• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 251 الي 275


[ 251 ]
ومن لم يثبت على سعادة أو شقاوة ولم يركب طريق السعادة اللازمة بعد إذا نزلت به النوازل ودارت عليه الدوائر عقبت تعين طريقه وتميز موقفه من كفر أو إيمان، وصلاح أو طلاح، ولا ينبغى أن يسمى هذا النوع من البلايا والمحن إلا امتحانات وابتلاءات إلهية تخد للانسان خده إلى الجنة أو إلى النار. ومن لم يعتمد في حياته إلا على هوى النفس ولم يألف إلا الفساد والافساد والانغمار في لجج الشهوة والغضب، ولم يزل يختار الرذيلة على الفضيلة، والاستعلاء على الله على الخضوع للحق كما يقصه القرآن من عاقبة أمر الامم الظالمة كقوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون وأصحاب مدين وقوم لوط، إثر ما فرطوا في جنب الله. فالنوائب المنصبة عليهم المبيدة لجمعهم لا يستقيم إلا أن تعد تعذيبات إلهية ونكالات ووبالات عليهم لا غير. وقد جمع الله تعالى هذه المعاني في قوله عز من قائل: " وتلك الايام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الذين آمنوا ويمحق الكافرين " (آل عمران: 141). وتاريخ اليهود من لدن بعثة موسى عليه السلام إلى أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وسلم - فيما يزيد على ألفى سنة - وكذا تاريخ النصارى من لدن رفع المسيح إلى ظهور الاسلام - فيما يقرب من ستة قرون على ما يقال - مملوء من أنواع الذنوب التى أذنبوها، وجرائم ارتكبوها، ولم يبقوا منها باقية ثم أصروا واستكبروا من غير ندم، فالنوائب الحالة بساحتهم لا تستحق إلا اسم العذاب والنكال. وأما أن المسلمين ابتلوا بأمثال ما ابتليت به هؤلاء الامم فهذه الابتلاءات بالنظر إلى طبيعتها الكونية ليست إلا حوادث ساقتها يد التدبير الالهى سنة الله التى قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا، وبالنظر إلى حال المسلمين المبتلين بها فيما كانوا على طريق الحق لم تكن إلا امتحانات إلهية وفيما انحرفوا عنه من قبيل النكال والعذاب، وليس لاحد على الله كرامة ولا لمتحكم عليه حق ولم يثبت القرآن لهم على ربهم كرامة، ولا عدهم أبناء الله وأحباءه، ولا اعتنى بما تسموا به من أسماء أو ألقاب. قال تعالى مخاطبا لهم: " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين - إلى أن قال - وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان
________________________________________
[ 252 ]
مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزى الله الشاكرين " (آل عمران: 144)، وقال تعالى: " ليس بأمانيكم ولا أمانى أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا " (النساء: 123). وفي الاية أعنى قوله: " قل فلم يعذبكم بذنوبكم " وجه آخر وهو أن يكون المراد بالعذاب الاخروي، والمضارع (يعذبكم) بمعنى الاستقبال دون الاستمرار كما في الوجه السابق فإن أهل الكتاب معترفون بالعذاب بحذاء ذنوبهم في الجملة: أما اليهود فقد نقل القرآن عنهم قولهم: " لن تمسنا النار إلا أياما معدودة " (البقرة: 80) وأما النصارى فإنهم وإن قالوا بالفداء لمغفرة الذنوب لكنه إثبات في نفسه للذنوب والعذاب الذى أصاب المسيح بالصلب والاناجيل مع ذلك تثبت ذنوبا كالزنا ونحوه، و الكنيسة كانت تثبته عملا بما كانت تصدره من صكوك المغفرة. هذا. لكن الوجه هو الاول. قوله تعالى: " بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والارض وما بينهما واليه المصير " حجة ثانية مسوقة على نحو المعارضة محصلها: أن النظر في حقيقتكم يؤدى إلى بطلان دعواكم أنكم أبناء الله وأحباؤه، فإنكم بشر من جملة من خلقه الله من بشر أو غيره لا تمتازون عن سائر من خلقه الله منهم، ولا يزيد أحد من الخليقة من السماوات والارض وما بينهما على أنه مخلوق لله الذى هو المليك الحاكم فيه وفي غيره بما شاء وكيفما شاء وسيصير إلى ربه المليك الحاكم فيه وفى غيره، وإذا كان كذلك كان لله سبحانه أن يغفر لمن شاء منهم، ويعذب من شاء منهم من غير أن تمانعه مزية أو كرامة أو غير ذلك من ان يريد في شئ ما يريده من مغفرة أو عذاب أو يقطع سبيله قاطع أو يضرب دونه حجاب يحجبه عن نفوذ المشيئة ومضى الحكم. فقوله: " بل أنتم بشر ممن خلق " بمنزلة إحدى مقدمات الحجة، وقوله: " ولله ملك السماوات والارض وما بينهما " مقدمة أخرى وقوله: " وإليه المصير " مقدمة ثالثة، وقوله: " يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء " بمنزلة نتيجة البيان التى تناقض دعواهم: أنه لا سبيل إلى تعذيبهم. قوله تعالى: " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل " قال الراغب: الفتور سكون بعد حدة، ولين بعد شدة، وضعف بعد قوة قال تعالى:
________________________________________
[ 253 ]
" يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل " أي سكون خال عن مجئ رسول الله. والاية خطاب ثان لاهل الكتاب متمم للخطاب السابق فإن الاية الاولى بينت لهم أن الله ارسل إليهم رسولا ايده بكتاب مبين يهدى بإذن الله إلى كل خير وسعادة، وهذه الاية تبين ان ذلك البيان الالهى إنما هو لاتمام الحجة عليهم ان يقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير. وبهذا البيان يتأيد ان يكون متعلق الفعل (يبين لكم) في هذه الاية هو الذى في الاية السابقة، والتقدير: يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب أي ان هذا الدين الذى تدعون إليه هو بعينه دينكم الذى كنتم تدينون به مصدقا لما معكم والذى يرى فيه من موارد الاختلاف فإنما هو بيان لما أخفيتموه من معارف الدين التى بينته الكتب الالهية، ولازم هذا الوجه ان يكون قوله: " يا اهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم من قبيل إعادة عين الخطاب السابق لضم بعض الكلام المفصول عن الخطاب السابق المتعلق به وهو قوله: " ان تقولوا ما جاءنا " (الخ) إليه وانما جوز ذلك وقوع الفصل الطويل بين المتعلق والمتعلق به وهو شائع في اللسان، قال: قربا مربط النعامة منى * لقحت حرب وائل عن حيال قربا مربط النعامة منى * ان بيع الكريم بالشسع غال ويمكن ان يكون خطابا مستأنفا والفعل (يبين لكم) انما حذف متعلقه. للدلالة على العموم أي يبين لكم جميع ما يحتاج إلى البيان، أو لتفخيم أمره أي يبين لكم أمرا عظيما تحتاجون إلى بيانه، وقوله: " على فترة من الرسل " لا يخلو عن إشعار أو دلالة على هذه الحاجة فإن المعنى: يبين لكم ما مست حاجتكم إلى بيانه والزمان خال من الرسل حتى يبينوا لكم ذلك. وقوله: " أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير " متعلق بقوله: " قد جاءكم " بتقدير: حذر أن تقولوا، أو لئلا تقولوا. وقوله: " والله على كل شئ قدير " كأنه لدفع الدخل فإن اليهود كانت لا ترى
________________________________________
[ 254 ]
جواز تشريع شريعة بعد شريعة التوراة لذهابهم إلى امتناع النسخ والبداء فرد الله سبحانه مزعمتهم بأنها تنافى عموم القدرة، وقد تقدم الكلام في النسخ في تفسير قوله تعالى: " ما ننسخ من آية " الاية (البقرة: 106) في الجزء الاول من الكتاب. (كلام في طريق التفكر الذى يهدى إليه القرآن وهو بحث مختلط) مما لا نرتاب فيه أن الحياة الانسانية حياة فكرية لا تتم له إلا بالادراك الذى نسميه فكرا، وكان من لوازم ابتناء الحياة على الفكر أن الفكر كلما كان أصح وأتم كانت الحياة أقوم، فالحياة القيمة - بأية - سنة من السنن أخذ الانسان، وفي أي طريق من الطرق المسلوكة وغير المسلوكة سلك الانسان - ترتبط بالفكر القيم وتبتني عليه، وبقدر حظها منه يكون حظها من الاستقامة. وقد ذكر الله سبحانه في كتابه العزيز بطرق مختلفة وأساليب متنوعة كقوله: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " (الانعام: 122)، وقوله: " هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون " (الزمر: 9)، وقوله: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " (المجادلة: 11)، وقوله: " فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الالباب " (الزمر: 18) إلى غير ذلك من الايات الكثيرة التى لا تحتاج إلى الايراد. فأمر القرآن في الدعوة إلى الفكر الصحيح وترويج طريق العلم مما لا ريب فيه. والقرآن الكريم مع ذلك يذكر أن ما يهدى إليه طريق من الطرق الفكرية، قال تعالى: " إن هذا القرآن يهدى للتى هي أقوم " (أسرى: 9) أي الملة أو السنة أو الطريقة التى هي أقوم، وعلى أي حال هي صراط حيوى كونه أقوم يتوقف على كون طريق الفكر فيه أقوم، وقال تعالى: " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم " (المائدة: 16) والصراط المستقيم هو الطريق البين الذى لا اختلاف فيه ولا تخلف أي لا يناقض الحق المطلوب، ولا يناقض بعض أجزائه بعضا.
