• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 176 الي 200


[ 176 ]
على ما ورد في أسباب النزول. فقد كان هذه وأمثالها أمانى تمكن الرجاء من نفوسهم، وتطمعهم في إطفاء نور الدين، وتزين لاوهامهم ان هذه الدعوة الطاهرة ليست الا أحدوثة ستكذبه المقادير ويقضى عليها ويعفو أثرها مرور الايام والليالي، لكن ظهور الاسلام تدريجا على كل ما نازله له من دين وأهله، وانتشار صيته، واعتلاء كلمته بالشوكة والقوة قضى على هذه الامانى فيئسوا من إفساد عزيمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإيقاف همته عند بعض ما كان يريده، وتطميعه بمال أو جاه. قوة الاسلام وشوكته أيأستهم من جميع تلك الاسباب: - أسباب الرجاء - إلا واحدا وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم مقطوع العقب لا ولد له تخلفه في أمره، ويقوم على ما قام عليه من الدعوة الدينية فسيموت دينه بموته، وذلك أن من البديهى ان كمال الدين من جهة أحكامه ومعارفه - وإن بلغ ما بلغ - لا يقوى بنفسه على حفظ نفسه، وأن سنة من السنن المحدثة والاديان المتبعة لا تبقى على نضارتها وصفائها لا بنفسها ولا بانتشار صيتها ولا بكثرة المنتحلين بها، كما أنها لا تنمحي ولا تنطمس بقهر أو جبر أو تهديد أو فتنة أو عذاب أو غير ذلك إلا بموت حملتها وحفظتها والقائمين بتدبير أمرها. ومن جميع ما تقدم يظهر ان تمام يأس الكفار إنما كان يتحقق عند الاعتبار الصحيح بأن ينصب الله لهذا الدين من يقوم مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حفظه وتدبير أمره، وإرشاد الامة القائمة به فيتعقب ذلك يأس الذين كفروا من دين المسلمين لما شاهدوا خروج الدين عن مرحلة القيام بالحامل الشخصي إلى مرحلة القيام بالحامل النوعى، ويكون ذلك إكمالا للدين بتحويله من صفة الحدوث إلى صفة البقاء، وإتماما لهذه النعمة، وليس يبعد ان يكون قوله تعالى: " ود كثير من اهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ان الله على كل شئ قدير " (البقرة: 109) باشتماله على قوله: " حتى يأتي " اشارة إلى هذا المعنى. وهذا يؤيد ما ورد من الروايات ان الاية نزلت يوم غدير خم، وهو اليوم الثامن عشر من ذى الحجة سنة عشر من الهجرة في أمر ولاية على عليه السلام، وعلى هذا فيرتبط الفقرتان أوضح الارتباط، ولا يرد عليه شئ من الاشكالات المتقدمة.
________________________________________
[ 177 ]
ثم إنك بعد ما عرفت معنى اليأس في الاية تعرف أن اليوم في قوله: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " ظرف متعلق بقوله: " يئس " وأن التقديم للدلالة على تفخيم أمر اليوم، وتعظيم شأنه، لما فيه من خروج الدين من مرحلة القيام بالقيم الشخصي إلى مرحلة القيام بالقيم النوعى، ومن صفة الظهور والحدوث إلى صفة البقاء والدوام. ولا يقاس الاية بما سيأتي من قوله: " اليوم أحل لكم الطيبات " (الاية) فإن سياق الايتين مختلف فقوله: " اليوم يئس " في سياق الاعتراض، وقوله: " اليوم أحل "، في سياق الاستيناف، والحكمان مختلفان: فحكم الاية الاولى تكويني مشتمل على البشرى من وجه والتحذير من وجه آخر، وحكم الثانية تشريعي منبئ عن الامتنان. فقوله: " اليوم يئس " يدل على تعظيم أمر اليوم لاشتماله على خير عظيم الجدوى وهو يأس الذين كفروا من دين المؤمنين، والمراد بالذين كفروا - كما تقدمت الاشارة إليه - مطلق الكفار من الوثنيين واليهود والنصارى وغيرهم لمكان الاطلاق. وأما قوله: " فلا تخشوهم واخشون فالنهى إرشادى لا مولوى، معناه أن لا موجب للخشية بعد يأس الذين كنتم في معرض الخطر من قبلهم - ومن المعلوم ان الانسان لا يهم بأمر بعد تمام اليأس من الحصول عليه ولا يسعى إلى ما يعلم ضلال سعيه فيه - فأنتم في أمن من ناحية الكفار، ولا ينبغى لكم مع ذلك الخشية منهم على دينكم فلا تخشوهم اخشونى. ومن هنا يظهر أن المراد بقوله: " واخشون " بمقتضى السياق أن اخشونى فيما كان عليكم ان تخشوهم فيه لو لا يأسهم وهو الدين ونزعه من أيديكم، وهذا نوع تهديد للمسلمين كما هو ظاهر، ولهذا لم نحمل الاية على الامتنان. ويؤيد ما ذكرنا أن الخشية من الله سبحانه واجب على أي تقدير من غير ان يتعلق بوضع دون وضع، وشرط دون شرط، فلا وجه للاضراب من قوله: " فلا تخشوهم " إلى قوله: " واخشون " لولا أنها خشية خاصة في مورد خاص. ولا تقاس الاية بقوله تعالى: " فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين " (آل عمران: 175) لان الامر بالخوف من الله في تلك الاية مشروط بالايمان، والخطاب مولوى، ومفاده انه لا يجوز للمؤمنين ان يخافوا الكفار على أنفسهم بل يجب ان يخافوا الله سبحانه وحده.
