسان إلى البغية والفوز والفلاح أو ضربه بالخيبة والخسران، وكذلك في القرب والبعد كما قال تعالى: " يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " (الانشقاق: 6) وقال تعالى: " ألا إن حزب الله هم المفلحون " (المجادلة: 22) وقال تعالى: " ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار " (إبراهيم: 28) وقال تعالى: " فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون " (البقرة: 186) وقال تعالى: " والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى اولئك ينادون من مكان بعيد " (حم السجدة: 44). بين تعالى في هذه الايات أن الجميع سائرون إليه سبحانه سيرا لا مناص لهم عنه، غير أن طريق بعضهم قصير وفيه الرشد والفلاح، وطريق آخرين طويل لا ينتهى إلى سعادة، ولا يعود إلى سالكه إلا الهلاك والبوار. وبالجملة فالاية تقدر للمؤمنين وغيرهم طريقين اثنين ينتهيان إلى الله سبحانه، وتأمر المؤمنين بأن يشتغلوا بأنفسهم وينصرفوا عن غيرهم وهم أهل الضلال من الناس ولا يقعوا فيهم ولا يخافوا ضلالهم فإنما حسابهم على ربهم لا على المؤمنين وليسوا بمسؤلين عنهم حتى يهمهم أمرهم، فالاية قريبة المضمون من قوله تعالى: " قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزى قوما بما كانوا يكسبون " (الجاثية: 14) ونظيرها قوله تعالى: " تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون " (البقرة: 134). فعلى المؤمن أن يشتغل بما يهم نفسه من سلوك سبيل الهدى، ولا يهزهزه ما يشاهده من ضلال الناس وشيوع المعاصي بينهم ولا يشغله ذلك ولا يشتغل بهم فالحق حق وإن ترك والباطل باطل وإن أخذ به كما قال تعالى: " قل لا يستوى الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا اولى الالباب لعلكم تفلحون " (المائدة: 100) وقال تعالى: " ولا تستوى الحسنة ولا السيئة " (حم السجدة: 34). فقوله تعالى: " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم بناء على ما مر مسوق سوق الكناية
________________________________________
[ 164 ]
أريد به نهى المؤمنين عن التأثر من ضلال من ضل من الناس فيحملهم ذلك على ترك طريق الهداية كأن يقولوا: إن الدنيا الحاضرة لا تساعد الدين ولا تبيح التنحل بالمعنويات فإنما ذلك من السنن الساذجة وقد مضى زمنه وانقرض أهله، قال تعالى: " وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا " (القصص: 57). أو يخافوا ضلالهم على هدى أنفسهم فيشتغلوا بهم وينسوا أنفسهم فيصيروا مثلهم فإنما الواجب على المؤمن هو الدعوة إلى ربه والامر بالمعروف والنهى عن المنكر وبالجملة الاخذ بالاسباب العادية ثم إيكال أمر المسببات إلى الله سبحانه فإليه الامر كله، فأما أن يهلك نفسه في سبيل إنقاذ الغير من الهلكة فلم يؤمر به، ولا يؤاخذ بعمل غيره، وما هو عليه بوكيل، وعلى هذا فتصير الاية في معنى قوله تعالى: " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا، إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا، وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا " (الكهف: 8)، وقوله تعالى: " ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الارض أو كلم به الموتى بل لله الامر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا " (الرعد: 31) ونحو ذلك. وقد تبين بهذا البيان أن الاية لا تنافى آيات الدعوة وآيات الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فإن الاية إنما تنهى المؤمنين عن الاشتغال بضلال الناس عن اهتداء أنفسهم وإهلاك أنفسهم في سبيل إنقاذ غيرهم وإنجائه. على أن الدعوة إلى الله والامر بالمعروف والنهى عن المنكر من شؤون اشتغال المؤمن بنفسه وسلوكه سبيل ربه، وكيف يمكن أن تنافى الاية آيات الدعوة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر أو تنسخها ؟ وقد عدهما الله سبحانه من مشخصات هذا الدين وأسسه التى بنى عليها كما قال تعالى: " قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعنى " (يوسف: 108) وقال تعالى: " كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " (آل عمران: 110). فعلى المؤمن أن يدعو إلى الله على بصيرة وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر على سبيل أداء الفريضة الالهية وليس عليه أن يجيش ويهلك نفسه حزنا أو يبالغ في الجد في تأثير ذلك في نفوس أهل الضلال فذلك موضوع عنه.
