• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 276 الي 300


[ 276 ]
وقد افرط في الامر إلى حيث ذهب جمع إلى عدم حجية ظواهر الكتاب وحجية مثل مصباح الشريعة وفقه الرضا وجامع الاخبار ! وبلغ الافراط إلى حيث ذكر بعضهم أن الحديث يفسر القرآن مع مخالفته لصريح دلالته، وهذا يوازن ما ذكره بعض الجمهور: أن الخبر ينسخ الكتاب. ولعل المتراءى من أمر الامة لغيرهم من الباحثين كما ذكره بعضهم: " أن أهل السنة أخذوا بالكتاب وتركوا العترة، فآل ذلك إلى ترك الكتاب لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " انهما لن يفترقا " وأن الشيعأ أخذوا بالعترة وتركوا الكتاب، فآل ذلك منهم إلى ترك العترة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " انهما لن يفترقا " فقد تركت الامة القرآن والعترة (الكتاب والسنة) معا ". وهذه الطريقة المسلوكة في الحديث أحد العوامل التى عملت في انقطاع رابطة العلوم الاسلامية وهى العلوم الدينية والادبية عن القرآن مع أن الجميع كالفروع والثمرات من هذه الشجرة الطيبة التى أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتى اكلها كل حين بإذن ربها، وذلك أنك إن تبصرت في أمر هذه العلوم وجدت أنها نظمت تنظيما لا حاجة لها إلى القرآن أصلا حتى أنه يمكن لمتعلم أن يتعلمها جميعا: الصرف والنحو والبيان واللغة والحديث والرجال والدراية والفقه والاصول فيأتى آخرها، ثم يتضلع بها ثم يجتهد ويتمهر فيها وهو لم يقرء القرآن، ولم يمس مصحفا قط، فلم يبق للقرآن بحسب الحقيقة إلا التلاوة لكسب الثواب أو اتخاذه تميمة للاولاد تحفظهم عن طوارق الحدثان ! فاعتبر ان كنت من أهله. ولنرجع إلى ما كنا فيه: كان حال البحث عن القرآن والحديث في عهد عمر ما سمعته، وقد اتسع نطاق المباحث الكلامية في هذا العهد لما أن الفتوحات الوسيعة أفضت بالطبع إلى اختلاط المسلمين بغيرهم من الامم وأرباب الملل والنحل وفيهم العلماء والاحبار والاساقفة والبطارقة الباحثون في الاديان والمذاهب فارتفع منار الكلام لكن لم يدون بعد تدوينا، فإن ما عد من التآليف فيه انما ذكر في ترجمات من هو بعد هذا العصر. ثم كان الامر على ذلك في عهد عثمان على ما فيه من انقلاب الناس على الخلافة، وإنما وفق لجمع المصاحف، والاتفاق على مصحف واحد. ثم كان الامر على ذلك في خلافة على عليه السلام وشغله إصلاح ما فسد من مجتمع المسلمين
________________________________________
[ 277 ]
بالاختلافات الداخلية ووقع حروب متوالية في إثر ذلك. غير أنه عليه السلام وضع علم النحو وأملا كلياته أبا الاسود الدئلى من أصحابه وأمره بجمع جزئيات قواعده، ولم يتأت له وراء ذلك إلا أن ألقى بيانات من خطب وأحاديث فيها جوامع مواد المعارف الدينية وأنفس الاسرار القرآنية، وله مع ذلك احتجاجات كلامية مضبوطة في جوامع الحديث. ثم كان الامر على ذلك في خصوص القرآن والحديث في عهد معاوية ومن بعده من الامويين والعباسيين إلى أوائل القرن الرابع من الهجرة تقريبا وهو آخر عهد الائمة الاثنى پعشر عند الشيعة، فلم يحدث في طريق البحث عن القرآن والحديث أمر مهم غير ما كان في عهد معاوية من بذل الجهد في إماتة ذكر أهل البيت عليهم السلام وإعفاء أثرهم، ووضع الاحاديث، وقد انقلبت الحكومة الدينية إلى سلطنة استبدادية، وتغيرت السنة الاسلامية، إلى سيطرة إمبراطورية، وما كان في عهد عمر بن عبد العزيز من أمره بكتابة الحديث، وقد كان المحدثون يتعاطون الحديث إلى هذه الغاية بالاخذ والحفظ من غير تقييد بالكتابة. وفي هذه البرهة راج الادب العربي غاية رواجه، شرع ذلك من زمن معاوية فقد كان يبالغ في ترويج الشعر ثم الذين يلونه من الامويين ثم العباسيين، وكان ربما يبذل بازاء بيت من الشعر أو نكتة أدبية المئات والالوف من الدنانير، وانكب الناس على الشعر وروايته، وأخبار العرب وأيامهم، وكانوا يكتسبون بذلك الاموال الخطيرة، وكانت الامويون ينتفعون برواجه وبذل الاموال بحذائه لتحكيم موقعهم تجاه بنى هاشم ثم العباسيون تجاه بنى فاطمة كما كانوا يبالغون في إكرام العلماء ليظهروا بهم على الناس، ويحملوهم ما شاؤوا وتحكموا. وبلغ من نفوذ الشعر والادب في المجتمع العلمي أنك ترى كثيرا من العلماء يتمثلون بشعر شاعر أو مثل سائر في مسائل عقلية أو أبحاث عليمة ثم يكون له القضاء، وكثيرا ما يبنون المقاصد النظرية على مسائل لغوية ولا أقل من البحث اللغوى في اسم الموضوع أولا ثم الورود في البحث ثانيا، وهذه كلها أمور لها آثار عميقة في منطق الباحثين وسيرهم العلمي. وفي تلك الايام راج البحث الكلامي، وكتب فيه الكتب والرسائل، ولم يلبثوا أن
________________________________________
[ 278 ]
تفرقوا فرقتين عظيمتين وهما الاشاعرة والمعتزلة، وكانت أصول أقوالهم موجودة في زمن الخلفاء بل في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدل على ذلك ما روى من احتجاجات على عليه السلام في الجبر والتفويض والقدر والاستطاعة وغيرها، وما روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك (1). وإنما امتازت الطائفتان في هذا الاوان بامتياز المسلكين وهو تحكيم المعتزلة ما يستقل به العقل على الظواهر الدينية كالقول بالحسن والقبح العقليين، وقبح الترجيح من غير مرجح، وقبح التكليف بما لا يطاق، والاستطاعة، والتفويض، وغير ذلك، وتحكيم الاشاعرة الظواهر على حكم العقل بالقول بنفى الحسن والقبح، وجواز الترجيح من غير مرجح، ونفى الاستطاعة، والقول بالجبر، وقدم كلام الله، وغير ذلك مما هو مذكور في كتبهم. ثم رتبوا الفن واصطلحوا الاصطلاحات وزادوا مسائل قابلوا بها الفلاسفة في المباحث المعنوية بالامور العامة، وذلك بعد نقل كتب الفلسفة إلى العربية وانتشار دراستها بين المسلمين، وليس الامر على ما ذكره بعضهم: أن التكلم ظهر أو انشعب في الاسلام إلى الاعتزال والاشعرية بعد انتقال الفلسفة إلى العرب، يدل على ذلك وجود معظم مسائلهم وآرائهم في الروايات قبل ذلك. ولم تزل المعتزلة تتكثر جماعتهم وتزداد شوكتهم وأبهتهم منذ أول الظهور إلى أوائل العهد العباسي (أوائل القرن الثالث الهجرى) ثم رجعوا يسلكون سبيل الانحطاط والسقوط حتى أبادتهم الملوك من بنى أيوب فانقرضوا وقد قتل في عهدهم وبعدهم لجرم الاعتزال من الناس ما لا يحصيه إلا الله سبحانه وعند ذلك صفى جو البحث الكلامي للاشاعرة من غير معارض فتوغلوا فيه بعد ما كان فقهاؤهم يتأثمون بذلك أولا، ولم يزل الاشعرية رائجة عندهم إلى اليوم. وكان للشيعة قدم في التكلم، كان أول طلوعهم بالتكلم بعد رحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان جلهم من الصحابة كسلمان وأبى ذر والمقداد وعمار وعمرو بن الحمق وغيرهم ومن التابعين كرشيد وكميل وميثم وسائر العلويين أبادتهم أيدى الامويين، ثم تأصلوا وقوى أمرهم ثانيا
________________________________________
(1) كقوله صلى الله عليه وآله فيما روى عنه: لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين، وقوله: القدرية مجوس هذه الامة. (*)