________________________________________
[ 178 ]
فالاية تنهاهم عما ليس لهم بحق وهو الخوف منهم على أنفسهم سواء أمروا بالخوف من الله ام لا ولذلك يعلل ثانيا الامر بالخوف من الله بقيد مشعر بالتعليل، وهو قوله: " إن كنتم مؤمنين " وهذا بخلاف قوله: " فلا تخشوهم واخشون " فإن خشيتهم هذه خشية منهم على دينهم، وليست بمبغوضة لله سبحانه لرجوعها إلى ابتغاء مرضاته بالحقيقة، بل إنما النهى عنها لكون السبب الداعي إليها - وهو عدم يأس الكفار منه - قد ارتفع وسقط أثره فالنهى عنه إرشادى، فكذا الامر بخشية الله نفسه، ومفاد الكلام ان من الواجب أن تخشوا في امر الدين، لكن سبب الخشية كان إلى يوم مع الكفار فكنتم تخشونهم لرجائهم في دينكم وقد يئسوا اليوم وانتقل السبب إلى ما عند الله فاخشوه وحده. فافهم ذلك. فالاية لمكان قوله: " فلا تخشوهم واخشون " لا تخلو عن تهديد وتحذير، لان فيه أمرا بخشية خاصة دون الخشية العامة التى تجب على المؤمن على كل تقدير وفى جميع الاحوال، فلننظر في خصوصية هذه الخشية، وأنه ما هو السبب الموجب لوجوبها والامر بها ؟. لا إشكال في ان الفقرتين أعنى قوله. " اليوم يئس "، وقوله: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي "، في الاية مرتبطتان مسوقتان لغرض واحد، وقد تقدم بيانه، فالدين الذى أكمله الله اليوم، والنعمة التى أتمها اليوم - وهما أمر واحد بحسب الحقيقة - هو الذى كان يطمع فيه الكفار ويخشاهم فيه المؤمنون فأيأسهم الله منه وأكمله وأتمه، ونهاهم عن أن يخشوهم فيه، فالذي أمرهم بالخشية من نفسه فيه هو ذاك بعينه وهو أن ينزع الله الدين من ايديهم، ويسلبهم هذه النعمة الموهوبة. وقد بين الله سبحانه ان لا سبب لسلب النعمة إلا الكفر بها، وهدد الكفور أشد التهديد، قال تعالى: " ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم " (الانفال: 53) وقال تعالى: " ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب " (البقرة: 211) وضرب مثلا كليا لنعمه وما يؤول إليه أمر الكفر بها فقال: " وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " (النحل: 112). فالاية أعنى قوله: " اليوم يئس - إلى قوله - دينا " تؤذن بأن دين المسلمين في أمن
________________________________________
[ 179 ]
من جهة الكفار، مصون من الخطر المتوجه من قبلهم، وأنه لا يتسرب إليه شئ من طوارق الفساد والهلاك إلا من قبل المسلمين أنفسهم، وأن ذلك إنما يكون بكفرهم بهذه النعمة التامة، ورفضهم هذا الدين الكامل المرضى، ويومئذ يسلبهم الله نعمته ويغيرها إلى النقم، ويذيقهم لباس الجوع والخوف، وقد فعلوا وفعل. ومن أراد الوقوف على مبلغ صدق هذه الاية في ملحمتها المستفادة من قوله: " فلا تخشوهم واخشون " فعليه ان يتأمل فيما استقر عليه حال العالم الاسلامي اليوم ثم يرجع القهقرى بتحليل الحوادث التاريخية حتى يحصل على أصول القضايا وأعراقها. ولايات الولاية في القرآن ارتباط تام بما في هذه الاية من التحذير والايعاد، ولم يحذر الله العباد عن نفسه في كتابه إلا في باب الولاية، فقال فيها مرة بعد مرة: " ويحذركم الله نفسه " (آل عمران: 28، 30) وتعقيب هذا البحث أزيد من هذا خروج عن طور الكتاب. قوله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا " الاكمال والاتمام متقاربا المعنى، قال الراغب: كمال الشئ حصول ما هو الغرض منه. وقال: تمام الشئ انتهاؤه إلى حد لا يحتاج إلى شئ خارج عنه، والناقص ما يحتاج إلى شئ خارج عنه. ولك ان تحصل على تشخيص معنى اللفظين من طريق آخر، وهو ان آثار الاشياء التى لها آثار على ضربين. فضرب منها ما يترتب على الشئ عند وجود جميع اجزائه - إن كان له اجزاء - بحيث لو فقد شيئا من أجزائه أو شرائطه لم يترتب عليه ذلك الامر كالصوم فإنه يفسد إذا أخل بالامساك في بعض النهار، ويسمى كون الشئ على هذا الوصف بالتمام، قال تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " (البقرة: 187)، وقال: " وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا " (الانعام: 115). وضرب آخر: الاثر الذى يترتب على الشئ من غير توقف على حصول جميع أجزائه، بل أثر المجموع كمجموع آثار الاجزاء، فكلما وجد جزء ترتب عليه من الاثر ما هو بحسبه، ولو وجد الجميع ترتب عليه كل الاثر المطلوب منه، قال تعالى: " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة " (البقرة: 196) وقال:
________________________________________
[ 180 ]
" ولتكملوا العدة " (البقرة: 185) فإن هذا العدد يترتب الاثر على بعضه كما يترتب على كله، ويقال: تم لفلان امره وكمل عقله، ولا يقال: تم عقله وكمل امره. وأما الفرق بين الاكمال والتكميل، وكذا بين الاتمام والتتميم فإنما هو الفرق بين بابى الافعال والتفعيل، وهو ان الافعال بحسب الاصل يدل على الدفعة والتفعيل على التدريج، وإن كان التوسع الكلامي أو التطور اللغوى ربما يتصرف في البابين بتحويلهما إلى ما يبعد من مجرى المجرد أو من أصلهما كالاحسان والتحسين، والاصداق والتصديق، والامداد والتمديد والافراط والتفريط، وغير ذلك، فإنما هي معان طرأت بحسب خصوصيات الموارد ثم تمكنت في اللفظ بالاستعمال. وينتج ما تقدم ان قوله: " أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " يفيد أن المراد بالدين هو مجموع المعارف والاحكام المشرعة وقد أضيف إلى عددها اليوم شئ وأن النعمة أياما كانت امر معنوى واحد كأنه كان ناقصا غير ذى اثر فتمم وترتب عليه الاثر المتوقع منه. والنعمة بناء نوع وهى ما يلائم طبع الشئ من غير امتناعه منه، والاشياء وإن كانت بحسب وقوعها في نظام التدبير متصلة مرتبطة متلائما بعضها مع بعض، وأكثرها أو جميعها نعم إذا أضيفت إلى بعض آخر مفروض كما قال تعالى: " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " (ابراهيم: 34) وقال: " وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة " (لقمان: 20). إلا انه تعالى وصف بعضها بالشر والخسة واللعب واللهو وأوصاف أخر غير ممدوحة كما قال: " ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لانفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين " (آل عمران: 178)، وقال: " وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الاخرة لهى الحيوان " (العنكبوت: 64)، وقال: " لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد " (آل عمران: 197) إلى غير ذلك. والايات تدل على ان هذه الاشياء المعدودة نعما إنما تكون نعمة إذا وافقت الغرض الالهى من خلقتها لاجل الانسان، فإنها إنما خلقت لتكون إمدادا إلهيا للانسان يتصرف فيها في سبيل سعادته الحقيقية، وهى القرب منه سبحانه بالعبودية والخضوع للربوبية، قال
________________________________________
[ 181 ]
تعالى: " وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون " (الذاريات: 56). فكل ما تصرف فيه الانسان للسلوك به إلى حضرة القرب من الله وابتغاء مرضاته فهو نعمة، وإن انعكس الامر عاد نقمة في حقه، فالاشياء في نفسها، عزل، وإنما هي نعمة لاشتمالها على روح العبودية، ودخولها من حيث التصرف المذكور تحت ولاية الله التى هي تدبير الربوبية لشؤون العبد، ولازمه أن النعمة بالحقيقة هي الولاية الالهية، وأن الشئ إنما يصير نعمة إذا كان مشتملا على شئ منها، قال تعالى: " الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور " (البقرة: 257) وقال تعالى: " ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم " (محمد: 11) وقال في حق رسوله: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما " (النساء: 65) إلى غير ذلك. فالاسلام وهو مجموع ما نزل من عند الله سبحانه ليعبده به عباده دين، وهو من جهة اشتماله - من حيث العمل به - على ولاية الله وولاية رسوله وأولياء الامر بعده نعمة. ولا يتم ولاية الله سبحانه أي تدبيره بالدين لامور عباده إلا بولاية رسوله، ولا ولاية رسوله إلا بولاية أولى الامر من بعده، وهى تدبيرهم لامور الامة الدينية بإذن من الله، قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم " (النساء: 59) وقد مر الكلام في معنى الاية، وقال: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " (المائدة: 55) وسيجئ الكلام في معنى الاية إن شاء الله تعالى. فمصل معنى الاية اليوم - وهو اليوم الذى يئس فيه الذين كفروا من دينكم - أكملت لكم مجموع المعارف الدينية التى أنزلتها إليكم بفرض الولاية، وأتممت عليكم نعمتي وهى الولاية التى هي إدارة أمور الدين وتدبيرها تدبيرا إلهيا، فإنها كانت إلى اليوم ولاية الله ورسوله، وهى إنما تكفى ما دام الوحى ينزل، ولا تكفى لما بعد ذلك من زمان انقطاع الوحى، ولا رسول بين الناس يحمى دين الله ويذب عنه بل من الواجب أن ينصب من يقوم بذلك، وهو ولى الامر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القيم على أمور الدين والامة. فالولاية مشروعة واحدة، كانت ناقصة غير تامة حتى إذا تمت بنصب ولى الامر
________________________________________
[ 182 ]
بعد النبي. وإذا كمل الدين في تشريعه، وتمت نعمة الولاية فقد رضيت لكم من حيث الدين الاسلام الذى هو دين التوحيد الذى لا يعبد فيه إلا الله ولا يطاع فيه - والطاعة عبادة - إلا الله ومن أمر بطاعته من رسول أو ولى. فالاية تنبئ عن أن المؤمنين اليوم في أمن بعد خوفهم، وأن الله رضى لهم أن يتدينوا بالاسلام الذى هو دين التوحيد فعليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا بطاعة غير الله أو من أمر بطاعته. وإذا تدبرت قوله تعالى: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بى شيئا ومن كفر بعد ذلك فاولئك هم الفاسقون " (النور: 55) ثم طبقت فقرات الاية على فقرات قوله تعالى: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " (الخ) وجدت آية سورة المائدة من مصاديق إنجاز الوعد الذى يشتمل عليه آية سورة النور على أن يكون قوله: " يعبدونني لا يشركون بى شيئا " مسوقا سوق الغاية كماربما يشعر به قوله: " ومن كفر بعد ذلك فاولئك هم الفاسقون ". وسورة النور قبل المائدة نزولا كما يدل عليه اشتمالها على قصة الافك وآية الجد وآية الحجاب وغير ذلك. قوله تعالى: " فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم " المخمصة هي المجاعة، والتجانف هو التمايل من الجنف بالجيم وهو ميل القدمين إلى الخارج مقابل الحنف بالحاء الذى هو ميلهما إلى الداخل. وفى سياق الاية دلالة اولا على أن الحكم حكم ثانوى اضطرارى، وثانيا على أن التجويز والاباحة مقدر بمقدار يرتفع به الاضطرار ويسكن به ألم الجوع، وثالثا على أن صفة المغفرة ومثلها الرحمة كما تتعلق بالمعاصى المستوجبة للعقاب كذلك يصح أن تتعلق بمنشأها، وهو الحكم الذى يستتبع مخالفته تحقق عنوان المعصية الذى يستتبع العقاب.