________________________________________
[ 255 ]
ولم يعين في الكتاب العزيز هذا الفكر الصحيح القيم الذى يندب إليه إلا أنه إحال فيه إلى ما يعرفه الناس بحسب عقولهم الفطرية، وإدراكهم المركوز في نفوسهم، وإنك لو تتبعت الكتاب الالهى ثم تدبرت في آياته وجدت ما لعله يزيد على ثلاثمائة آية تتضمن دعوة الناس إلى التفكر أو التذكر أو التعقل، أو تلقن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحجة لاثبات حق أو لابطال باطل كقوله: " قل فمن يملك من الله شيئا ان أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه " (الاية) أو تحكى الحجة عن أنبيائه وأوليائه كنوح وابراهيم وموسى وسائر الانبياء العظام، ولقمان ومؤمن آل فرعون وغيرهما عليهم السلام كقوله: " قالت رسلهم افي الله شك فاطر السماوات والارض " (ابراهيم: 10)، وقوله: " واذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بنى لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم " (لقمان: 13)، وقوله: " وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم ايمانه اتقتلون رجلا ان يقول ربى الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم " الاية (غافر: 28)، وقوله حكاية عن سحرة فرعون: " قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذى فطرنا فاقض ما انت قاض انما تقضى هذه الحياة الدنيا " إلى آخر ما احتجوا به (طه: 72). ولم يأمر الله تعالى عباده في كتابه ولا في آية واحدة ان يؤمنوا به أو بشئ مما هو من عنده أو يسلكوا سبيلا على العمياء وهم لا يشعرون، حتى انه علل الشرائع والاحكام التى جعلها لهم مما لا سبيل للعقل الا تفاصيل ملاكاته بامور تجرى مجرى الاحتجاجات كقوله " ان الصلاه تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله اكبر " (العنكبوت: 45) وقوله: " كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون " (البقرة: 183)، وقوله في آية الوضوء: " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون " (المائدة: 6) إلى غير ذلك من الايات. وهذا الادراك العقلي اعني طريق الفكر الصحيح الذى يحيل إليه القرآن الكريم ويبنى على تصديقه ما يدعو إليه من حق أو خير أو نفع، ويزجر عنه من باطل أو شر أو ضر انما هو الذى نعرفه بالخلقة والفطرة مما يتغير ولا يتبدل ولا يتنازع فيه انسان وانسان، ولا يختلف فيه اثنان، وان فرض فيه اختلاف أو تنازع فإنما هو من قبيل المشاجرة في البديهيات ينتهى إلى عدم تصور احد المتشاجرين أو كليهما حق المعنى المتشاجر فيه لعدم التفاهم الصحيح
________________________________________
[ 256 ]
وأما ان هذا الطريق الذى نعرفه بحسب فطرتنا الانسانية ما هو ؟ فلئن شككنا في شئ لسنا نشك ان هناك حقائق خارجية واقعية مستقلة منفكة عن اعمالنا كمسائل المبدء والمعاد، ومسائل أخرى رياضية أو طبيعية ونحو ما إذا أردنا أن نحصل عليها حصولا يقينيا استرحنا في ذلك إلى قضايا أولية بديهة غير قابلة للشك، وأخرى تلزمها لزوما كذلك، ونرتبها ترتيبا فكريا خاصا نستنتج منها ما نطلبه كقولنا: ا. ب، وكل ب. ج، ف‍ ا. ج، وكقولنا: لو كان ا. ب، فج. د، ولو كان ج. د، ف‍ ه‍. ز ينتج: لو كان ا ب، ف‍ ه‍. ز وكقولنا: إن كان ا. ب فج. د، ولو كان ج. د، ف‍ ه‍. ز لكن ا. ليس ب، ينتج: ه‍ ليس ز. وهذه الاشكال التى ذكرناها والمواد الاولية التى أشرنا إليها أمور بديهية يمتنع أن يرتاب فيها إنسان ذو فطرة سليمة إلا عن آفة عقلية أو لاختلاط في الفهم مقتض لعدم تعقل هذه الامور الضرورية بأخذ مفهوم تصوري أو تصديقي آخر مكان التصور أو التصديق البديهى، كما هو الغالب فيمن يتشكك في البديهيات. ونحن إذا راجعنا التشكيكات والشبه التى أوردت على هذا الطريق المنطقي المذكور وجدنا أنهم يعتمدون في استنتاج دعاويهم ومقاصدهم على مثل القوانين المدونة في المنطق الراجعة إلى الهيئة والمادة بحيث لو حللنا كلامهم إلى المقدمات الابتدائية المأخوذة فيه عاد إلى مواد وهيئات منطقية، ولو غيرنا بعض تلك المقدمات أو الهيئات إلى ما يهتف المنطق بعدم انتاجها عاد الكلام غير منتج، ورأيتهم لا يرضون بذلك، وهذا بعينه أوضح شاهد على أن هؤلاء معترفون بحسب فطرتهم الانسانية بصحة هذه الاصول المنطقية مسلمون لها مستعملون اياها، جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم. 1 - كقول بعض المتكلمين: " لو كان المنطق طريقا موصلا لم يقع الاختلاف بين اهل المنطق لكنا نجدهم مختلفين في آرائهم " فقد استعمل القياس الاستثنائى من حيث لا يشعر، وقد غفل هذا القائل عن ان معنى كون المنطق آلة الاعتصام ان استعماله كما هو حقه يعصم الانسان من الخطأ، واما ان كل مستعمل له فإنما يستعمله صحيحا فلا يدعيه احد، وهذا كما ان السيف آلة القطع لكن لا يقطع الا عن استعمال صحيح 2 - وقول بعضهم: " ان هذه القوانين دونت ثم كملت تدريجا فكيف يبتنى عليها ثبوت الحقائق الواقعية ؟ وكيف يمكن إصابة الواقع لمن لم يعرفها أو لم يتسعملها ؟ وهذا
________________________________________
[ 257 ]
كسابقه قياس استثنائي ومن أردء المغالطة. وقد غلط القائل في معنى التدوين، فإن معناه الكشف التفصيلي عن قواعد معلولة للانسان بالفطرة إجمالا لا أن معنى التدوين هو الايجاد. 3 - وقول بعضهم: " إن هذه الاصول إنما روجت بين الناس لسد باب أهل البيت أو لصرف الناس عن اتباع الكتاب والسنة فيجب على المسلمين اجتنابها " وهذا كلام منحل إلى أقيسة اقترانية واستثنائية. ولم يتفطن المستدل به أن تسوية طريق لغرض فاسد أو سلوكه لغاية غير محمودة لا ينافى استقامته في نفسه كالسيف يقتل به المظلوم، وكالدين يستعمل لغير مرضاة الله سبحانه. 4 - وقول بعضهم: إن السلوك العقلي ربما انتهى بسالكه إلى ما يخالف صريح الكتاب والسنة كما نرى من آراء كثير من المتفلسفين " وهذا قياس اقترانى مؤلف غولط فيه من جهة أن هذا المنهى ليس هو شكل القياس ولا مادة بديهية بل مادة فاسدة غريبة داخلت المواد الصحيحة. وقول بعضهم: " المنطق إنما يتكفل تمييز الشكل المنتج من الشكل الفاسد وأما المواد فليس فيها قانون يعصم الانسان من الخطأ فيها ولا يؤمن الوقوع في الخطأ لو راجعنا غير أهل العصمة، فالمتعين هو الرجوع إليهم " وفيه مغالطة من جهة أنه سيق لبيان حجية أخبار الاحاد أو مجموع الاحاد والظواهر الظنية من الكتاب، ومن المعلوم أن الاعتصام بعصمة أهل العصمة عليهما السلام إنما يحصل فيما أيقنا من كلامهم بصدوره والمراد منه معا يقينا صادقا، وأنى يحصل ذلك في أخبار الاحاد التى هي ظنية صدورا ودلالة ؟ وكذا في كل ما دلالته ظنية وإذا كان المناط في الاعتصام هو المادة اليقينية فما الفرق بين المادة اليقينية المأخوذة من كلامهم والمادة اليقينية المأخوذة من المقدمات العقلية ؟ واعتبار الهيئة مع ذلك على حاله. وقولهم: " لا يحصل لنا اليقين بالمواد العقلية بعد هذه الاشتباهات كلها " فيه: أولا أنه مكابرة. وثانيا: أن هذا الكلام بعينه مقدمة عقلية يراد استعمالها يقينية، والكلام مشتمل على الهيئة.