________________________________________
[ 165 ]
وإذا كانت الاية قدرت للمؤمنين طريقا فيه اهتداؤهم ولغيرهم طريقا من شأنه ضلال سالكيه، ثم أمر المؤمنين في قوله: " عليكم أنفسكم " بلزوم أنفسهم كان فيه دلالة على أن نفس المؤمن هو الطريق الذى يؤمر بسلوكه ولزومه فإن الحث على الطريق إنما يلائم الحث على لزومه والتحذير من تركه لا على لزوم سالك الطريق كما نشاهده في مثل قوله تعالى: " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " (الانعام: 153). فأمره تعالى المؤمنين بلزوم انفسهم في مقام الحث على التحفظ على طريق هدايتهم يفيد أن الطريق الذى يجب عليهم سلوكه ولزومه هو أنفسهم، فنفس المؤمن هو طريقه الذى يسلكه إلى ربه وهو طريق هداه، وهو المنتهى به إلى سعادته. فالاية تجلى الغرض الذى تؤمه إجمالا آيات اخرى كقوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون، ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم اولئك هم الفاسقون، لا يستوى أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون " (الحشر: 20). فالايات تأمر بأن تنظر النفس وتراقب صالح عملها الذى هو زادها غدا وخير الزاد التقوى فللنفس يوم وغد وهى في سير وحركة على مسافة، والغاية هو الله سبحانه وعنده حسن الثواب وهو الجنة فعليها أن تدوم على ذكر ربها ولا تنساه فإنه سبحانه هو الغاية، ونسيان الغاية يستعقب نسيان الطريق فمن نسى ربه نسى نفسه، ولم يعد لغده ومستقبل مسيره زادا يتزود به ويعيش باستعماله وهو الهلاك، وهذا معنى ما رواه الفريقان عن النبي صلى الله ععليه وآله وسلم: من عرف نفسه فقد عرف ربه. وهذا المعنى هو الذى يؤيده التدبر التام والاعتبار الصحيح فإن الانسان في مسير حياته إلى أي غاية امتدت لا هم له في الحقيقة إلا خير نفسه وسعادة حياته وإن اشتغل في ظاهر الامر ببعض ما يعود نفعه إلى غيره، قال تعالى: " إن أحسنتم أحسنتم لانفسكم وإن أسأتم فلها ". وليس هناك إلا هذا الانسان الذى يتطور طورا بعد طور، ويركب طبقا عن طبق من جنين وصبى وشاب وكهل وشيخ ثم الذى يديم الحياة في البرزخ ثم يوم القيامة
________________________________________
[ 166 ]
ثم ما بعده من جنة أو نار، فهذه هي المسافة التى يقطعها الانسان من موقفه في أول تكونه إلى أن ينتهى إلى ربه، قال تعالى: " وأن إلى ربك المنتهى " (النجم: 42). وهو الانسان لا يطأ موطأ في مسيره ولا يسير ولا يسرى إلا بأعمال قلبية هي الاعتقادات ونحوها وأعمال جوارحية صالحة أو طالحة، وما أنتجه عمله يوما كان هو زاده غدا فالنفس هو طريق الانسان إلى ربه، والله سبحانه هو غايته في مسيره. وهذا طريق اضطرارى لا مناص للانسان عن سلوكه كما يدل عليه قوله تعالى: " يا أيها الانسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " (الانشقاق: 6)، فهذا طريق ضروري السلوك يشترك فيه المؤمن والكافر والملتفت المتنبه والغافل العامه، والاية لا تريد الحث على لزومه بمعنى البعث على سلوكه ممن لا يسلك. وإنما تريد الاية تنبيه المؤمنين على هذه الحقيقة بعد غفلتهم عنها، فإن هذه الحقيقة كسائر الحقائق التكوينية وإن كانت ثابتة غير متغيرة بالعلم والجهل لكن التفات الانسان إليها يؤثر في عمله تأثيرا بارزا، والاعمال التى تربى النفس الانسانية تربية مناسبة لسنخها وإذا