________________________________________
[ 279 ]
في زمن الامامين: الباقر والصادق عليهما السلام وأخذوا بالبحث وتأليف الكتب والرسائل، ولم يزالوا يجدون الجد تحت قهر الحكومات واضطهادها حتى رزقوا بعض الامن في الدولة البويهية (1) ثم أخنقوا ثانيا حتى صفى لهم الامر بظهور الدولة الصفوية في إيران (2)، ثم لم يزالوا على ذلك حتى اليوم. وكانت سيماء بحثهم في الكلام أشبه بالمعتزلة منها بالاشاعرة، ولذلك ربما اختلط بعض الاراء كالقول بالحسن والقبح ومسألة الترجيح من غير مرجح ومسألة القدر ومسألة التفويض، ولذلك أيضا اشتبه الامر على بعض الناس فعد الطائفتين أعنى الشيعة والمعتزلة ذواتي طريقة واحدة في البحث الكلامي، كفرسي رهان، وقد أخطأ، فإن الاصول المروية عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وهى المعتبرة عند القوم لا تلائم مذاق المعتزلة في شئ. وعلى الجملة فن الكلام فن شريف يذب عن المعارف الحقة الدينية غير أن المتكلمين من المسلمين أساؤا في طريق البحث فلم يميزوا بين الاحكام العقلية واختلط عندهم الحق بالمقبول على ما سيجئ إيضاحه بعض الايضاح. وفي هذه البرهة من الزمن نقلت علوم الاوائل من المنطق والرياضيات والطبيعيات والالهيات والطب والحكمة العملية إلى العربية، نقل شطر منها في عهد الامويين ثم أكمل في أوائل عهد العباسيين، فقد ترجموا مئات من الكتب من اليونانية والرومية والهندية والفارسية والسريانية إلى العربية، وأقبل الناس يتدارسون مختلف العلوم ولم يلبثوا كثيرا حتى استقلوا بالنظر، وصنفوا فيها كتبا ورسائل، وكان ذلك يغيظ علماء الوقت، ولا سيما ما كانوا يشاهدونه من تظاهر الملاحدة من الدهرية والطبيعية والمانوية وغيرهم على المسائل المسلمة في الدين، وما كان عليه المتفلسفون من المسلمين من الوقعية في الدين وأهله، وتلقى أصول الاسلام ومعالم الشرع الطاهرة بالاهانة والازراء (ولا داء كالجهل). ومن أشد ما كان يغيظهم ما كانوا يسمعونه منهم من القول في المسائل المبتنية على أصول موضوعة مأخوذة من الهيئة والطبيعات كوضع الافلاك البطليموسية، وكونها
________________________________________
(1) في القرن الرابع الهجرة تقريبا. (2) في أوائل القرن العاشر من الهجرة. (*)
________________________________________
[ 280 ]
طبيعة خامسة، واستحالة الخرق والالتيام فيها، وقدم الافلاك والفلكيات بالشخص وقدم العناصر بالنوع، وقدم الانواع ونحو ذلك فإنها مسائل مبنية على أصول موضوعة لم يبرهن عليها في الفلسفة لكن الجهلة من المنفلسفين كانوا يظهرونها في زى المسائل المبرهن عليها، وكانت الدهرية وأمثالهم وهم يومئذ منتحلون إليها يضيفون إلى ذلك امورا اخرى من أباطيلهم كالقول بالتناسخ ونفى المعاد ولا سيما المعاد الجسماني، ويطعنون بذلك كله في ظواهر الدين وربما قال القائل منهم: إن الدين مجموع وظائف تقليدية أتى بها الانبياء لتربية العقول الساذجة البسيطة وتكميلها، وأما الفيلسوف المتعاطى للعلوم الحقيقية فهو في غنى عنهم وعما أتوا به، وكانوا ذوى أقدام في طرق الاستدلال. فدعا ذلك الفقهاء والمتكلمين وحملهم على تجبيههم بالانكار والتدمير عليهم بأى وسيلة تيسرت لهم من محاجة ودعوة عليهم وبراءة منهم وتكفير لهم حتى كسروا سورتهم وفرقوا جمعهم وأفنوا كتبهم في زمن المتوكل، وكادت الفلسفة تنقرض بعده حتى جدده ثانيا المعلم الثاني أبو نصر الفارابى المتوفى سنة 339 ثم بعده الشيخ الرئيس أبو على الحسين بن عبد الله بن سينا المتوفى سنة 428 ثم غيرهما من معاريف الفلسفة كأبى على بن مسكويه وابن رشد الاندلسي وغيرهما، ثم لم تزل الفلسفة تعيش على قلة من متعاطيها وتجول بين ضعف وقوة. وهى وإن انتقلت ابتداء إلى العرب لكن لم يشتهر بها منهم إلا الشاذ النادر كالكندى وابن رشد، وقد استقرت أخيرا في إيران، والمتكلمون من المسلمين وإن خالفوا الفلسفة وأنكروا على أهلها أشد الانكار لكن جمهورهم تلقوا المنطق بالقبول فألفوا فيها الرسائل والكتب لما وجدوه موافقا لطريق الاستدلال الفطري. غير أنهم - كما سمعت - أخطأوا في استعماله فجعلوا حكم الحدود الحقيقية وأجزائها مطردا في المفاهيم الاعتبارية، واستعملوا البرهان في القضايا الاعتبارية التى لا مجرى فيها إلا للقياس الجدلي فتراهم يتكلمون في الموضوعات الكلامية كالحسن والقبح والثواب والعقاب والحبط والفضل في أجناسها وفصولها وحدودها، وأين هي من الحد ؟ ويستدلون في المسائل الاصولية والمسائل الكلامية من فروع الدين بالضرورة والامتناع. وذلك من استخدام الحقائق في الامور الاعتبارية ويبرهنون في امور ترجع إلى الواجب تعالى بأنه يجب عليه كذا ويقبح منه كذا فيحكمون الاعتبارات على الحقائق، ويعدونه برهانا، وليس بحسب
________________________________________
[ 281 ]
الحقيقة إلا من القياس الشعرى. وبلغ الافراط في هذا الباب إلى حد قال قائلهم: إن الله سبحانه أنزه ساحة من أن يدب في حكمه وفعله الاعتبار الذى حقيقته الوهم فكل ما كونه تكوينا أو شرعه تشريعا امور حقيقية واقعية، وقال آخر: إن الله سبحانه أقدر من أن يحكم بحكم ثم لا يستطاع من إقامة البرهان عليه، فالبرهان يشمل التكوينيات والتشريعيات جميعا. إلى غير ذلك من الاقاويل التى هي لعمري من مصائب العلم وأهله، ثم الاضطرار إلى وضعها والبحث عنها في المسفورات العلمية أشد مصيبة. وفي هذه البرهة ظهر التصوف بين المسلمين، وقد كان له أصل في عهد الخلفاء يظهر في لباس الزهد، ثم بان الامر بتظاهر المتصوفة في أوائل عهد بنى العباس بظهور رجال منهم كأبى يزيد والجنيد والشبلى ومعروف وغيرهم. يرى القوم أن السبيل إلى حقيقة الكمال الانساني والحصول على حقائق المعارف هو الورود في الطريقة، وهى نحو ارتياض بالشريعة للحصول على الحقيقة، وينتسب المعظم منهم من الخاصة والعامة إلى على عليه السلام. وإذا كان القوم يدعون امورا من الكرامات، ويتكلمون بامور تناقض ظواهر الدين وحكم العقل مدعين أن لها معاني صحيحة لا ينالها فهم أهل الظاهر ثقل على الفقهاء وعامة المسلمين سماعها فأنكروا ذلك عليهم وقابلوهم بالتبرى والتكفير، فربما أخذوا بالحبس أو الجلد أو القتل أو الصلب أو الطرد أو النفى كل ذلك لخلاعتهم واسترسالهم في أقوال يسمونها أسرار الشريعة ولو كان الامر على ما يدعون وكانت هي لب الحقيقة وكانت الظواهر الدينية كالقشر عليها وكان ينبغى إظهارها والجهر بها لكان مشرع الشرع أحق برعاية حالها وإعلان أمرها كما يعلنون، وإن لم تكن هي الحق فما ذا بعد الحق إلا الضلال. والقوم لم يدلوا في أول أمرهم على آرائهم في الطريقة إلا باللفظ ثم زادوا على ذلك بعد أن أخذوا موضعهم من القلوب قليلا بإنشاء كتب ورسائل بعد القرن الثالث الهجرى، ثم زادوا على ذلك بأن صرحوا بآرائهم في الحقيقة والطريقة جميعا بعد ذلك فانتشر منهم ما أنشاوه نظما ونثرا في أقطار الارض.