________________________________________
[ 258 ]
6 - وقول بعضهم: " إن جميع ما يحتاج إليه النفوس الانسانية مخزونة في الكتاب العزيز، مودعة في أخبار أهل العصمة عليه السلام فما الحاجة إلى أسار الكفار والملاحدة ؟ ". والجواب عنه أن الحاجة إليها عين عن الحاجة التى تشاهد في هذا الكلام بعينه، فقد ألف تأليفا اقترانيا منطقيا، واستعملت فيه المواد اليقينية لكن غولط فيه أولا بأن تلك الاصول المنطقية بعض ما هو مخزون مودع في الكتاب والسنة، ولا طريق إليها إلا البحث المستقل. وثانيا: أن عدم حاجة الكتاب والسنة واستغناء هما عن ضميمة تنضم اليهما غير عدم حاجة المتمسك بهما والمتعاطي لهما، وفيه المغالطة، وما مثل هؤلاء الا كمثل الطبيب الباحث عن بدن الانسان لو ادعى الاستغناء عن تعلم العلوم الطبيعية والاجتماعية والادبية، لان الجميع متعلق بالانسان. أو كمثل الانسان الجاهل إذا استنكف عن تعلم العلوم معتذرا أن جميع العلوم مودعة في الفطرة الانسانية. وثالثا: أن الكتاب والسنة هما الداعيان إلى التوسع في استعمال الطرق العقلية الصحيحة (وليست الا المقدمات البديهية أو المتكئة على البديهية) قال تعالى: " فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه اولئك الذين هداهم الله واولئك هم أولوا الالباب " (الزمر: 18) إلى غير ذلك من الايات والاخبار الكثيرة، نعم الكتاب والسنة ينهيان عن اتباع ما يخالفهما مخالفة صريحة قطعية لان الكتاب والسنة القطعية من مصاديق ما دل صريح العقل على كونهما من الحق والصدق، ومن المحال أن يبرهن العقل ثانيا على بطلان ما برهن على حقيته أولا، والحاجة إلى تمييز المقدمات العقلية الحقة من الباطلة ثم التعلق بالمقدمات الحقة كالحاجة إلى تمييز الايات والاخبار المحكمة من المتشابهة ثم التعلق بالمحكمة منهما، وكالحاجة إلى تمييز الاخبار الصادرة حقا من الاخبار الموضوعة والمدسوسة وهى أخبار جمة. ورابعا: أن الحق حق أينما كان وكيفما أصيب وعن أي محل أخذ، ولا يؤثر فيه إيمان حامله وكفره، ولا تقواه وفسقه، والاعراض عن الحق بغضا لحامله ليس إلا تعلقا بعصبية الجاهلية التى ذمها الله سبحانه وذم أهلها في كتابه العزيز وبلسان رسله عليهم السلام.
________________________________________
[ 259 ]
7 - وقول بعضهم: " إن طريق الاحتياط في الدين المندوب إليه في الكتاب والسنة الاقتصار على ظواهر الكتاب والسنة والاجتناب عن تعاطى الاصول المنطقية والعقلية فان فيه التعرض للهلاك الدائم والشقوة التى لا سعادة بعدها أبدا ". وفيه أن هذا البيان بعينه قد تعوطى فيه الاصول المنطقية والعقلية فإنه مشتمل على قياس استثنائي أخذ فيه مقدمات عقلية متبينة عند العقل ولو لم يكن كتاب ولا سنة. على أن البيان إنما يتم فيمن لا يفى استعداده بفهم الامور الدقيقة العقلية وأما المستعد الذى يطيق ذلك فلا دليل من كتاب ولا سنة ولا عقل على حرمانه من نيل حقائق المعارف التى لا كرامة للانسان ولا شرافة إلا بها، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والعقل جميعا. 8 - وقول بعضهم - فيما ذكره -: " إن طريق السلف الصالح كان مباينا لطريق الفلسفة والعرفان وكانوا يستغنون بالكتاب والسنة عن استعمال الاصول المنطقية والعقلية كالفلاسفة، وعن استعمال طرق الرياضة كالعرفاء. ثم لما نقلت فلسفة يونان في عصر الخلفاء إلى العربية رام المتكلمون من المسلمين وقد كانوا من تبعة القرآن إلى تطبيق المطالب الفلسفية على المعارف القرآنية فتفرقوا بذلك إلى فرقتي الاشاعرة والمعتزلة، ثم نبغ آخرون في زمان الخلفاء تسموا بالصوفية والعرفاء كانوا يدعون كشف الاسرار والعلم بحقائق القرآن وكانوا يزعمون أنهم في غنى عن الرجوع إلى أهل العصمة والطهارة، وبذلك امتازت الفقهاء والشيعة - وهم المتمسكون بذيلهم عليهم السلام - عنهم، ولم يزل الامر على ذلك إلى ما يقرب من أواسط القرن الثالث عشر من الهجرة (قبل مائة سنة تقريبا) وعند ذلك أخذ هؤلاء (يعنى الفلاسفة والعرفاء) في التدليس والتلبيس وتأويل مقاصد القرآن والحديث إلى ما يوافق المطالب الفلسفية والعرفانية حتى اشتبه الامر على الاكثرين ". واستنتج من ذلك أن هذه الاصول مخالفة للطريقة الحقة التى يهدى إليها الكتاب والسنة. ثم أورد بعض الاشكالات على المنطق - مما أوردناه - كوجود الاختلاف بين المنطقيين أنفسهم، ووقوع الخطأ مع استعماله، وعدم وجود البديهيات واليقينيات بمقدار كاف في المسائل الحقيقية، ثم ذكر مسائل كثيرة من الفلسفة وعدها جميعا مناقضة لصريح ما يستفاد من الكتاب والسنة.