كان العمل ملائما لواقع الامر مناسبا لغاية الصنع والايجاد كانت النفس المستكملة بها سعيدة في جدها، غير خائبة في سعيها ولا خاسرة في صفقتها، وقد مر بيان ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب بما لا يبقى معه ريب. وتوضيح ذلك بما يناسب هذا المقام أن الانسان كغيره من خلق الله سبحانه واقع تحت التربية الالهية من دون أن يفوته تعالى شئ من أمره، وقد قال تعالى: " ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربى على صراط مستقيم " (هود: 56) وهذه تربية تكوينية على حد ما يربى الله سبحانه غيره من الامور، في مسيرها جميعا إليه تعالى، وقد قال: " ألا إلى الله تصير الامور " (الشورى: 53) ولا يتفاوت الامر ولا يختلف الحال في هذه التربية بين شئ وشئ فإن الصراط مستقيم، والامر متشابه مطرد، وقد قال تعالى أيضا: " ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت " (الملك: 3). وقد جعل سبحانه غاية الانسان وما ينتهى إليه أمره ويستقر عليه عاقبته من حيث السعادة والشقاوة والفلاح والخيبة مبنية على أحوال وأخلاق نفسانية مبنية على أعمال من الانسان تنقسم تلك الاعمال إلى صالحة وطالحة وتقوى وفجور كما قال تعالى: " ونفس
________________________________________
[ 167 ]
وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " (الشمس: 10) فالايات - كما ترى - تضع النفس المسواة في جانب وهو مبدء الحال، والفلاح والخيبة في جانب وهو الغاية ومنتهى المسير، ثم تبنى الغايتين أعنى الفلاح والخيبة على تزكية النفس وتدسيتها وذلك مرحلة الاخلاق، ثم تبنى الفضيلة والرذيلة على التقوى والفجور أعنى الاعمال الصالحة والطالحة التى تنطق الايات بأن الانسان ملهم بها من جانب الله تعالى. والايات في بيانها لا تتعدى طور النفس بمعنى أنها تعتبر النفس هي المخلوقة المسواة وهى التى أضيف إليها الفجور والتقوى، وهى التى تزكى وتدسى، وهى التى يفلح فيها الانسان ويخيب، وهذا كما عرفت جرى على مقتضى التكوين. لكن هذه الحقيقة التكوينية أعنى كون الانسان في حياته سائرا في مسير نفسه لا يسعه التخطي عنها ولو بخطوة، ولا تركها والخروج منها ولو لحظة، لا يتساوى حال من تنبه له وتذكر به تذكرا لازما لا يتطرق إليه نسيان، وحال من غفل عنه ونسى الواقع الذى لا مفر له منه، وقد قال تعالى: " هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر اولوا الالباب " (الزمر: 9). وقال تعالى: " فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى، قال ربى لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى " (طه: 126). وذلك أأن المتنبه إلى هذه الحقيقة حيثما يلتفت إلى حقيقة موقفه من ربه ونسبته إلى سائر أجزاء العالم وجد نفسه منقطعة عن غيره وقد كان يجدها على غير هذا النعت ومضروبا دونها الحجاب لا يمسها بالاحاطة والتأثير إلا ربها المدبر لامرها الذى يدفعها من ورائها ويجذبها إلى قدامها بقدرته وهدايته، ووجدها خالية بربها ليس لها من دونه من وال، وعند ذلك يفقه معنى قوله تعالى: " إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون " بعد قوله: " عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " ومعنى قوله تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " (الانعام: 122).
