• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 326الي 350


[ 326 ]
يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم - 37. والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله عزيز حكيم - 38. فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم - 39. ألم تعلم أن الله له ملك السموات والارض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شئ قدير - 40. (بيان) الايات غير خالية الارتباط بما قبلها، فان ما تقدمها من قصة قتل ابن آدم أخاه وما كتبه الله سبحانه على بنى إسرائيل من اجله، وان كان من تتمة الكلام على بنى إسرائيل وبيان حالهم من غير أن يشتمل على حد أو حكم بالمطابقة لكنها لا تخلو بحسب لازم مضمونها من مناسبة مع هذه الايات المتعرضة لحد المفسدين في الارض والسراق. قوله تعالى: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا ". " فسادا " مصدر وضع موضع الحال، ومحاربة الله وإن كانت بعد استحالة معناها الحقيقي وتعين إرادة المعنى المجازى منها ذات معنى وسيع يصدق على مخالفة كل حكم من الاحكام الشرعية وكل ظلم وإسراف لكن ضم الرسول إليه يهدى إلى ان المراد بها بعض ما للرسول فيه دخل، فيكون كالمتعين ان يراد بها ما يرجع إلى إبطال اثر ما للرسول عليه ولاية من جانب الله سبحانه كمحاربة الكفار مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم واخلال قطاع الطريق بالامن العام الذى بسطه بولايته على الارض، وتعقب الجملة بقوله: ويسعون في الارض فسادا " يشخص المعنى المراد وهو الافساد في الارض بالاخلال بالامن وقطع الطريق دون مطلق المحاربة مع المسلمين، على ان الضرورة قاضية بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعامل المحاربين من الكفار بعد الظهور عليهم والظفر بهم هذه المعاملة من القتل والصلب والمثلة والنفى. على ان الاستثناء في الاية التالية قرينة على كون المراد بالمحاربة هو الافساد المذكور
________________________________________
[ 327 ]
فانه ظاهر في ان التوبة انما هي من المحاربة دون الشرك ونحوه. فالمراد بالمحاربة والافساد على ما هو الظاهر هو الاخلال بالامن العام، والامن العام انما يختل بايجاد الخوف العام وحلوله محله، ولا يكون بحسب الطبع والعادة إلا باستعمال السلاح المهدد بالقتل طبعا ولهذا ورد فيما ورد من السنة تفسير الفساد في الارض بشهر السيف ونحوه، وسيجئ في البحث الروائي التالى إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " ان يقتلوا أو يصلبوا " (الخ) التقتيل والتصليب والتقطيع تفعيل من القتل والصلب والقطع يفيد شدة في معنى المجرد أو زيادة فيه، ولفظة " أو " إنما تدل على الترديد المقابل للجمع، واما الترتيب أو التخيير بين أطراف الترديد فإنما يستفاد احدهما من قرينة خارجية حالية أو مقالية فالاية غير خالية عن الاجمال من هذه الجهة. وإنما تبينها السنة وسيجئ ان المروى عن ائمة أهل البيت عليهم السلام ان الحدود الاربعة مترتبة بحسب درجات الافساد كمن شهر سيفا فقتل النفس وأخذ المال أو قتل فقط أو أخذ المال فقط أو شهر سيفا فقط على ما سيأتي في البحث الروائي التالى ان شاء الله. وأما قوله: " أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف " فالمراد بكونه من خلاف أن يأخذ القطع كلا من اليد والرجل من جانب مخالف لجانب الاخرى كاليد اليمنى والرجل اليسرى، وهذا هو القرينة على كون المراد بقطع الايدى والارجل قطع بعضها دون الجميع أي إحدى اليدين وإحدى الرجلين مع مراعاة مخالفة الجانب. وأما قوله: " أو ينفوا من الارض " فالنفي هو الطرد والتغييب وفسر في السنة بطرده من بلد إلى بلد. وفي الاية أبحاث أخر فقهية تطلب من كتب الفقه. قوله تعالى: " ذلك لهم خزى في الدنيا ولهم في الاخرة عذاب عظيم " الخزى هو الفضيحة، والمعنى ظاهر. وقد استدل بالاية على أن جريان الحد على المجرم لا يستلزم ارتفاع عذاب الاخرة، وهو حق في الجملة. قوله تعالى: " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " (الخ) وأما بعد القبض
________________________________________
[ 328 ]
عليهم وقيام البينة فإن الحد غير ساقط، وأما قوله تعالى: " فاعلموا أن الله غفور رحيم " فهو كناية عن رفع الحد عنهم، والاية من موارد تعلق المغفرة بغير الامر الاخروي. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة " (الخ) قال الراغب في المفردات: الوسيلة التوصل إلى الشئ برغبة، وهى أخص من الوسيلة لتضمنها لمعنى الرغبة، قال تعالى: وابتغوا إليه الوسيلة، وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم والعبادة، وتحرى مكارم الشريعة، وهى كالقربة وإذ كانت نوعا من التوصل وليس إلا توصلا واتصالا معنويا بما يوصل بين العبد وربه ويربط هذا بذاك، ولا رابط يربط العبد بربه إلا ذلة العبودية، فالوسيلة هي التحقق بحقيقة العبودية وتوجيه وجه المسكنة والفقر إلى جنابة تعالى، فهذه هي الوسيلة الرابطة، وأما العلم والعمل فإنما هما من لوازمها وأدواتها كما هو ظاهر إلا أن يطلق العلم والعمل على نفس هذه الحاله. ومن هنا يظهر أن المراد بقوله: " وجاهدوا في سبيله " مطلق الجهاد الذى يعم جهاد النفس وجهاد الكفار جميعا إذ لا دليل على تخصيصه بجهاد الكفار مع اتصال الجملة بما تقدمها من حديث ابتغاء الوسيلة، وقد عرفت ما معناه: على أن الايتين التاليتين بما تشتملان عليه من التعليل إنما تناسبان إرادة مطلق الجهاد من قوله: " وجاهدوا في سبيله ". ومع ذلك فمن الممكن أن يكون المراد بالجهاد هو القتال مع الكفار نظرا إلى أن تقييد الجهاد بكونه في سبيل الله إنما وقع في الايات الامرة بالجهاد بمعنى القتال، وأما الاعم فخال عن التقييد كقوله تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله مع المحسنين " (العنكبوت: 69) وعلى هذا فالامر بالجهاد في سبيل الله بعد الامر بابتغاء الوسيلة إليه من قبيل ذكر الخاص بعد العام اهتماما بشأنه ولعل الامر بابتغاء الوسيلة إليه بعد الامر بالتقوى أيضا من هذا القبيل. قوله تعالى: " إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الارض " (إلى آخر الايتين) ظاهره - كما تقدمت الاشارة إليه - أن يكون تعليلا لمضمون الاية السابقة، والمحصل أنه يجب عليكم أن تتقوا الله وتبتغوا إليه الوسيلة وتجاهدوا في سبيله فإن ذلك أمر يهمكم في صرف عذاب أليم مقيم عن انفسكم، ولا بدل له يحل محله فإن الذين كفروا فلم يتقوا الله ولم يبتغوا إليه الوسيلة ولم يجاهدوا في سبيله لو انهم ملكوا ما في الارض جميعا - وهو اقصى ما يتمناه
________________________________________
[ 329 ]
