• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 151 الي 175


[ 151 ]
ثلاثة، فإن المسيح عبد لله لن يستنكف أبدا عن عبادته، وهذا مما لا ينكره النصارى، والاناجيل الدائرة عندهم صريحة في أنه كان يعبد الله تعالى، ولا معنى لعبادة الولد الذى هو سنخ إله ولا لعبادة الشئ لنفسه ولا لعبادة أحد الثلاثة لثالثها الذى ينطبق وجوده على كل منها، وقد تقدم الكلام على هذا البرهان في مباحث المسيح عليه السلام. وقوله " ولا الملائكة المقربون " تعميم للكلام على الملائكة لجريان الحجة بعينها فيهم، وقد قال جماعة من المشركين كمشركي العرب - بكونهم بنات الله، فالجملة استطرادية. والتعبير في الاية أعنى قوله " لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون " عن عيسى عليه السلام بالمسيح، وكذا توصيف الملائكة بالمقربين مشعر بالعلية لما فيهما من معنى الوصف، أي إن عيسى لن يستنكف عن عبادته وكيف يستنكف وهو مسيح مبارك ؟ ولا الملائكة وهم مقربون ؟ ولو رجى فيهم أن يستنكفوا لم يبارك الله في هذا ولا قرب هؤلاء، وقد وصف الله المسيح أيضا بأنه مقرب في قوله: " وجيها في الدنيا والاخرة ومن المقربين " (آل عمران: 45). قوله تعالى: " ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا " حال. من المسيح والملائكة وهو في موضع التعليل أي وكيف يستنكف المسيح والملائكة المقربون عن عبادته الحال أن الذين يستنكفون عن عبادته ويستكبرون من عباده من الانس والجن والملائكة يحشرون إليه جميعا، فيجزون حسب أعمالهم، والمسيح والملائكة يعلمون ذلك ويؤمنون به ويتقونه. ومن الدليل على أن قوله: " ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر " (الخ) في معنى أن المسيح والملائكة المقربين عالمون بأن المستنكفين يحشرون إليه قوله " ويستكبر " إنما قيد به قوله " ومن يستنكف " لان مجرد الاستنكاف لا يوجب السخط الالهى إذا لم يكن عن استكبار كما في الجهلاء والمستضعفين، وأما المسيح والملائكة فإن استنكافهم لا يكون إلا عن استكبار لكونهم عالمين بمقام ربهم، ولذلك اكتفى بذكر الاستنكاف فحسب فيهم، فيكون معنى تعليل هذا بقوله: " ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر "، أنهم عالمون بأن من يستنكف عن عبادته (الخ). وقوله " جميعا " أي صالحا وطالحا وهذا هو المصحح للتفضيل الذى يتلوه من قوله:
________________________________________
[ 152 ]
فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات " (الخ). قوله تعالى: " ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا " التعرض لنفى الولى والنصير مقابلة لما قيل به من الوهية المسيح والملائكة. قوله تعالى: " يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا " قال الراغب: البرهان بيان للحجة، وهو فعلان مثل الرجحان والثنيان وقال بعضهم: هو مصدر بره يبره إذا ابيض. انتهى، فهو على أي حال مصدر. وربما استعمل بمعنى الفاعل كما إذا اطلق على نفس الدليل والحجة. والمراد بالنور هو القرآن لا محالة بقرينة قوله " وأنزلنا إليكم " ويمكن أن يراد بالبرهان أيضا ذلك، والجملتان إذا تؤكد إحداهما الاخرى. ويمكن أن يراد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويؤيده وقوع الاية في ذيل الايات المبينة لصدق النبي في رسالته، ونزول القرآن من عند الله تعالى، وكون الاية تفريعا لذلك ويؤيده أيضا قوله تعالى في الاية التالية. " واعتصموا به " لما تقدم في الكلام على قوله " ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم " (آل عمران: 101) أن المراد بالاعتصام الاخذ بكتاب الله والاتباع لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به "، بيان لثواب من اتبع برهان ربه والنور النازل من عنده. والاية كأنها منتزعة من الاية السابقة المبينة لثواب الذين آمنوا وعملوا الصالحات أعنى قوله " فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم اجورهم ويزيدهم من فضله "، ولعله لذلك لم يذكر ههنا جزاء المتخلف من تبعية البرهان والنور، لانه بعينه ما ذكر في الاية السابقة، فلا حاجة إلى تكراره ثانيا بعد الاشعار بأن جزاء المتبعين ههنا جزاء المتبعين هنالك، وليس هناك إلا فريقان: المتبعون والمتخلفون. وعلى هذا فقوله في هذه الاية: " فسيدخلهم في رحمة منه " يحاذي قوله في تلك الاية: " فيوفيهم اجورهم " وهو الجنة وأيضا قوله في هذه الاية: " وفضل " يحاذي قوله في تلك الاية: " ويزيدهم من فضله " وأما قوله " ويهديهم إليه صراطا مستقيما " فهو
________________________________________
[ 153 ]
من آثار ما ذكر فيها من الاعتصام بالله كما في قوله: " ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم (آل عمران 101). يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الانثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شئ عليم - 176. (بيان) آية تبين فرائض الكلالة من جهة الابوين أو الاب على ما يفسرها به السنة، كما أن ما ذكر من سهام الكلالة في أول السورة سهام كلالة الام بحسب البيان النبوى، ومن الدليل على ذلك أن الفرائض المذكورة ههنا أكثر مما ذكر هناك، ومن المستفاد من الايات أن سهام الذكور أكثر من سهام الاناث. قوله تعالى: " يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة أن امرء هلك ليس له ولد " قد تقدم الكلام في معنى الاستفتاء والافتاء ومعنى الكلالة في الايات السابقة من السورة. وقوله " ليس له ولد " ظاهره الاعم من الذكر والانثى على ما يفيده إطلاق الولد وحده. وقال في المجمع: فمعناه: ليس له ولد ولا والد، وإنما أضمرنا فيه الوالد للاجماع انتهى. ولو كان لاحد الابوين وجود لم تخل الاية من ذكر سهمه فالمفروض عدمهما. وقوله " وله اخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها ان لم يكن لها ولد " سهم الاخت من خأيها، والاخ من اخته، ومنه يظهر سهم الاخت من اختها والاخ من أخيه، ولو كان للفرضين الاخيرين فريضة اخرى لذكرت.
________________________________________
[ 154 ]
على أن قوله " وهو يرثها " في معنى قولنا: لو انعكس الامر - أي كان الاخ مكان الاخت - لذهب بالجميع، وعلى أن قوله " فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وان كانوا اخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الانثيين " وهو سهم الاختين، وسهم الاخوه لم يقيد فيهما الميت بكونه رجلا أو امرأة فلا دخل لذكور الميت وانوثته في السهام. والذى صرحت به الاية من السهام سهم الاخت الواحدة والاخ الواحد، والاختين، و الاخوة المختلطة من الرجال والنساء، ومن ذلك يعلم سهام باقى الفروض: منها: الاخوان، يذهبان بجميع المال ويقتسمان بالسوية يعلم ذلك من ذهاب الاخ الواحد بالجميع، ومنها الاخ الواحد مع اخت واحدة، ويصدق عليهما الاخوة كما تقدم في أول السورة فيشمله " وإن كانوا إخوة " على أن السنة مبينة لجميع ذلك. والسهام المذكورة تختص بما إذا كان هناك كلالة الاب وحده، أو كلالة الابوين وحده، وأما إذا اجتمعا كالاخت لابوين مع الاخت لاب لم ترث الاخت لاب. وقد تقدم ذكره في الكلام على آيات أول السورة. قوله تعالى: " يبين الله لكم أن تضلوا " أي حذر أن تضلوا أو لئلا تضلوا، وهو شائع في الكلام، قال عمرو بن كلثوم: " فعجلنا القرى أن تشتمونا " (بحث روائي) في المجمع عن جابر بن عبد الله الانصاري قال: اشتكيت وعندي تسعة أخوات لى - أو سبع - فدخل علي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنفخ في وجهى فأفقت، فقلت: يا رسول الله ألا اوصى لاخواتي بالثلثين ؟ قال: أحسن، قلت: الشطر ؟ قال أحسن، ثم خرج وتركني ورجع إلى فقال: يا جابر انى لا أراك ميتا من وجعك هذا، وإن الله قد أنزل في الذى لاخواتك فجعل لهن الثلثين. قالوا: وكانوا جابر يقول: أنزلت هذه الاية في. اقول: وروى ما يقرب عنه في الدر المنثور.