________________________________________
[ 168 ]
وعند ذلك يتبدل إدراك النفس وشعورها، ويهاجر من موطن الشرك إلى موقف العبودية ومقام التوحيد، ولا يزال يعوض شركا من توحيد وتوهما من تحقق وبعدا من قرب واستكبارا شيطانيا من تواضع رحماني واستغناء وهميا من فقر عبودي إن أخذت بيدها العناية الالهية وساقها سائق التوفيق. ونحن وإن كان لا يسعنا أن نفقه هذه المعاني حق الفقه لمكان إخلادنا إلى الارض واشتغالنا عن الغوص في أغوار هذه الحقائق التى يكشف عنها الدين ويشير إليها الكتاب الالهى بما لا يعنينا من فضولات هذه الحياة الفانية التى لا يعرفها الكلام الالهى في بيانه إلا بأنها لعب ولهو كما قال تعالى: " وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو " (الانعام: 32) وقال تعالى: " ذلك مبلغهم من العلم " (النجم: 30). إلا أن الاعتبار الصحيح والبحث البالغ والتدبر الوافى يوصلنا إلى التصديق بكلياتها إجمالا وإن قصرنا عن إحصاء التفاصيل والله الهادى. ولعلنا خرجنا عن طور الاختصار فلنرجع إلى أول الكلام فنقول: وتسع الاية أن تحمل على الخطاب الاجتماعي بأن يكون المخاطب بقوله: " يا أيها الذين آمنوا " مجتمع المؤمنين فيكون المراد بقوله: " عليكم أنفسكم " هو إصلاح المؤمنين مجتمعهم الاسلامي باتخاذ صفة الاهتداء بالهداية الالهية بأن يحتفظوا على معارفهم الدينية والاعمال الصالحة والشعائر الاسلامية العامة كما قال تعالى: " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " (آل عمران: 103) وقد تقدم في تفسيره أن المراد بهذا الاعتصام الاجتماعي الاخذ بالكتاب والسنة. ويكون قوله: " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " يراد به أنهم في أمن من أضرار المجتمعات الضالة غير الاسلامية فليس من الواجب على المسلمين أن يبالغوا الجد في انتشار الاسلام بين الطوائف غير المسلمة أزيد من الدعوة المتعارفة كما تقدم. أو أنه لا يجوز لهم أن ينسلوا مما بأيديهم من الهدى من مشاهدة ما عليه المجتمعات الضالة من الانهماك في الشهوات والتمتع من مزايا العيش الباطلة فإن الجميع مرجعهم إلى الله فينبئهم بما كانوا يعملون، وتجرى الاية على هذا مجرى قوله تعالى: " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد " (آل عمران:
________________________________________
[ 169 ]
197)، وقوله: " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا " (طه: 131). وهنا معنى آخر لقوله: " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " من جهة أن المنفى في الاية هو الاضرار المنسوب إلى نفس الضالين دون شئ معين من صفاتهم أو أعمالهم فتفيد الاطلاق، ويكون المعنى نفى أن يكون الكفار ضارين للمجتمع الاسلامي بتبديله مجتمعا غير إسلامى بقوة قهرية فتكون الاية مسوقه ة سوق قوله تعالى: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون " (المائدة: 3)، وقوله: " لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الادبار " (آل عمران: 111). وقد ذكر جمع من مفسري السلف أن مفاد الاية هو الترخيص في ترك الدعوة الدينية والامر بالمعروف والنهى عن