ابن آدم من الملك الدنيوي عادة - ثم زيد عليه مثله ليكون لهم ضعفا ما في الارض ثم ارادوا ان يفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم ولهم عذاب اليم يريدون ان يخرجوا من النار وهى العذاب وما هم بخارجين منها لانه عذاب خالد مقيم عليهم لا يفارقهم ابدا. وفى الاية إشارة اولا إلى ان العذاب هو الاصل القريب من الانسان وانما يصرف عنه الايمان والتقوى كما يشير إليه قوله تعالى: " وان منكم الا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا " (مريم: 72) وكذا قوله: " ان الانسان لفى خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " (العصر: 3). وثانيا: أن الفطرة الاصلية الانسانية وهى التى تتألم من النار غير باطلة فيهم ولا منتفية عنهم وإلا لم يتألموا ولم يتعذبوا بها ولم يريدوا الخروج منها. قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (الاية) الواو للاستيناف والكلام في مقام التفصيل فهو في معنى: " وأما السارق والسارقة (الخ) ولذلك دخل الفاء في الخبر أعنى قوله: " فاقطعوا أيديهما " لانه في معنى جواب أما، كذا قيل. و أما استعمال الجمع في قوله: " أيديهما " مع أن المراد هو المثنى فقد قيل: إنه استعمال شائع، والوجه فيه: أن بعض الاعضاء أو أكثرها في الانسان مزدوجة كالقرنين والعينين والاذنين واليدين والرجلين والقدمين، وإذا أضيفت هذه إلى المثنى صارت أربعا ولها لفظ الجمع كأعينهما وأيديهما وأرجلهما ونحو ذلك ثم اطرد الجمع في الكلام إذا أضيف عضو إلى المثنى وإن لم يكن العضو من المزدوجات كقولهم: ملات ظهورهما وبطونهما ضربا، قال تعالى: " إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما " (التحريم: 4) واليد ما دون المنكب والمراد بها في الاية اليمين بتفسير السنة، ويصدق قطع اليد بفصل بعض أجزائها أو جميعها عن البدن بآلة قطاعة. قوله: " جزاء بما كسبا نكالا من الله " الظاهر أنه في موضع الحال من القطع المفهوم من قوله: " فاقطعوا " أي حال كون القطع جزاء بما كسبا نكالا من الله، والنكال هو العقوبة التى يعاقب بها المجرم لينتهى عن إجرامه، و يعتبر بها غيره من الناس. وهذا المعنى أعنى كون القطع نكالا هو المصحح لان يتفرع عليه قوله: " فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه (الخ) أي لما كان القطع نكالا يراد به رجوع
________________________________________
[ 330 ]
المنكول به عن معصيته فمن تاب من بعد ظلمه توبة ثم أصلح ولم يحم حول السرقة - وهذا أمر يستثبت به معنى التوبة - فإن الله يتوب عليه ويرجع إليه بالمغفرة والرحمة لان الله غفور رحيم، قال تعالى: " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما " (النساء: 147). وفى الاية أبحاث أخر كثيرة فقهية للطالب أن يراجع فيها كتب الفقه. قوله تعالى: " ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والارض " (الاية) في موضع التعليل لما ذكر في الاية السابقة من قبول توبة السارق والسارقة إذا تابا وأصلحا من بعد ظلمهما فإن الله سبحانه لما كان له ملك السموات والارض، وللملك أن يحكم في مملكته ورعيته بما أحب وأراد من عذاب أو رحمة كان له تعالى أن يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء على حسب الحكمة والمصلحة فيعذب السارق والسارقة إن لم يتوبا، ويغفر لهما إن تابا. وقوله: " والله على كل شئ قدير " في موضع التعليل لقوله: " له ملك السماوات والارض " فإن الملك (بضم الميم) من شؤن القدرة، كما أن الملك (بكسر الميم) من فروع الخلق والايجاد اعني القيمومة الالهية. بيان ذلك: ان الله تعالى خالق الاشياء وموجدها فما من شئ إلا وما له من نفسه وآثار نفسه لله سبحانه، هو المعطى لما اعطى والمانع لما منع، فله ان يتصرف في كل شئ وهذا هو الملك (بكسر الميم) قال تعالى: " قل الله خالق كل شئ وهو الواحد القهار " (الرعد: 16)، وقال: " الله لا إله إلا هو الحى القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الارض " (البقرة: 255) وهو تعالى مع ذلك قادر على أي تصرف شاء واراد إذ كلما فرض من شئ فهو منه فله مضى الحكم ونفوذ الارادة وهو الملك (بضم الميم) والسلطنة على كل شئ فهو تعالى مالك لانه قيوم على كل شئ، وملك لانه قادر غير عاجز ولا ممنوع من نفوذ مشيئته وإرادته. (بحث ورائي) في الكافي بإسناده عن ابى صالح، عن ابى عبد الله عليه السلام قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوم من بنى ضبة مرضى فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اقيموا عندي فإذا برأتم بعثتكم
________________________________________
[ 331 ]
في سرية، فقالوا: أخرجنا من المدينة، فبعث بهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبوالها، ويأكلون من ألبانها فلما برأوا واشتدوا قتلوا ثلاثة ممن كان في الابل فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبعث إليهم عليا عليه السلام وإذا هم في واد قد تحيروا ليس يقدرون أن يخرجوا منه قريبا من أرض اليمن فأسرهم وجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت هذه الاية: " انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا ان يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع ايديهم وارجلهم من خلاف ". اقول: ورواه في التهذيب بإسناده عن ابى صالح عنه عليه السلام، باختلاف يسير، ورواه العياشي في تفسيره عنه عليه السلام وزاد في آخره فاختار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان يقطع ايديهم وارجلهم من خلاف، والقصة مروية في جوامع اهل السنة ومنها الصحاح الستة بطرق على اختلاف في خصوصياتها، ومنها ما وقع في بعضها ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ان ظفر بهم قطع ايديهم وارجلهم من خلاف وسمل اعينهم، وفى بعضها: فقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم وصلب وقطع وسمل الاعين، وفي بعضها: انه سمل اعينهم لانهم سملوا اعين الرعاة، وفي بعضها: ان الله نهاه عن سمل الاعين، وان الاية نزلت معاتبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في امر هذه المثلة، وفي بعضها: انه اراد ان يسمل اعينهم ولم يسمل، إلى غير ذلك. والروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام خالية عن ذكر سمل الاعين. وفي الكافي بإسناده عن عمرو بن عثمان بن عبيد الله المدائني عن أبى الحسن الرضا عليه السلام قال: سئل عن قول الله عز وجل: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا " (الاية) فما الذى إذا فعله استوجب واحدة من هذه الاربع ؟ فقال: إذاحارب الله ورسوله وسعى في الارض فسادا فقتل قتل به، وإن قتل وأخذ المال قتل وصلب، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإن شهر السيف فحارب الله ورسوله وسعى في الارض فسادا ولم يقتل ولم يأخذ المال نفى من الارض. قلت كيف ينفى من الارض وما حد نفيه ؟ قال: ينفى من المصر الذى فعل فيه ما فعل إلى مصر غيره، ويكتب إلى أهل ذلك المصر أنه منفى فلا تجالسوه ولا تبايعوه ولا تناكحوه ولا تؤاكلوه ولا تشاربوه فيفعل ذلك به سنة فإن خرج من ذلك المصر إلى غيره كتب إليهم بمثل ذلك حتى تتم السنة، قلت: فإن توجه إلى أرض الشرك ليدخلها ؟ قال: إن توجه إلى أرض الشرك ليدخلها قوتل أهلها.