________________________________________
[ 155 ]
وفي الدر المنثور: اخرج ابن ابى شيبة والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ضريس وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الدلائل عن البراء قال: آخر سورة نزلت كاملة: براءة، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة. أقول: وروى فيه عدة روايات أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة كانوا يسمون الاية بآية الصيف، قال في المجمع: وذلك أن الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين: إحداهما في الشتاء، وهى التى في أول هذه السورة، واخرى في الصيف، وهى هذه الاية. وفيه: أخرج أبو الشيخ في الفرائض عن البراء قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الكلالة فقال: ما خلا الولد والوالد. وفي تفسير القمى قال: حدثنى أبى، عن ابن ابى عمير، عن ابن اذينة، عن بكير، عن أبى جعفر عليه السلام قال: إذا مات الرجل وله اخت لها نصف ما ترك من الميراث بالاية كما تأخذ البنت لو كانت، والنصف الباقي يرد عليها بالرحم إذا لم يكن للميت وارث أقرب منها، فإن كان موضع الاخت أخ اخذ الميراث كله لقول الله " وهو يرثها ان لم يكن لها ولد " فإن كانتا اختين أخذتا الثلثين بالاية، والثلث الباقي بالرحم، وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الانثيين، وذلك كله إذا لم يكن للميت ولد أو أبوان أو زوجة. اقول: وروى العياشي في تفسيره ذيل الرواية في عدة أخبار عن أبى جعفر وإبى عبد الله عليهما السلام. وفي تفسير العياشي عن بكير قال: دخل رجل على أبى جعفر عليه السلاام فسأله عن امرأة تركت زوجها وإخوتها لامها واختا لاب، قال: للزوج النصف: ثلاثة أسهم، وللاخوة من الام الثلث: سهمان، وللاخت للاب سهم. فقال الرجل: فإن فرائض زيد وابن مسعود وفرائض العامة والقضاة على غير ذا، يا أبا جعفر ! يقولون: للاخت للاب والام ثلاثة أسهم نصيب من ستة يقول: إلى ثمانية. فقال أبو جعفر: ولم قالوا ذلك ؟ قال: لان الله قال: " وله اخت فلها نصف ما ترك " فقال أبو جعفر عليه السلام: فما لكم نقصتم الاخ إن كنتم تحتجون بأمر الله ؟ فإن الله سمى لها النصف، وإن الله سمى للاخ الكل فالكل أكثر من النصف فإنه تعالى قال: " فلها النصف " وقال للاخ: " وهو يرثها " يعنى جميع المال " إن لم يكن لها ولد " فلا تعطون
________________________________________
[ 156 ]
الذى جعل الله له الجميع في بعض فرائضكم شيئا وتعطون الذى جعل الله له النصف تاما ؟ وفي الدر المنثور: أخرج عبد الرزاق وابن المنذر والحاكم والبيهقي عن ابن عباس: إنه سئل عن رجل توفى وترك ابنته واخته لابيه وامه فقال: للبنت النصف وليس للاخت شئ، وما بقى فلعصبته فقيل: إن عمر جعل للاخت النصف فقال ابن عباس: أنتم أعلم أم الله ؟ قال الله: " إن امرء هلك ليس له ولد وله اخت فلها نصف ما ترك " فقلتم انتم: لها النصف وإن كان له ولد. اقول: وفي المعاني السابقة روايات اخر. " سورة المائدة مدنية وهى مائة وعشرون آية بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم غير محلى الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد - 1. يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا وإذا حللتم فاصطادوا ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب - 2. حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالازلام ذلكم فسق اليوم يئس الذين
________________________________________
[ 157 ]
كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم - 3. بيان الغرض الجامع في السورة على ما يعطيه التدبر في مفتتحها ومختتمها، وعامة الايات الواقعة فيها، والاحكام والمواعظ والقصص التى تضمنتها هو الدعوة إلى الوفاء بالعهود وحفظ المواثيق الحقة كائنة ما كانت، والتحذير البالغ عن نقضها وعدم الاعتناء بأمرها، وأن عادته تعالى جرت بالرحمة والتسهيل والتخفيف على من اتقى وآمن ثم اتقى وأحسن، والتشديد على من بغى واعتدى وطغا بالخروج عن ربقه العهد بالطاعة، وتعدى حدود المواثيق المأخوذة عليه في الدين. ولذلك ترى السورة تشتمل على كثير من أحكام الحدود والقصاص، وعلى مثل قصة المائدة، وسؤال المسيح، وقصة ابني آدم، وعلى الاشارة إلى كثير من مظالم بنى إسرائيل ونقضهم المواثيق المأخوذة منهم، وعلى كثير من الايات التى يمتن الله تعالى فيها على الناس بامور كإكمال الدين، وإتمام النعمة، واحلال الطيبات، وتشريع ما يطهر الناس من غير أن يريد بهم الحرج والعسر. وهذا هو المناسب لزمان نزول السورة إذ لم يختلف أهل النقل أنها آخر سورة مفصلة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أواخر أيام حياته وقد ورد في روايات الفريقين: أنها ناسخة غير منسوخة، والمناسب لذلك تأكيد الوصية بحفظ المواثيق المأخوذة لله تعالى على عباده وللتثبت فيها. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " العقود جمع عقد وهو شد أحد شيئين بالاخر نوع شد يصعب معه انفصال أحدهما عن الاخر، كعقد الحبل والخيط بآخر من مثله، ولازمه التزام أحدهما الاخر، وعدم انفكاكه عنه، وقد كان معتبرا عندهم في
________________________________________
[ 158 ]
الامور المحسوسة أولا ثم استعير فعمم للامور المعنوية كعقود المعاملات الدائرة بينهم من بيع أو إجارة أو غير ذلك، وكجميع العهود والمواثيق فاطلقت عليها الكلمة لثبوت أثر المعنى الذى عرفت أنه اللزوم والالتزام فيها. ولما كان العقد - وهو العهد - يقع على جميع المواثيق الدينية التى أخذها الله من عباده من أركان وأجزاء كالتوحيد و سائر المعارف الاصلية والاعمال العبادية والاحكام المشروعة تأسيسا أو امضاء، و منها عقود المعاملات وغير ذلك، وكان لفظ العقود أيضا جمعا محلى باللام لا جرم كان الاوجه حمل العقود في الاية على ما يعم كل ما يصدق عليه أنه عقد. وبذلك يظهر ضعف ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالعقود العقود التى يتعاقدها الناس بينهم كعقد البيع والنكاح والعهد، أو يعقدها الانسان على نفسه كعقد اليمين. وكذا ما ذكره بعض آخر: أن المراد بها العهود التى كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضا فيها على النصرة والمؤازرة على من يقصدهم بسوء أو يبغى عليهم، وهذا هو الحلف الدائر بينهم. وكذا ما ذكره آخرون: أن المراد بها المواثيق المأخوذة من أهل الكتاب بالعمل بما في التوراة والانجيل. فهذه وجوه لا دليل على شئ منها من جهة اللفظ. على أن ظاهر الجمع المحلى باللام وإطلاق العقد عرفا بالنسبة إلى كل عقد وحكم لا يلائمها، فالحمل على العموم هو الاوجه. (كلام في معنى العقد) يدل الكتاب كما ترى من ظاهر قوله تعالى: " أوفوا بالعقود " على الامر بالوفاء بالعقود، وهو بظاهره عام يشمل كل ما يصدق عليه العقد عرفا مما يلائم الوفاء. والعقد هو كل فعل أو قول يمثل معنى العقد اللغوى، وهو نوع ربط شئ بشئ آخر بحيث يلزمه ولا ينفك عنه كعقد البيع الذى هو ربط المبيع بالمشترى ملكا بحيث كان له أن يتصرف فيه ما شاء، وليس للبائع بعد العقد ملك ولا تصرف، وكعقد النكاح الذى يربط المرأة بالرجل بحيث له أن يتمتع منها تمتع النكاح، وليس للمرأة أن تمتع غيره من نفسها، وكالعهد