المنكر، وذكروا أن الاية خاصة تختص بزمان أو حال لا يوجد فيه شرط الدعوة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهو الامن من الضرر وقد رووا في ذلك روايات ستأتي الاشارة إليها في البحث الروائي الاتى. ولازم هذا المعنى أن يكون قوله: " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " كناية عن انتفاء التكليف أي لا تكليف عليكم في ذلك وإلا فتضرر المجتمع الدينى من شيوع الضلال من كفر أو فسق مما لا يرتاب فيه ذو ريب. لكن ذلك معنى بعيد لا يحتمله سياق الاية فإن الاية لو أخذت مخصصة لعمومات وجوب الدعوة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر فلسانها ليس لسان التخصيص، وإن أخذت ناسخة فآيات الدعوة والامر بالمعروف والنهى عن المنكر آبية من النسخ، وللكلام تتمة ستوافيك. (بحث روائي) في الغرر والدرر للامدي عن على عليه السلام قال: من عرف نفسه عرف ربه. اقول: ورواه الفريقان عن النبي أيضا، وهو حديث مشهور، وقد ذكر بعض العلماء: أنه من تعليق المحال، ومفاده استحالة معرفة النفس لاستحالة الاحاطة العلمية
________________________________________
[ 170 ]
بالله سبحانه، ورد أولا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في رواية أخرى: أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه، وثانيا بأن الحديث في معنى عكس النقيض لقوله تعالى: " ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ". وفيه عنه عليه السلام: قال: الكيس من عرف نفسه وأخلص أعماله. اقول: تقدم في البيان السابق معنى ارتباط الاخلاص وتفرعه على الاشتغال بمعرفة النفس. وفيه عنه عليه السلام: قال: المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين. اقول: الظاهر أن المراد بالمعرفتين المعرفة بالايات الانفسية والمعرفة بالايات الافاقية، قال تعالى: " سنريهم آياتنا في الافاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد " " حم السجدة: 53 " وقال تعالى: " وفي الارض آيات للموقنين، وفي أنفسكم أفلا تبصرون " (الذاريات: 21). وكون السير الا نفسي أنفع من السير الافاقى لعله لكون المعرفة النفسانية لا تنفك عادة من إصلاح أوصافها وأعمالها بخلاف المعرفة الافاقية، وذلك أن كون معرفة الايات نافعة إنما هو لان معرفة الايات بما هي آيات موصلة إلى معرفة الله سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله ككونه تعالى حيا لا يعرضه موت، وقادرا لا يشوبه عجز، وعالما لا يخالطه جهل، وأنه تعالى هو الخالق لكل شئ، والمالك لكل شئ، والرب القائم على كل نفس بما كسبت، خلق الخلق لا لحاجة منه إليهم بل لينعم عليهم بما استحقوه ثم يجمعهم ليوم الجمع لا ريب فيه ليجزى الذين أساؤوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى. وهذه وأمثالها معارف حقة إذا تناولها الانسان وأتقنها مثلت له حقيقة حياته، وأنها حياة مؤبدة ذات سعادة دائمة أو شقوة لازمة، وليست بتلك المتهوسة المنقطعة اللاهية اللاغية، وهذا موقف علمي يهدى الانسان إلى تكاليف ووظائف بالنسبة إلى ربه وبالنسبة إلى أبناء نوعه في الحياة الدنيا والحياة الاخرة، وهى التى نسميها بالدين، فإن السنة التى يلتزمها الانسان في حياته، ولا يخلو عنها حتى البدوى والهمجى إنما يضعها ويلتزمها أو يأخذها ويلتزمها لنفسه من حيث إنه يقدر لنفسه نوعا من الحياة أي نوع كان،