________________________________________
[ 332 ]
اقول: ورواه الشيخ في التهذيب والعياشي في تفسيره عن أبى إسحاق المدائني عنه صلى الله عليه وآله وسلم والروايات في هذه المعاني مستفيضة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وكذا روى ذلك بعدة طرق من طرق أهل السنة، وفي بعض رواياتهم أن الامام بالخيار إن شاء قتل وإن شاء صلب وإن شاء قطع الايدى والارجل من خلاف وإن شاء نفى، ونظيره ما وقع في بعض روايات الخاصة من كون الامام بالخيار كالذى رواه في الكافي مسندا عن جميل بن دراج عن الصادق عليه السلام: في الاية قال: فقلت: أي شئ عليهم من هذه الحدود التى سمى الله عز وجل ؟ قال: ذلك إلى الامام إن شاء قطع، وإن شاء نفى، وإن شاء صلب، وإن شاء قتل: قلت: النفى إلى أين ؟ قال عليه السلام ينفى من مصر إلى آخر، وقال ان عليا عليه السلام نفى رجلين من الكوفة إلى البصرة. وتمام الكلام في الفقه غير أن الاية لا تخلو عن اشعار بالترتيب بين الحدود بحسب اختلاف مراتب الفساد فإن الترديد بين القتل والصلب والقطع والنفى - وهى أمور غير متعادلة ولا متوازنة بل مختلفة من حيث الشدة والضعف - قرينة عقلية على ذلك. كما ان ظاهر الاية انها حدود للمحاربة والفساد فمن شهر سيفا وسعى في الارض فسادا أو قتل نفسا فإنما يقتل لانه محارب مفسد وليس ذلك قصاصا يقتص منه لقتل النفس المحترمة فلا يسقط القتل لو رضى أولياء المقتول بالدية كما رواه العياشي في تفسيره عن محمد ابن مسلم عن أبى جعفر عليه السلام، وفيه: قال أبو عبيدة أصلحك الله أرايت إن عفى عنه أولياء المقتول ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: إن عفوا عنه فعلى الامام أن يقتله لانه قد حارب وقتل وسرق، فقال أبو عبيدة: فإن أراد أولياء المقتول أن يأخذوا منه الدية ويدعونه ألهم ذلك ؟ قال: لاة عليه القتل. وفى الدر المنثور أخرج ابن أبى شيبة وعبد بن حميد وابن أبى الدنيا في كتاب الاشراف وابن جرير وابن أبى حاتم عن الشعبى قال: كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة قد أفسد في الارض وحارب وكلم رجالا من قريش أن يستأمنوا له عليا فأبوا فأتى سعيد ابن قيس الهمداني فأتى عليا فقال: يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا ؟ قال: أن يقتلوا أو يصلبواأو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض ثم قال: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدورا عليهم. فقال سعيد: وان كان حارثة بن بدر، فقال سعيد: هذا حارثة بن بدر قد جاء تائبا
________________________________________
[ 333 ]
فهو آمن ؟ قال: نعم، قال: فجاء به إليه فبايعه وقبل ذلك منه وكتب له امانا. اقول: قول سعيد في الرواية: " وان كان حارثة بن بدر " ضميمة ضمها إلى الاية لابانة اطلاقها لكل تائب بعد المحاربة والافساد وهذا كثير في الكلام. وفى الكافي بإسناده عن سورة بنى كليب قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام " رجل يخرج من منزله يريد المسجد أو يريد حاجة فيلقاه رجل فيستقفيه فيضربه فيأخذ ثوبه ؟ قال: أي شئ يقول فيه من قبلكم ؟ قلت يقولون: هذه ذعارة معلنة وانما المحارب في قرى مشركة، فقال: ايها اعظم حرمة: دار الاسلام أو دار الشرك ؟ قال: فقلت: دار الاسلام فقال: هؤلاء من أهل هذه الاية: " انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله " (إلى آخر الاية) اقول: ما أشار إليه الراوى من قول القوم هو الذى وقع في بعض روايات الجمهور كما في بعض روايات سبب النزول عن الضحاك قال: نزلت هذه الاية في المشركين، وما في تفسير الطبري: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى انس يسأله عن هذه الاية فكتب إليه انس يخبره: ان هذه الاية نزلت في اولئك النفر من العرنيين وهم من بجيلة، قال انس: فارتدوا عن الاسلام وقتلوا الراعى، واستاقوا الابل، واخافوا السبيل، وأصابوا الفرج الحرام فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرئيل عن القضاء فيمن حارب فقال: من سرق واخاف السبيل واستحل الفرج الحرام فاصلبه، إلى غير ذلك من الروايات. والاية بإطلاقها يؤيد ما في خبر الكافي، ومن المعلوم ان سبب النزول لا يوجب تقيد ظاهر الاية. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة " (الاية) قال: فقال: تقربوا إليه بالامام. اقول: أي بطاعته فهو من قبيل الجرى والانطباق على المصداق، ونظيره ما عن ابن شهر آشوب قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: في قوله تعالى: " وابتغوا إليه الوسيلة " أنا وسيلته. وقريب منه ما في بصائر الدرجات بإسناده عن سلمان عن على عليه السلام، ويمكن أن يكون الروايتان من قبيل التأويل فتدبر فيهما. وفي المجمع: روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: سلوا الله لى الوسيلة فانها درجة في الجنة لا ينالها
________________________________________
[ 334 ]
إلا عبد واحد وأرجو أن اكون أنا هو. وفي المعاني بإسناده عن ابى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا سألتم الله فاسألوا لى الوسيلة، فسألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الوسيلة، فقال: هي درجتي في الجنة (الحديث) وهو طويل معروف بحديث الوسيلة. وانت إذا تدبرت الحديث، وانطباق معنى الاية عليه وجدت ان الوسيلة هي مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من ربه الذى به يتقرب هو إليه تعالى، ويلحق به آله الطاهرون ثم الصالحون من أمته، وقد ورد في بعض الروايات عنهم عليهم السلام: أن رسول الله آخذ بحجزة ربه ونحن آخذون بحجزته، وانتم آخذون بحجزتنا. وإلى ذلك يرجع ما ذكرناه في روايتي القمى وابن شهر آشوب ان من المحتمل أن تكونا من التأويل، ولعلنا نوفق لشرح هذا المعنى في موضع يناسبه مما سيأتي. ومن الملحق بهذه الروايات ما رواه العياشي عن ابى بصير قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: عدو على هم المخلدون في النار قال الله: " وما هم بخارجين منها ". وفي البرهان: في قوله تعالى: " والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما " (الاية) عن التهذيب باسناده عن أبى ابراهيم عليه السلام قال: تقطع يد السارق ويترك إبهامه وراحته، وتقطع رجله ويترك عقبه يمشى عليها. وفي التهذيب ايضا باسناده عن محمد بن مسلم قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: في كم تقطع يد السارق ؟ فقال: في ربع دينار. قال: قلت له: في درهمين ؟ فقال: في ربع دينار بلغ الدينار ما بلغ. قال فقلت له: أرأيت من سرق اقل من ربع الدينار هل يقع عليه حين سرق اسم السارق ؟ وهل هو عند الله سارق في تلك الحال ؟ فقال: كل من سرق من مسلم شيئا قد حواه وأحرزه فهو يقع عليه اسم السارق، وهو عند الله سارق ولكن لا تقطع إلا في ربع دينار أو اكثر، ولو قطعت يد السارق فيما هو أقل من ربع دينار لالفيت عامة الناس مقطعين. اقول: يريد عليه السلام بقوله: ولو قطعت يد السارق (الخ) أن في حكم القطع تخفيفا من الله رحمة منه لعباده، وهذا المعنى اعني اختصاص الحكم بسرقة ربع دينار أو اكثر مروى ببعض طرق الجمهور ايضا ففى صحيحي البخاري ومسلم باسنادهما عن عائشة أن