________________________________________
[ 159 ]
الذى يمكن فيه العاهد المعهود له من نفسه فيما عهده وليس له أن ينقضه. وقد أكد القرآن في الوفاء بالعقد والعهد بجميع معانيه وفي جميع معانيه وفي جميع مصاديقه وشدد فيه كل التشديد، وذم الناقضين للمواثيق ذما بالغا، وأوعدهم إيعادا عنيفا ومدح الموفين بعهدهم إذا عاهدوا في آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها. وقد أرسلت الايات القول فيه إرسالا يدل على أن ذلك مما يناله الناس بعقولهم الفطرية وهو كذلك. وليس ذلك إلا لان العهد والوفاء به مما لا غنى للانسان في حياته عنه أبدا، والفرد والمجتمع في ذلك سيان، وإنا لو تأملنا الحياة الاجتماعية التى للانسان وجدنا جميع المزايا التى نستفيد منها وجميع الحقوق الحيوية الاجتماعية التى نطمئن إليها مبنية على أساس العقد الاجتماعي العام والعقود والعهود الفرعية التى تترتب عليه، فلا نملك من أنفسنا للمجتمعين شيئا ولا نملك منهم شيئا إلا عن عقد عملي وإن لم نأت بقول فإنما القول لحاجة البيان، ولو صح للانسان أن ينقض ما عقده وعهد به اختيارا لتمكنه منه بقوة أو سلطة أو بطش أو لعذر يعتذر به كان أول ما انتقض بنقضه هو العدل الاجتماعي، وهو الركن الذى يلوذ به ويأوى إليه الانسان من اسارة الاستخدام والاستثمار. ولذلك أكد الله سبحانه في حفظ العهد والوفاء به قال تعالى: " وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا " (اسرى: 34) والاية تشمل العهد الفردى الذى يعاهد به الفرد الفرد مثل غالب الايات المادحة للوفاء بالعهد والذامة لنقضه كما تشمل العهد الاجتماعي الدائر بين قوم وقوم وأمة وأمة، بل الوفاء به في نظر الدين أهم منه بالعهد الفردى لان العدل عنده أتم والبلية في نقضه أعم. ولذلك أتى الكتاب العزيز في أدق موارده وأهونها نقضا بالمنع عن النقض بأصرح القول وأوضح البيان قال تعالى: " براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الارض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزى الله وأن الله مخزي الكافرين وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الاكبر أن الله برئ من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزى الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقضوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم
________________________________________
[ 160 ]
عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد " (براءة: 5) والايات كما يدل سياقها نزلت بعد فتح مكة وقد أذل الله رقاب المشركين، وأفنى قوتهم وأذهب شوكتهم، وهى تعزم على المسلمين أن يطهروا الارض التى ملكوها وظهروا عليها من قذارة الشرك، وتهدر دماء المشركين من دون أي قيد وشرط إلا أن يؤمنوا، ومع ذلك تستثنى قوما من المشركين بينهم وبين المسلمين عهد عدم التعرض، ولا تجيز للمسلمين أن يمسوهم بسوء حينما استضعفوا واستذلوا فلا مانع من ناحيتهم يمنع ولا دافع يدفع، كل ذلك احتراما للعهد و مراعاة لجانب التقوى. نعم على ناقض العهد بعد عقده أن ينقض العهد الذى نقضه ويتلقى هباء باطلا، اعتداء عليه بمثل ما اعتدى به، قال تعالى: " كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين - إلى أن قال - لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الايات لقوم يعلمون وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون " (براءة: 12)، وقال تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله " (البقرة: 194)، وقال تعالى: " ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم و العدوان واتقوا الله " (المائدة: 2). وجملة الامر أن الاسلام يرى حرمة العهد ووجوب الوفاء به على الاطلاق سواء انتفع به العاهد أو تضرر بعد ما أوثق الميثاق فإن رعاية جانب العدل الاجتماعي ألزم وأوجب من رعاية أي نفع خاص أو شخصي إلا أن ينقض أحد المتعاهدين عهده فللمتعاهد الاخر نقضه بمثل ما نقضه والاعتداء عليه بمثل ما اعتدى عليه، فإن في ذلك خروجا عن رقية الاستخدام والاستعلاء المذمومة التى ما نهض ناهض الدين إلا لاماطتها. ولعمري ان ذلك أحد التعاليم العالية التى أتى بها دين الاسلام لهداية الناس إلى رعاية الفطرة الانسانية في حكمها والتحفظ على العدل الاجتماعي الذى لا ينتظم سلك الاجتماع
________________________________________
[ 161 ]
الانساني الا على أساسه وإماطة مظلمة الاستخدام والاستثمار، وقد صرح به الكتاب العزيز وسار به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سيرته الشريفة، ولو لا أن البحث بحث قرآني لذكرنا لك طرفا من قصصه عليه أفضل الصلاة والسلام في ذلك، وعليك بالرجوع إلى الكتب المؤلفة في سيرته وتاريخ حياته. وإذا قايست بين ما جرت عليه سنة الاسلام من احترام العهد وما جرت عليه سنن الامم المتمدنة وغير المتمدنة ولا سيما ما نسمعه ونشاهده كل يوم من معاملة الامم القوية مع الضعيفة في معاهداتهم ومعاقداتهم وحفظها لها ما درت لهم أو استوجبته مصالح دولتهم ونقضها بما يسمى عذرا وجدت الفرق بين السنتين في رعاية الحق وخدمة الحقيقة. ومن الحرى بالدين ذاك وبسننهم ذلك، فإنما هناك منطقان: منطق يقول: إن الحق تجب رعايته كيفما كان وفي رعايته منافع المجتمع، ومنطق يقول: إن منافع الامة تجب رعايتها بأى وسيلة اتفقت وإن دحضت الحق، وأول المنطقين منطق الدين، وثانيهما منطق جميع السنن الاجتماعية الهمجية أو المتمدنة من السنن الاستبدادية والديموقراطية والشيوعية وغيرها. وقد عرفت مع ذلك أن الاسلام في عزيمته في ذلك لا يقتصر على العهد المصطلح بل يعمم حكمه إلى كل ما بنى عليه بناء ويوصى برعايته ولهذا البحث أذيال ستعثر عليها في مستقبل الكلام إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " أحلت لكم بهيمة الانعام إلا ما يتلى عليكم " (الخ) الاحلال هو الاباحة والبهيمة اسم لكل ذى أربع من دواب البر والبحر على ما في المجمع، وعلى هذا فإضافة البهيمة إلى الانعام من قبيل إضافة النوع إلى أصنافه كقولنا: نوع الانسان وجنس الحيوان، وقيل: البهيمة جنين الانعام، وعليه فالاضافة لامية. وكيف كان فقوله " أحلت لكم بهيمة الانعام " أي الازواج الثمانية أي أكل لحومها، وقوله " إلا ما يتلى عليكم " إشارة إلى ما سيأتي من قوله: " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به " (الاية). وقوله " غير محلى الصيد وأنتم حرم " حال من ضمير الخطاب في قوله " أحلت لكم