________________________________________
[ 171 ]
ثم يعمل بما استحسنه من السنة لاسعاد تلك الحياة، وهذا من الوضوح بمكان. فالحياة التى يقدرها الانسان لنفسه تمثل له الحوائج المناسبة لها فيهتدى بها إلى الاعمال التى تضمن عادة رفع تلك الحوائج فيطبق الانسان عمله عليها وهو السنة أو الدين. فتخلص مما ذكرنا أن النظر في الايات الانفسية والافاقية ومعرفة الله سبحانه بها يهدى الانسان إلى التمسك بالدين الحق والشريعة الالهية من جهة تمثيل المعرفة المذكورة الحياة الانسانية المؤبدة له عند ذلك، وتعلقها بالتوحيد والمعاد والنبوة. وهذه هداية إلى الايمان والتقوى يشترك فيها الطريقان معا أعنى طريقي النظر إلى الافاق والانفس فهما نافعان جميعا غير أن النظر إلى آيات النفس أنفع فإنه لا يخلو من العثور على ذات النفس وقواها وأدواتها الروحية والبدنية وما يعرضها من الاعتدال في أمرها أو طغيانها أو خمودها والملكات الفاضلة أو الرذيلة، والاحوال الحسنة أو السيئة التى تقارنها. واشتغال الانسان بمعرفة هذه الامور والاذعان بما يلزمها من أمن أو خطر وسعادة أو شقاوة لا ينفك من أن يعرفه الداء والدواء من موقف قريب فيشتغل بإصلاح الفاسد منها، والالتزام بصحيحها بخلاف النظر في الايات الافاقية فإنه وإن دعا إلى إصلاح النفس وتطهيرها من سفاسف الاخلاق ورذائلها، وتحليتها بالفضائل الروحية لكنه ينادى لذلك من مكان بعيد، وهو ظاهر. وللرواية معنى آخر أدق مستخرج من نتائج الابحاث الحقيقية في علم النفس وهو أن النظر في الايات الافاقية والمعرفة الحاصلة من ذلك نظر فكرى وعلم حصولي بخلاف النظر في النفس وقواها وأطوار وجودها والمعرفة المتجلية منها فإنه نظر شهودي وعلم حضوري، والتصديق الفكري يحتاج في تحققه إلى نظم الاقيسة واستعمال البرهان، وهو باق ما دام الانسان متوجها إلى مقدماته غير ذاهل عنها ولا مشتغل بغيرها، ولذلك يزول العلم بزوال الاشراف على دليله وتكثر فيه الشبهات ويثور فيه الاختلاف. وهذا بخلاف العلم النفساني بالنفس وقواها وأطوار وجودها فإنه من العيان فإذا اشتغل الانسان بالنظر إلى آيات نفسه، وشاهد فقرها إلى ربها، وحاجتها في جميع أطوار وجودها، وجد أمرا عجيبا، وجد نفسه متعلقة بالعظمة والكبرياء متصلة في
________________________________________
[ 172 ]
وجودها وحياتها وعلمها وقدرتها وسمعها وبصرها وإرادتها وحبها وسائر صفاتها وأفعالها بما لا يتناهى بهاء وسناء وجمالا وجلالا وكمالا من الوجود والحياة والعلم والقدرة، وغيرها من كل كمال. وشاهد ما تقدم بيانه أن النفس الانسانية لا شأن لها إلا في نفسها، ولا مخرج لها من نفسها، ولا شغل لها إلا السير الاضطراري في مسير نفسها، وأنها منقطعة عن كل شئ كانت تظن أنها مجتمعة معه مختلطة به إلا ربها المحيط بباطنها وظاهرها وكل شئ دونها فوجدت أنها دائما في خلا مع ربها وإن كانت في ملا من الناس. وعند ذلك تنصرف عن كل شئ وتتوجه