________________________________________
[ 260 ]
هذا محصل كلامه وقد لخصناه تلخيصا. وليت شعرى أي جهة من الجهات الموضوعة في هذا الكلام على كثرتها تقبل الاصلاح والترميم فقد استظهر الداء على الدواء. أما ما ذكره من تاريخ المتكلمين وانحرافهم عن الائمة عليهم السلام وقصدهم إلى تطبيق الفلسفة على القرآن وانقسامهم بذلك إلى فرقتي الاشارة والمعتزلة وظهور الصوفية وزعمهم أنهم ومتبعيهم في غنى عن الكتاب والسنة وبقاء الامر على هذا الحال وظهور الفلسفة العرفانية في القرن الثالث عشر كل ذلك مما يدفعه التاريخ القطعي، وسيجئ إلى إشارة إلى ذلك كله إجمالا. على أن فيه خطأ فاحشا بين الكلام والفلسفة فإن الفلسفة تبحث بحثا حقيقيا ويبرهن على مسائل مسلمة بمقدمات يقينية والكلام يبحث بحثا أعم من الحقيقي والاعتباري، ويستدل على مسائل موضوعة مسلمة بمقدمات هي أعم من اليقينية والمسلمة، فبين الفنين أبعد مما بين السماء والارض، فكيف يتصور أن يروم أهل الكلام في كلامهم تطبيق الفلسفة على القرآن ؟ على أن المتكلمين لم يزالوا منذ أول ناجم نجم منهم إلى يومنا هذا في شقاق مع الفلاسفة والعرفاء، والموجود من كتبهم ورسائلهم والمنقول من المشاجرات الواقعة بينهم أبلغ شاهد يشهد بذلك. ولعل هذا الاسناد مأخوذ من كلام بعض المستشرقين القائل بأن نقل الفلسفة إلى الاسلام هو الذى أوجد علم الكلام بين المسلمين. هذا، وقد جهل هذا القائل معنى الكلام والفلسفة وغرض الفنين والعلل الموجبة لظهور التكلم ورمى من غير مرمى. وأعجب من ذلك كله أنه ذكر بعد ذلك: الفرق بين الكلام والفلسفة بأن البحث الكلامي يروم إثبات مسائل المبدء والمعاد مع مراعاة جانب الدين والبحث الفلسفي يروم ذلك من غير أن يعتنى بأمر الدين ثم جعل ذلك دليلا على كون السلوك من طريق الاصول المنطقية والعقلية سلوكا مباينا لسلوك الدين مناقضا للطريق المشروع فيه هذا. فزاد في الفساد، فكل ذى خبرة يعلم أن كل من ذكر هذا الفرق بين الفنين أراد أن يشير إلى أن القياسات المأخوذة في الابحاث الكلامية جدلية مركبة من مقدمات مسلمة: (المشهورات والمسلمات) لكون الاستدلال بها على مسائل مسلمة، وما أخذ في الابحاث الفلسفية منها
________________________________________
[ 261 ]
قياسات برهانية يراد بها إثبات ما هو الحق لا إثبات ما سلم ثبوتها تسليما، وهذا غير أن يقال إن إحد الطريقين (طريق الكلام) طريق الدين والاخر طريق مباين لطريق الدين لا يعتنى به وإن كان حقا. وأما ما ذكره من الاشكال على المنطق والفلسفة والعرفان فما اعترض به على المنطق قد تقدم الكلام فيه، وأما ما ذكره في موضوع الفلسفة والعرفان فإن كان ما ذكره على ما ذكره وفهم منه ثم ناقض ما هو صريح الدين الحق فلا ريب لمرتاب في أنه باطل ومن هفوات الباحثين في الفلسفة أو السالكين مسلك العرفان وأغلاطهم، لكن الشأن في أن هفوات أهل فن وسقطاتهم وانحرافهم لا تحمل على عاتق الفن، وإنما يحمل على قصور الباحثين في بحثهم. وكان عليه أن يتأمل الاختلافات الناشئة بين المتكلمين: أشعريهم ومعتزليهم وإماميهم فقد اقتسمت هذه الاختلافات الكلمة الواحدة الاسلامية فجعلتها بادء بدء ثلاثا وسبعين فرقة ثم فرقت كل فرقة إلى فرق، ولعل فروع كل أصل لا ينقص عددا من أصولها. فليت شعرى هل أوجد الاختلافات شئ غير سلوك طريق الدين ؟ وهل يسع لباحث أن يستدل بذلك على بطلان الدين وفساد طريقة ؟ أو يأتي ههنا بعذر لا يجرى هناك إو يرمى أولئك برذيلة معنوية لا توجد عينها أو مثلها في هؤلاء ؟ ! ونظير فن الكلام في ذلك الفقه الاسلامي وانشعاب الشعب والطوائف فيه ثم الاختلافات الناشئة بين كل طائفة أنفسهم، وكذلك سائر العلوم والصناعات على كثرتها واختلافها. وأما ما استنتج من جميع كلامه من بطلان جميع الطرق المعمولة وتعين طريق الكتاب والسنة وهو مسلك الدين فلا يسعه إلا أن يرى طريق التذكر وهو الذى نسب إلى أفلاطون اليونانى وهو أن الانسان لو تجرد عن الهوسات النفسانية وتحلى بحلية التقوى والفضائل الروحية ثم رجع إلى نفسه في أمر بان له الحق فيه. هذا هو الذى ذكروه، وقد اختاره بعض القدماء من يونان وغيرهم وجمع من المسلمين وطائفة من فلاسفة الغرب، غير أن كلا من القائلين به قرره بوجه آخر: فمنهم من قرره على أن العلوم الانسانية فطرية بمعنى أنها حاصلة له، موجودة معه بالفعل في أول وجوده، فلا جرم يرجع معنى حدوث كل علم له جديد إلى حصول التذكر.
________________________________________
[ 262 ]
ومنهم من قرره على أن الرجوع إلى النفس بالانصراف عن الشواغل المادية يوجب انكشاف الحقائق لا بمعنى كون العلوم عند الانسان بالفعل بل هي له بالقوة وإنما الفعلية في باطن النفس الانسانية المفصولة عن الانسان عند الغفلة الموصولة به عند التذكر، وهذا ما يقول به العرفاء وأهل الاشراق وأترابهم من سائر الملل والنحل. ومنهم من قرره على نحو ما قرره العرفاء غير أنه اشتراط في ذلك التقوى واتباع الشرع علما وعملا كعدة من المسلمين ممن عاصرناهم وغيرهم زعما منهم أن اشتراط اتباع الشرع يفرق ما بينهم وبين العرفاء والمتصوفة، وقد خفى عليهم أن العرفاء سبقوهم في هذا الاشتراط كما يشهد به كتبهم المعتبرة الموجودة، فالقول عين ما قال به المتصوفة، وإنما الفرق بين الفريقين في كيفية الاتباع وتشخيص معنى التبعية، وهؤلاء يعتبرون في التبعية مرحلة الجمود على الظواهر محضا، فطريقهم طريق مولد من تناكح طريقي المتصوفة والاخبارية إلى غير ذلك من التقريرات. والقول بالتذكر إن لم يرد به إبطال الرجوع إلى الاصول المنطقية والعقلية لا يخلو من وجه صحة في الجملة فإن الانسان حينما يوجد بهويته يوجد شاعرا بذاته وقوى ذاته وبعلله، عالما بها علما حضوريا، ومعه من القوى ما يبدل علمه الحضوري إلى علم حصولي. ولا توجد قوة هي مبدء الفعل إلا وهى تفعل فعلها فللانسان في أول وجوده شئ من العلوم وإن كانت متأخرة عنه بحسب الطبع لكنه معه بالزمان. هذا، وأيضا حصول بعض العلوم للانسان إذا انصرف عن التعلقات المادية بعض الانصراف لا يسع لاحد إنكاره. وإن أريد بالقول بالتذكر إبطال أثر الرجوع إلى الاصول المنطقية والعقلية بمعنى أن ترتيب المقدمات البديهية المتناسبة يوجب خروج الانسان من القوة إلى الفعل بالنسبة إلى العلم بما يعد نتيجة لها، أو بمعنى أن التذكر بمعنى الرجوع إلى النفس بالتخلية يغنى الانسان عن ترتيب المقدمات العلمية لتحصيل النتائج فهو من أسخف القول الذى لا يرجع إلى محصل. أما القول بالتذكر بمعنى إبطاله الرجوع إلى الاصول المنطقية والعقلية فيبطله أولا: أن البحث العميق في العلوم والمعارف الانسانية يعطى أن علومه التصديقية تتوقف على علومه التصورية، والعلوم التصورية تنحصر في العلوم الحسية أو المنتزع منها بنحو من الانحاء (1) وقد دل القياس والتجربة على أن فاقد حس من الحواس فاقد لجميع العلوم المنتهية
________________________________________
(1) راجع أصول الفلسفة: المقالة الخامسة. (*)
________________________________________
[ 263 ]