________________________________________
[ 282 ]
ولم يزالوا يزيدون عدة وعدة ووقوعا في قلوب العامة ووجاهة حتى بلغوا غاية أوجهم في القرنين السادس والسابع ثم انتكسوا في المسير وضعف أمرهم وأعرض عامة الناس عنهم. وكان السبب في انحطاطهم أولا أن شأنا من الشؤون الحيوية التى لها مساس بحال عامة الناس إذا اشتد إقبال النفوس عليه وتولع القلوب إليه تاقت إلى الاستدرار من طريقه نفوس وجمع من أرباب المطامع فتزيوا بزيه وظهروا في صورة أهله وخاصته فأفسدوا فيه وتعقب ذلك تنفر الناس عنه. وثانيا: أن جماعة من مشائخهم ذكروا أن طريقة معرفة النفس طريقة مبتدعة لم يذكرها مشرع الشريعة فيما شرعه إلا أنها طريقة مرضية ارتضاها الله سبحانه كما ارتضى الرهبانية المبتدعة بين النصارى قال تعالى: " ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها " (الحديد: 27). وتلقاه الجمهور منهم بالقبول فأباح ذلك لهم أن يحدثوا للسلوك رسوما وآدابا لم تعهد في الشريعة، فلم تزل تبتدع سنة جديدة وتترك أخرى شرعية، حتى آل إلى أن صارت الشريعة في جانب، والطريقة في جانب، وآل بالطبع إلى انهماك المحرمات وترك الواجبات من شعائر الدين ورفع التكاليف، وظهور أمثال القلندرية ولم يبق من التصوف إلا التكدى واستعمال الافيون والبنج وهو الفناء. والذى يقضى به في ذلك الكتاب والسنة - وهما يهديان إلى حكم العقل - هو أن القول بأن تحت ظواهر الشريعة حقائق هي باطنها حق، والقول بأن للانسان طريقا إلى نيلها حق، ولكن الطريق انما هو استعمال الظواهر الدينية على ما ينبغى من الاستعمال لا غير، وحاشا أن يكون هناك باطن لا يهدى إليه ظاهر، والظاهر عنوان الباطن وطريقه، وحاشا ان يكون هناك شئ آخر اقرب مما دل عليه شارع الدين غفل عنه أو تساهل في امره أو اضرب عنه لوجه من الوجوه بالمرة وهو القائل عز من قائل: " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ " (النحل: 89) وبالجملة فهذه طرق ثلاثة في البحث عن الحقائق والكشف عنها: الظواهر الدينية وطريق البحث العقلي وطريق تصفية النفس، أخذ بكل منها طائفة من المسلمين على ما بين الطوائف الثلاث من التنازع والتدافع، وجمعهم
________________________________________
[ 283 ]
في ذلك كزوايا المثلث كلما زدت في مقدار واحدة منها نقصت من الاخريين وبالعكس. وكان الكلام في التفسير يختلف اختلافا فاحشا بحسب اختلاف مشرب المفسرين بمعنى أن النظر العلمي في غالب الامر كان يحمل على القرآن من غير عكس إلا ما شذ. وقد عرفت أن الكتاب يصدق من كل من الطرق ما هو حق، وحاشا أن يكون هناك باطن حق ولا يوافقه ظاهره، وحاشا أن يكون هناك حق من ظاهر أو باطن والبرهان الحق يدفعه ويناقضه. ولذلك رام جمع من العلماء بما عندهم من بضاعة العلم على اختلاف مشاربهم أن يوفقوا بين الظواهر الدينية و العرفان كابن العربي وعبد الرزاق الكاشانى وابن فهد والشهيد الثاني والفيض الكاشانى. وآخرون أن يوفقوا بين الفلسفة والعرفان كأبى نصر الفارابى والشيخ السهروردى صاحب الاشراف والشيخ صائن الدين محمد تركه. وآخرون أن يوفقوا بين الظواهر الدينية والفلسفة كالقاضي سعيد وغيره. وآخرون أن يوفقوا بين الجميع كابن سينا في تفاسيره وكتبه وصدر المتألهين الشيرازي في كتبه ورسائله وعدة ممن تأخر عنه. ومع ذلك كله فالاختلاف العريق على حاله لا تزيد كثرة المساعى في قطع أصله إلا شدة في التعرق، ولا في إخماد ناره إلا اشتعالا: الفيت كل تميمة لا تنفع وأنت لا ترى أهل كل فن من هذه الفنون إلا ترمى غيره بجهالة أو زندقة أو سفاهة رأى، والعامة تتبرى منهم جميعا. كل ذلك لما تخلفت الامة في أول يوم عن دعوة الكتاب إلى التفكر الاجتماعي (وأعتصموا بحبل الله جميعا ولا تتفرقوا) والكلام ذو شجون. اللهم اهدنا إلى ما يرضيك عنا واجمع كلمتنا على الحق، وهب لنا من لدنك وليا، وهب لنا من لدنك نصيرا.