إلى ربها وتنسى كل شئ وتذكر ربها فلا يحجبه عنها حجاب ولا تستتر عنه بستر وهو حق المعرفة الذى قدر لانسان. وهذه المعرفة الاحرى بها أن تسمى بمعرفة الله بالله، وأما المعرفة الفكرية التى يفيدها النظر في الايات الافاقية سواء حصلت من قياس أو حدس أو غير ذلك فإنما هي معرفة بصورة ذهنية عن صورة ذهنية، وجل الاله أن يحيط به ذهن أو تساوى ذاته صورة مختلقة اختلقها خلق من خلقه، ولا يحيطون به علما. وقد روى في الارشاد والاحتجاج على ما في البحار عن الشعبى عن أمير المؤمنين عليه السلام في كلام له: إن الله أجل من أن يحتجب عن شئ أو يحتجب عنه شئ. وفي التوحيد عن موسى بن جعفر عليه السلام في كلام له: ليس بينه وبين خلقه حجاب غير خلقه احتجب بغير حجاب محجوب واستتر بغير ستر مستور لا إله إلا هو الكبير المتعال. وفي التوحيد مسندا عن عبد الاعلى عن الصادق عليه السلام في حديث: ومن زعم أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك لان الحجاب والصورة والمثال غيره، وإنما هو واحد موحد فكيف يوحد من زعم أنه يوحده بغيره إنما عرف الله من عرفه بالله فمن لم يعرفه به فليس يعرفه إنما يعرف غيره، الحديث. والاخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في معنى ما قدمناه كثيرة جدا لعل الله يوفقنا لايرادها وشرحها في ما سيأتي إن شاء الله العزيز من تفسير سورة الاعراف. فقد تحصل أن النظر في آيات الانفس أنفس وأغلى قيمة وأنه هو المنتج لحقيقة المعرفة فحسب، وعلى هذا فعده عليه السلام إياها أنفع المعرفتين لا معرفة متعينة إنما هو
________________________________________
[ 173 ]
لان العامة من الناس قاصرون عن نيلها، وقد أطبق الكتاب والسنة وجرت السيرة الطاهرة النبوية وسيرة أهل بيته الطاهرين على قبول من آمن بالله عن نظر آفاقى وهو النظر الشائع بين المؤمنين فالطريقان نافعان جميعا لكن النفع في طريق النفس أتم وأغزر. وفي الدرر والغررعن على عليه السلام قال: العارف من عرف نفسه فأعتقها ونزهها عن كل ما يبعدها. اقول: أي أعتقها عن أسارة الهوى ورقية الشهوات. وفيه عنه عليه السلام قال: أعظم الجهل جهل الانسان أمر نفسه. وفيه عنه عليه السلام قال: أعظم الحكمة معرفة الانسان نفسه. وفيه عنه عليه السلام قال: أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربه. اقول: وذلك لكونه أعلمهم بربه وأعرفهم به، وقد قال الله سبحانه: " إنما يخشى الله من عباده العلماء ". وفيه عنه عليه السلام قال: أفضل العقل معرفة المرء بنفسه فمن عرف نفسه عقل، ومن جهلها ضل. وفيه عنه عليه السلام قال: عجبت لمن ينشد ضالته، وقد أضل نفسه فلا يطلبها. وفيه عنه عليه السلام قال: عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربه ؟. وفيه عنه عليه السلام قال: غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه. أقول: وقد تقدم وجه كونها غاية المعرفة فإنها المعرفة حقيقة. وفيه عنه عليه السلام قال: كيف يعرف غيره من يجهل نفسه. وفيه عنه عليه السلام قال: كفى بالمرء معرفة أن يعرف نفسه، وكفى بالمرء جهلا أن يجهل نفسه. وفيه عنه عليه السلام قال: من عرف نفسه تجرد.