________________________________________
[ 183 ]
(بحث علمي في فصول ثلاثة) 1 - العقائد في اكل اللحم: لا ريب أن الانسان كسائر الحيوان والنبات مجهز بجهاز التغذى يجذب به إلى نفسه من الاجزاء المادية ما يمكنه أن يعمل فيه ما ينضم بذلك إلى بدنه وينحفظ به بقاؤه، فلا مانع له بحسب الطبع من أكل ما يقبل الازدراد والبلع إلا ان يمتنع منه لتضرر أو تنفر. أما التضرر فهو كأن يجد المأكول يضر ببدنه ضرا جسمانيا لمسمومية ونحوها فيمتنع عندئذ عن الاكل، أو يجد الاكل يضر ضرا معنويا كالمحرمات التى في الاديان والشرائع المختلفة، وهذا القسم امتناع عن الاكل فكرى. واما التنفر فهو الاستقذار الذى يمتنع معه الطبع عن القرب منه كما أن الانسان لا يأكل مدفوع نفسه لاستقذاره إياه، وقد شوهد ذلك في بعض الاطفال والمجانين، ويلحق بذلك ما يستند إلى عوامل اعتقادية كالمذهب أو السنن المختلفة الرائجة في المجتمعات المتنوعة مثل أن المسلمين يستقذرون لحم الخنزير، والنصارى يستطيبونه، ويتغذى الغربيون من انواع الحيوانات أجناسا كثيرة يستقذرها الشرقيون كالسرطان والضفدع والفأر وغيرها، وهذا النوع من الامتناع امتناع بالطبع الثاني والقريحة المكتسبة. فتبين أن الانسان في التغذى باللحوم على طرائق مختلفة ذات عرض عريض من الاسترسال المطلق إلى الامتناع، وأن استباحته ما استباح منها اتباع للطبع كما أن امتناعه عما يمتنع عنه إنما هو عن فكر أو طبع ثانوى. وقد حرمت سنة بوذا أكل لحوم الحيوانات عامة، وهذاتفريط يقابله في جانب الافراط ما كان دائرا بين أقوام متوحشين من افريقية وغيرها أنهم كانوا يأكلون أنواع اللحوم حتى لحم الانسان. وقد كانت العرب تأكل لحوم الانعام وغيرها من الحيوان حتى أمثال القأر والوزغ، وتأكل من الانعام ما قتلته بذبح ونحوه، وتأكل غير ذلك كالميتة بجميع أقسامها كالمنخنقة
________________________________________
[ 184 ]
والموقوذة والمتردية والنطحية وما اكل السبع، وكان القائل منهم يقول: ما لكم تأكلون مما قتلتموه ولا تأكلون مما قتله الله ؟ ! كما ربما يتفوه بمثله اليوم كثيرون ؟ يقول قائلهم: ما الفارق بين اللحم واللحم إذا لم يتضرر به بدن الانسان ولو بعلاج طبى فنى فجهاز التغذى لا يفرق بين هذا وذاك ؟. وكانت العرب ايضا تأكل الدم، كانوا يملؤون المعى من الدم ويشوونه ويطعمونه الضيف، وكانوا إذا اجدبوا جرحوا ابلهم بالنصال وشربوا ما ينزل من الدم، واكل الدم رائج اليوم بين كثير من الامم غير المسلمة. وأهل الصين من الوثنية اوسع منهم سنة، فهم - على ما ينقل - يأكلون أصناف الحيوان حتى الكلب والهر، وحتى الديدان والاصداف وسائر الحشرات. وقد اخذ الاسلام في ذلك طريقا وسطا فأباح من اللحوم ما تستطيبه الطباع المعتدلة من الانسان، ثم فسره في ذوات الاربع بالبهائم كالضأن والمعز والبقر والابل على كراهية في بعضها كالفرس والحمار، وفى الطير - بغير الجوارح - مما له حوصلة ودفيف ولا مخلب له، وفى حيوان البحر ببعض أنواع السمك على التفصيل المذكور في كتب الفقه. ثم حرم دماءها وكل ميتة منها وما لم يذك بالاهلال به لله عز اسمه، والغرض في ذلك أن تحيا سنة الفطرة، وهى اقبال الانسان على أصل أكل اللحم، ويحترم الفكر الصحيح والطبع المستقيم اللذين يمتنعان من تجويز ما فيه الضرر نوعا، وتجويز ما يستقذر ويتنفر منه. 2 - كيف أمر بقتل الحيوان والرحمة تاباه ؟ ربما يسأل السائل فيقول: ان الحيوان ذو روح شاعرة بما يشعر به الانسان من ألم العذاب ومرارة الفناء والموت وغريزة حب الذات التى تبعثنا إلى الحذر من كل مكروه والفرار من ألم العذاب والموت تستدعى الرحمة لغيرنا من أفراد النوع لانه يؤلمهم ما يؤلمنا، ويشق عليهم ما يشق علينا، والنفوس سواء. وهذا القياس جار بعينه في سائر أنواع الحيوان، فكيف يسوغ لنا أن نعذبهم بما نتعذب به، ونبدل لهم حلاوة الحياة من مرارة الموت، ونحرمهم نعمة البقاء التى هي أشرف نعمة ؟ والله سبحانه أرحم الراحمين، فكيف يسع رحمته أن يأمر بقتل حيوان ليلتذ به إنسان وهما جميعا في أنهما خلقه سواء ؟.