إلى ذلك الحس، تصورية كانت أو تصديقية، نظرية كانت أو بديهية، ولو كانت العلوم موجودة للهوية الانسانية بالفعل لم يؤثر الفقد المفروض في ذلك، والقول بأن العمى والصمم ونحوهما مانعه عن التذكر رجوع عن أصل القول وهو أن التذكر بمعنى الرجوع إلى النفس بالانصراف عن التعلقات المادية مفيد لذكر المطلوب بارتفاع الغفلة. وثانيا: أن التذكر إنما يوفق له بعض أفراد هذا النوع، وعامة الافراد يستعملون في مقاصدهم الحيوية سنة التأليف والاستنتاج ويستنتجون من ذلك الالوف بعد الالوف من النتائج المستقيمة، وعلى ذلك يجرى الحال في جميع العلوم والصناعات، وإنكار شئ من ذلك مكابرة، وحمل ذلك على الاتفاق مجازفة فالاخذ بهذه السنة أمر فطرى للانسان لا محيد عنه، ومن المحال أن يجهز نوع من الانواع بجهاز فطرى تكويني ثم يخبط في عمله ولا ينجح في مسعاه. وثالثا: أن جميع ما ينال هؤلاء بما يسمونه تذكرا يعود بالتحليل إلى مقدمات مترتبة ترتيبا منطقيا بحيث يختل أمر النتيجة فيها باختلال شئ من الاصول المقررة في هيئتها ومادتها، فهم يستعملون الاصول المنطقية من حيث لا يحسون به، والاتفاق والصحابة الدائمان لا محصل لهما، وعليهم أن يأتوا بصورة علمية تذكرية صحيحة لا تجرى فيها اصول المنطق. وأما القول بالتذكر بمعنى إغنائه عن الرجوع إلى الاصول المنطقية - ويرجع محصله إلى إن هناك طريقين: طريق المنطق وطريق التذكر باتباع الشرع مثلا، والطريقان سواء في الاصابة أو أن طريق التذكر أفضل وأولى لاصابته دائما لموافقته قول المعصوم بخلاف طريق المنطق والعقل - ففيه خطر الوقوع في الغلط دائما أو غالبا. وكيف كان يرد عليه الاشكال الثاني الوارد على ما تقدمه فان الاحاطة بجميع مقاصد الكتاب والسنة ورموزها وأسرارها على سعة نطاقها العجيبة غير متأت إلا للاحاد من الناس المتوغلين في التدبر في المعارف الدينية على ما فيها من الارتباط العجيب، والتداخل البالغ بين أصولها وفروعها وما يتعلق منها بالاعتقاد وما يتعلق منها بالاعمال الفردية والاجتماعية، ومن المحال أن يكلف الانسان تكوينا بالتجهيز التكويني بما وراء طاقته واستطاعته أو يكلف بذلك تشريعا فليس على الناس إلا أن يعقلوا مقاصد الدين بما هو الطريق المألوف عندهم في شؤن حياتهم الفردية والاجتماعية، وهو ترتيب المعلومات لاستنتاج
________________________________________
[ 264 ]
المجهولات، والمعلوم من الشرع بعض أفراد المعلومات لقيام البرهان على صدقه. ومن العجيب أن بعض القائلين بالتذكر جعل هذا بعينه وجها للتذكر على المنطق فذكر أن العلم بالحقائق الواقعية إن صح حصوله باستعمال المنطق والفلسفة - ولن يصح - فإنما يتاتى ذلك لمثل أرسطو وابن سينا من أوحديى الفلسفة، وليس يتأتى لعامة الناس فكيف يمكن أن يأمر الشارع باستعمال المنطق والاصول الفلسفية طريقا إلى نيل الواقعيات ؟ ولم يتفطن أن الاشكال بعينه مقلوب عليه فإن أجاب بأن استعمال التذكر ميسور لكل أحد على حسب اتباعه أجيب بأن استعمال المنطق قليلا أو كثيرا ميسور لكل أحد على حسب استعداده لنيل الحقائق ولا يجب لكل أحد أن ينال الغاية، ويركب ما فوق الطاقة. ويرد عليه ثانيا: الاشكال الثالث السابق فإن هؤلاء يستعملون طريق المنطق في جميع المقاصد التى يبدونها باسم التذكر كما تقدم حتى في البيان الذى أوردوه لابطال طريق المنطق وتحقيق طريق التذكر، وكفى به فسادا. ويرد عليه ثالثا: أن الوقوع في الخطأ واقع بل غالب في طريق التذكر الذى ذكروه فإن التذكر كما زعموه هو الطريق الذى كان يسلكه السلف الصالح دون طريق المنطق، وقد نقل الاختلاف والخطأ فيما بينهم بما ليس باليسير كعدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممن اتفق المسلمون على علمه واتباعه الكتاب والسنة، أو اتفق الجمهور على فقهه وعدالته، وكعدة من أصحاب الائمة على هذه النعوت كأبى حمزة وزرارة وأبان وأبى خالد الهشامين ومؤمن الطاق والصفوانين وغيرهم، فالاختلافات الاساسية بينهم مشهورة معروفة ومن البين أن المختلفين لا ينال الحق إلا أحدهما وكذلك الفقهاء والمحدثون من القدماء كالكليني والصدوق وشيخ الطائفة والمفيد والمرتضى وغيرهم رضوان الله عليهم، فما هو مزية التذكر على التفكر المنطقي ؟ فكان من الواجب حينئذ التماس مميز آخر غير التذكر يميز بين الحق والباطل، وليس إلا التفكر المنطقي فهو المرجع والموئل. ويرد عليه رابعا: أن محصل الاستدلال أن الانسان إذا تمسك بذيل أهل العصمة والطهارة لم يقع في خطأ، ولازمه ما تقدم أن الرأى المأخوذ من المعصوم فيما سمعه منه سمعا يقينيا وعلم بمراده علما يقينيا لا يقع فيه خطأ، وهذا مما لا كلام فيه لاحد. وفى الحقيقة المسموع من المعصوم أو المأخوذ منه مادة ليس هو عين التذكر ولا الفكر
________________________________________
[ 265 ]
المنطقي ثم يعقبه هو أن: هذا ما يراه المعصوم، وكل ما يراه حق، فهذا حق وهذا برهان قطعي النتيجة، وأما غير هذه الصورة من مؤديات أخبار الاحاد أو ما يماثلها مما لا يفيد إلا الظن فإن ذلك لا يفيد شيئا ولا يوجد دليل على حجية الاحاد في غير الاحكام إلا مع موافقة الكتاب ولا الظن يحصل على شئ مع فرض العلم على خلافه من دليل علمي. 9 - وقول بعضهم: " إن الله سبحانه خاطبنا في كلامه بما نألفه من الكلام الدائر بيننا، والنظم والتأليف الذى يعرفه أهل اللسان، وظاهر البيانات المشتملة على الامر والنهى والوعد والوعيد والقصص والحكمة والموعظة والجدال بالتى هي أحسن، وهذه أمور لا حاجة في فهمها وتعقلها إلى تعلم المنطق والفلسفة وسائر ما هو تراث الكفار والمشركين وسبيل الظالمين، وقد نهانا عن ولايتهم والركون إليهم واتخاذ دؤوبهم واتباع سبلهم، فليس على من يؤمن بالله ورسوله إلا أن يأخذ بظواهر البيانات الدينية، ويقف على ما يتلقاه الفهم العادى من تلك الظواهر من غير أن يؤولها أو يتعداها إلى غيرها " وهذا ما يراه الحشوية والمشبهة وعدة من أصحاب الحديث. وهو فاسد أما من حيث الهيئة فقد استعمل فيه الاصول المنطقية وقد أريد بذلك المنع عن استعمالها بعينها، ولم يقل القائل بأن القرآن يهدى إلى استعمال أصول المنطق: إنه يجب على كل مسلم أن يتعلم المنطق، لكن نفس الاستعمال مما لا محيص عنه، فما مثل هؤلاء في قولهم هذا إلا مثل من يقول: إن القرآن إنما يريد أن يهدينا إلى مقاصد الدين فلا حاجة لنا إلى تعلم اللسان الذى هو تراث أهل الجاهلية، فكما أنه لا وقع لهذا الكلام بعد كون اللسان طريقا يحتاج إليه الانسان في مرحلة التخاطب بحسب الطبع وقد استعمله الله سبحانه في كتابه والنبى صلى الله عليه وآله وسلم في سنته كذلك لا معنى لما اعترض به على المنطق بعد كونه طريقا معنويا يحتاج إليه الانسان في مرحلة التعقل بحسب الطبع وقد استعمله الله سبحانه في كتابه والنبى صلى الله عليه وآله وسلم في سنته. وأما بحسب المادة فقد أخذت فيه مواد عقلية، غير أنه غولط فيه من حيث التسوية بين المعنى الظاهر من الكلام والمصاديق التى تنطبق عليها المعاني والمفاهيم، فالذي على المسلم المؤمن بكتاب الله أن يفهمه من مثل العلم والقدرة والحياة والسمع و البصر والكلام والمشيئة والارادة مثلا أن يفهم معاني تقابل الجهل والعجز والممات والصمم والعمى ونحوها، وأما أن يثبت لله سبحانه علما كعلمنا وقدرة كقدرتنا و حياة كحياتنا وسمعا وبصرا وكلاما
________________________________________
[ 266 ]