________________________________________
[ 284 ]
(بحث روائي) في الدر المنثور في قوله تعالى: " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا " (الاية) أخرج ابن الضريس والنسائي وابن جرير وابن أبى حاتم والحاكم - وصححه - عن ابن عباس قال: من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب، قال تعالى: " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب " قال: فكان الرجم مما أخفوا. أقول: إشارة إلى ما سيجئ في تفسير قوله تعالى: " يا أيها الرسول لا يحزنك " إلى آخر الايات (المائدة: 41) من حديث كتمان اليهود حكم الرجم في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكشفه عن ذلك. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " يبين لكم على فترة من الرسل " (الاية) قال: قال: على انقطاع من الرسل. وفي الكافي بإسناده عن أبى حمزة ثابت بن دينار الثمالى وأبى الربيع قال: حججنا مع أبى جعفر عليه السلام في السنة التى حج فيها هشام بن عبد الملك، وكان معه نافع مولى عمر ابن الخطاب فنظر إلى أبى جعفر عليه السلام في ركن البيت وقد اجتمع عليه الناس فقال نافع: يا أمير المؤمنين من هذا الذى تداك عليه الناس ؟ فقال: هذا نبى أهل الكوفة هذا محمد ابن على، فقال: اشهد لاتينه ولا سألنه عن مسائل لا يجيبنى فيها إلا نبى أو وصى نبى قال: فاذهب فاسأله لعلك تخجله. فجاء نافع حتى اتكئ على الناس ثم أشرف على أبى جعفر عليه السلام فقال: يا محمد ابن على إنى قرأت التوراة والانجيل والزبور والفرقان، وقد عرفت حلالها وحرامها وقد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلا نبى أو وصى نبى قال: فرفع أبو جعفر عليه السلام رأسه فقال: سل عما بدا لك فقال: أخبرني كم بين عيسى ومحمد من سنة ؟ فقال: أخبرك بقولى أو بقولك ؟ قال: أخبرني بالقولين جميعا قال: أما في قولى فخمسمائة سنة، وأما في قولك فستمائة سنة. 4 اقول: وقد روى في أسباب نزول الايات أخبار مختلفة كما رواه الطبري عن
________________________________________
[ 285 ]
عكرمة: أن اليهود سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حكم الرجم فسأل عن أعلمهم فشأروا إلى ابن صوريا فناشده بالله هل يجدون حكم الرجم في كتابهم ؟ فقال: إنه لما كثر فينا جلدنا مائة وحلقنا الرؤوس، فحكم عليهم بالرجم فأنزل الله: " يا أهل الكتاب إلى قوله - صراط مستقيم ". وما رواه أيضا عن أبن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابن أبى، وبحري بن عمرو، وشاس بن عدى فكلمهم وكلموه، ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته فقالوا: ما تخوفنا يا محمد ؟ نحن والله أبناء الله وأحباؤه - كقول النصارى - فأنزل الله فيهم: " وقالت اليهود والنصارى " (إلى آخر الاية). وما رواه أيضا عن ابن عباس قال: دعا رسول الله اليهود إلى الاسلام فرغبهم فيه وحذرهم فأبوا عليه ؟ فقال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب: يا معشر اليهود اتقوا الله فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حريمل، ووهب بن يهودا: ما قلنا لكم هذا، وما انزل الله من كتاب من بعد موسى، ولا ارسل بشيرا ولا نذيرا بعده فأنزل الله: " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة " (الاية) وقد رواها في الدر المنثور عنه وعن غيره وروى غير ذلك. ومضامين الروايات كغالب ما ورد في أسباب نظرية إنما هي تطبيقات للقضايا على مضامين الايات ثم قضاء بكونها أسبابا للنزول فهى أسباب نظرية والايات كأنها مطلقة نزولا. * * * وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتيكم ما لم يؤت أحدا من العالمين - 20. يا قوم ادخلوا الارض المقدسة التى كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين - 21. قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى
________________________________________
[ 286 ]
يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون - 22. قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين - 23. قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون - 24. قال رب إنى لا أملك إلا نفسي وأخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين - 25. قال فإنها محرمه عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض فلا تأس على القوم الفاسقين - 26. (بيان) الايات غير خالية عن الاتصال بما قبلها فإنها تشتمل على نقضهم بعض المواثيق المأخوذة عليهم وهو الميثاق بالسمع والطاعة لموسى، وتجبيههم موسى عليه السلام بالرد الصريح لما دعاهم إليه وابتلائهم جزاء لذنبهم هذا بالتيه وهو عذاب إلهى. وفي بعض الاخبار ما يشعر أن هذه الايات نزلت قبل غزوة بدر في أوائل الهجرة، على ما ستجئ الاشارة إليها في البحث الروائي التالى إن شاء الله. قوله تعالى: " وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم " (إلى آخر الاية) الايات النازلة في قصص موسى تدل على أن هذه القصة - دعوة موسى إياهم إلى دخول الارض المقدسة - إنما كانت بعد خروجهم من مصر، كما أن قوله في هذه الاية: " وجعلكم ملوكا " يدل على ذلك أيضا. ويدل قوله: " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " على سبق عدة من الايات النازلة عليهم كالمن والسلوى وانفجار العيون من الحجارة وإضلال الغمام. ويدل قوله: " القوم الفاسقين " المتكرر مرتين على تحقق المخالفة ومعصية الرسول
________________________________________
[ 287 ]
منهم قبل القصة مرة بعد مرة حتى عادوا بذلك متلبسين بصفة الفسق. فهذه قرائن تدل على وقوع القصة أعنى قصة التيه في الشطر الاخير من زمان مكث موسى عليه السلام فيهم بعد أن بعثة الله تعالى إليهم وأن غالب القصص المقتصة في القرآن عنهم إنما وقعت قبل ذلك. فقول موسى لهم: " اذكروا نعمة الله عليكم " أريد به مجموع النعم التى أنعم الله بها عليهم وحباهم بها، وإنما بدء بذلك مقدمة لما سيندبهم إليه من دخول الارض المقدسة فذكرهم نعم ربهم لينشطوا بذلك لاستزادة النعمة واستتمامها فإن الله قد كان أنعم عليهم ببعثه موسى وهدايتهم إلى دينه، ونجاتهم من آل فرعون، وإنزال التوراة، وتشريع الشريعة فلم يبق لهم من تمام النعمة إلا أن يمتلكوا أرضا مقدسة يستقلون فيها بالقطون والسؤدد. وقد قسم النعمة التى ذكرهم بها ثلاثة أقسام حين التفصيل فقال: " إذ جعل فيكم أنبياء، وهم الانبياء الذين في عمود نسبهم كإبراهيم وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من الانبياء، أو خصوص الانبياء من بنى إسرائيل كيوسف أو الاسباط وموسى وهارون، والنبوة نعمة أخرى. ثم قال: " وجعلكم ملوكا " أي مستقلين بأنفسكم خارجين من ذل استرقاق الفراعنة وتحكم الجبابرة، وليس الملك إلا من استقل في أمر نفسه وأهله وماله، وقد كان بنو إسرائيل في زمن موسى يسيرون بسنة اجتماعية هي أحسن السنن وهى سنة التوحيد التى تأمرهم بطاعة الله ورسوله، والعدل التام في مجتمعهم، وعدم الاعتداء على غيرهم من الامم من غير ان يتأمر عليهم بعضهم أو يختلف طبقاتهم اختلافا يختل به امر المجتمع، وما عليهم إلا موسى وهو نبى غير سائر سيرة ملك أو رئيس عشيرة يستعلى عليهم بغير الحق. وقيل: المراد بجعلهم ملوكا هو ما قدر الله فيهم من الملك الذى يبتدئ من طالوت فداود إلى آخر ملوكهم، فالكلام على هذا وعد بالملك إخبارا بالغيب فإن الملك لم يستقر فيهم إلا بعد موسى بزمان. وهذا الوجه لا بأس به لكن لا يلائمه قوله: " وجعلكم ملوكا " ولم يقل: وجعل منكم ملوكا، كما قال: " جعل فيكم أنبياء ". ويمكن أن يكون المراد بالملك مجرد ركوز الحكم عند بعض الجماعة فيشمل سنة