________________________________________
[ 185 ]
والجواب عنه أنه من تحكيم العواطف على الحقائق والتشريع إنما يتبع المصالح الحقيقية دون العواطف الوهمية. توضيح ذلك أنك إذا تتبعت الموجودات التى تحت مشاهدتك بالميسور مما عندك وجدتها في تكونها وبقائها تابعة لناموس التحول، فما من شئ إلا وفى إمكانه أن يتحول إلى آخر، وأن يتحول الاخر إليه بغير واسطة أو بواسطة لا يوجد واحد إلا ويعدم آخر، ولا يبقى هذا إلا ويفنى ذاك، فعالم المادة عالم التبديل، والتبدل، وإن شئت فقل: عالم الاكل والمأكول. فالمركبات الارضية تأكل الارض بضمها إلى أنفسها وتصويرها بصورة تناسبها أو تختص بها ثم الارض تأكلها وتفنيها. ثم النبات يتغذى بالارض ويستنشق الهواء ثم الارض تأكله وتجزئه إلى أجزائه الاصلية وعناصره الاولية، ولا يزال أحدهما يراجع الاخر. ثم الحيوان يتغذى بالنبات والماء ويستنشق الهواء، وبعض أنواعه يتغذى ببعض كالسباع تأكل لحوم غيرها بالاصطياد، وجوارح الطير تأكل أمثال الحمام والعصافير لا يسعها بحسب جهاز التغذى الذى يخصها إلا ذلك، وهى تتغذى بالحبوب وأمثال الذباب والبق والبعوض وهى تتغذى بدم الانسان وسائر الحيوان ونحوه، ثم الارض تأكل الجميع. فنظام التكوين وناموس الخلقة الذى له الحكومة المطلقة المتبعة على الموجودات هو الذى وضع حكم التغذى باللحوم ونحوها، ثم هدى أجزاء الوجود إلى ذلك، وهو الذى سوى الانسان تسوية صالحة للتغذي بالحيوان والنبات جميعا. وفى مقدم جهازه الغذائى أسنانه المنضودة نضدا صالحا للقطع والكسر والنهش والطحن من ثنايا ورباعيات وأنياب وطواحن، فلا هو مثل الغنم والبقر من الانعام لا تستطيع قطعا ونهشا، ولا هو كالسباع لا تستطيع طحنا ومضغا. ثم القوة الذائقة المعدة في فمه التى تستلذ طعم اللحوم ثم الشهوة المودعة في سائر أعضاء هضمه جميع هذه تستطيب اللحوم وتشتهيها. كل ذلك هداية تكوينية وإباحة من مؤتمر الخلقة، وهل يمكن الفرق بين الهداية التكوينية، وإباحة العمل المهدى إليه بتسليم أحدهما وإنكار الاخر ؟.
________________________________________
[ 186 ]
والاسلام دين فطرى لا هم له إلا احياء آثار الفطرة التى أعفتها الجهالة الانسانية، فلا مناص من أن يستباح به ما تهدى إليه الخلقة وتقضى به الفطرة. وهو كما يحيى بالتشريع هذا الحكم الفطري يحيى أحكاما أخرى وضعها واضع التكوين، وهو ما تقدم ذكره من الموانع من الاسترسال في حكم التغذى أعنى حكم العقل بوجوب اجتناب ما فيه ضرر جسماني أو معنوى من اللحوم، وحكم الاحساسات والعواطف الباطنية بالتحذر والامتناع عما يستقذره ويتنفر منه الطباع المستقيمة، وهذان الحكمان أيضا ينتهى أصولهما إلى تصرف من التكوين، وقد اعتبرهما الاسلام فحرم ما يضر نماء الجسم، وحرم ما يضر بمصالح المجتمع الانساني، مثل ما أهل به لغير الله، وما اكتسب من طريق الميسر والاستقسام بالازلام ونحو ذلك، وحرم الخبائث التى تستقذرها الطباع. وأما حديث الرحمة المانعة من التعذيب والقتل فلا شك أن الرحمة موهبة لطيفة تكوينية أودعت في فطرة الانسان وكثير مما إعتبرنا حاله من الحيوان، إلا أن التكوين لم يوجدها لتحكم في الامور حكومة مطلقة وتطاع طاعة مطلقة، فالتكوين نفسه لا يستعمل الرحمة استعمالا مطلقا، ولو كان ذلك لم يوجد في دار الوجود أثر من الالام والاسقام والمصائب وأنواع العذاب. ثم الرحمة الانسانية في نفسها ليست خلقا فاضلا على الاطلاق كالعدل، ولو كان كذلك لم يحسن أن نؤاخذ ظالما على ظلمه أو نجازى مجرما على جرمه ولا أن نقابل عدوانا بعدوان، وفيه هلاك الارض ومن عليها. ومع ذلك لم يهمل الاسلام أمر الرحمة بما أنها من مواهب التكوين، فأمر بنشر الرحمة عموما، ونهى عن زجر الحيوان في القتل، ونهى عن قطع أعضاء الحيوان المذبوح وسلخه قبل زهاق روحه - ومن هذا الباب تحريم المنخنقة والموقوذة - ونهى عن قتل الحيوان وآخر ينظر إليه ووضع للتذكية أرفق الاحكام بالحيوان المذبوح وأمر بعرض الماء عليه، ونحو ذلك مما يوجد تفصيله في كتب الفقه. ومع ذلك كله الاسلام دين التعقل لا دين العاطفة فلا يقدم حكم العاطفة على الاحكام المصلحة لنظام المجتمع الانساني ولا يعتبر منه إلا ما اعتبره العقل، ومرجع ذلك
________________________________________
[ 187 ]
إلى اتباع حكم العقل. وأما حديث الرحمة الالهية وأنه تعالى أرحم الراحمين، فهو تعالى غير متصف بالرحمة بمعنى رقة القلب أو التأثر الشعورى الخاص الباعث للراحم على التلطف بالمرحوم، فإن ذلك صفة جسمانية مادية تعالى عن ذلك علوا كبيرا، بل معناها إفاضته تعالى الخير على مستحقه بمقدار ما يستحقه، ولذلك ربما كان ما نعده عذابا رحمة منه تعالى وبالعكس، فليس من الجائز في الحكمة أن يبطل مصلحة من مصالح التدبير في التشريع اتباعا لما تقترحه عاطفة الرحمة الكاذبة التى فينا، أو يساهل في جعل الشرائع محاذية للواقعيات. فتبين من جميع ما مر أن الاسلام يحاكى في تجويز أكل اللحوم وفي القيود التى قيد بها الاباحة والشرائط التى اشترطها جميعا أمر الفطرة: فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم !. 3 - لما ذا بنى الاسلام على التذكية ؟ وهذا سؤال آخر يتفرع على السؤال المتقدم، وهو أنا سلمنا أن أكل اللحوم مما تبيحه الفطرة والخلقة فهلا اقتصر في ذلك بما يحصل على الصدفة ونحوها بأن يقتصر في اللحوم بما يهيؤه الموت العارض حتف الانف، فيجمع في ذلك بين حكم التكوين بالجواز، وحكم الرحمة بالامساك عن تعذيب الحيوان وزجره بالقتل أو الذبح من غير أن يعدل عن ذلك إلى التذكية والذبح ؟. وقد تبين الجواب عنه مما تقدم في الفصل الثاني، فإن الرحمة بهذا المعنى غير واجب الاتباع بل اتباعه يفضى إلى إبطال أحكام الحقائق. وقد عرفت أن الاسلام مع ذلك لم يأل جهدا في الامر بإعمال الرحمة قدر ما يمكن في هذا الباب حفظا لهذه الملكة اللطيفة بين النوع. على أن الاقتصار على إباحة الميتة وأمثالها مما لا ينتج التغذى به إلا فساد المزاج ومضار الابدان هو بنفسه خلاف الرحمه، وبعد ذلك كله لا يخلو عن الحرج العام الواجب نفيه.