ومشيئة وإرادة كذلك فليس له ذلك لا كتابا ولا سنة ولا عقلا، وقد تقدم شطر من الكلام المتعلق بهذا الباب في بحث المحكم والمتشابه في الجزء الثالث من الكتاب. 10 - وقول بعضهم: " إن الدليل على حجية المقدمات التى قامت عليها الحجج العقلية ليس إلا المقدمة العقلية القائلة بوجوب اتباع الحكم العقلي، وبعبارة أخرى لا حجة على حكم العقل إلا نفس العقل وهذا دور مصرح فلا محيص في المسائل الخلافية عن الرجوع إلى قول المعصوم من نبى أو إمام من غير تقليد ". هذا، وهو أسخف تشكيك أورد في هذا الباب وإنما أريد به تشييد بنيان فأنتج هدمه، فإن القائل أبطل به حكم العقل بالدور المصرح على زعمه ثم لما عاد إلى حكم الشرع لزمه إما أن يستدل عليه بحكم العقل وهو الدور، أو بحكم الشرع وهو الدور فلم يزل حائرا يدور بين دورين. إلا أن يرجع إلى التقليد وهو حيرة ثانية. وقد اشتبه عليه الامر في تحصيل معنى " وجوب متابعة حكم العقل " فإن أريد بوجوب متابعة حكم العقل ما يقابل الحظر والاباحة ويستتبع مخالفته ذما أو عقابا نظير وجوب متابعة الناصح المشفق، ووجوب العدل في الحكم ونحو ذلك فهو حكم العقل العملي ولا كلام لنا فيه، وإن أريد بوجوب المتابعة أن الانسان مضطر على تصديق النتيجة إذا استدل عليه بمقدمات علمية وشكل صحيح علمي مع التصور التام لاطراف القضايا فهذا أمر يشاهده الانسان بالوجدان، ولا معنى عندئذ لان يسأل العقل عن الحجة، لحجية حجته لبداهة حجيته. وهذا نظير سائر البديهيات، فإن الحجة على كل بديهى انما هي نفسه، ومعناه أنه مستغن عن الحجة. 11 - وقول بعضهم: " ان غاية ما يرومه المنطق هو الحصول على الماهيات الثابتة للاشياء، والحصول على النتائج بالمقدمات الكلية الدائمة الثابتة، وقد ثبت بالابحاث العلمية اليوم أن لا كلى ولا دائم ولا ثابت في خارج ولا ذهن وإنما هي الاشياء تجرى تحت قانون التحول العام من غير أن يثبت شئ بعينه على حال ثابتة أو دائمة أو كلية. وهذا فاسد من جهة أنه استعمل فيه الاصول المنطقية هيئة ومادة كما هو ظاهر لمن تأمل فيه. على أن المتعرض يريد بهذا الاعتراض بعينه أن يستنتج أن المنطق القديم غير صحيح البتة، وهى نتيجة كلية دائمة ثابتة مشتملة على مفاهيم ثابتة، وإلا لم يفده شيئا
________________________________________
[ 267 ]
فالاعتراض يبطل نفسه. ولعلنا خرجنا عما هو شريطة هذا الكتاب من إيثار الاختصار مهما أمكن فلنرجع إلى ما كنا فيه أولا: القرآن الكريم يهدى العقول إلى استعمال ما فطرت على استعماله وسلوك ما تألفه وتعرفه بحسب طبعها وهو ترتيب المعلومات لاستنتاج المجهولات، والذى فطرت العقول عليه هو أن تستعمل مقدمات حقيقية يقينية لاستنتاج المعلومات التصديقية الواقعية وهو البرهان، وأن تستعمل فيما له تعلق بالعمل من سعادة وشقاوة وخير وشر ونفع وضرر وما ينبغى أن يختار ويؤثر وما لا ينبغى، وهى الامور الاعتبارية، المقدمات المشهورة أو المسلمة، وهو الجدل، وأن تستعمل في موارد الخير والشر المظنونين مقدمات ظنية لانتاج الارشاد والهداية إلى خير مظنون، أو الردع عن شر مظنون، وهى العظة قال تعالى: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هي أحسن " (النحل: 125) والظاهر أن المراد بالحكمة هو البرهان كما ترشد إلى ذلك مقابلته الموعظة الحسنة والجدال. فان قلت: طريق التفكر المنطقي مما يقوى عليه الكافر والمؤمن، ويتأتى من الفاسق والمتقي، فما معنى نفيه تعالى العلم المرضى والتذكر الصحيح عن غير أهل التقوى والاتباع كما في قوله تعالى: " وما يتذكر الا من ينيب " (غافر: 13)، وقوله: " ومن يتق الله يجعل له مخرجا " (الطلاق: 2)، وقوله: " فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد الا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى " (النجم: 30) والروايات الناطقة بأن العلم النافع لا ينال الا بالعمل الصالح كثيرة مستفيضة. قلت: اعتبار الكتاب والسنة التقوى في جانب العلم مما لا ريب فيه، غير أن ذلك ليس لجعل التقوى أو التقوى الذى معه التذكر طريقا مستقلا لنيل الحقائق وراء الطريق الفكري الفطري الذى يتعاطاه الانسان تعاطيا لا مخلص له منه، إذ لو كان الامر على ذلك لغت جميع الاحتجاجات الواردة في الكتاب على الكفار والمشركين وأهل الفسق والفجور ممن لا يتبع الحق، ولا يدرى ما هو التقوى والتذكر فإنهم لا سبيل لهم على هذا الفرض إلى
________________________________________
[ 268 ]
ادراك المطلوب وحالهم هذا الحال، ومع فرض تبدل الحال يلغو الاحتجاج معهم، ونظيرها ما ورد في السنة من الاحتجاج مع شتى الفرق والطوائف الضالة. بل اعتبار التقوى لرد النفس الانسانية المدركة إلى استقامتها الفطرية، توضيح ذلك: أن الانسان بحسب جسميته مؤلف من قوى متضادة بهيمية وسبعية محتدها البدن العنصري، وكل واحدة منها تعمل عملها الشعورى الخاص بها من غير أن ترتبط بغيرها من القوى ارتباطا تراعى به حالها في عملها إلا بنحو الممانعة والمضادة فشهوة الغذاء تبعث الانسان إلى الاكل والشرب من غير أن يحد بحد أو يقدر بقدر من ناحية هذه القوة إلا ان يمتنع منهما المعدة مثلا لانها لا تسع الا مقدارا محدودا، أو يمتنع الفك مثلا لتعب وكلال يصيب عضلته من المضغ إذا أكثر من الاكل وأمثال ذلك، فهذه امور نشاهدها من أنفسنا دائما. وإذا كان كذلك كان تمايل الانسان إلى قوة من القوى، واسترساله في طاعة أو امرها، والانبعاث إلى ما تبعث إليه يوجب طغيان القوة المطاعة، واضطهاد القوة المضادة لها اضطهادا ربما بلغ بها إلى حد البطلان أو كاد يبلغ، فالاسترسال في شهوة الطعام أو شهوة النكاح يصرف الانسان عن جميع مهمات الحياة من كسب وعشرة وتنظيم أمر منزل وتربية اولاد وسائر الواجبات الفردية والاجتماعية التى يجب القيام بها، ونظيره الاسترسال في طاعة سائر القوى الشهوية والقوى، الغضبية، وهذا ايضا مما لا نزال نشاهدها من انفسنا ومن غيرنا خلال ايام الحياة. وفي هذا الافراط والتفريط هلاك الانسانية فإن الانسان هو النفس المسخرة لهذه القوى المختلفة، ولا شأن له إلا سوق المجموع من القوى بأعمالها في طريق سعادته في الحياة الدنيا والاخرة، وليست إلا حياة علمية كمالية، فلا محيص له عن أن يعطى كلا من القوى من حظها ما لا تزاحم به القوى الاخرى ولا تبطل من رأس. فالانسان لا يتم له معنى الانسانية الا إذا عدل قواه المختلفه تعديلا يورد كلا منها وسط الطريق المشروع لها، وملكة الاعتدال في كل واحدة من القوى هي التى نسميها بخلقها الفاضل كالحكمة والشجاعة والعفة وغيرها ويجمع الجميع العدالة. ولا ريب ان الانسان إنما يحصل على هذه الافكار الموجودة عنده ويتوسع في معارفه وعلومه الانسانية باقتراح هذه القوى الشعورية اعمالها ومقتضياتها، بمعنى ان الانسان في
________________________________________
[ 269 ]
اول كينونته صفر الكف من هذه العلوم والمعارف الوسيعة حتى تشعر قواه الداخلة بحوائجها، وتقترح عليه ما تشتهيها وتطلبها، وهذه الشورات الابتدائية هي مبادئ علوم الانسان ثم لا يزال الانسان يعمم ويخصص ويركب ويفصل حتى يتم له امر الافكار الانسانية. ومن هنا يحدس اللبيب ان توغل الانسان في طاعة قوة من قواه المتضادة وإسرافه في إجابة ما تقترح عليه يوجب انحرافه في افكاره ومعارفه بتحكيم جميع ما تصدقه هذه القوة على ما يعطيه غيرها من التصديقات والافكار وغفلته عما يقتضيه غيرها. والتجربة تصدق ذلك فإن هذا الانحراف هو الذى نشاهده في الافراد المسرفين المترفين من حلفاء الشهوة، وفى البغاة الطغاة الظلمة المفسدين امر الحياة في المجتمع الانساني فإن هؤلاء الخائضين في لجج الشهوات، العاكفين على لذائذ الشرب والسماع والوصال لا يكادون يستطيعون التفكر في واجبات الانسانية، ومهام الامور التى يتنافس فيها أبطال الرجال وقد تسربت روح الشهوة في قعودهم وقيامهم واجتماعهم وافتراقهم وغير ذلك، وكذلك الطغاة المستكبرون أقسياء القلوب لا يتأتى لهم ان يتصوروا رأفة وشفقة ورحمة وخضوعا وتذللا حتى فيما يجب فيه ذلك، وحياتهم تمثل حالهم الخبيث الذى هم عليه في جميع مظاهرها من تكلم وسكوت ونظر وغض وإقبال وإدبار، فهؤلاء جميعا سالكوا طريق الخطأ في علومهم، كل طائفة منهم مكبة على ما تناله من العلوم والافكار المحرفة المنحرفة المتعلقة بما عنده، غافلون عما وراءه، وفيما وراءه العلوم النافعة والمعارف الحقة الانسانية فالمعارف الحقة والعلوم النافعة لا تتم للانسان إلا إذا صلحت اخلاقة وتمت له الفضائل الانسانية القيمة، وهو التقوى. فقد تحصل ان الاعمال الصالحة هي التى تحفظ الاخلاق الحسنة، والاخلاق الحسنة هي التى تحفظ المعارف الحقة والعلوم النافعة والافكار الصحيحة، ولا خير في علم لا عمل معه. وهذا البحث وإن سقناه سوقا علميا اخلاقيا لمسيس الحاجة إلى التوضيح إلا أنه هو الذى جمعه الله تعالى في كلمة حيث قال: " واقصد في مشيك " (لقمان: 19) فإنه كناية عن أخذ وسط الاعتدال في مسير الحياة، وقال: " إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا " (الانفال: 29) وقال: " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا اولى الالباب " (البقرة: 197)، أي لانكم أولوا الالباب تحتاجون في عمل لبكم إلى التقوى والله أعلم، وقال تعالى: " ونفس