________________________________________
[ 162 ]
ومفاده حرمة هذا الذى أحل إذا كان اصطياده في حال الاحرام، كالوحشي من الظباء والبقر والحمر إذا صيدت، وربما قيل: إنه حال من قوله " أوفوا " أو حال من ضمير الخطاب في قوله " يتلى عليكم " والصيد مصدر بمعنى المفعول، كما أن الحرم بضمتين جمع الحرام بمعنى المحرم اسم فاعل. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدى ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا " خطاب مجدد للمؤمنين يفيد شدة العناية بحرمات الله تعالى. والاحلال هو الاباحة الملازمة لعدم المبالاة بالحرمة والمنزلة، ويتعين معناه بحسب ما أضيف إليه: فإحلال شعائر الله عدم احترامها وتركها، وإحلال الشهر الحرام عدم حفظ حرمته والقتال فيه، وهكذا. والشعائر جمع شعيرة وهى العلامة وكأن المراد بها أعلام الحج ومناسكه. والشهر الحرام ما حرمه الله من شهور السنة القمرية وهى: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة. والهدى ما يساق للحج من الغنم والبقر والابل. والقلائد جمع قلادة، وهى ما يقلد به الهدى في عنقه من نعل ونحوه ليعلم أنه هدى للحج فلا يتعرض له. والامين جمع آم اسم فاعل من أم إذا قصد، والمراد به القاصدون لزيارة البيت الحرام. وقوله " يبتغون فضلا "، حال من " آمين " والفضل هو المال أو الربح المالى، فقد أطلق عليه في قوله تعالى " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء " (آل عمران: 174) وغير ذلك أو هو الاجر الاخروي أو الاعم من المال والاجر. وقد اختلفوا في تفسير الشعائر والقلائد وغيرهما من مفردات الاية على أقوال شتى، والذى آثرناه ذكره هو الانسب لسياق الاية، ولا جدوى في التعرض لتفاصيل الاقوال. قوله تعالى: " وإذا حللتم فاصطادوا " أمر واقع بعد الحظر لا يدل على أزيد من الاباحة بمعنى عدم المنع، والحل والاحلال - مجردا ومزيدا فيه - بمعنى وهو الخروج من الاحرام. قوله تعالى: " ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا " يقال: جرمه يجرمه أي حمله، ومنه الجريمة للمعصية لانها محمولة من حيث وبالها، وللعقوبة
________________________________________
[ 163 ]
المالية وغيرها لانها محمولة على المجرم. وذكر الراغب أن الاصل في معناها القطع. والشنآن العداوة والبغض. وقوله " أن صدوكم " أي منعوكم بدل أو عطف بيان من الشنآن ومحصل معنى الاية: ولا يحملنكم عداوة قوم وهو أن منعوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا عليهم بعد ما أظهركم الله عليهم. قوله تعالى: " وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان " المعنى واضح، وهذا أساس السنة الاسلامية، وقد فسر الله سبحانه البر في كلامه بالايمان والاحسان في العبادات والمعاملات، كما مر في قوله تعالى: " ولكن البر من آمن بالله واليوم الاخر الاية " (البقرة: 177) وقد تقدم الكلام فيه. والتقوى مراقبة أمر الله ونهيه، فيعود معنى التعاون على البر والتقوى إلى الاجتماع على الايمان والعمل الصالح على أساس تقوى الله، وهو الصلاح والتقوى الاجتماعيان، ويقابله التعاون على الاثم الذى هو العمل السيئ المستتبع للتأخر في امور الحياة السعيدة، وعلى العدوان وهو التعدي على حقوق الناس الحقة بسلب الامن من نفوسهم أو أعراضهم أو أموالهم وقد مر شطر من الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا الاية) آل عمران: 200) في الجزء الرابع من هذا الكتاب. ثم أكد سبحانه نهيه عن الاجتماع على الاثم والعدوان بقوله: " واتقوا الله إن الله شديد العقاب " وهو في الحقيقة تأكيد على تأكيد. قوله تعالى: " حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به " هذه الاربعة مذكورة فيما نزل من القرآن قبل هذه السورة كسورتي الانعام والنحل وهما مكيتان، وسورة البقرة وهى أول سورة مفصلة نازلة بالمدينة قال تعالى: " قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم " (الانعام، 145) وقال تعالى: " إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم " (البقرة: 173). والايات جميعا - كما ترى - تحرم هذه الاربعة المذكورة في صدر هذه الاية وتماثل الاية أيضا في الاستثناء الواقع في ذيلها بقوله: " فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم
________________________________________
[ 164 ]
فإن الله غفور رحيم " فآية المائدة بالنسبة إلى هذه المعاني المشتركة بينها وبين تلك مؤكدة لتلك الايات. بل النهى عنها وخاصة عن الثلاثة الاول أعنى الميتة والدم ولحم الخنزير أسبق تشريعا من نزول سورتي الانعام والنحل لمكيتين، فإن آية الانعام تعلل تحريم الثلاثة أو خصوص لحم الخنزير بأنه رجس، فتدل على تحريم أكل الرجز، وقد قال تعالى في سورة المدثر - وهى من السور النازلة في أول البعثة -: " والرجز فاهجر " (المدثر: 5). وكذلك ما عده تعالى بقوله " والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع " جميعا من مصاديق الميتة بدليل قوله " إلا ما ذكيتم " فإنما ذكرت في الاية لنوع عناية بتوضيح أفراد الميتة ومزيد بيان للمحرمات من الاطعمة من غير أن تتضمن الاية فيها على تشريع حديث. وكذلك ما عده الله تعالى بقوله " وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالازلام ذلكم فسق " فإنهما وإن كانا أول ما ذكرا ذكرا في هذه السورة لكنه تعالى علل تحريمهما أو تحريم الثاني منهما - على احتمال ضعيف - بالفسق، وقد حرم الفسق في آية الانعام، وكذا قوله " غير متجانف لاثم " يدل على تحريم ما ذكر في الاية لكونه إثما، وقد دلت آية البقرة على تحريم الاثم، وقال تعالى أيضا: " وذروا ظاهر الاثم وباطنه " (الانعام: 120)، وقال تعالى: قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم " (الاعراف: 33). فقد اتضح وبان أن الاية لا تشتمل فيما عدته من المحرمات على أمر جديد غير مسبوق بالتحريم فيما تقدم عليها من الايات المكية أو المدنية المتضمنة تعداد محرمات الاطعمة من اللحوم ونحوها. قوله تعالى: " والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم " المنخنقة هي البهيمة التى تموت بالخنق، وهو أعم من أن يكون عن اتفاق أو بعمل عامل اختيارا، ومن أن يكون بأى آلة ووسيلة كانت كحبل يشد على عنقها ويسد بضغطه مجرى تنفسها، أو بإدخال رأسها بين خشبتين، كما كانت هذه الطريقة وأمثالها دائرة بينهم في الجاهلية.