________________________________________
[ 188 ]
(بحث روائي) في تفسير العياشي عن عكرمة عن ابن عباس قال: ما نزلت آية " يا أيها الذين آمنوا " إلا وعلى شريفها وأميرها، ولقد عاتب الله أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في غير مكان وما ذكر عليا إلا بخير. أقول: وروى في تفسير البرهان عن موفق بن أحمد، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله إلى قوله: وأميرها. ورواه أيضا العياشي عن عكرم،. وقد نقلنا الحديث سابقا عن الدر المنثور. وفى بعض الروايات عن الرضا عليه السلام قال: ليس في القرآن " يا أيها الذين آمنوا " إلا في حقنا. وهو من الجرى أو من باطن التنزيل. وفيه: عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله: " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " قال العهود. اقول: ورواه القمى أيضا في تفسيره عنه. وفي التهذيب مسندا عن محمد بن مسلم قال: سألت أحدهما عليهما السلام عن قول الله عز وجل: " أحلت لكم بهيمة الانعام " فقال: الجنين في بطن أمه إذا أشعر وأوبر فذكاته ذكاة أمه الذى عنى الله تعالى. اقول: والحديث مروى في الكافي والفقيه عنه عن أحدهما، وروى هذا المعنى العياشي في تفسيره عن محمد بن مسلم عن أحدهما، وعن زرارة عن الصادق عليه السلام، ورواه القمى في تفسيره، ورواه في المجمع عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام. وفي تفسير القمى: في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله " (الاية) الشعائر: الاحرام والطواف والصلاة في مقام إبراهيم والسعى بين الصفا والمروة، والمناسك كلها من شعائر الله، ومن الشعائر إذا ساق الرجل بدنة في حج ثم أشعرها أي قطع سنامها أو جلدها أو قلدها ليعلم الناس أنها هدى فلا يتعرض لها أحد. وإنما سميت الشعائر ليشعر الناس بها فيعرفوها، وقوله: " ولا الشهر الحرام " وهو ذو الحجة وهو من الاشهر الحرم، وقوله: " ولا الهدى " وهو الذى يسوقه إذا أحرم المحرم، وقوله: " ولا القلائد " قال:
________________________________________
[ 189 ]
يقلدها النعل التى قد صلى فيها. قوله: " ولا آمين البيت الحرام " قال: الذين يحجون البيت وفي المجمع قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: نزلت هذه الاية في رجل من بنى ربيعة يقال له: الحطم. قال: وقال السدى: أقبل الحطم بن هند البكري حتى أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده وخلف خيله المدينة فقال: إلى ما تدعو - ؟ وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لاصحابه: يدخل عليكم اليوم رجل من بنى ربيع، يتكلم بلسان شيطان - فلما أجابه النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أنظرني لعلى أسلم ولى من أشاوره، فخرج من عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لقد دخل بوجه كافر، وخرج بعقب غادر، فمر بسرح من سروح المدينة فساقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول: قد لفها الليل بسواق حطم * ليس براعى إبل ولا غنم ولا بجزار على ظهر وضم * باتوا نياما وابن هند لم ينم بات يقاسيها غلام كالزلم * خدلج الساقين ممسوح القدم ثم أقبل من عام قابل حاجا قد قلد هديا فأراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يبعث إليه فنزلت هذه الاية: ولا آمين البيت الحرام ". قال: وقال ابن زيد: نزلت يوم الفتح في ناس يؤمون البيت من المشركين يهلون بعمرة، فقال المسلمون: يا رسول الله إن هؤلاء مشركون مثل هؤلاء دعنا نغير عليهم فأنزل الله تعالى الاية. اقول: روى الطبري القصة عن السدى وعكرمة والقصة الثانية عن ابن زيد وروى في الدر المنثور القصة الثانية عن ابن أبى حاتم عن زيد بن أسلم وفيه: أنه كان يوم الحديبية. والقصتان جميعا لا توافقان ما هو كالمتسلم عليه عند المفسرين وأهل النقل أن سورة المائدة نزلت في حجة الوداع، إذ لو كان كذلك كان قوله: " إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " (البراءة: 28)، وقوله: " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " (البراءة: 5) الايتان جميعا نازلتين قبل قوله: " ولا آمين البيت الحرام " ولا محل حينئذ للنهى عن التعرض للمشركين إذا قصدوا البيت الحرام. ولعل شيئا من هاتين القصتين أو ما يشابههما هو السبب لما نقل عن ابن عباس ومجاهد
________________________________________
[ 190 ]
وقتادة والضحاك: ان قوله: " ولا آمين البيت الحرام " منسوب بقوله: " واقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " (الاية)، وقوله: " إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام " (الاية) وقد وقع حديث النسخ في تفسير القمى، وظاهره انه رواية. ومع ذلك كله تأخر سورة المائدة نزولا يدفع ذلك كله، وقد ورد من طرق أئمة أهل البيت عليهما السلام: أنها ناسخة غير منسوخة على أن قوله تعالى فيها: " اليوم أكملت لكم دينكم " (الاية) يأبى أن يطرء على بعض آيها نسخ وعلى هذا يكون مفاد قوله: " ولا آمين البيت الحرام " كالمفسر بقوله بعد: " ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا " أي لا تذهبوا بحرمة البيت بالتعرض لقاصديه لتعرض منهم لكم قبل هذا، ولا غير هؤلاء ممن صدوكم قبلا عن المسجد الحرام ان تعتدوا عليهم بإثم كالقتل، أو عدوان كالذى دون القتل من الظلم بل تعاونوا على البر والتقوى. وفي الدر المنثور: اخرج احمد وعبد بن حميد في هذه الاية يعنى قوله: " وتعاونوا على البر " (الاية) والبخاري في تاريخه عن وابصة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا لا اريد أن ادع شيئا من البر والاثم إلا سألته عنه فقال لى: يا وابصة اخبرك عما جئت تسأل عنه أم تسأ ؟ قلت يا رسول الله اخبرني قال: جئت لتسأل عن البر والاثم، ثم جمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري ويقول: يا وابصة استفت قبلك استفت نفسك البرما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، والاثم ما حاك في القلب، وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك. وفيه: أخرج أحمد وعبد بن حميد وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي عن أبى أمامة: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الاثم فقال: ما حاك في نفسك فدعه. قال: فما الايمان ؟ قال: من ساءته سيئته وسرته حسنته فهو مؤمن. وفيه: أخرج ابن أبى شيبة وأحمد والبخاري في الادب ومسلم والترمذي والحاكم والبيهقي في الشعب عن النواس بن سمعان قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن البر والاثم فقال: البر حسن الخلق والاثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس. اقول: الروايات - كما ترى - تبتنى على قوله تعالى: " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها " (الشمس: 8) وتؤيد ما تقدم من معنى الاثم.