________________________________________
[ 288 ]
الشيخوخة، ويكون على هذا موسى عليه السلام ملكا وبعده يوشع النبي وقد كان يوسف ملكا من قبل، وينتهى إلى الملوك المعروفين طالوت وداود وسليمان وغيرهم. هذا، ويرد على هذا الوجه أيضا ما يرد على سابقه. ثم قال: " وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين " وهى العنايات والالطاف الالهية التى اقترنت بآيات باهرة قيمة بتعديل حياتهم لو استقاموا على ما قالوا، وداموا على ما واثقوا، وهى الايات البينات التى أحاطت بهم من كل جانب أيام كانوا بمصر، وبعد إذ نجاهم الله من فرعون وقومه، فلم يتوافر ويتواتر من الايات المعجزات والبراهين الساطعات والنعم التى يتنعم بها في الحياة على امة من الامم الماضية المتقدمة على عهد موسى ما توافرت وتواترت على بنى اسرائيل. وعلى هذا فلا وجه لقول بعضهم: ان المراد بالعالمين عالموا زمانهم وذلك أن الاية تنفى أن يكون امة من الامم إلى ذلك الوقت اوتيت من النعم ما اوتى بنو اسرائيل، وهو كذلك. قوله تعالى: " يا قوم ادخلوا الارض المقدسة التى كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين " أمرهم بدخول الارض المقدسة، وكان يستنبط من حالهم التمرد والتأبى عن القبول، ولذلك أكد إمره بالنهي عن الارتداد وذكر استتباعه الخسران. والدليل على أنه كان يستنبط منهم الرد توصيفه اياهم بالفاسقين بعد ردهم، فإن الرد وهو فسق واحد لا يصحح اطلاق " الفاسقين " عليهم الدال على نوع من الاستمرار والتكرر. وقد وصف الارض بالمقدس، وقد فسروه بالمطهرة من الشرك لسكون الانبياء والمؤمنين فيها، ولم يرد في القرآن الكريم ما يفسر هذه الكلمة. والذى يمكن أن يستفاد منه ما يقرب من هذا المعنى قوله تعالى: " إلى المسجد الاقصى الذى باركنا حوله " (أسرى: 1) وقوله: " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التى باركنا فيها " (الاعراف: 137) وليست المباركة في الارض الا جعل الخير الكثير فيها، ومن الخير الكثير اقامة الدين واذهاب قذارة الشرك. وقوله: " كتب الله لكم " ظاهر الايات أن المراد به قضاء توطنهم فيها، ولا ينافيه
________________________________________
[ 289 ]
قوله في آخرها: " فإنها محرمة عليهم أربعين سنة " بل يؤكده فإن قوله: " كتب الله لكم كلام " مجمل أبهم فيه ذكر الوقت وحتى الاشخاص، فإن الخطاب للامة من غير تعرض لحال الافراد والاشخاص كما قيل: ان السامعين لهذا الخطاب الحاضرين المكلفين به ماتوا وفنوا عن آخرهم في التية، ولم يدخل الارض المقدسة الا أبناءهم وأبناء أبنائهم مع يوشع بن نون، وبالجملة لا يخلو قوله: " فإنها محرمة عليهم أربعين سنة " عن اشعار بأنها مكتوبة لهم بعد ذلك. وهذه الكتابة هي التى يدل عليها قوله تعالى: " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الارض " (القصص: 6) وقد كان موسى عليه السلام يرجو لهم ذلك بشرط الاستعانة بالله والصبر حيث يقول: " قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا ان الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين قالوا اوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر كيف تعملون " (الاعراف: 129). وهذا هو الذى يخبر تعالى عن انجازه بقوله: " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التى باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بنى اسرائيل بما صبروا " (الاعراف: 137) فدلت الاية على أن استيلاءهم على الارض المقدسة وتوطنهم فيها كانت كلمة الهية وكتابا وقضاء مقضيا مشترطا بالصبر على الطاعة وعن المعصية، وفي مر الحوادث. وانما عممنا الصبر لمكان اطلاق الاية، ولان الحوادث الشاقة كانت تتراكم عليهم أيام موسى ومعها الاوامر والنواهي الالهية، وكلما أصروا على المعصية اشتدت عليهم التكاليف الشاقة كما تدل على ذلك أخبارهم المذكورة في القرآن الكريم. وهذا هو الظاهر من القرآن في معنى كتابة الارض المقدسة لهم، والايات مع ذلك مبهمة في زمان الكتابة ومقدارها غير أن قوله تعالى في ذيل آيات سورة الاسراء: " وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا " (أسرى: 8) وكذا قول موسى لهم في ذيل الاية السابقة: " عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الارض فينظر كيف
________________________________________
[ 290 ]
تعملون " (الاعراف: 129) وقوله أيضا: " وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم - إلى أن قال - وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد " إبراهيم: 7) وما يناظرها من الايات تدل على أن هذه الكتابة كتابة مشترطة لا مطلقة غير قابلة للتغير والتبدل. وقد ذكر بعض المفسرين أن مراد موسى في محكى قوله في الاية: " كتب الله لكم " ما وعد الله إبراهيم عليه السلام، ثم ذكر ما في التوراة (1) من وعد الله إبراهيم وإسحاق ويعقوب أنه سيعطى الارض لنسلهم، وأطال البحث في ذلك. ولا يهمنا البحث في ذلك على شريطة الكتاب سواء كانت هذه العدات من التوراة الاصلية أو مما لعبت به يد التحريف فإن القرآن لا يفسر بالتوراة. قوله تعالى: " قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون " قال الراغب: أصل الجبر إصلاح الشئ بضرب من القهر يقال: جبرته فانجبر واجتبر. قال: وقد يقال الجبر تارة في الاصلاح المجرد نحو قول على رضى الله عنه: يا جابر كل كسير ويا مسهل كل عسير، ومنه قولهم للخبز: جابر بن حبة، وتارة في القهر المجرد نحو قوله عليه السلام: لا جبر ولا تفويض، قال: والاجبار في الاصل حمل الغير على أن يجبر الاخر لكن تعورف في الاكراه المجرد فقيل: أجبرته على كذا لقولك: أكرهته. قال: والجبار في صفة الانسان يقال لمن يجبر نقيصة بادعاء منزلة من التعالى لا يستحقها، وهذا لا يقال إلا على طريق الذم كقوله عز وجل: " وخاب كل جبار عنيد " وقوله تعالى. " ولم يجعلني جبارا شقيا " وقوله عز وجل: " إن فيها قوما جبارين " قال: ولتصور القهر بالعلو على الاقران قيل: نخله جبارة وناقة جبارة انتهى موضوع الحاجة.