________________________________________
[ 165 ]
والموقوذة هي التى تضرب حتى تموت، والمتردية هي التى تردت أي سقطت من مكان عال كشاهق جبل أو بئر ونحوهما. والنطيحة هي التى ماتت عن نطح نطحها به غيرها، وما أكل السبع هي التى أكلها أي أكل من لحمها السبع فإن الاكل يتعلق بالمأكول سواء أفنى جميعه أو بعضه والسبع هو الوحش الضارى كالاسد والذئب والنمر ونحوها. وقوله " إلا ما ذكيتم " استثناء لما يقبل التذكية بمعنى فرى الاوداج الاربعة منها كما إذا كانت فيها بقية من الحياة يدل عليها مثل حركة ذنب أو أثر تنفس ونحو ذلك، والاستثناء كما ذكرنا آنفا متعلق بجميع ما يقبله من المعدودات من دون أن يتقيد بالتعلق بالاخير من غير دليل عليه. وهذه الامور الخمسة أعنى المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع كل ذلك من أفراد الميتة ومصاديقها، بمعنى أن المتردية أو النطيحة مثلا إنما تحرمان إذا ماتتا بالتردى والنطح، والدليل على ذلك قوله: " إلا ما ذكيتم " فإن من البديهى أنهما لا تؤكلان ما دامت الروح في جثمانهما، وإنما تؤكلان بعد زهوقها وحينئذ فإما أن تذكيا أو لا، وقد استثنى الله سبحانه التذكية فلم يبق للحرمة إلا إذا ماتتا عن ترد أو نطح من غير تذكية، وأما لو تردت شاة - مثلا - في بئر ثم أخرجت سليمة مستقيمة الحال فعاشت قليلا أو كثيرا ثم ماتت حتف أنفها أو ذكيت بذبح فلا تطلق عليها المتردية، يدل على ذلك السياق فإن المذكورات فيها ما إذا هلكت، واستند هلاكها إلى الوصف الذى ذكر لها كالانخناق والوقذ والتردى والنطح. والوجه في تخصيص هذه المصاديق من الميتة بالذكر رفع ما ربما يسبق إلى الوهم أنها ليست ميتة بناء على أنها أفراد نادرة منها، والذهن يسبق غالبا إلى الفرد الشائع، وهو ما إذا ماتت بمرض ونحوه من غير أن يكون لمفاجأة سبب من خارج، فصرح تعالى بهذه الافراد والمصاديق النادرة بأسمائها حتى يرتفع اللبس وتتضح الحرمة. قوله تعالى: " وما ذبح على النصب " قال الراغب في المفردات: نصب الشئ وضعه وضعا ناتئا كنصب الرمح والبناء والحجر، والنصيب الحجارة تنصب على الشئ، وجمعه نصائب ونصب، وكان للعرب حجارة تعبدها وتذبح عليها قال: " كأنهم إلى نصب
________________________________________
[ 166 ]
يوفضون "، قال: " وما ذبح على النصب " وقد يقال في جمعه: أنصاب قال: والانصاب والازلام " والنصب والنصب: التعب. فالمراد من النهى عن أكل لحوم ما ذبح على النصب أن يستن بسنن الجاهلية في ذلك، فإنهم كانوا نصبوا حول الكعبة أحجارا يقدسونها ويذبحون عليها، وكان من سنن الوثنية. قوله تعالى: " وإن تستقسموا بالازلام " والازلام هي القداح، والاستقسام بالقداح أن يؤخذ جزور - أو بهيمة اخرى - على سهام ثم يضرب بالقداح في تشخيص من له سهم ممن لا سهم له، وفي تشخيص نفس السهام المختلفة وهو الميسر، وقد مر شرحه عند قوله تعالى: " يسألونك عن الخمر والميسر الاية) (البقرة: 219) في الجزء الثاني من هذا الكتاب. قال الراغب: القسم إفراز النصيب يقال: قسمت كذا قسما وقسمة، وقسمة الميراث وقسمة الغنيمة تفريقهما على أربابهما، قال: " لكل باب منهم جزء مقسوم " " ونبئهم أن الماء قسمة بينهم " واستقسمته سألته أن يقسم، ثم قد يستعمل في معنى قسم قال: " وأن تستقسموا بالازلام "، وما ذكره من كون استقسم بمعنى قسم إنما هو بحسب الانطباق مصداقا، والمعنى بالحقيقة طلب القسمة بالازلام التى هي آلات هذا الفعل، فاستعمال الالة طلب لحصول الفعل المترتب عليها فيصدق الاستفعال. فالمراد بالاستقسام بالازلام المنهى عنه على ظاهر السياق هو ضرب القداح على الجزور ونحوه للذهاب بما في لحمه من النصيب. وأما ما ذكره بعضهم أن المراد بالاستقسام بالازلام الضرب بالقداح لاستعلام الخير والشر في الافعال، وتمييز النافع منها من الضار كمن يريد سفرا أو ازدواجا أو شروعا في عمل أو غير ذلك فيضرب بالقداح لتشخيص ما فيه الخير منها مما لا خير فيه - قالوا: وكان ذلك دائرا بين عرب الجاهلية، وذلك نوع من الطيرة، وسيأتى زيادة شرح له في البحث الروائي التالى - ففيه: أن سياق الاية يأبى عن حمل اللفظ على الاستقسام بهذا المعنى، وذلك أن الاية - وهى مقام عد محرمات الاطعمة، وقد أشير إليها قبلا في قوله: " إلا ما يتلى عليكم " - تعد من محرماتها عشرا، وهى الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع وما ذبح على النصب، ثم تذكر الاستقسام بالازلام الذى من معناه قسمة اللحم بالمقامرة، ومن معناه استعلام الخير والشر في الامور فكيف يشك بعد ذلك السياق الواضح والقرائن المتوالية
________________________________________
[ 167 ]
في تعين حمل اللفظ على استقسام اللحم قمارا ؟ وهل يرتاب عارف بالكلام في ذلك. نظير ذلك أن العمرة مصدر بمعنى العمارة، ولها معنى آخر وهو زيارة البيت الحرام، فإذا أضيف إلى البيت صح كل من المعنيين لكن لا يحتمل في قوله تعالى: " وأتموا الحج والعمرة لله " البقرة: 119. إلا المعنى الاول، والامثله في ذلك كثيرة. وقوله: " ذلكم فسق يحتمل الاشارة إلى جميع المذكورات، والاشارة إلى الاخيرين المذكورين بعد قوله: " إلا ما ذكيتم " لحيلولة الاستثناء، والاشارة إلى الاخير ولعل الاوسط خير الثلاثة. قوله تعالى: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون " أمر الاية في حلولها محلها ثم في دلالتها عجيب، فإنك إذا تأملت صدر الاية أعنى قوله تعالى: " حرمت عليكم الميتة والدم - إلى قوله: - ذلكم فسق " وأضفت إليه ذيلها أعنى قوله: " فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم فإن الله غفور رحيم " وجدته كلاما تاما غير متوقف في تمام معناه وإفادة المراد منه إلى شئ من قوله: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " (الخ) أصلا، وألفيته آية كاملة مماثلة لما تقدم عليها في النزول من الايات الواقعة في سورة الانعام والنحل والبقرة المبينة لمحرمات الطعام، ففى سورة البقرة: " إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم " ويماثله ما في سورتي الانعام والنحل. وينتج ذلك أن قوله: " اليوم يئس الذين كفروا " (الخ) كلام معترض موضوع في وسط هذه الاية غير متوقف عليه لفظ الاية في دلالتها وبيانها، سواء قلنا: إن الاية نازلة في وسط الاية فتخللت بينها من أول ما نزلت، أو قلنا: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذى أمر كتاب الوحى بوضع الاية في هذا الموضع مع انفصال الايتين واختلافهما نزولا. أو قلنا: إنها موضوعة في موضعها الذى هي فيه عند التأليف من غير أن تصاحبها نزولا، فإن شيئا من هذه الاحتمالات لا يؤثر أثرا فيما ذكرناه من كون هذا الكلام المتخلل متعرضا إذا قيس إلى صدر الاية وذيلها. ويؤيد ذلك أن جل الروايات الواردة في سبب النزول - لو لم يكن كلها، وهى أخبار جمة - يخص قوله: " اليوم يئس الذين كفروا " " (الخ) بالذكر من غير أن يتعرض