________________________________________
[ 191 ]
وفى المجمع: واختلف في هذا (يعنى قوله: " ولا آمين البيت الحرام) فقيل: منسوخ بقوله: " اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " عن أكثر المفسرين، وقيل ما نسخ من هذه السورة شئ، ولا من هذه الاية، لانه لا يجوز أن يبتدء المشركون في الاشهر الحرم بالقتال إلا إذا قاتلوا. ثم قال: وهو المروى عن أبى جعفر عليه السلام. وفي الفقيه: بإسناده عن أبان بن تغلب عن أبى جعفر محمد بن على الباقر صلوات الله عليهما أنه قال: الميتة والدم ولحم الخنزير معروف، وما أهل لغير الله به يعنى ما ذبح على الاصنام، وأما المنخنقة فإن المجوس كانوا لا يأكلون الذبائح ويأكلون الميتة، وكانوا يخنقون البقر والغنم فإذا خنقت وماتت أكلوها، والموقوذة كانوا يشدون أرجلها ويضربونها حتى تموت فإذا ماتت أكلوها والمتردية كانوا يشدون عينها ويلقونها عن السطح فإذا ماتت أكلوها، والنطيحة كانوا يتناطحون بالكباش - فإذا مات أحدهما أكلوه، وما أكل السبع إلا ما ذكيتم فكانوا يأكلون ما يقتله الذئب والاسد والدب فحرم الله عز وجل ذلك، وما ذبح على النصب كانوا يذبحون لبيوت النيران، وقريش كانوا يعبدون الشجر والصخر فيذبحون لهما، وأن تستقسموا بالازلام ذلكم فسق قال: كانوا يعمدون إلى جزور فيجتزون عشرة أجزاء ثم يجتمعون عليه فيخرجون السهام فيدفعونها إلى رجل والسهام عشرة، وهى: سبعة لها أنصباء، وثلاثة لا أنصباء لها. فالتى لها أنصباء الفذ والتوأم والمسبل والنافس والحلس والرقيب والمعلى، فالفذ له سهم، والتوأم له سهمان، والمسبل له ثلاثة أسهم، والنافس له أربعة أسهم، والحلس له خمسة أسهم، والرقيب له ستة أسهم، والمعلى له سبعة أسهم. والتى لا أنصباء لها: السفيح، والمنيح، والوغد، وثمن الجزور على من لم يخرج له من الانصباء شئ وهو القمار فحرمه الله. اقول: وما ذكر في الرواية في تفسير المنخنقة والموقوذة والمتردية من قبيل البيان بالمثال كما يظهر من الرواية التالية وكذا ذكر قوله: " إلا ما ذكيتم " مع قوله: " وما أكل السبع " وقوله: " ذالكم فسق " مع قوله: " وأن تستقسموا بالازلام " لا دلالة فيه على التقييد. وفي تفسير العياشي: عن عيوق بن قسوط عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله:
________________________________________
[ 192 ]
" المنخنقة " قال: التى تنخنق في رباطها " والموقوذة " المريضة التى لا تجد ألم الذبح ولا تضطرب ولا تخرج لها دم " والمتردية " التى تردى من فوق بيت أو نحوه " والنطيحة " التى تنطح صاحبها. وفيه عن الحسن بن على الوشاء عن أبى الحسن الرضا عليه السلام قال: سمعته يقول: المتردية والنطيحة وما أكل السبع إن أدركت ذكاته فكله. وفيه: عن محمد بن عبد الله عن بعض أصحابه قال: قلت لابي عبد الله عليه السلاام: جعلت فداك لم حرم الله الميتة والدم ولحم الخنزير ؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى لم يحرم ذلك على عباده وأحل لهم ما سواه من رغبة منه - تبارك وتعالى - فيما حرم عليهم، ولا زهد فيما أحل لهم، ولكنه خلق الخلق، وعلم ما يقوم به أبدانهم وما يصلحهم فأحله وأباحه تفضلا منه عليهم لمصلحتهم، وعلم ما يضرهم فناههم عنه وحرمه عليهم ثم أباحه للمضطر وأحله لهم في الوقت الذى لا يقوم بدنه إلا به فأمره ان ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك. ثم قال: أما الميتة فإنه لا يدنو منها أحد ولا يأكلها إلا ضعف بدنه، ونحل جسمه، ووهنت قوته، وانقطع نسله، ولا يموت آكل الميتة إلا فجأة. وأما الدم فإنه يورث الكلب، وقسوة القلب، وقلة الرأفة والرحمة، لا يؤمن أن يقتل ولده ووالديه، ولا يؤمن على حميمه، ولا يؤمن على من صحبه. وأما لحم الخنزير فإن الله مسخ قوما في صورة شتى شبه الخنزير والقرد والدب وما كان من الامساخ ثم نهى عن أكل مثله لكى لا ينقع بها ولا يستخف بعقوبته. وأما الخمر فإنه حرمها لفعلها وفسادها، وقال: إن مدمن الخمر كعابد وثن ويورثه ارتعاشا ويذهب بنوره، ونهدم مروته، ويحمله على أن يكسب على المحارم من سفك الدماء وركوب الزنا، ولا يؤمن إذا سكر أن يثبت على حرمه وهو لا يعقل ذلك، والخمر لم يؤد شاربها إلا إلى كل شر. (بحث روائي آخر) في غاية المرام: عن أبى المؤيد موفق بن احمد في كتاب فضائل على، قال: أخبرني
________________________________________
[ 193 ]
سيد الحفاظ شهردار بن شيرويه بن شهردار الديلمى فيما كتب إلى من همدان، أخبرنا أبو الفتح عبدوس بن عبد الله بن عبدوس الهمداني كتابة، حدثنا عبد الله بن إسحاق البغوي، حدثنا الحسين بن عليل الغنوى، حدثنا محمد بن عبد الرحمان الزراع، حدثنا قيس بن حفص، حدثنا على بن الحسين، حدثنا أبو هريرة عن ابى سعيد الخدرى: إن النبي صلى الله عليه وسلم يوم دعا الناس إلى غدير خم أمر بما تحت الشجرة من شوك فقم، وذلك يوم الخميس يوم دعا الناس إلى على وأخذ بضبعه ثم رفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطيه ثم لم يفترقا حتى نزلت هذه الاية: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتى والولاية لعلى، ثم قال: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله. وقال حسان بن ثابت: أتأذن لى يا رسول الله أن أقول أبياتا ؟ قال: قل ينزله الله تعالى، فقال حسان بن ثابت: يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم وأسمع بالنبي مناديا بأنى مولاكم نعم ووليكم * فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا إلهك مولانا وأنت ولينا * ولا تجدن في الخلق للامر عاصيا فقال له قم يا على فإننى * رضيتك من بعدى إماما وهاديا وعن كتاب نزول القرآن في أمير المؤمنين على بن أبيطالب للحافظ أبى نعيم رفعه إلى قيس بن الربيع، عن أبى هارون العبدى، عن أبى سعيد الخدرى مثله، وقال في آخر الابيات: فمن كنت مولاه فهذا وليه * فكونوا له أنصار صدق مواليا هناك دعا اللهم وال وليه * وكن للذى عادى عليا معاديا وعن نزول القرآن أيضا يرفعه إلى على بن عامر عن أبى الحجاف عن الاعمش عن عضة قال: نزلت هذه الاية على رسول الله صلى الله عليه وسلم في على بن ابى طالب: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك " وقد قال الله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم
________________________________________
[ 194 ]
نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ". وعن إبراهيم بن محمد الحموينى قال: أنبأني الشيخ تاج الدين أبو طالب على بن الحسين بن عثمان بن عبد الله الخازن، قال: أنبأنا الامام برهان الدين ناصر بن ابى المكارم المطرزى إجازة، قال: أنبأنا الامام اخطب خوارزم أبو المؤيد موفق بن احمد المكى الخوارزمي، قال: أنبأني سيد الحفاظ في ما كتب إلى من همدان، أنبأنا الرئيس أبو الفتح كتابة، حدثنا عبد الله بن إسحاق البغوي، نبأنا الحسن بن عقيل الغنوى، نبأنا محمد بن عبد الله الزراع، نبأنا قيس بن حفص قال: حدثنى على بن الحسين العبدى عن ابى هارون العبدى عن ابى سعيد الخدرى، وذكر مثل الحديث الاول. وعن الحموينى أيضا عن سيد الحفاظ وأبو منصور شهردار بن شيرويه بن شهردار الديلمى، قال: أخبرنا الحسن بن أحمد بن الحسن الحداد المقرئ الحافظ عن أحمد بن عبد الله بن احمد، قال: نبأنا محمد بن احمد بن على، قال: نبأنا محمد بن عثمان بن أبى شيبة، قال: نبأنا يحيى الحمانى، قال: حدثنا قيس بن الربيع عن أبى هارون العبدى عن أبى سعيد الخدرى، وذكر مثل الحديث الاول. قال: قال الحموينى عقيب هذا الحديث: هذا حديث له طرق كثيرة إلى أبى سعيد سعد بن مالك الخدرى الانصاري. وعن المناقب الفاخرة للسيد الرضى - رحمه الله - عن محمد بن إسحاق، عن أبى جعفر، عن أبيه عن جده قال: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من حجة الوداع نزل أرضا يقال له: ضوجان، فنزلت هذه الاية: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس " فلما نزلت عصمته من الناس نادى: الصلاة جامعة فاجتمع الناس إليه، وقال: من أولى منكم بأنفسكم: فضجوا بأجمعهم فقالوا: الله ورسوله فأخذ بيد على بن أبى طالب، وقال: من كنت مولاه فعلى مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأنصر من نصره واخذل من خذله لانه منى وأنا منه، وهو منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبى بعدى. وكانت آخر فريضة فرضها الله تعالى على أمة محمد ثم أنزل الله تعالى على نبيه: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ".