________________________________________
(1) كما في سفر التكوين أنه لما مر إبراهيم بأرض الكنعانيين ظهر له الرب: " وقال لنسلك اعطى هذه الارض " 12: 7 وفيه ايضا: " في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا: لنسلك اعطى هذه الارض من نهر مصر الى النهر الكبير نهر الفرات) 15: 18 وفي سفر تثنية الاشتراع: (الرب إلهنا كلمنا في حوريب قائلا: كفاكم قعودا في هذا الجبل، تحولوا وارتحلوا وادخلو جبل الامويين وكل ما يليه من القفر والجبا والسهل والجنوب وساحل البحر ارض الكنعاني ولبنان إلى النهر الكبير نهر الفرات. انظروا قد جعلت أمامكم الارض ادخلوا وتملكوا الارض التى اقسم الرب لابائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب ان يعطيها لهم ولنسلهم من بعدهم " 1 - 8. (*)
________________________________________
[ 291 ]
فظهر أن المراد بالجبارين هم أولوا السطوة والقوة من الذين يجبرون الناس على ما يريدون. وقوله: " وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها " اشتراط منهم خروج القوم الجبارين في دخول الارض، وحقيقته الرد لامر موسى وإن وعدوه ثانيا الدخول على الشرط بقولهم: " فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ". وقد ورد في عدة من الاخبار في صفة هؤلاء الجبارين من العمالقة وعظم أجسامهم وطول قامتهم امور عجيبة لا يستطيع ذو عقل سليم أن يصدقها، ولا يوجد في الاثار الارضية والابحاث الطبيعية ما يؤيدها فليست إلا موضوعة مدسوسة. قوله تعالى: " قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما " (إلى آخر الاية) ظاهر السياق أن المراد بالمخافة مخافة الله سبحانه وأن هناك رجالا كانوا يخافون الله أن يعصوا أمره وأمر نبيه، ومنهم هذان الرجلان اللذان قالا ما قالا، وأنهما كانا يختصان من بين اولئك الذين يخافون بأن الله أنعم عليهما، وقد مر في موارد تقدمت من الكتاب أن النعمة إذا اطلقت في عرف القرآن يراد بها الولاية الالهية فهما كانا من أولياء الله تعالى، وهذا في نفسه قرينة على أن المراد بالمخافة مخافة الله سبحانه فإن أولياء الله لا يخشون غيره قال تعالى: " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " (يونس: 62). ويمكن أن يكون متعلق " أنعم " المحذوف أعنى المنعم به هو الخوف فيكون المراد أن الله أنعم عليهما بمخافته، ويكون حذف مفعول " يخافون " للاكتفاء بذكره في قوله: " أنعم الله عليهما " إذ من المعلوم أن مخافتهما لم يكن من اولئك القوم الجبارين والا لم يدعو بنى اسرائيل إلى الدخول بقولهما: " ادخلوا عليهم الباب ". وذكر بعض المفسرين: أن ضمير الجمع في " يخافون " عائد إلى بنى إسرائيل والضمير العائد إلى الموصول محذوف، والمعنى: وقال رجلان من الذين يخافهم بنو إسرائيل قد أنعم الله على الرجلين بالاسلام، وأيدوه بما نسب إلى ابن جبير من قراءة " يخافون " بضم الياء قالوا. وذلك أن رجلين من العمالقة كانا قد آمنا بموسى، ولحقا بنى إسرائيل ثم قالا لبنى إسرائيل ما قالا إراءة لطريق الظفر على العمالقة والاستيلاء على بلادهم وأرضهم. وكان هذا التفسير باستناد منهم إلى بعض الاخبار الواردة في تفسير الايات لكنه من
________________________________________
[ 292 ]
الاحاد المشتملة على ما لا شاهد له من الكتاب وغيره. وقوله: " ادخلوا عليهم الباب " لعل المراد به أول بلد من بلاد أولئك الجبابرة يلى بنى إسرائيل، وقد كان على ما يقال: " أريحاء، وهذا استعمال شائع أو المراد باب البلدة. وقوله: " فإذا دخلتموه فإنكم غالبون " وعد منهما لهم بالفتح والظفر على العدو، وإنما أخبرا إخبارا بتيا اتكالا منهما بما ذكره موسى عليه السلام أن الله كتب لهم تلك الارض لايمانهما بصدق أخباره، أو أنهما عرفا ذلك بنور الولاية الالهية. وقد ذكر المعظم من مفسري الفريقين: أن الرجلين هما يوشع بن نون وكالب بن يوفنا وهما من نقباء بنى إسرائيل الاثنى عشر. ثم دعواهم إلى التوكل على ربهم بقولهما: " وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " لان الله سبحانه كافى من توكل عليه، وفيه تطييب لنفوسهم وتشجيع لهم. قوله تعالى: " قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها " (الاية) تكرارهم قولهم: " إنا لن ندخلها " ثانيا لايئاس موسى عليه السلام من أن يصر على دعوته فيعود إلى الدعوة بعد الدعوة. وفي الكلام وجوه من الاهانة والازراء والتهكم بمقام موسى وما ذكرهم به من أمر ربهم ووعده فقد سرد الكلام سردا عجيبا، فهم أعرضوا عن مخاطبة الرجلين الداعيين إلى دعوة موسى عليه السلام أولا، ثم أوجزوا الكلام مع موسى بعد ما أطنبوا فيه بذكر السبب والخصوصيات في بادئ كلامهم، وفي الايجاز بعد الاطناب في مقام التخاصم والتجاوب دلالة على استملال الكلام وكراهة استماع الحديث أن يمضى عليه المتخاصم الاخر. ثم أكدوا قولهم: " لن ندخلها " ثانيا بقولهم: " أبدا " ثم جراهم الجهالة على ما هو أعظم من ذلك كله، وهو قولهم مفرعين على ردهم الدعوة: " فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ". وفي الكلام أوضح الدلالة على كونهم مشبهين كالوثنيين، وهو كذلك فإنهم القائلون على ما يحكيه الله سبحانه عنهم في قوله: " وجاوزنا ببنى إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا الها كما لهم آلهة قال انكم قوم تجهلون " (الاعراف: 138) ولم يزالوا على التجسيم والتشبيه حتى اليوم على ما يدل عليه كتبهم
________________________________________
[ 293 ]
الدائرة بينهم. قوله تعالى: " قال رب انى لا أملك الا نفسي واخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين السياق يدل على أن قوله: " إنى لا أملك الا نفسي وأخى " كناية عن نفى القدرة على حمل غير نفسه وأخيه على ما أتاهم به من الدعوة. فإنه انما كان في مقدرته حمل نفسه على امضاء ما دعا إليه وحمل أخيه هارون وقد كان نبيا مرسلا وخليفة له في حياته لا يتمرد عن أمر الله سبحانه. أو أن المراد أنه ليس له قدرة الا على نفسه ولا لاخيه قدرة الا كذلك. وليس مراده نفى مطلق القدرة حتى من حيث اجابة المسئول لايمان ونحوه حتى ينافى ظاهر سياق الاية أن الرجلين من الذين يخافون وآخرين غيرهما كانوا مؤمنين به مستجيبين لدعوته فإنه لم يذكر فيمن يملكه حتى أهله وأهل أخيه مع أن الظاهر أنهم ما كانوا ليتخلفوا عن أوامره. وذلك أن المقام لا يقتضى الا ذلك فإنه دعاهم إلى خطب مشروع فأبلغ وأعذر فرد عليه المجتمع الاسرائيلي دعوته أشنع رد وأقبحه، فكان مقتضى هذا الحال أن يقول: رب انى أبلغت وأعذرت ولا أملك في اقامة أمرك الا نفسي وكذلك أخى، وقد قمنا بما علينا من واجب التكليف ولكن القوم واجهونا بأشد الامتناع، ونحن الان آئسان منهم، والسبيل منقطع فاحلل أنت هذه العقدة ومهد بربوبيتك السبيل إلى نيل ما وعدته لهم من تمام النعمة وايراثهم الارض واستخلافهم فيها، واحكم وافصل بيننا وبين هؤلاء الفاسقين. وهذا المورد على خلاف جميع الموارد التى عصوا فيها أمر موسى كمسألة الرؤية وعبادة العجل ودخول الباب وقول حطة وغيرها يختص بالرد الصريح من المجتمع الاسرائيلي لامره من غير أي رفق وملاءمة، ولو تركهم موسى على حالهم، وأغمض عن أمره لبطلت الدعوة من أصلها، ولم يتمش له بعد ذلك أمر ولا نهى وتلاشت بينهم أركان ما أوجده من الوحدة. ويتبين بهذا البيان اولا: أن مقتضى هذا الحال أن يتعرض موسى عليه السلام في شكواه إلى ربه لحال نفسه وأخيه، وهما المبلغان عن الله تعالى، ولا يتعرض لحال غيرهما من المؤمنين وإن كانوا غير متمردين. إذ لا شأن لهم في التبليغ والدعوة، والمقام إنما يقتضى التعرض
________________________________________
[ 294 ]