________________________________________
[ 174 ]
اقول: أي تجرد عن علائق الدنيا، أو تجرد عن الناس بالاعتزال عنهم، أو تجرد عن كل شئ بالاخلاص لله. وفيه عنه عليه السلام قال: من عرف نفسه جاهدها، ومن جهل نفسه أهملها. وفيه عنه عليه السلام قال: من عرف نفسه جل أمره. وفيه عنه عليه السلام قال: من عرف نفسه كان لغيره أعرف ومن جهل نفسه كان بغيره أجهل. وفيه عنه عليه السلام قال: من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كل معرفة وعلم. وفيه عنه عليه السلام قال: من لم يعرف نفسه بعد عن سبيل النجاة، وخبط في الضلال والجهالات. وفيه عنه عليه السلام قال: معرفة النفس أنفع المعارف. وفيه عنه عليه السلام قال: نال الفوز الاكبر من ظفر بمعرفة النفس. وفيه عنه عليه السلام قال: لا تجهل نفسك فإن الجاهل معرفة نفسه جاهل بكل شئ. وفي تحف العقول عن الصادق عليه السلام في حديث: من زعم أنه يعرف الله بتوهم القلوب فهو مشرك، ومن زعم أنه يعرف الله بالاسم دون المعنى فقد أقر بالطعن لان الاسم محدث، ومن زعم أنه يعبد الاسم والمعنى فقد جعل مع الله شريكا، ومن زعم أنه يعبد بالصفة لا بالادراك فقد أحال على غائب، ومن زعم أنه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغر بالكبير، وما قدروا الله حق قدره. قيل له: فكيف سبيل التوحيد ؟ قال: باب البحث ممكن وطلب المخرج موجود إن معرفة عين الشاهد قبل صفته، ومعرفة صفة الغائب قبل عينه. قيل: وكيف يعرف عين الشاهد قبل صفته ؟ قال: تعرفه وتعلم علمه، وتعرف نفسك به ولا تعرف نفسك من نفسك، وتعلم أن ما فيه له وبه كما قالوا ليوسف: " إنك لانت يوسف " قال: " أنا يوسف وهذا أخى " فعرفوه به ولم يعرفوه بغيره، ولا أثبتوه
________________________________________
[ 175 ]
من أنفسهم بتوهم القلوب، الحديث. أقول: قد أوضحنا في ذيل قوله عليه السلام: المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين (الرواية الثانية من الباب) أن الانسان إذا اشتغل بآية نفسه وخلا بها عن غيرها انقطع إلى ربه من كل شئ، وعقب ذلك معرفه ربه معرفة بلا توسيط وسط، وعلما بلا تسبيب سبب إذ الانقطاع يرفع كل حجاب مضروب، وعند ذلك يذهل الانسان بمشاهدة ساحة العظمة والكبرياء عن نفسه، وأحرى بهذه المعرفة أن تسمى معرفة الله بالله. وانكشف له عند ذلك من حقيقة نفسه أنها الفقيرة إلى الله سبحانه المملوكة له ملكا لا تستقل بشئ دونه، وهذا هو المراد بقوله عليه السلام: " تعرف نفسك به، ولا تعرف نفسك بنفسك من نفسك، وتعلم أن ما فيه له وبه ". وفي هذا المعنى ما رواه المسعودي في إثبات الوصية عن أمير المؤمنين عليه السلام قال في خطبة له: " فسبحانك ملات كل شئ وباينت كل شئ فأنت لا يفقدك شئ وأنت الفعال لما تشاء تباركت يا من كل مدرك من خلقه، وكل محدود من صنعه. - إلى أن قال - سبحانك أي عين تقوم نصب بهاء نورك، وترقى إلى نور ضياء قدرتك، وأى فهم يفهم ما دون ذلك إلا أبصار كشفت عنها الاغطية، وهتكت عنها الحجب العمية، فرقت أرواحها على أطراف أجنحة الارواح، فناجوك في أركانك، وولجوا بين أنوار بهائك، ونظروا من مرتقى التربة إلى مستوى كبريائك، فسماهم أهل الملكوت زوارا، ودعاهم أهل الجبروت عمارا ". وفي البحار عن إرشاد الديلمى - وذكر بعد ذلك سندين لهذا الحديث - وفيه: " فمن عمل برضائى ألزمه ثلاث خصال: أعرفه شكرا لا يخالطه الجهل وذكرا لا يخالطه النسيان، ومحبة لا يؤثر على محبتى محبة المخلوقين. فإذا أحبنى أحببته، وأفتح عين قلبه إلى جلالى، ولا أخفى عليه خاصة خلقي، وأناجيه في ظلم الليل ونور النهار حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم، وأسمعه كلامي وكلام ملائكتي، وأعرفه السر الذى سترته عن خلقي، وألبسه الحياء حتى يستحيى منه الخلق كلهم، ويمشى على الارض مغفورا له، وأجعل قلبه واعيا


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page