________________________________________
[ 195 ]
قال أبو جعفر: فقبلوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل ما امرهم الله من الفرائض في الصلاة والصوم والزكاة والحج، وصدقوه على ذلك. قال ابن إسحاق: قلت لابي جعفر: ما كان ذلك ؟ قال: لتسع (1) عشرة ليلة خلت من ذى الحجة سنة عشرة عند منصرفه من حجة الوداع، وكان بين ذلك وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم مائة يوم وكان سمع (2) رسول الله بغدير خم اثنا عشر. وعن المناقب لابن المغازلى يرفعه إلى ابى هريرة قال: من صام يوم ثمانية عشر من ذى الحجة كتب الله له صيامه ستين شهرا، وهو يوم غدير خم، بها اخذ النبي بيعة على ابن ابى طالب، وقال: من كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، فقال له عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا بن ابى طالب اصبحت مولاى ومولى كل مؤمن ومؤمنة، فأنزل الله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت ". وعن المناقب لابن مردويه وكتاب سرقات الشعر للمرزباني عن ابى سعيد الخدرى مثل ما تقدم عن الخطيب. اقول: وروى الحديثين في الدر المنثور عن أبى سعيد وابى هريرة ووصف سنديهما بالضعف. وقد روى بطرق كثيرة تنتهى من الصحابة (لو دقق فيها) إلى عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب ومعاوية وسمرة: ان الاية نزلت يوم عرفة من حجة الوداع وكان يوم الجمعة، والمعتمد منها ما روى عن عمر فقد رواه عن الحميدى وعبد بن حميد واحمد البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان والبيهقي في سننه عن طارق بن شهاب عن عمر، وعن ابن راهويه في مسنده وعبد بن حميد عن ابى العالية عن عمر، وعن ابن جرير عن قبيصة بن ابى ذؤيب عن عمر، وعن البزاز عن ابن عباس، والظاهر أنه يروى عن عمر. ثم اقول: أما ما ذكره من ضعف سندى الحديثين فلا يجديه في ضعف المتن شيئا فقد أوضحنا في البيان المتقدم أن مفاد الاية الكريمة لا يلائم غير ذلك من جميع الاحتمالات
________________________________________
(1) سبع في نسخة البرهان. (2) سمى رسول الله بغدير خم اثنا عشر رجلا. نسخة البرهان. (*)
________________________________________
[ 196 ]
والمعاني المذكورة فيها، فهاتان الروايتان وما في معناهما هي الموافقة للكتاب من بين جميع الروايات فهى المتعينة للاخذ. على أن هذه الاحاديث الدالة على نزول الاية في مسألة الولاية وهى تزيد على عشرين حديثا من طرق أهل السنة والشيعة - مرتبطة بما ورد في سبب نزول قوله تعالى: " يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك " الاية (المائدة: 67) وهى تربو على خمسة عشر حديثا رواها الفريقان، والجميع مرتبط بحديث الغدير: " من كنت مولاه فعلى مولاه " وهو حديث متواتر مروى عن جم غفير من الصحابة، اعترف بتواتره جمع كثير من علماء الفريقين. ومن المتفق عليه أن ذلك كان في منصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مكة إلى المدينة. وهذه الولاية (لو لم تحمل على الهزل والتهكم) فريضة من الفرائض كالتولي والتبرى اللذين نص عليهما القرآن في آيات كثيرة، وإذا كان كذلك لم يجز أن يتأخر جعلها نزول الاية أعنى قوله: " اليوم أكملت " فالاية إنما نزلت بعد فرضها من الله سبحانه، ولا اعتماد على ما ينافى ذلك من الروايات لو كانت منافية. وأما ما رواه من الرواية فقد عرفت ما ينبغى أن يقال فيها غير أن ههنا أمرا يجب التنبه له، و هو أن التدبر في الايتين الكريمتين: " يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " (الاية) على ما سيجئ من بيان معناه، وقوله: " اليوم أكملت لكم دينكم " (الاية) والاحاديث الواردة من طرق الفريقين فيهما وروايات الغدير المتواترة، وكذا دراسة أوضاع المجتمع الاسلامي الداخلية في أواخر عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبحث العميق فيها يفيد القطع بأن أمر الولاية كان نازلا قبل يوم الغدير بأيام، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتقى الناس في إظهاره ويخاف أن لا يتلقوه بالقبول أو يسيؤوا القصد إليه فيختل أمر الدعوة، فكان لا يزال يؤخر تبليغه الناس من يوم إلى غد حتى نزل قوله: " يا أيها الرسول بلغ " (الاية) فلم يمهل في ذلك. وعلى هذا فمن الجائز أن ينزل الله سبحانه معظم السورة وفيه قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم " (الاية) وينزل معه أمر الولاية كل ذلك يوم عرفة فأخر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيان الولاية إلى غدير خم، وقد كان تلا آيتها يوم عرفة، وأما اشتمال بعض الروايات على
________________________________________
[ 197 ]
نزولها يوم الغدير فليس من المستبعد أن يكون ذلك لتلاوته صلى الله عليه وآله وسلم الاية مقارنة لتبليغ أمر الولاية لكونها في شأنها. وعلى هذا فلا تنافى بين الروايات أعنى ما دل على نزول الاية في امر الولاية، وما دل على نزولها يوم عرفة كما روى عن عمر وعلى ومعاوية وسمرة، فإن التنافى إنما كان يتحقق لو دل أحد القبيلين على النزول يوم غدير خم، والاخر على النزول على يوم عرفة. واما ما في القبيل الثاني من الروايات أن الاية تدل على كمال الدين بالحج وما أشبهه فهو من فهم الراوى لا ينطبق به الكتاب ولا بيان من النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعتمد عليه. وربما استفيد هذا الذى ذكرناه مما رواه العياشي في تفسيره عن جعفر بن محمد بن محمد الخزاعى عن ابيه قال: سمعت ابا عبد الله عليه السلام يقول لما نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عرفات يوم الجمعة أتاه جبرئيل فقال له: إن الله يقرئك السلام، ويقول لك: قل لامتك: اليوم أكملت دينكم بولاية على بن ابى طالب واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ولست أنزل عليكم بعد هذا، قد انزلت عليكم الصلاة والزكا، والصوم والحج، وهى الخامسة، ولست اقبل عليكم بعد هذه الاربعة إلا بها. على ان فيما نقل عن عمر من نزول الاية يوم عرفة إشكالا آخر، وهو أنها جميعا تذكر ان بعض اهل الكتاب - وفى بعضها انه كعب - قال لعمر: إن في القرآن آية لو نزلت مثلها علينا معشر اليهود لاتخذنا اليوم الذى نزلت فيه عيدا، وهى قوله: " اليوم اكملت لكم دينكم " (الاية) فقال له عمر: والله انى لاعلم اليوم وهو يوم عرفة من حجة الوداع. ولفظ ما رواه ابن راهويه وعبد بن حميد عن أبى العالية هكذا: قال كانوا عند عمر فذكروا هذه الاية، فقال رجل من اهل الكتاب: لو علمنا أي يوم نزلت هذه الاية لاتخذناه عيدا، فقال عمر الحمد لله الذى جعله لنا عيدا واليوم الثاني، نزلت يوم عرفة و اليوم الثاني يوم النحر فأكمل لنا الامر فعلمنا أن الامر بعد ذلك في انتقاص. وما يتضمنه آخر الرواية مروى بشكل آخر ففى الدر المنثور: عن ابن ابى شيبة و ابن جرير عن عنترة قال: لما نزلت " اليوم اكملت لكم دينكم " وذلك يوم الحج الاكبر بكى عمر فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يبكيك ؟ قال: ابكانى أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شئ قط إلا نقص، فقال: صدقت.