لحال مبلغ الحكم لا العامل الاخذ به المستجيب له. وثانيا: أن المقام كان يقتضى رجوع موسى عليه السلام إلى ربه بالشكوى وهو في الحقيقة استنصار منه في إجراء الامر الالهى. وثالثا: أن قوله: " وأخى " معطوف على الياء في قوله: " إنى " والمعنى: وأخى مثلى لا يملك إلا نفسه لا على قوله: " نفسي " فإنه خلاف ما يقتضيه السياق وإن كان المعنى صحيحا على جميع التقادير فإن موسى وهارون كما كانا يملك كل منهما من نفسه الطاعة والامتثال كان موسى يملك من نفس هارون الطاعة لكونه خليفته في حياته، وكذا كانا يملكان ممن أخلص لله من المؤمنين السمع والطاعة. ورابعا: أن قوله: " فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " ليس دعاء منه على بنى إسرائيل بالحكم الفصل المستعقب لنزول العذاب عليهم أو بالتفريق بينهما وبينهم بإخراجهما من بينهم أو بتوفيهما فإنه عليه السلام كان يدعوهم إلى ما كتب الله لهم من تمام النعمة، وكان هو الذى كتب الله المن على بنى إسرائيل بإنجائهم واستخلافهم في الارض بيده كما قال تعالى: " ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين " (القصص: 5). وكان بنو إسرائيل يعلمون ذلك منه كما يستفاد من قولهم على ما حكى الله: " قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا " الاية (الاعراف: 129). ويشهد بذلك أيضا قوله تعالى: " فلا تأس على القوم الفاسقين " فإنه يكشف عن أن موسى عليه السلام كان يشفق عليهم من نزول السخط الالهى، وكان من المترقب أن يحزن بسبب حلول نقمة التيه بهم. قوله تعالى: " قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الارض فلا تأس على القوم الفاسقين " الضمير في قوله: " فإنها " راجعة إلى الارض المقدسة، والمراد بالتحريم التحريم التكويني وهو القضاء، والتيه التحير، واللام في " الارض " للعهد، وقوله " فلا تأس " نهى من الاسى وهو الحزن، وقد أمضى الله تعالى قول موسى عليه السلام حيث وصفهم في دعائه بالفاسقين. والمعنى: أن الارض المقدسة أي دخولها وتملكها محرمة عليهم، أي قضينا أن
________________________________________
[ 295 ]
لا يوفقوا لدخولها أربعين سنة يسيرون فيها في الارض متحيرين لاهم مدنيون يستريحون إلى بلد من البلاد، ولا هم بدويون يعيشون عيشة القبائل والبدويين، فلا تحزن على القوم الفاسقين من نزول هذه النقمة عليهم لانهم فاسقون لا ينبغى أن يحزن عليهم إذا أذيقوا وبال أمرهم. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن أبى حاتم عن أبى سعيد الخدرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت بنو إسرائيل إذا كان لاحدهم خادم دابة وامرأة كتب ملكا. وفيه: اخرج أبو داود في مراسله عن زيد بن أسلم في قوله: " وجعلكم ملوكا " قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: زوجة ومسكن وخادم. أقول: وروى غير هاتين الروايتين روايات أخرى في هذا المعنى غير أن الاية في سياقها لا تلائم هذا التفسير، فإنه وإن كان من الممكن أن يكون من دأب بنى إسرائيل أن يسموا كل من كان له بيت وامرأة وخادم ملكا أو يكتبوه ملكا إلا أن من البديهى أنهم لم يكونوا كلهم حتى الخوادم على هذا النعت ذوى بيوت ونساء وخدام فالكائن منهم على هذه الصفة بعضهم، ويماثلهم في ذلك سائر الامم والاجيال فاتخاذ البيوت والنساء والخدام عادة جارية في جميع الامم لا يخلو عن ذلك أمة عن الامم، وإذا كان كذلك لم يكن أمرا يخص بنى إسرائيل حتى يمتن الله عليهم في كلامه بأنه جعلهم ملوكا، والاية في مقام الامتنان. ولعل التنبه على ذلك أوجب وقوع ما وقع في بعض الروايات كما عن قتادة: أنهم أول من ملك الخدم، والتاريخ لا يصدقه. وفي أمالى المفيد بإسناده عن أبى حمزة عن أبى جعفر عليه السلام قال: لما انتهى لهم موسى إلى الارض المقدسة قال لهم: " ادخلوا الارض المقدسة التى كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين " وقد كتبها الله لهم " قالوا إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا
________________________________________
[ 296 ]
إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى انا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا انا ههنا قاعدون قال رب انى لا أملك الا نفسي وأخى فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين " فلما أبوا ان يدخلوها حرمها الله عليهم فتاهوا في أربع فراسخ اربعين سنة يتيهون في الارض فلا تأس على القوم الفاسقين. قال أبو عبد الله عليه السلام: كانوا إذا امسوا نادى مناديهم: الرحيل فيرتحلون بالحدا والزجر حتى إذا اسحروا امر الله الارض فدارت بهم فيصبحوا في منزلهم الذى ارتحلوا منه فيقولون: قد اخطأتم الطريق فمكثوا بهذا اربعين سنة، ونزل عليهم المن والسلوى حتى هلكوا جميعا الا رجلان: يوشع بن نون وكالب بن يوفنا وابناءهم وكانوا يتيهون في نحو اربع فراسخ فإذا ارادوا ان يرتحلوا يبست ثيابهم عليهم وخفافهم. قال: وكان معهم حجر إذا انزلوا ضربه موسى بعصاه فانفرجت منه اثنتا عشرة عينا لكل سبط عين، فإذا ارتحلوا رجع الماء إلى الحجر ووضع الحجر على الدابة، الحديث. اقول: والروايات فيما يقرب من هذه المعاني كثيرة من طرق الشيعة واهل السنة وقوله في الرواية: وقال أبو عبد الله (الخ) رواية أخرى، وهذه الروايات وان اشتملت في معنى التيه وغيره على أمور لا يوجد في كلامه تعالى ما تتأيد به لكنها مع ذلك لا تشتمل على شئ مما يخالف الكتاب، وامر بنى اسرائيل في زمن موسى عليه السلام كان عجيبا تحتف بحياتهم خوارق العادة من كل ناحية فلا ضير في ان يكون تيههم على هذا النحو المذكور في الروايات. وفي تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة عن ابى عبد الله عليه السلام: انه سئل عن قول: " ادخلوا الارض المقدسة التى كتب الله لكم قال: كتبها لهم ثم محاها ثم كتبها لابنائهم فدخلوها والله يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب. اقول. وروى هذا المعنى ايضا عن اسماعيل الجعفي عنه عليه السلام وعن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السلام. وقد قاس عليه السلام الكتابة بالنسبة إلى السامعين لخطاب موسى عليه السلم بدخول الارض، والى الداخلين فيها فأنتج البداء في خصوص المكتوب لهم فلا ينافى ذلك ظاهر سياق الاية: ان المكتوب لهم هم الداخلون، وانما حرموا الدخول اربعين سنة ورزقوه بعدها فإن الخطاب في الاية متوجه بحسب المعنى
________________________________________
[ 297 ]
إلى المجتمع الاسرائيلي فيتحد عليه المكتوب لهم الدخول مع الداخلين لكونهم جميعا أمة واحدة كتب لها الدخول اجمالا ثم حرمت الدخول مدة ورزقته بعد ها ولا بداء على هذا وان كان بالنظر إلى خصوص الاشخاص بداء. وفي الكافي بإسناده عن عبد الرحمان بن يزيد عن ابى عبد الله عليخخخم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مات داود النبي يوم السبت مفجوا فأظلته الطير بأجنحتها، ومات موسى كليم الله في التيه فصاح صائح من السماء مات موسى واى نفس لا تموت ؟. * * * واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الاخر قال لاقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين - 27. لئن بسطت إلى يدك لتقتلى ما أنا بباسط يدى إليك لاقتلك إنى أخاف الله رب العالمين - 28. إنى أريد أن تبوء بإثمى وأثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين - 29. فطوعت له نفسه قتل أخخيه فقتله فأصبح من الخاسرين - 30. فبعث الله غرابا يبحث في الارض ليريه كيف يوارى سوء أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأوارى سوأة أخى فأصبح من الندمين - 31. من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرئيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الارض لمسرفون - 32.