________________________________________
[ 168 ]
لاصل الاية أعنى قوله: " حرمت عليكم الميتة " أصلا وهذا يؤيد أيضا نزول قوله: " اليوم يئس " (الخ) نزولا مستقلا منفصلا عن الصدر والذيل، وأن وقوع الاية في وسط الاية مستند إلى تأليف النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو إلى تأليف المؤلفين بعده. ويؤيده ما رواه في الدر المنثور عن عبد بن حميد عن الشعبى قال: نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الاية - وهو بعرفة -: " اليوم أكملت لكم دينكم " وكان إذا أعجبته آيات جعلهن صدر السورة، قال: وكان جبرئيل يعلمه كيف ينسك. ثم إن هاتين الجملتين أعنى قوله: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " وقوله: " اليوم أكملت لكم دينكم " متقاربتان مضمونا، مرتبطتان مفهوما بلا ريب، لظهور ما بين يأس الكفار من دين المسلمين وبين إكمال دين المسلمين من الارتباط القريب، وقبول المضمونين لان يمتزجا فيتركبا مضمونا واحدا مرتبط الاجزاء، متصل الاطراف بعضها ببعض، مضافا إلى ما بين الجملتين من الاتحاد في السياق. ويؤيد ذلك ما نرى أن السلف والخلف من مفسري الصحابة والتابعين والمتأخرين إلى يومنا هذا أخذوا الجملتين متصلتين يتم بعضهما بعضا، وليس ذلك إلا لانهم فهموا من هاتين الجملتين ذلك، وبنوا على نزولهما معا، واجتماعهما من حيث الدلالة على مدلول واحد. وينتج ذلك أن هذه الاية المعترضة أعنى قوله: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم - إلى قوله: - ورضيت لكم الاسلام دينا " كلام واحد متصل بعض أجزائه ببعض مسوق لغرض واحد قائم بمجموع الجملتين من غير تشتت سواء قلنا بارتباطه بالاية المحيطة بها أو لم نقل، فإن ذلك لا يؤثر ألبتة في كون هذا المجموع كلاما واحدا معترضا لا كلامين ذوى غرضين، وأن اليوم المتكرر في قوله: " اليوم يئس الذين كفروا "، وفي قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم "، أريد به يوم واحد يئس فيه الكفار وأكمل فيه الدين. ثم ما المراد بهذا اليوم الواقع في قوله تعالى: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم " ؟ فهل المراد به زمان ظهور الاسلام ببعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته فيكون المراد أن الله أنزل إليكم الاسلام، وأكمل لكم الدين وأتم عليكم النعمة وأيأس منكم الكفار ؟. لا سبيل إلى ذلك لان ظاهر السياق أنه كان لهم دين كان الكفار يطمعون في إبطاله أو تغييره، وكان المسلمون يخشونهم على دينهم فأيأس الله الكافرين مما طمعوا فيه وآمن
________________________________________
[ 169 ]
المسلمين وأنه كان ناقصا فأكمله الله وأتم نعمته عليهم، ولم يكن لهم قبل الاسلام دين حتى يطمع فيه الكفار أو يكمله الله ويتم نعمته عليهم. على أن لازم ما ذكر من المعنى أن يتقدم قوله: " اليوم أكملت "، على قوله: " اليوم يئس الذين كفروا "، حتى يستقيم الكلام في نظمه. أو أن المراد باليوم هو ما بعد فتح مكة حيث أبطل الله فيه كيد مشركي قريش وأذهب شوكتهم، وهدم فيه بنيان دينهم، وكسر أصنامهم، فانقطع رجاؤهم أن يقوموا على ساق، ويضادوا الاسلام ويمانعوا نفوذ أمره وانتشار صيته ؟. لا سبيل إلى ذلك أيضا فإن الاية تدل على إكمال الدين وإتمام النعمة ولما يكمل الدين بفتح مكة - وكان في السنة الثامنة من الهجرة - فكم من فريضة نزلت بعد ذلك، وكم من حلال أو حرام شرع فيما بينه وبين رحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. على أن قوله: " الذين كفروا " يعم جميع مشركي العرب ولم يكونوا جميعا آئسين من دين المسلمين، ومن الدليل عليه أن كثيرا من المعارضات والمواثيق على عدم التعرض كانت باقية بعد على اعتبارها واحترامها، وكانوا يحجون حجة الجاهلية على سنن المشركين، وكانت النساء يحججن عاريات مكشوفات العورة حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام بآيات البراءة فأبطل بقايا رسوم الجاهلية. أو أن المراد باليوم ما بعد نزول البراءة من الزمان حيث انبسط الاسلام على جزيرة العرب تقريبا، وعفت آثار الشرك، وماتت سنن الجاهلية فما كان المسلمون يرون في معاهد الدين ومناسك الحج أحدا من المشركين، وصفا لهم الامر، وأبدلهم الله بعد خوفهم أمنا يعبدونه ولا يشركون به شيئا ؟ لا سبيل إلى ذلك فإن مشركي العرب وإن أيسوا من دين المسلمين بعد نزول آيات البراءة وطي بساط الشرك من الجزيرة وإعفاء رسوم الجاهلية إلا أن الدين لم يكمل بعد، وقد نزلت فرائض وأحكام بعد ذلك، ومنها ما في هذه السورة: (سورة المائدة)، وقد اتفقوا على نزولها في آخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيها شئ كثير من أحكام الحلال والحرام والحدود والقصاص. فتحصل أنه لا سبيل إلى احتمال أن يكون المراد باليوم في الاية معناه الوسيع مما
________________________________________
[ 170 ]