________________________________________
[ 335 ]
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يقطع يد السارق الا في ربع دينار فصاعدا. وفي تفسير العياشي عن سماعة عن أبى عبد الله عليه السلام: أنه قال: إذا أخذ السارق فقطع وسط الكف فان عاد قطعت رجله من وسط القدم فان عاد استودع السجن فان سرق في السجن قتل. وفيه: عن زرارة عن أبى جعفر عليه السلام: عن رجل سرق وقطعت يده اليمنى ثم سرق فقطعت رجله اليسرى ثم سرق الثالثة ؟ قال: كان امير المؤمنين عليه السلام يخلده في السجن ويقول: انى لاستحيى من ربى ان أدعه بلا يد يستنظف بها ولا رجل يمشى بها إلى حاجته. قال: فكان إذا قطع اليد قطعها دون المفصل، وإذا قطع الرجل قطعها دون الكعبين قال: وكان لا يرى ان يغفل عن شئ من الحدود. وفيه: عن زرقان صاحب ابن ابى دواد وصديقه بشدة قال: رجع ابن ابى دواد ذات يوم من عند المعتصم، وهو مغتم فقلت له في ذلك فقال. وددت اليوم انى قدمت منذ عشرين سنة قال: قلت له: ولم ذاك ؟ قال: لما كان من هذا الاسود أبا جعفر محمد بن على بن موسى اليوم بين يدى امير المؤمنين المعتصم قال: قلت: وكيف كان ذلك ؟ قال: ان سارقا أقر على نفسه بالسرقة وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحد عليه فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه، وقد أحضر محمد بن على فسألنا عن القطع في أي موضع يجب أن يقطع ؟ قال: فقلت: من الكرسوع لقول الله في التيمم: " فامسحوا بوجوهكم وأيديكم " واتفق معى على ذلك قوم. وقال آخرون: بل يجب القطع من المرفق قال: وما الدليل على ذلك قالوا: لان الله لما قال: " وايديكم إلى المرافق " في الغسل دل على ذلك أن حد اليد هوالمرفق. قال: فالتفت إلى محمد بن على فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر ؟ فقال: قد تكلم القوم فيه يا امير المؤمنين قال: دعني بما تكلموا به أي شئ عندك ؟ قال: اعفنى عن هذا يا أمير المؤمنين قال: اقسمت عليك بالله لما أخبرت بما عندك فيه، فقال. أما إذا أقسمت على بالله إنى اقول: انهم اخطأوا فيه السنة، فإن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الاصابع - فتترك الكف، قال: وما الحجة في ذلك ؟ قال: قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: السجود على سبعة اعضاء: الوجه، واليدين، والركبتين، والرجلين فإذا قطعت يده من الكرسوع
________________________________________
[ 336 ]
أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، وقال الله تبارك و تعالى: " وأن المساجد لله " يعنى هذه الاعضاء السبعة التى يسجد عليها " فلا تدعوا مع الله أحدا " وما كان لله لم يقطع. قال: فأعجب المعتصم ذلك فأمر بقطع يد السارق من مفصل الاصابع دون الكف. قال ابن أبى دواد: قامت قيامتي وتمنيت أنى لم أك حيا. قال ابن أبى زرقان: إن ابن أبى دواد قال: صرت إلى المعتصم بعد ثالثة فقلت: إن نصيحة أمير المؤمنين على واجبة وأنا أكلمه بما أعلم أنى ادخل به النار قال: وما هو ؟ قلت: إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لامر واقع من أمور الدين فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك، وقد حضر المجلس بنوه وقواده ووزراؤه وكتابه، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه ثم يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل يقول شطر هذه الامة بامامته، ويدعون أنه أولى منه بمقامه ثم يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء ؟ قال: فتغير لونه، وانتبه لما نبهته له، وقال: جزاك الله عن نصيحتك خيرا. قال: فأمر اليوم الرابع فلانا من كتاب وزرائه بأن يدعوه إلى منزله فدعاه فأبى ان يجيبه، وقال: قد علمت انى لا أحضر مجالسكم فقال: إنى انما أدعوك إلى الطعام وأحب أن تطأ ثيابي وتدخل منزلي فأتبرك بذلك وقد: أحب فلان بن فلان من وزراء الخليفة لقائك فصار إليه فلما أطعم منها أحس مآلم السم فدعا بدابته فسأله رب المنزل ان يقيم قال: خروجي من دارك خير لك، فلم يزل يومه ذلك وليلته في خلفه حى قبض. اقول: ورويت القصة بغيره من الطرق، وإنما أوردنا الرواية بطولها كبعض ما تقدمها من الروايات المتكررة لاشتمالها على ابحاث قرآنية دقيقة يستعان بها على فهم الايات. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن جرير وابن أبى حاتم عن عبد الله بن عمر: أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطعت يدها اليمنى فقالت: هل لى من توبة يا رسول الله ؟ قال: نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك، فنزل الله في سورة المائدة،: " فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فان الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ". اقول: الرواية من قبيل التطبيق واتصال الاية بما قبلها، ونزولهما معا ظاهر.
________________________________________
[ 337 ]
يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزى ولهم في الاخرة عذاب عظيم - 41. سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين - 42. وكيف يحكمونك وعندهم التورية فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين - 43. إنا أنزلنا التورية فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتى ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون - 44. وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم
________________________________________
[ 338 ]
بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون - 45. وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التورية وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التورية وهدى وموعظة للمتقين - 46. وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون - 47. وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتيكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون - 48. وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون - 49. أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون - 50. (بيان) الايات متصلة الاجزاء يرتبط بعضها ببعض ذات سياق واحد يلوح منه أنها نزلت في طائفة من أهل الكتاب حكموا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض احكام التوراة وهم يرجون أن يحكم فيهم بخلاف ما حكمت به التوراة فيستريحوا إليه فرارا من حكمها قائلين بعضهم لبعض: " إن أوتيتم هذا - أي ما يوافق هواهم - فخذوه وان لم تؤتوه - أي أوتيتم حكم التوراة - فاحذروا ".