________________________________________
[ 298 ]
(بيان) الايات تبنئ عن قصة ابني آدم، وتبين ان الحد ربما يبلغ بابن آدم إلى حيث يقتل اخاه ظالما فيصبح من الخخاسرين ويندم ندامة لا يستتبع نفعا، وهى بهذا المعنى ترتبط بما قبلها من الكلام على بنى إسرائيل واستنكافهم عن الايمان برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فان اباءهم عن قبول الدعوة الحقة لم يكن الا حسدا وبغيا، وهذا شأن الحسد يبعث الانسان إلى قتل اخيه ثم يوقعه في ندامة وحسرة لا مخلص عنها ابدا، فلييعتبروا بالقصة ولا يلحوا في حسدهم ثم في كفرهم ذاك الالحاح. قوله تعالى: " واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق " (الاية) التلاوة من التلو وهى القراءة سميت بها لان القارئ للنبأ يأتي ببعض اجزائه في تلو بعض آخخر. والنبأ هو الخبر إذا كان ذا جدوى ونفع. والقربان ما يتقرب به إلى الله سبحانه أو إلى غيره، وهو في الاصل مصدر لا يثنى ولا يجمع. والتقبل هو القبول بزيادة عناية واهتمام بالقبول والضمير في قوله " عليهم " لاهل الكتاب لما مر من كونهم هم المقصودين في سرد الكلام. والمراد بهذا المسمى بآدم الذى بذكر القرآن أنه أبو البشر، وقد ذكر بعض المفسرين أنه كان رجلا من بنى إسرائيل تنازعع ابناه في قربان قرباه فقتل أحدهما الاخر، وهو قابيل أو قايين قتل هابيل ولذلك قال تعالى بعد سرد القصة: " من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرئيل ". وهو فاسد أما أولا: فان القرآن لم يذكر ممن سمى بآدم إلا الذى يذكر أنه أبو البشر، ولو كان المراد بما في الاية غيره لكان من الازم نصب القرينة على ذلك لئلا يبهم أمر القصة. وأما ثانيا فلان بعض ما ذكر من خصوصيات القصة كقوله: " فبعث الله غرابا " انما يلائم حال الانسان الاولى الذى كان يعيش على سذاجة من الفكر وبساطة من الادراك، يأخخذ باستعداد الجبلى في ادخار المعلومات بالجارب الحاصلة من وقوع الحوادث الجزئية حادثة بعد حادثة، فالاية ظاهرة في أن القاتل ما كان يدرى أن الميت يمكن أن يستر جسده بمواراته في الارض، وفى الخاصة إنما تناسب حال ابن آدم أبى البشر لاحال رجل
________________________________________
[ 299 ]
من بنى إسرائيل، وقد كانوا أهل حضارة ومدينة بحسب حالهم في قوميتهم لا يخفى على أحدهم أمثال هذه الامور قطعا. وأما ثالثا فلان قوله: ولذلك قال تعالى بعد تمام القصة - من أجل ذلك كتبنا على بنى إسرائيل، يريد به الجواب عن سؤال اورد على الاية، وهو أنه ما وجه اختصاص الكتابة ببنى إسرائيل مع أن الذى تقتضيه القصة - وهو الذى كتبه الله - يعم حال جميع البشر، من قتل منهم نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحيا منهم نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا ؟. فأجاب القائل بقوله: ولذلك قال تعالى (الخ) أن القاتل والمقتول لم يكونا ابني آدم أبى البشر حتى تكون قصتهما مشتملة على حادثة من الحوادث الاوليه بين النوع الانساني فيكون عبرة يعتبر بها كل من جاء بعدهما، وإنما هما ابنا رجل من بنى إسرائيل، وكان نبأهما من الاخبار القومية الخاصة، ولذلك أخذ عبرة مكتوبة لخصوص بنى إسرائيل. لكن ذلك لا يحسم مادة الاشكال فإن السؤال بعد باق على حاله فإن كون قتل الواحد بمنزلة قتل الجميع وإحياء الواحد بمنزلة إحياء الجميع معنى يرتبط بكل قتل وقع بين هذا النوع من غير اختصاصه ببعض دون بعض، وقد وقع ما لا يحصى من القتل قبل بنى إسرائيل، وقبل هذا القتل الذى يشير إليه، فما باله رتب على قتل خاص وكتب على قوم خاص ؟. على أن الامر لو كان كما يقول كان الاحسن أن يقال: من قتل منكم نفسا (الخ) ليكون خاصا بهم، ثم يعود السؤال في هذا التخصيص مع عدم استقامته في نفسه. والجواب عن أصل الاشكال ان الذى يشتمل عليه قوله: " أن من قتل نفسا بغير نفس (الاية) حكمة بالغة وليس بحكم مشرع فالمراد بالكتابة عليهم بيان هذه الحكمة لهم مع عموم فائدتها لهم ولغيرهم كالحكم والمواعظ التى بينت في القرآن لامة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع عدم انحصار فائدتها فيهم. وإنما ذكر في الاية أنه بينه لهم لان الايات مسوقة لعظتهم وتنبيههم وتوبيخهم على ما حسدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصروا في العناد واشعال نار الفتن والتسبيب إلى القتال ومباشرة الحروب على المسلمين، ولذلك ذيل قوله: " من قتل نفسا " (الخ) بقوله: " ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم ان كثيرا منهم بعد ذلك في الارض لمسرفون "
________________________________________
[ 300 ]
على أن أصل القصة على النحو الذى ذكره لا مأخذ له رواية ولا تاريخا. فتبين ان قوله: " نبأ ابني آدم بالحق " يراد به قصة ابني آدم أبى البشر، وتقييد الكلام بقوله: " بالحق " - وهو متعلق بالنبأ أو بقوله " واتل " لا يخلو عن اشعار أو دلالة على ان المعروف الدائر بينهم من النبأ لا يخلو من تحريف وسقط، وهو كذلك فإن القصة موجودة في الفصل الرابع من سفر التكوين من التوراة، وليس فيها خبر بعث الغراب وبحثه في الارض، والقصة مع ذلك صريحة في تجسم الرب تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وقوله: " إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الاخر " ظاهر السياق أن كل واحد منهما قدم إلى الرب تعالى شيئا يتقرب به " وإنما لم يثن لفظ القربان لكونه في الاصل مصدرا لا يثنى ولا يجمع. وقوله: " قال لاقتلنك قال انما يتقبل الله من المتقين " القائل الاول هو القاتل والثانى هو المقتول، وسياق الكلام يدل على أنهما علما تقبل قربان أحدهما وعدم تقبله من الاخر، وأما أنهما من أين علما ذلك ؟ أو بأى طريق استدلوا عليه ؟ فالاية ساكته عن ذلك. غير أنه ذكر في موضع من كلامه تعالى: انه كان من المعهود عند الامم السابقة أو عند بنى إسرائيل خاصة تقبل القربان المتقرب به بأكل النار إياه قال تعالى: " الذين قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلى بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم ان كنتم صادقين " (آل عمران: 183) والقربان معروف عند أهل الكتاب إلى هذا اليوم (1) فمن الممكن أن يكون التقبل للقربان في هذه القصة أيضا على ذلك النحو، وخاصة بالنظر إلى القاء القصة إلى أهل الكتاب المعتقدين لذلك، وكيف كان فالقاتل والمقتول جميعا كانا يعلمان قبوله من أحدهما ورده من الاخر. ثم السياق يدل أيضا على أن القائل " لاقتلنك " هو الذى لم يتقبل قربانه، وأنه
________________________________________
(1) القربان عند اليهود أنواع كذبائح الحيوان بالتضحية، وتقدمة الدقيق والزيت واللبان وباكورة الثمار، وعند النصارى ما يقدمونه من الخبز والخمر فيتبدل إلى لحم المسيح ودمه حقيقة في زعمهم. (*)
________________________________________


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page