________________________________________
[ 198 ]
ونظيره الرواية بوجه رواية أخرى رواها أيضا في الدر المنثور عن أحمد عن علقمة ابن عبد الله المزني قال: حدثنى رجل قال: كنت في مجلس عمر بن الخطاب فقال عمر لرجل من القوم: كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينعت الاسلام ؟ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الاسلام بدئ جذعا ثم ثنيا ثم رباعيا ثم سدسيا ثم بازلا. قال عمر: فما بعد البزول إلا النقصان. فهذه الروايات - كما ترى - تروم بيان أن معنى نزول الاية يوم عرفة إلفات نظر الناس إلى ما كانوا يشاهدونه من ظهور أمر الدين واستقلاله بمكة في الموسم، وتفسير إكمال الدين وإتمام النعمة بصفاء جو مكة ومحوضة الامر للمسلمين يومئذ فلا دين يعبد به يومئذ هناك إلا دينهم من غير أن يخشوا أعداءهم ويتحذروا منهم. وبعبارة أخرى المراد بكمال الدين وتمام النعمة كمال ما بأيديهم يعملون به من غير أن يختلط بهم أعداؤهم أو يكلفوا بالتحذر منهم دون الدين بمعنى الشريعة المجعولة عند الله من المعارف والاحكام، وكذا المراد بالاسلام ظاهر الاسلام الموجود بأيديهم في مقام العمل. وإن شئت فقل: المراد بالدين صورة الدين المشهودة من أعمالهم، وكذا في الاسلام، فان هذا المعنى هو الذى يقبل الانتقاص بعد الازدياد. وأما كليات المعارف والاحكام المشرعة من الله فلا يقبل الانتقاص بعد الازدياد الذى يشير إليه قوله في الرواية: " إنه لم يكمل شئ قط إلا نقص " فإن ذلك سنة كونية تجرى أيضا في التاريخ والاجتماع بتبع الكون، وأما الدين فإنه غير محكوم بأمثال هذه السنن والنواميس إلا عند من قال: إن الدين سنة اجتماعية متطورة متغيرة كسائر السنن الاجتماعية. إذا عرفت ذلك علمت أنه يرد عليه أولا: أن ما ذكر من معنى كمال الدين لا يصدق عليه قوله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم " وقد مر بيانه. وثانيا: أنه كيف يمكن ان يعد الله سبحانه الدين بصورته التى كان يترائى عليها كاملا وينسبه إلى نفسه امتنانا بمجرد خلو الارض من ظاهر المشركين، وكون المجتمع على ظاهر الاسلام فارغا من أعدائهم المشركين، وفيهم من هو أشد من المشركين إضرارا وإفسادا، وهم المنافقون على ما كانوا عليه من المجتمعات السرية والتسرب في داخل المسلمين، وإفساد الحال، وتقليب الامور، والدس في الدين، وإلقاء الشبه، فقد كان لهم نبأ عظيم
________________________________________
[ 199 ]
تعرض لذلك آيات جمة من القرآن كسورة المنافقين وما في سور البقرة والنساء والمائدة والانفال والبراءة والاحزاب وغيرها. فليت شعرى أين صار جمعهم ؟ وكيف خمدت أنفاسهم ؟ وعلى أي طريق بطل كيدهم وزهق باطلهم ؟ وكيف يصح مع وجودهم أن يمتن الله يومئذ على المسلمين بإكمال ظاهر دينهم، وإتمام ظاهر النعمة عليهم، والرضا بظاهر الاسلام بمجرد أن دفع من مكة أعداءهم من المسلمين، والمنافقون أعدى منهم وأعظم خطرا وأمر أثرا ! وتصديق ذلك قوله تعالى يخاطب نبيه فيهم: " هم العدو فاحذرهم " (المنافقون: 4). وكيف يمتن الله سبحانه ويصف بالكمال ظاهر دين هذا باطنه، أو يذكر نعمه بالتمام وهى مشوبة بالنقمة، أو يخبر برضاه صورة إسلام هذا معناه ! وقد قال تعالى: " وما كنت متخذ المضلين عضدا " (الكهف: 51). وقال في المنافقين: - ولم يرد إلا دينهم - " فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين " (البراءة: 96). والاية بعد هذا كله مطلقة لم تقيد شيئا من الاكمال والاتمام والرضا ولا الدين والاسلام والنعمة بجهة دون جهة. فإن قلت: الاية - كما تقدمت الاشارة إليه - إنجاز للوعد الذى يشتمل عليه قوله تعالى " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بى شيئا " الاية (النور: 55). فالاية كما ترى - تعدهم بتمكين دينهم المرضى لهم، ويحاذى ذلك من هذه الاية قوله: " أكملت لكم دينكم " وقوله: " ورضيت لكم الاسلام دينا " فالمراد بإكمال دينهم المرضى تمكينه لهم أي تخليصه من مزاحمة المشركين، وأما المنافقون فشأنهم شأن آخر غير المزاحمة، وهذا هو المعنى الذى تشير إليه روايات نزولها يوم عرفة، ويذكر القوم ان المراد به تخليص الاعمال الدينية والعاملين بها من المسلمين من مزاحمة المشركين. قلت: كون آية: " اليوم أكملت "، من مصاديق إنجاز ما وعد في قوله: " وعد الله الذين آمنوا " (الاية) وكذا كون قوله في هذه الاية: (أكملت لكم دينكم) محاذيا لقوله: (وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) في تلك الاية ومفيدا معناه كل ذلك لا ريب فيه. إلا أن آية سورة النور تبدء بقوله: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات)
________________________________________
[ 200 ]
وهم طائفة خاصة من المسلمين ظاهر أعمالهم يوافق باطنها، وما في مرتبة أعمالهم من الدين يحاذي وينطبق على ما عند الله سبحانه من الدين المشرع، فتمكين دينهم المرضى لله سبحانه لهم إكمال ما في علم الله وإرادته من الدين المرضى بإفراغه في قالب التشريع، و جمع اجزائه عندهم بالانزال ليعبدوه بذلك بعد إياس الذين كفروا من دينهم. و هذا ما ذكرناه: أن معنى إكماله الدين إكماله من حيث تشريع الفرائض فلا فريضة مشرعة بعد نزول الاية لا تخليص أعمالهم وخاصة حجهم من اعمال المشركين وحجهم، بحيث لا تختلط أعمالهم بأعمالهم. وبعبارة أخرى يكون معنى إكمال الدين رفعه إلى أعلى مدارج الترقي حتى لا يقبل الانتقاص بعد الازدياد. وفي تفسير القمى قال: حدثنى ابى، عن صفوان بن يحيى، عن العلاء، عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السلام قال: آخر فريضة أنزلها الولاية ثم لم ينزل بعدها فريضة ثم أنزل: (اليوم أكملت لكم دينكم) بكراع الغميم، فأقامها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجحفة فلم ينزل بعدها فريضة. اقول: وروى هذا المعنى الطبرسي في المجمع عن الامامين: الباقر والصادق عليهما السلام ورواه العياشي في تفسيره عن زرارة عن الباقر عليه السلام. وفي أمالى الشيخ بإسناده، عن محمد بن جعفر بن محمد، عن أبيه أبى عبد الله عليه السلام، عن علي أمير المؤمنين عليه السلام قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: بناء الاسلام على خمس خصال: على الشهادتين، والقرينتين. قيل له: أما الشهادتان فقد عرفنا فما القرينتان ؟ قال: الصلاة والزكاة فإنه لا تقبل إحداهما إلا بالاخرى، والصيام وحج بيت الله من استطاع إليه سبيلا، وختم ذلك بالولاية فأنزل الله عز وجل: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا). وفي روضة الواعظين للفتال، ابن الفارسى عن أبى جعفر عليه السلام وذكر قصة خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحج ثم نصبه عليا للولاية عند منصرفه إلى المدينة ونزول الاية، وفيه خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الغدير وهى خطبة طويلة جدا. اقول: روى مثله الطبرسي في الاحتجاج بإسناد متصل عن الحضرمي عن أبى جعفر الباقر عليه السلام، وروى نزول الاية في الولاية أيضا الكليني في الكافي والصدوق في العيون


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page