________________________________________
[ 339 ]
وأنه صلى الله عليه وآله وسلم أرجعهم إلى حكم التوراة فتولوا عنه، وانه كان هناك طائفة من المنافقين يميلون إلى مثل ما يميل إليه أولئك المحكمون المستفتون من أهل الكتاب يريدون أن يفتنوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيحكم بينهم على الهوى ورعاية جانب الاقوياء وهو حكم الجاهلية، ومن احسن حكما من الله لقوم يوقنون ؟ وبذلك يتأيد ما ورد في اسباب النزول ان الايات نزلت في اليهود حين زنا منهم محصنان من أشرافهم، وأراد أحبارهم ان يبدلوا حكم الرجم الذى في التوراة الجلد، فبعثوا من يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حكم زنا المحصن، ووصوهم إن هو حكم بالجلد أن يقبلوه، وان حكم بالرجم أن يردوه فحكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرجم فتولوا عنه فسأل صلى الله عليه وآله وسلم ابن صوريا عن حكم التوراة في ذلك وأقسمه بالله وآياته ان لا يكتم ما يعلمه من الحق فصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأن حكم الرجم موجود في التوراة (القصة) وسيجئ في البحث الروائي الاتى إنشاء الله تعالى. والايات مع ذلك مستقلة في بيانها غير مقيدة فيما أفادها بسبب النزول، وهذا شأن الايات القرآنية مما نزلت لاسباب خاصة من الحوادث الواقعة، ليس لاسباب نزولها منها إلا ما لواحد من مصاديقها الكثيرة من السهم، وليس إلا لان القرآن كتاب عام دائم لا يتقيد بزمان أو مكان، ولا يختص بقوم أو حادثة خاصة، وقال تعالى: " ان هو إلا ذكر للعالمين " (يوسف: 104) وقال تعالى: " تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا " (الفرقان: 1) وقال تعالى: " وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " (فصلت: 42). قوله تعالى: " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " تسلية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وتطييب لنفسه مما لقى من هؤلاء المذكورين في الاية، وهم الذين يسارعون في الكفراى يمشون فيه المشيه السريعة، ويسيرون فيه السير الحثيث، تظهر من افعالهم واقوالهم موجبات الكفر واحدة بعد أخرى فهم كافرون مسارعون في كفرهم والمسارعة في الكفر غير المسارعة إلى الكفر. وقوله: " من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم " بيان لهؤلاء الذين يسارعون في الفكر أي من المنافقين، وفى وضع هذا الوصف موضع الموصوف إشارة إلى علة النهى كما ان الاخذ بالوصف السابق اعني قوله: " الذين يسارعون في الكفر " للاشارة إلى علة المنهى عنه، والمعنى - والله أعلم -: لا يحزنك هؤلاء بسبب مسارعتهم في الكفر فانهم
________________________________________
[ 340 ]
إنما آمنوا بألسنتهم لا بقلوبهم وما أولئك بالمؤمنين، وكذلك اليهود الذين جاؤك وقالوا ما قالوا وقوله: " ومن الذين هادوا " عطف على قوله: " من الذين قالوا آمنا " (الخ) على ما يفيده السياق، وليس من الاستيناف في شئ وعلى هذا فقوله: " سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك " خبر لمبتدأ محذوف أي هم سماعون (الخ). وهذه الجمل المتسقة بيان حال الذين هادوا، وأما المنافقون المذكورون في صدر الاية فحالهم لا يوافق هذه الاوصاف كما هو ظاهر. فهؤلاء المذكورون من اليهود هم سماعون للكذب أي يكثرون من سماع الكذب مع العلم بأنه كذب، وإلا لم يكن صفة ذم، وهم كثير السمع لقوم آخرين لم يأتوك، يقبلون منهم كل ما ألقوه إليهم ويطيعونهم في كل ما أرادوه منهم، واختلاف معنى السمع هو الذى أوجب تكرار قوله: " سماعون فإن الاول يفيد معنى الاصغاء والثانية معنى القبول. وقوله: " يحرفون الكلم من بعد مواضعه " أي بعد استقرارها في مستقرها والجملة صفة لقوله: " لقوم آخرين " وكذا قوله: " يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا. ويتحصل من المجموع أن عدة من اليهود ابتلوا بواقعة دينية فيما بينهم، لها حكم إلهى عندهم لكن علماءهم غيروا الحكم بعد ثبوته ثم بعثوا طائفة منهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمروهم أن يحكموه في الواقعة فإن حكم بما أنبأهم علماؤهم من الحكم المحرف فليأخذوه وإن حكم بغير ذلك فليحذروا. وقوله: " ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا " الظاهر أنه معترضة يبين بها أنهم في أمرهم هذا مفتونون بفتنة إلهية، فلتطب نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن الامر من الله واليه وليس يملك منه تعالى شئ في ذلك، ولا موجب للتحزن فيما لا سبيل إلى التخلص منه. وقوله: " أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم " فقلوبهم باقية على قذارتها الاولية لما تكرر منهم من الفسق بعد الفسق فأضلهم الله به، وما يضل به إلا الفاسقين. وقوله: " لهم في الدنيا خزى ولهم في الاخرة عذاب عظيم " إيعاد لهم بالخزى في الدنيا وقد فعل بهم، وبالعذاب العظيم في الاخرة. قوله تعالى: " سماعون للكذب أكالون للسحت " قال الراغب في المفردات: السحت
________________________________________
[ 341 ]
القشر الذى يستأصل قال تعالى: " فيسحتكم بعذاب " وقرئ: فيسحتكم (أي بفتح الياء) يقال: سحته وأسحته ومنه السحت للمحظور الذى يلزم صاحبه العار كأنه يسحت دينه ومروءته، قال تعالى: " أكالون للسحت " أي لما يسحت دينهم، وقال عليه السلام كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، وسمى الرشوة سحتا. انتهى. فكل مال اكتسب من حرام فهو سحت، والسياق يدل على أن المراد بالسحت في الاية هو الرشا ويتبين من إيراد هذا الوصف في المقام أن علماءهم الذين بعثوا طائفة منهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا قد أخذوا في الواقعة رشوة لتحريف حكم الله فقد كان الحكم مما يمكن أن يتضرر به بعضه فسد الباب بالرشوة، فأخذوا الرشوة وغيروا حكم الله تعالى. ومن هنا يظهر أن قوله تعالى: " سماعون للكذب أكالون للسحت " باعتبار المجموع وصف لمجموع القوم، وأما بحسب التوزيع فقوله: " سماعون للكذب " وصف لقوله: " الذين هادوا وهم المبعوثون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن في حكمهم من التابعين، وقوله: " أكالون للسحت " وصف لقوم آخرين، والمحصل أن اليهود منهم علماء يأكلون الرشى، وعامة مقلدون سماعون لاكاذبيهم. قوله تعالى: " فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " (إلى آخر الاية) تخيير للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بين أن يحكم بينهم إذا حكموه أو يعرض عنهم، ومن المعلوم أن اختيار أحد الامرين لم يكن يصدر منه صلى الله عليه وآله وسلم إلا لمصلحة داعية فيؤول إلى إرجاع الامر إلى نظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورأية. ثم قرر تعالى هذا التخيير بأنه ليس عليه صلى الله عليه وآله وسلم ضرر لو ترك الحكم فيهم وأعرض عنهم وبين له أنه لو حكم بينهم فليس له أن يحكم إلا بالقسط والعدل. فيعود المضمون بالاخرة إلى أن الله سبحانه لا يرضى أن يجرى بينهم إلا حكمه فإما أن يجرى فيهم ذلك أو يهمل أمرهم فلا يجرى من قبله صلى الله عليه وآله وسلم حكم آخر. قوله تعالى: " وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين " تعجيب من فعالهم أنهم أمة ذات كتاب وشريعة وهم منكرون لنبوتك وكتابك وشريعتك ثم يبتلون بواقعة في كتابهم حكم الله فيها، ثم يتولون بعد ما عندهم التوراة فيها حكم الله والحال أن أولئك المبتعدين من الكتاب وحكمه ليسوا