________________________________________
[ 270 ]
وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " (الشمس: 10) وقال: " واتقوا الله لعلكم تفلحون (آل عمران: 130). ومن طريق آخر: قال تعالى: " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب وآمن وعمل صالحا " (مريم: 60) فذكر ان اتباع الشهوات يسوق إلى الغى، وقال تعالى: " سأصرف عن آياتى الذين يتكبرون في الارض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغى يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين " (الاعراف: 146: فذكر أن أسراء القوى الغضبية ممنوعون من اتباع الحق مسوقون إلى سبيل الغى، ثم ذكران ذلك بسبب غفلتهم عن الحق، وقال تعالى: " ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالانعام بل هم أضل اولئك هم الغافلون " (الاعراف: 179: فذكر ان هؤلاء الغافلين إنما هم غافلون عن حقائق المعارف التى للانسان، فقلوبهم وأعينهم وآذانهم بمعزل عن نيل ما يناله الانسان السعيد في إنسانيتة، وإنما ينالون بها ما تناله الانعام أو ما هو أضل من الانعام وهى الافكار التى إنما تصوبها وتميل إليها وتألف بها البهائم السائمة والسباع الضارية. فظهر من جميع ما تقدم أن القرآن الكريم إنما اشترط التقوى في التفكر والتذكر والتعقل، وقارن العلم بالعمل للحصول على استقامة الفكر وإصابة العلم وخلوصه من شوائب الاوهام الحيوانية والالقاءات الشيطانية. نعم هاهنا حقيقة قرآنية لا مجال لانكارها وهو أن دخول الانسان في حظيرة الولاية الالهية، وتقربه إلى ساحة القدس والكبرياء يفتح له بابا الى ملكوت السماوات والارض يشاهد منه ما خفى على غيره من آيات الله الكبرى، وأنوار جبروته التى لا تطفأ، قال الصادق عليه السلام: لو لا ان الشياطين يحومون حول قلوب بنى آدم لرأوا ملكوت السماوات والارض، وفيما رواه الجمهور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لو لا تكثير في كلامكم وتمريج في قلوبكم لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع، وقد قال تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين " (العنكبوت: 69) ويدل على ذلك ظاهر قوله تعالى: " واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " (الحجر: 99) حيث فرع اليقين على العبادة، وقال تعالى: " وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين " (الانعام: 75) فربط
________________________________________
[ 271 ]
وصف الايقان بمشاهدة، الملكوت، وقال تعالى: " كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين " (التكاثر: 7) وقال تعالى: " إن كتاب الابرار لفى عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون " (المطففين: 21) وليطلب البحث المستوفى في هذا المعنى مما سيجئ من الكلام في قوله تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله " الاية (المائدة: 55: وفي قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم " الاية (المائدة: 105). ولا ينافى ثبوت هذه الحقيقة ما قدمناه ان القرآن الكريم يؤيد طريق التفكر الفطري الذى فطر عليه الانسان وبنى عليه بنية الحياة الانسانية، فإن هذا طريق غير فكرى، وموهبة إلهية يختص بها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. (بحث تاريخي) ننظر فيه نظرا إجماليا في تاريخ التفكير الاسلامي والطريق الذى سلكته الامة الاسلامية على اختلاف طوائفها ومذاهبها، ولا نلوى فيه إلى مذهب من المذاهب بإحقاق أو إبطال، وإنما نعرض الحوادث الواقعة على منطق القرآن ونحكمه في الموافقة والمخالفة، وأما ما باهى به موافق وما اعتذر به مخالف فلا شأن لنا في الغور في أصوله وجذوره، فإنما ذلك طريق آخر من البحث مذهبي أو غيره. القرآن الكريم يتعرض بمنطقه في سنته المشروعة لجميع شؤون الحياة الانسانية من غير أن تتقيد بقيد أو تشترط بشرط، يحكم على الانسان منفردا أو مجتمعا، صغيرا أو كبيرا، ذكرا أو أنثى، على الابيض والاسود، والعربي والعجمي، والحاضر والبادى، والعالم والجاهل، والشاهد والغائب، في أي زمان كان وفي أي مكان كان ويداخل كل شأن من شؤنه من اعتقاد أو خلق أو عمل من غير شك. فللقرآن اصطكاك مع جميع العلوم والصناعات المتعلقة بأطراف الحياة الانسانية ومن الواضح اللائح من خلال آياته النادبة إلى التدبر والتفكر والتذكر والتعقل أنه يحث حثا بالغا على تعاطى العلم ورفض الجهل في جميع ما يتعلق بالسماويات والارضيات والنبات والحيوان والانسان، من أجزاء عالمنا وما وراءه من الملائكة والشياطين واللوح والقلم وغير ذلك ليكون ذريعة إلى معرفة الله سبحانه، وما يتعلق نحوا من التعلق بسعادة
________________________________________
[ 272 ]
الحياة الانسانية الاجتماعية من الاخلاق والشرائع والحقوق وأحكام الاجتماع. وقد عرفت أنه يؤيد الطريق الفطري من التفكر الذى تدعو إليه الفطرة دعوة اضطرارية لا معدل عنها على حق ما تدعو إليه الفطرة من السير المنطقي. والقرآن نفسه يستعمل هذه الصناعات المنطقية من برهان وجدل وموعظة، ويدعو الامة التى يهديها إلى أن يتبعوه في ذلك فيتعاطوا البرهان فيما كان من الواقعيات الخارجة من باب العمل ويستدلوا بالمسلمات في غير ذلك أو بما يعتبر به. وقد اعتبر القرآن في بيان مقاصده السنة النبوية و عين لهم الاسوة في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكانوا يحفظون عنه، و يقلدون مشيته العلمية تقليد المتعلم معلمه في السلوك العلمي. كان القوم في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ونعنى به أيام إقامته بالمدينة) حديثى عهد بالتعليم الاسلامي، حالهم أشبه بحال الانسان القديم في تدوين العلوم والصناعات، يشتغلون بالابحاث العلمية اشتغالا ساذجا غير فنى على عناية منهم بالتحصيل و التحرير، وقد اهتموا أولا بحفظ القرآن وقراءته وحفظ الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير كتابة، ونقله، وكان لهم بعض المطارحات الكلامية فيما بينهم أنفسهم، واحتجاجات مع بعض أرباب الملل الاجنبية ولا سيما اليهود والنصارى لوجود أجيال منهم في الجزيرة والحبشة والشام، ومن هنا يبتدئ ظهور علم الكلام، وكانوا يشتغلون برواية الشعر وقد كانت سنة عربية لم يهتم بأمرها الاسلام، ولم يمدح الكتاب الشعر والشعراء بكلمة، ولا السنة بالغت في أمره. ثم لما ارتحل النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان من أمر الخلافة ما هو معروف وزاد الاختلاف الحادث عند ذلك بابا على الابواب الموجودة. وجمع القرآن في زمن الخليفة الاول بعد غزوة يمامة وشهادة جماعة من القراء فيها. وكان الامر على هذا في عهد خلافته - وهى سنتان تقريبا - ثم في عهد الخليفة الثاني والاسلام وإن انتشر صيته واتسع نطاقه بما رزق المسلمون من الفتوحات العظيمة في عهده لكن الاشتغال بها كان يعوقهم عن التعمق في إجالة النظر في روابط العلوم والتماس الارتقاء في مدارجها، أو أنهم ما كانوا يرون لما عندهم من المستوى العلمي حاجة إلى التوسع والتبسط.