يناسب مفاد الاية بحسب بادئ النظر كزمان ظهور الدعوة الاسلامية أو ما بعد فتح مكة من الزمان، أو ما بعد نزول آيات البراءة فلا سبيل إلا أن يقال: إن المراد باليوم يوم نزول الاية نفسها، وهو يوم نزول السورة إن كان قوله: " اليوم يئس الذين كفروا "، معترضا مرتبطا بحسب المعنى بالاية المحيطة بها، أو بعد نزول سورة المائدة في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك لمكان قوله تعالى: " اليوم أكملت ". فهل المراد باليوم يوم فتح مكة بعينه ؟ أو يوم نزول البراءة بعينه يكفى في فساده ما تقدم من الاشكالات الواردة على الاحتمال الثاني والثالث المتقدمين. أو أن المراد باليوم هو يوم عرفة من حجة الوداع كما ذكره كثير من المفسرين وبه ورد بعض الروايات ؟ فما المراد من يأس الذين كفروا يومئذ من دين المسلمين فإن كان المراد باليأس من الدين يأس مشركي قريش من الظهور على دين المسلمين فقد كان ذلك يوم الفتح عام ثمانية لا يوم عرفة من السنة العاشرة، وإن كان المراد يأس مشركي العرب من ذلك فقد كان ذلك عند نزول البراءة وهو في السنة التاسعة من الهجرة، وإن كان المراد به يأس جميع الكفار الشامل لليهود والنصارى والمجوس وغيرهم - وذلك الذى يقتضيه إطلاق قوله: " الذين كفروا " - فهؤلاء لم يكونوا آئسين من الظهور على المسلمين بعد، ولما يظهر للاسلام قوة وشوكة وغلبة في خارج جزيرة العرب اليوم. ومن جهة أخرى يجب أن نتأمل فيما لهذا اليوم - وهو يوم عرفة تاسع ذى الحجة سنة عشر من الهجرة - من الشأن الذى يناسب قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " في الاية. فربما أمكن أن يقال: أن المراد به إكمال أمر الحج بحضور النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه فيه، وتعليمه الناس تعليما عمليا مشفوعا بالقول. لكن فيه أن مجرد تعليمه الناس مناسك حجهم - وقد أمرهم بحج التمتع ولم يلبث دون أن صار مهجورا، وقد تقدمه تشريع أركان الدين من صلاة وصوم وحج وزكاة وجهاد وغير ذلك - لا يصح أن يسمى إكمالا للدين، وكيف يصح أن يسمى تعليم شئ من واجبات الدين إكمالا لذلك الواجب فضلا عن أن يسمى تعليم واجب من واجبات الدين لمجموع الدين ؟. على أن هذا الاحتمال يوجب انقطاع رابطة الفقرة الاولى أعنى قوله: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " بهذه الفقرة أعنى قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم " وأى ربط
________________________________________
[ 171 ]
ليأس الكفار عن الدين بتعليم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حج التمتع للناس ؟. وربما أمكن أن يقال: أن المراد به إكمال الدين بنزول بقايا الحلال والحرام في هذا اليوم في سورة المائدة، فلا حلال بعده ولا حرام، وبإكمال الدين استولى اليأس على قلوب الكفار، ولاحت آثاره على وجوههم. لكن يجب أن نتبصر في تمييز هؤلاء الكفار الذين عبر عنهم في الاية بقوله: " الذين كفروا " على هذا التقدير وأنهم من هم ؟ فإن أريد بهم كفار العرب فقد كان الاسلام عمهم يومئذ ولم يكن فيهم من يتظاهر بغير الاسلام وهو الاسلام حقيقه، فمن هم الكفار الائسون. وإن أريد بهم الكفار من غيرهم كسائر العرب من الامم والاجيال فقد عرفت آنفا أنهم لم يكونوا آئسين يومئذ من الظهور على المسلمين. ثم نتبصر في أمر انسداد باب التشريع بنزول سورة المائدة وانقضاء يوم عرفه فقد وردت روايات كثيرة لا يستهان بها عددا بنزول أحكام وفرائض بعد اليوم كما في آية الصيف (1) وآيات الربا، حتى أنه روى عن عمر أنه قال في خطبة خطبها: من آخر القرآن نزولا آية الربا، وإنه مات رسول الله ولم يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم، الحديث. وروى البخاري في الصحيح عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية الربا، إلى غير ذلك من الروايات. وليس للباحث أن يضعف الروايات فيقدم الاية عليها، لان الاية ليست بصريحة ولا ظاهرة في كون المراد باليوم فيها هذا اليوم بعينه وإنما هو وجه محتمل يتوقف في تعينه على انتفاء كل احتمال ينافيه، وهذه الاخبار لا تقصر عن الاحتمال المجرد عن السند. أو يقال: ان المراد بإكمال الدين خلوص البيت الحرام لهم، وإجلاء المشركين عنه حتى حجة المسلمون وهم لا يخالطهم المشركون. وفيه: أنه قد كان صفا الامر للمسلمين فيما ذكر قبل ذلك بسنة، فما معنى تقييده باليوم في قوله: " اليوم أكملت لكم دينكم " ؟ على أنه لو سلم كون هذا الخلوص إتماما
________________________________________
(1) وهى آية الكلالة المذكورة في آخر سورة النساء. (*)
________________________________________
[ 172 ]
للنعمة لم يسلم كونه إكمالا للدين، وأى معنى لتسمية خلوص البيت إكمالا للدين، وليس الدين إلا مجموعة من عقائد وأحكام، وليس إكماله إلا أن يضاف إلى عدد أجزائها وأبعاضها عدد ؟ وأما صفاء الجو لاجرائها، وارتفاع الموانع والمزاحمات عن العمل بها فليس يسمى إكمالا للدين البتة. على أن إشكال يأس الكفار عن الدين على حاله. حاله. ويمكن أن يقال: إن المراد من إكمال الدين بيان هذه المحرمات بيانا تفصيليا ليأخذ به المسلمون، ويجتنبوها ولا يخشوا الكفار في ذلك لانهم قد يئسوا من دينهم بإعزاز الله المسلمين، وإظهار دينهم وتغليبهم على الكفار. توضيح ذلك أن حكمة الاكتفاء في صدر الاسلام بذكر المحرمات الاربعة أعنى الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به الواقعة في بعض السور المكية وترك تفصيل ما يندرج فيها مما كرهه الاسلام للمسلمين من سائر ما ذكر في هذه الاية إلى ما بعد فتح مكة إنما هي التدرج في تحريم هذه الخبائث والتشديد فيها كما كان التدريج في تحريم الخمر لئلا ينفر العرب من الاسلام، ولا يروا فيه حرجا يرجون به رجوع من آمن فقرائهم وهم أكثر السابقين الاولين. جاء هذا التفصيل للمحرمات بعد قوة الاسلام، وتوسعة الله على أهله وإعزازهم، وبعد أن يئس المشركون بذلك من نفور أهله منه، وزال طمعهم في الظهور عليهم، وإزالة دينهم بالقوة القاهرة، فكان المؤمنون أجدر بهم أن لا يبالوهم بالمداراة، ولا يخافوهم على دينهم وعلى أنفسهم. فالمراد باليوم يوم عرفة من عام حجة الوداع، وهو اليوم الذى نزلت فيه هذه الاية المبينة لما بقى من الاحكام التى أبطل بها الاسلام بقايا مهانة الجاهلية وخبائثها وأوهامها، والمبشرة بظهور المسلمين على المشركين ظهورا تاما لا مطمع لهم في زواله، ولا حاجة معه إلى شئ من مداراتهم أو الخوف من عاقبة أمرهم. فالله سبحانه يخبرهم في الاية أن الكفار أنفسهم قد يئسوامن زوال دينهم وأنه ينبغى لهم - وقد بدلهم بضعفهم قوة، وبخوفهم أمنا، وبفقرهم غنى - أن لا يخشوا غيره تعالى، وينتهوا عن تفاصيل ما نهى الله عنه في الاية ففيها كمال دينهم. كذا ذكره بعضهم بتلخيص ما في النقل.