________________________________________
[ 342 ]
بالذين يؤمنون بذلك. وعلى هذا المعنى فقوله: ثم " يتولون من بعد ذلك " أي عن حكم الواقعة مع كون التوراة عندهم وفيها حكم الله، وقوله وما أولئك بالمؤمنين " أي بالذين يؤمنون بالتوراة وحكمها فهم تحولوا من الايمان بها وبحكمها إلى الكفر. ويمكن أن يفهم من قوله: " ثم يتولون " التولى عما حكم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن قوله: " وما أولئك بالمؤمنين " نفى الايمان بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما كان يظهر من رجوعهم إليه وتحكيمهم إياه، أو نفى الايمان بالتوراة وبالنبى صلى الله عليه وآله وسلم جميعا، لكن ما تقدم من المعنى أنسب لسياق الايات. وفي الاية تصديق ما للتوراة التى عند اليهود اليوم، وهى التى جمعها لهم عزراء بإذن " كورش " ملك إيران بعد ما فتح بابل، وأطلق بنى إسرائيل من أسر البابليين وأذن لهم في الرجوع إلى فلسطين وتعمير الهيكل، وهى التى كانت بيدهم في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهى التى بيدهم اليوم، فالقرآن يصدق أن فيها حكم الله، وهو أيضا يذكر أن فيها تحريفا وتغييرا. ويستنتج من الجميع: أن التوراة الموجودة الدائرة بينهم اليوم فيها شئ من التوراة الاصلية النازلة على موسى عليه السلام وأمور حرفت وغيرت اما بزيادة أو نقصان أو تغيير لفظ أو محل أو غير ذلك، وهذا هو الذى يراه القرآن في أمر التوراة، والبحث الوافى عنها أيضا يهدى إلى ذلك. قوله تعالى: " انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون " (الخ) بمنزلة التعليل لما ذكر في الاية السابقة، وهى وما بعدها من الايات تبين أن الله سبحانه شرع لهذه الامم على اختلاف عهودهم شرائع، وأودعها في كتب انزلها إليهم ليهتدوا بها ويتبصروا بسببها، ويرجعوا إليها فيما اختلفوا فيه، وامر الانبياء والعلماء منهم ان يحكموا بها، ويتحفظوا عليها ويقوها من التغيير والتحريف، ولا يطلبوا في الحكم ثمنا ليس الا قليلا، ولا يخافوا فيها الا الله سبحانه ولا يخشوا غيره. وأكد ذلك عليهم وحذرهم اتباع الهوى، وتفتين أبناء الدنيا، وإنما شرع من الاحكام مختلفا باختلاف الامم و الازمان ليتم الامتحان الالهى فإن استعداد الازمان مختلف بمرور
________________________________________
[ 343 ]
الدهور، ولا يستكمل المختلفان في الاستعداد شدة وضعفا بمكمل واحد من التربية العلمية والعملية على وتيرة واحدة فقوله: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور " أي شئ من الهداية يهتدى بها، وشئ من النور يتبصر به من المعارف والاحكام على حسب حال بنى إسرائيل، ومبلغ استعدادهم، وقد بين الله سبحانه في كتابه عامة أخلاقهم، وخصوصيات أحوال شعبهم ومبلغ فهمهم، فلم ينزل إليهم من الهداية إلا بعضها ومن النور إلا بعضه لسبق عهدهم وقدمة أمتهم، وقلة استعداد، هم قال تعالى: " وكتبنا له في الالواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ " (الاعراف: 145). وقوله: " يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا " إنما وصف النبيين بالاسلام وهو التسليم لله، الذى هو الدين عند الله سبحانه للاشارة إلى أن الدين واحد، وهو الاسلام لله وعدم الاستنكاف عن عبادته، وليس لمؤمن بالله - وهو مسلم له - أن يستكبر عن قبول شئ من أحكامه وشرائعه. " وقوله والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء " أي ويحكم بها الربانيون وهم العلماء المنقطعون إلى الله علما وعملا، أو الذين إليهم تربية الناس بعلومهم بناء على اشتقاق اللفظ من الرب أو التربية، والاحبار وهم الخبراء من علمائهم يحكمون بما أمرهم الله به وأراده منهم أن يحفظوه من كتاب الله، وكانوا من جهة حفظهم له وتحملهم إياه شهداء عليه لا يتطرق إليه تغيير وتحريف لحفظهم له في قلوبهم، فقوله: " وكانوا عليه شهداء " بمنزلة النتيجة لقوله: " بما استحفظوا " (الخ) أي أمروا بحفظه فكانوا حافظين له بشهادتهم عليه. وما ذكرناه من معنى الشهادة هو الذى يلوح من سياق الاية، وربما قيل: إن المراد بها الشهادة على حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الرجم أنه ثابت في التوراة وقيل: إن المراد الشهادة على الكتاب أنه من عند الله وحده لا شريك له، ولا شاهد من جهة السياق يشهد على شئ من هذين المعنيين. وأما قوله تعالى: " فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتى ثمنا قليلا " فهو متفرع على قوله: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها " أي لما كانت التوراة منزلة من عندنا مشتملة على شريعة يقضى بها النبيون والربانيون والاحبار بينكم فلا تكتموا شيئا
________________________________________
[ 344 ]
منها ولا تغيروها خوفا أو طمعا، أما خوفا فبأن تخشوا الناس وتنسوا ربكم بل الله فاخشوا حتى لا تخشوا الناس، وأما طمعا فبأن تشتروا بآيات الله ثمنا قليلا هو مال أو جاه دنيوى زائل باطل. ويمكن أن يكون متفرعا على قوله: " بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء " بحسب المعنى لانه في معنى أخذ الميثاق على الحفظ أي أخذنا منهم الميثاق على حفظ الكتاب وأشهدناهم عليه أن لا يغيروه ولا يخشوا في إظهاره غيرى، ولا يشتروا بآياتى ثمنا قليلا، قال تعالى: " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا " (آل عمران: 187) وقال تعالى: " فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الادنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الاخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين " (الاعراف: 170). وهذا المعنى الثاني لعله أنسب وأوفق لما يتلوه من التأكيد والتشديد بقوله: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون ". قوله تعالى: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس - إلى قوله - والجروح قصاص " السياق وخاصة بالنظر إلى قوله: " والجروح قصاص " يدل على أن المراد به بيان حكم القصاص في أقسام الجنايات من القتل والقطع والجرح، فالمقابلة الواقعة في قوله: " النفس بالنفس " وغيره إنما وقعت بين المقتص له والمقتص به والمراد به أن النفس تعادل النفس في باب القصاص، والعين تقابل العين والانف الانف وهكذا والباء للمقابلة كما في قولك: بعت هذا بهذا. فيؤول معنى الجمل المتسقة إلى ان النفس تقتل بالنفس، والعين تفقا بالعين والانف تجدع بالانف، والاذن تصلم بالاذن، والسن تقلع بالسن والجروح ذوات قصاص، وبالجملة إن كلا من النفس واعضاء الانسان مقتص بمثله. ولعل هذا هو مراد من قدر في قوله: " النفس بالنفس " ان النفس مقتصة أو مقتولة بالنفس وهكذا وإلا فالتقدير بمعزل عن الحاجة، والجمل تامة من دونه والظرف لغو. والاية لا تخلو من إشعار بأن هذا الحكم غير الحكم الذى حكموا فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتذكره
________________________________________
[ 345 ]
الايات السابقة فإن السياق قد تجدد بقوله: " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ". والحكم موجود في التوراة الدائرة على ما سيجئ نقله في البحث الروائي التالى إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " فمن تصدق به فهو كفارة له " أي فمن عفى من أولياء القصاص كولى المقتول أو نفس المجني عليه والمجروح عن الجاني، ووهبه ما يملكه من القصاص فهو أي العفو كفارة لذنوب المتصدق أو كفارة عن الجاني في جنايته. والظاهر من السياق ان الكلام في تقدير قولنا: فإن تصدق به من له القصاص فهو كفارة له، وإن لم يتصدق فليحكم صاحب الحكم بما انزله الله من القصاص، ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الظالمون. وبذلك يظهر أولا: أن الواو في قوله: " ومن لم يحكم " للعطف على قوله: " من تصدق " لا للاستيناف كما ان الفاء في قوله: " فمن تصدق " للتفريع: تفريع المفصل على المجمل، نظير قوله تعالى في آية القصاص: " فمن عفى له من اخيه شئ فاتباع بالمعروف واداء إليه بإحسان " (البقرة: 178). وثانيا: ان قوله: " ومن لم يحكم " من قبيل وضع العلة موضع معلولها والتقدير: وان لم يتصدق فليحكم بما انزل الله فإن من لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الظالمون. قوله تعالى: " وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة " التقفية جعل الشئ خلف الشئ وهو مأخوذ من القفا، والاثار جمع أثرو هو ما يحصل من الشئ مما يدل عليه، ويغلب استعماله في الشكل الحاصل من القدم ممن يضرب في الارض، والضمير في " آثارهم " للانبياء. فقوله: " وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم " استعارة بالكناية أريد بها الدلالة على أنه سلك به عليه السلام المسلك الذى سلكه من قبله من الانبياء، وهو طريق الدعوة إلى التوحيد والاسلام لله. وقوله: " مصدقا لما بين يديه من التوراة " تبيين لما تقدمه من الجملة وإشارة إلى أن دعوة عيسى هي دعوة موسى عليهما السلام من غير بينونة بينهما أصلا. قوله تعالى: " وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة
________________________________________
[ 346 ]
(الخ) سياق الايات من جهة تعرضها لحال شريعة موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وعليهما ونزولها في حق كتبهم يقضى بانطباق بعضها على بعض ولازم ذلك: اولا: أن الانجيل المذكور في الاية - ومعناها البشارة - كان كتابا نازلا على المسيح عليه السلام لا مجرد البشارة من غير كتاب غير أن الله سبحانه لم يفصل القول في كلامه في كيفية نزوله على عيسى كما فصله في خصوص التوراة والقرآن قال تعالى في حق التوراة: " قال يا موسى إنى اصطفيتك على الناس برسالاتى وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين وكتبنا له في الالواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ " (الاعراف: 145) وقال: " أخذ الالواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون " (الاعراف: 154). وقال في خصوص القرآن: " نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين " (الشعراء: 195) وقال: " نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين " (الشعراء: 195) وقال: " إنه لقول رسول كريم ذى قوة عند ذى العرش مكين مطاع ثم أمين " (التكوير: 21) وقال: " في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدى سفرة كرام بررة " (عبس: 16) وهو سبحانه لم يذكر في تفصيل نزول الانجيل ومشخصاته شيئا، لكن ذكره نزوله على عيسى في الاية محاذيا لذكر نزول التوراة على موسى في الاية السابقة ونزول القرآن على محمد صلى الله عليه وآله وعليهما يدل على كونه كتابا في عرض الكتابين. وثانيا: أن قوله تعالى في وصف الانجيل: " فيه هدى ونور " محاذاة لقوله في وصف التوراة " إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور " يراد به ما يشتمل عليه الكتاب من المعارف والاحكام غير أن قوله تعالى في هذه الاية ثانيا: " وهدى وموعظة للمتقين " يدل على أن الهدى المذكور أولا غير الهدى الذى تفسيره الموعظة فالهدى المذكور أولا هو نوع المعارف التى يحصل بها الاهتداء في باب الاعتقادات، وأما ما يهدى من المعارف إلى التقوى في الدين فهو الذى يراد بالهدى المذكور ثانيا. وعلى هذا لا يبقى لقوله: " ونور " من المصداق إلا الاحكام والشرائع، والتدبر ربما ساعد على ذلك فإنها امور يستضاء بها ويسلك في ضوئها وتنورها مسلك الحيا، وقد قال تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس " (الانعام: 122). وقد ظهر بذلك: ان المراد بالهدى في وصف التوراة وفي وصف الانجيل اولا هو نوع المعارف الاعتقادية كالتوحيد والمعاد، وبالنور في الموضعين نوع الشرائع والاحكام،
________________________________________
[ 347 ]
وبالهدى ثانيا في وصف الانجيل هو نوع المواعظ و النصائح، والله أعلم. وظهر ايضا وجه تكرار الهدى في الاية فالهدى المذكور ثانيا غير الهدى المذكور اولا وأن قوله " وموعظة " من قبيل عطف التفسير والله أعلم. وثالثا: أن قوله ثانيا في وصف الانجيل: " ومصدقا لما بين يديه من التوراة " ليس من قبيل التكرار لتأكيد ونحوه بل المراد به تبعية الانجيل لشريعة التوراة فلم يكن في الانجيل إلا الامضاء لشريعة التوراة والدعوة إليها إلا ما استثناه عيسى المسيح على ما حكاه الله تعالى من قوله: " ولاحل لكم بعض الذى حرم عليكم " (آل عمران: 50). والدليل على ذلك قوله تعالى في الاية الاتية في وصف القرآن: " وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه " على ما سيجئ من البيان. قوله تعالى: " وهدى وموعظة للمتقين " قد مر توضيحه، والاية تدل على أن في الانجيل النازل على المسيح عناية خاصة بالتقوى في الدين مضافا إلى ما يشتمل عليه التوراة من المعارف الاعتقادية والاحكام العملية، والتوراة الدائرة بينهم اليوم وإن لم يصدقها القرآن كل التصديق، وكذا الاناجيل الاربعة المنسوبة إلى متى ومرقس ولوقا ويوحنا وإن كانت غير ما يذكره القرآن من الانجيل النازل على المسيح نفسه لكنها مع ذلك كله تصدق هذا المعنى كما سيجئ إن شاء الله الاشارة إليه. قوله تعالى: " وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه " (الخ) وقد أنزل فيه تصديق التوراة في شرائعها إلا ما استثنى من الاحكام المنسوخة التى ذكرت في الانجيل النازل على عيسى عليه السلام فان الانجيل لما صدق التوراة فيما شرعته، وأحل بعض ما حرم فيها كان العمل بما في التوراة في غير ما أحلها الانجيل من المحرمات عملا بما أنزل الله في الانجيل وهو ظاهر. ومن هنا يظهر ضعف ما استدل بعض المفسرين بالاية على أن الانجيل مشتمل على صرائع مفصلة كما اشتملت عليه التوراة، ووجه الضعف ظاهر. وأما قوله: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الفاسقون " فهو تشديد في الامر المدلول عليه بقوله: " وليحكم "، وقد كرر الله سبحانه هذه الكلمة للتشديد ثلاث مرات: مرتين في أمر اليهود ومرة في أمر النصارى باختلاف يسير فقال: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون، فاولئك هم الظالمون، فاولئك هم الفاسقون " فسجل عليهم