________________________________________
[ 273 ]
وليس العلم وفضله أمرا محسوسا يعرفه امة من امة اخرى إلا أن يرتبط بالصنعة فيظهر أثره على الحس فيعرفه العامة. وقد أيقظت هذه الفتوحات المتوالية الغزيرة العرب الجاهلية من الغرور والنخوة بعد ما كانت في سكن بالتربية النبوية، فكانت تتسرب فيهم روح الامم المستعلية الجبارة، وتتمكن منهم رويدا، يشهد به شيوع تقسيم الامة المسلمة يومئذ إلى العرب والموالي، وسير معاوية - وهو والى الشام يومذاك - بين المسلمين بسيرة ملوكية قيصرية، وامور اخرى كثيرة ذكرها التاريخ عن جيوش المسلمين، وهذه نفسيات لها تأثير في السير العلمي ولا سيما التعليمات القرآنية. وأما الذى كان عندهم من حاضر السير العلمي فالاشتغال بالقرآن كان على حاله وقد صار مصاحف متعددة تنسب إلى زيد وأبى وابن مسعود وغيرهم. وأما الحديث فقد راج رواجا بينا وكثر النقل والضبط إلى حيث نهى عمر بعض الصحابة عن التحديث لكثرة ما روى، وقد كان عدة من أهل الكتاب دخلوا في الاسلام وأخذ عنهم المحدثون شيئا كثيرا من أخبار كتبهم وقصص أنبيائهم واممهم، فخلطوها بما كان عندهم من الاحاديث المحفوظة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخذ الوضع والدس يدوران في الاحاديث، ويوجد اليوم في الاحاديث المقطوعة المنقولة عن الصحابة ورواتهم في الصدر الاول شئ كثير من ذلك يدفعه القرآن بظاهر لفظه. وجملة السبب في ذلك امور ثلاثة: 1 - المكانة الرفيعة التى كانت تعتقدها الناس لصحبة النبي وحفظ الحديث عنه، وكرامة الصحابة وأصحابهم النقلة عنهم على الناس، وتعظيمهم لامرهم، فدعا ذلك الناس إلى الاخذ والاكثار (حتى عن مسلمى أهل الكتاب) والرقابة الشديدة بين حملة الحديث في حيازة التقدم والفخر. 2 - ان الحرص الشديد منهم على حفظ الحديث ونقله منعهم عن تمحيصه والتدبر في معناه وخاصة في عرضه على كتاب الله وهو الاصل الذى تبتنى عليه بنية الدين وتستمد منه فروعه، وقد وصاهم بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما صح من قوله: " ستكثر على القالة "
________________________________________
[ 274 ]
الحديث، وغيره. وحصلت بذلك فرصة لان تدور بينهم أحاديث موضوعة في صفات الله وأسمائه وأفعاله، وزلات منسوبة إلى الانبياء الكرام، ومساوئ مشوهة تنسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم و خرافات في الخلق والايجاد، وقصص الامم الماضية، وتحريف القرآن وغير ذلك مما لا تقصر عما تتضمنه التوراة والانجيل من هذا القبيل. واقتسم القرآن والحديث عند ذلك التقدم والعمل: فالتقدم الصوري للقرآن والاخذ والعمل بالحديث ! فلم يلبث القرآن دون أن هجر عملا، ولم تزل تجرى هذه السيرة وهى الصفح عن عرض الحديث على القرآن مستمرة بين الامة عملا حتى اليوم وإن كانت تنكرها قولا " و قال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا " اللهم إلا آحاد بعد آحاد. وهذا التساهل بعينه هو أحد الاسباب في بقاء كثير من الخرافات القومية القديمة بين الامم الاسلامية بعد دخولهم في الاسلام، والداء يجر الداء. 3 - ان ما جرى في أمر الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوجب اختلاف آراء عامة المسلمين في أهل بيته فمن عاكف عليهم هائم بهم، ومن معرض عنهم لا يعبأ بأمرهم ومكانتهم من علم القرآن أو مبغض شانئ، لهم وقد وصاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما لا يرتاب في صحته ودلالته مسلم أن يتعلموا منهم ولا يعلموهم وهم أعلم منهم بكتاب الله، وذكر لهم أنهم لن يغلطوا في تفسيره ولن يخطؤوا في فهمه، قال في حديث الثقلين المتواتر: إنى تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي ولن يفترقا حتى يردا على الحوض، الحديث. وفي بعض طرقه: لا تعلموهم فإنهم أعلم. منكم وقال في المستفيض من كلامه: " من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار " وقد تقدم في أبحاث المحكم والمتشابه في الجزء الثالث من الكتاب. وهذا أعظم ثلمة انثلم بها علم القرآن وطريق التفكر الذى يندب إليه. ومن الشاهد على هذا الاعراض قلة الاحاديث المنقولة عنهم عليهم السلام فإنك إذا تأملت ما عليه علم الحديث في عهد الخلفاء من المكانة والكرامة، وما كان عليه الناس من الولع والحرص الشديد على أخذه ثم أحصيت ما نقل في ذلك عن على والحسن والحسين، وخاصة ما نقل من ذلك في تفسير القرآن لرأيت عجبا: أما الصحابة فلم ينقلوا عن على عليه السلام شيئا يذكر، وأما التابعون فلا يبلغ ما نقلوا عنه - إن احصى - مائة رواية في تمام القرآن،
________________________________________
[ 275 ]
وأما الحسن عليه السلام فلعل المنقول عنه لا يبلغ عشرا، وأما الحسين فلم ينقل عنه شئ يذكر، وقد أنهى بعضهم الروايات الواردة في التفسير إلى سبعة عشر ألف (1) حديث من طريق الجمهور وحده، وهذه النسبة موجدة في روايات الفقه أيضا (2). فهل هذا لانهم هجروا أهل البيت وأعرضوا عن حديثهم ؟ أو لانهم أخذوا عنهم وأكثروا ثم اخفيت ونسيت في الدولة الاموية لانحراف الامويين عنهم ؟ ما أدرى. غير أن عزلة على وعدم اشتراكه في جمع القرآن أولا وأخيرا وتاريخ حياة الحسن والحسين عليهم السلام يؤيد أول الاحتمالين. وقد آل أمر حديثه إلى أن أنكر بعض كون ما اشتمل عليه كتاب نهج البلاغة من غرر خطبه من كلامه، وأما أمثال الخطبة البتراء لزياد بن أبيه وخمريات يزيد فلا يكاد يختلف فيها اثنان !. ولم يزل أهل البيت مضطهدين، مهجورا حديثهم إلى أن انتهض الامامان: محمد بن على الباقر وجعفر بن محمد الصادق عليهما السلام في برهة كالهدنة بين الدولة الاموية والدولة العباسية فبينا ما ضاعت من أحاديث آبائهم، وجددا ما اندرست وعفيت من آثارهم. غير أن حديثهما وغيرهما من آبائهما وأبنائهما من أئمة أهل البيت أيضا لم يسلم من الدخيل، ولم يخلص من الدس والوضع كحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ذكرا ذلك في الصريح من كلامهما، وعدا رجالا من الوضاعين كمغيرة بن سعيد وابن أبى الخطاب وغيرهما، وأنكر بعض الائمة روايات كثيرة مروية عنهم وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأمروا أصحابهم وشيعتهم بعرض الاحاديث المنقولة عنهم على القرآن وأخذ ما وافقه وترك ما خالفه. ولكن القوم (إلا آحاد منهم) لم يجروا عليها عملا في أحاديث أهل البيت عليهم السلام وخاصة في غير الفقه، وكان السبيل الذى سلكوه في ذلك هو السبيل الذى سلكه الجمهور في أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
________________________________________
(1) ذكر السيوطي في الاتقان، وذكر عدد الروايات في تفسيره المسمى بترجمان القرآن وتلخيصه المسمى بالدر المنثور. (2) ذكر بعض المتتبعين انه عثر على حديثين مرويين عن الحسين عليه السلام في الروايات الفقهية. (*)


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page