________________________________________
[ 173 ]
وفيه: أن هذا القائل أراد الجمع بين عدة من الاحتمالات المذكورة ليدفع بكل احتمال ما يتوجه إلى الاحتمال الاخر من الاشكال فتورط بين المحاذير برمتها وأفسد لفظ الاية ومعناها جميعا. فذهل عن أن المراد باليأس إن كان هو اليأس المستند إلى ظهور الاسلام وقوته وهو ما كان بفتح مكة أو بنزول آيات البراءة لم يصح أن يقال يوم عرفة من السنة العاشرة: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم " وقد كانوا يئسوا قبل ذلك بسنة أو سنتين، وإنما اللفظ الوافى له أن يقال: قد يئسوا كما عبر به القائل نفسه في كلامه في توضيح المعنى أو يقال: إنهم آئسون. وذهل عن أن هذا التدرج الذى ذكره في محرمات الطعام، وقاس تحريمها بتحريم الخمر إن أريد به التدرج من حيث تحريم بعض الافراد بعد بعض فقد عرفت أن الاية لا تشتمل على أزيد مما تشتمل عليه آيات التحريم السابقة نزولا على هذه الاية أعنى آيات البقرة والانعام والنحل، وأن المنخنقة والموقوذة (الخ) من افراد ما ذكر فيها. وإن أريد به التدرج من حيث البيان الاجمالي والتفصيلي خوفا من امتناع الناس من القبول ففى غير محله، فإن ما ذكر بالتصريح في السور السابقة على المائدة أعنى الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به أغلب مصداقا، وأكثر ابتلاء، وأوقع في قلوب الناس من أمثال المنخنقة والموقوذة وغيرها، وهى أمور نادرة التحقق وشاذة الوجود، فما بال تلك الاربعة وهى أهم وأوقع وأكثر يصرح بتحريمها من غير خوف من ذلك ثم يتقى من ذكرها ما لا يعبأ بأمره بالاضافة إليها فيتدرج في بيان حرمتها، ويخاف من التصريح بها ؟. على أن ذلك لو سلم لم يكن إكمالا للدين، وهل يصح ان يسمى تشريع الاحكام دينا ؟ وإبلاغها وبيانها إكمالا للدين ؟ ولو سلم فإنما ذلك إكمال لبعض الدين وإتمام لبعض النعمة لا للكل والجميع، وقد قال تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي " فأطلق القول من غير تقييد. على أنه تعالى قد بين أحكاما كثيرة في ايام كثيرة، فما بال هذا الحكم في هذا اليوم خص بالمزية فسماه الله أو سمى بيانه تفصيلا بإشمال الدين وإتمام النعمة ؟.
________________________________________
[ 174 ]
أو أن المراد بإكمال الدين إكماله بسد باب التشريع بعد هذه الاية المبينة لتفصيل محرمات الطعام، فما شأن الاحكام النازلة ما بين نزول المائدة ورحلة النبي صلى الله عليه ووآله وسلم ؟ بل ما شأن سائر الاحكام النازلة بعد هذه الاية في سورة المائدة ؟ تأمل فيه. وبعد ذلك كله ما معنى قوله تعالى: " ورضيت لكم الاسلام دينا " - وتقديره: اليوم رضيت (الخ) - لو كان المراد بالكلام الامتنان بما ذكر في الاية من المحرمات يوم عرفة من السنة العاشرة ؟ وما وجه اختصاص هذا اليوم بأن الله سبحانه رضى فيه الاسلام دينا، ولا أمر يختص به اليوم مما يناسب هذا الرضى ؟. وبعد ذلك كله يرد على هذا الوجه أكثر الاشكالات الواردة على الوجوه السابقة أو ما يقرب منها مما تقدم بيانه، ولا نطيل بالاعادة. أو أن المراد باليوم واحد من الايام التى بين عرفة وبين ورود النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة على بعض الوجوه المذكورة في معنى يأس الكفار ومعنى إكمال الدين. وفيه من الاشكال ما يرد على غيره على التفصيل المتقدم. فهذا شطر من البحث عن الاية بحسب السير فيما قيل أو يمكن ان يقال في توجيه معناها، ولنبحث عنها من طريق آخر يناسب طريق البحث الخاص بهذا الكتاب. قوله: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم " - واليأس يقابل الرجاء، والدين إنما نزل من عند الله تدريجا - يدل على ان الكفار قد كان لهم مطمع في دين المسلمين وهو الاسلام، وكانوا يرجون زواله بنحو منذ عهد وزمان، وأن أمرهم ذلك كان يهدد الاسلام حينا بعد حين، وكان الدين منهم على خطر يوما بعد يوم، وأن ذلك كان من حقه ان يحذر منه ويخشاه المؤمنون. فقوله: " فلا تخشوهم " تأمين منه سبحانه للمؤمنين مما كانوا منه على خطر، ومن تسر به على خشية، قال تعالى: " ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم " (آل عمران: 69)، وقال تعالى: " ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند انفسهم ومن بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شئ قدير " (البقرة: 109).
________________________________________
[ 175 ]
والكفار لم يكونوا يتربصون الدوائر بالمسلمين إلا لدينهم، ولم يكن يضيق صدورهم وينصدع قلوبهم إلا من جهة ان الدين كان يذهب بسوددهم وشرفهم واسترسالهم في اقتراف كل ما تهواه طباعهم، وتألفه وتعتاد به نفوسهم، ويختم على تمتعهم بكل ما يشتهون بلا قيد وشرط. فقد كان الدين هو المبغوض عندهم دون اهل الدين الا من جهة دينهم الحق فلم يكن في قصدهم إبادة المسلمين وإفناء جمعهم بل إطفاء نور الله وتحكيم اركان الشرك المتزلزلة المضطربة به، ورد المؤمنين كفارا كما مر في قوله: " لو يردونكم كفارا " (الاية) قال تعالى: " يريدون ليطفؤوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " (الصف: 9). وقال تعالى: " فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون " (المؤمن: 14). ولذلك لم يكن لهم هم إلا ان يقطعوا هذه الشجرة الطيبة من أصلها، ويهدموا هذا البنيان الرفيع من أسه بتفتين المؤمنين وتسرية النفاق في جماعتهم وبث الشبه والخرافات بينهم لافساد دينهم. وقد كانوا يأخذون بادئ الامر يفترون عزيمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويستمحقون همته في الدعوة الدينية بالمال والجاه، كما يشير إليه قوله تعالى: " وانطلق الملا منهم ان امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشئ يراد " (ص: 6) أو بمخالطة أو مداهنة، كما يشير إليه قوله: " ودوا لو تدهن فيدهنون " (القلم: 9)، وقوله: " ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا " (أسرى: 74) وقوله: " قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد " (الكافرون: 3) على ما ورد في اسباب النزول. وكان آخر ما يرجونه في زوال الدين، وموت الدعوة المحقة، أنه سيموت بموت هذا القائم بأمره ولا عقب له، فإنهم كانوا يرون أنه ملك في صورة النبوة، وسلطنة في لباس الدعوة والرسالة فلو مات أو قتل لانقطع أثره ومات ذكره وذكر دينه على ما هو المشهود عادة من حال السلاطين والجبابرة أنهم مهما بلغ أمرهم من التعالى والتجبر وركوب رقاب الناس فإن ذكرهم يموت بموتهم، وسننهم وقوانينهم الحاكمة بين الناس وعليهم تدفن معهم في قبورهم، يشير إلى رجائهم هذا قوله تعالى: " إن شانئك هو الابتر " (الكوثر: 3)


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page