________________________________________
[ 348 ]
الكفر والظلم والفسق. ولعل الوجه في ذكر الفسق عند التعرض لما يرجع إلى النصارى، والكفر والظلم فيما يعود إلى اليهود أن النصارى بدلوا التوحيد تثليثا ورفضوا أحكام التوراة بأخذ بولس دين المسيح دينا مستقلا منفصلا عن دين موسى مرفوعا فيه الاحكام بالتفدية فخرجت النصارى بذلك عن التوحيد وشريعته بتأول ففسقوا عن دين الله الحق، والفسق خروج الشئ من مستقره كخروج لب التمرة عن قشرها. وأما اليهود فلم يشتبه عليهم الامر فيما عندهم من دين موسى عليه السلام وإنما ردوا الاحكام والمعارف التى كانوا على علم منها وهو الكفر بآيات الله والظلم لها. والايات الثلاث أعنى قوله: " ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الكافرون، فاولئك هم الظالمون، فاولئك هم الفاسقون " آيات مطلقة لا تختص بقوم دون قوم، وإن انطبقت على أهل الكتاب في هذا المقام. وقد اختلف المفسرون في معنى كفر من لم يحكم بما أنزل الله كالقاضي يقضى بغير ما أنزل الله والحاكم يحكم على خلاف ما أنزل الله، والمبتدع يستن بغير السنة وهى مسألة فقهية الحق فيها أن المخالفة لحكم شرعى أو لاى أمر ثابت في الدين في صورة العلم بثبوته والرد له توجب الكفر، وفي صورة العلم بثبوته مع عدم الرد له توجب الفسق، وفي صورة عدم العلم بثبوته مع الرد له لا توجب كفرا ولا فسقا لكونه قصورا يعذر فيه إلا أن يكون قصر في شئ من مقدماته وليراجع في ذلك كتب الفقه. قوله تعالى: " وانزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه " هيمنة الشئ على الشئ - على ما يتحصل من معناها - كون الشئ ذا سلطة على الشئ في حفظه ومراقبته وانواع التصرف فيه، وهذا حال القرآن الذى وصفه الله تعالى بأنه تبيان كل شئ بالنسبة إلى ما بين يديه من الكتب السماوية: يحفظ منها الاصول الثابتة غير المتغيرة وينسخ منها ما ينبغى ان ينسخ من الفروع التى يمكن أن يتطرق إليها التغير والتبدل حتى يناسب حال الانسان بحسب سلوكه صراط الترقي والتكامل بمرور الزمان قال تعالى: " ان هذا القرآن يهدى للتى هي أقوم " (أسرى: 9) وقال: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " (البقرة: 106) وقال: " الذين يتبعون النبي الامي الذى يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم
________________________________________
[ 349 ]
الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والاغلال التى كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذى أنزل معه أولئك هم المفلحون " (الاعراف: 157). فهذه الجملة أعنى قوله: ومهيمنا عليه " متممة لقول: " ومصدقا لما بين يديه من الكتاب " تتميم إيضاح إذ لولاها لامكن ان يتوهم من تصديق القرآن للتوراة والانجيل أنه يصدق ما فيهما من الشرائع والاحكام تصديق إبقاء من غير تغيير وتبديل لكن توصيفه بالهيمنة يبين ان تصديقه لها تصديق أنها معارف وشرائع حقه من عند الله ولله ان يتصرف منها فيما يشاء بالنسخ والتكميل كما يشير إليه قوله ذيلا: " ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم ". فقول: " مصدقا لما بين يديه " معناه تقرير ما فيها من المعارف والاحكام بما يناسب حال هذه الامة فلا ينافيه ما تطرق إليها من النسخ والتكميل والزيادة كما كان المسيح عليه السلام أو انجيله مصدقا للتوراة مع إحلاله بعض ما فيها من المحرمات كما حكاه الله عنه في قوله: " ومصدقا لما بين يدى من التوراة ولاحل لكم بعض الذى حرم عليكم " (آل عمران: 50). قوله تعالى: " فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق " أي إذا كانت الشريعه النازلة إليك المودعة في الكتاب حقا وهو حق فيما وافق ما بين يديه من الكتب وحق فيما خالفه لكونه مهيمنا عليه فليس لك الا أن تحكم بين أهل الكتاب - كما يؤيده ظاهر الايات السابقة - أو بين الناس - كما تؤيده الايات اللاحقة - بما أنزل الله إليك ولا تتبع أهواءهم بالاعراض والعدول عما جاءك من الحق. ومن هنا يظهر جواز أن يراد بقوله: " فاحكم بينهم " الحكم بين أهل الكتاب أو الحكم بين الناس، لكن تبعد المعنى الاول حاجته إلى تقدير كقولنا فاحكم بينهم ان حكمت، فان الله سبحانه لم يوجب عليه صلى الله عليه وآله وسلم الحكم بينهم بل خيره بين الحكم والاعراض بقوله: " فان جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " (الاية) على ان الله سبحانه ذكر المنافقين مع اليهود في اول الايات فلا موجب لاختصاص اليهود برجوع الضمير إليهم لسبق الذكر وقد ذكر معهم غيرهم فالانسب أن يرجع الضمير إلى الناس لدلالة المقام. ويظهر ايضا ان قوله: " عما جاءك " متعلق بقوله: " ولا تتبع " بإشرابه معنى العدول أو الاعراض. قوله تعالى: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " قال الراغب في المفردات:
________________________________________
[ 350 ]
الشرع نهج الطريق الواضح يقال: شرعت له طريقا والشرع مصدر ثم جعل اسما للطريق النهج فقيل له: شرع وشرع وشريعة، واستعير ذلك للطريقة الالهية قال: " شرعة ومنهاجا " - إلى ان قال - قال بعضهم: سميت الشريعة شريعة تشبيها بشريعة الماء انتهى. ولعل الشريعة بالمعنى الثاني مأخوذ من المعنى الاول لوضوح طريق الماء عندهم بكثرة الورود والصدور وقال: النهج (بالفتح فالسكون): الطريق الواضح، ونهج الامر وأنهج وضح، ومنهج الطريق ومنهاجه. (كلام في معنى الشريعة) (والفرق بينها وبين الدين والملة في عرف القرآن) معنى الشريعة كما عرفت هو الطريقة، والدين وكذلك الملة طريقة متخذة لكن الظاهر من القرآن انه يستعمل الشريعة في معنى أخص من الدين كما يدل عليه قوله تعالى: " إن الدين عند الله الاسلام " (آل عمران: 19)، وقوله تعالى: " ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الاخرة من الخاسرين " (آل عمران: 85) إذا انضما إلى قوله: " لكل جعلنا منكم شرعة وومنهاجا " (الاية) وقوله: " ثم جعلناك على شريعة من الامر فاتبعها " (الجاثية: 18). فكان الشريعة هي الطريقة الممهدة لامة من الامم أو لنبى من الانبياء الذين بعثوا بها كشريعة نوح وشريعة إبراهيم وشريعة موسى وشريعة عيسى وشريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والدين هو السنة والطريقة الالهية العامة لجميع الامم فالشريعة تقبل النسخ دون الدين بمعناه الوسيع. وهناك فرق آخر وهو ان الدين ينسب إلى الواحد والجماعة كيفما كانا، ولكن الشريعة لا تنسب إلى الواحد إلا إذا كان واضعها أو القائم بأمر ها يقال: دين المسلمين ودين اليهود وشريعتهم، ويقال: دين الله وشريعته ودين محمد وشريعته، ويقال: دين زيد وعمرو، ولا يقال: شريعة زيد وعمرو، و لعل ذلك لما في لفظ الشريعة من التلميح إلى المعنى الحدثى وهو تمهيد الطريق و نصبه فمن الجائز ان يقال: الطريقة التى مهدها الله أو الطريقة التى مهدت للنبى أو للامة الفلانية دون ان يقال: الطريقة التى مهدت لزيد إذ لا اختصاص له بشئ. وكيف كان فالمستفاد منها ان الشريعة أخص معنى من الدين، واما قوله تعالى:


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page