• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 326 الي 350


[ 326 ]
ومما تقدم من الكلام يظهر حال سائر ما قيل في معنى الكبائر وهى كثيرة منها ما قيل إن الكبيرة كل ما أوعد الله عليه في الآخرة عقابا ووضع له في الدنيا حدا وفيه أن الاصرار على الصغيرة كبيرة لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الاصرار رواه الفريقان مع عدم وضع حد فيه شرعا وكذا ولاية الكفار وأكل الربا مع أنهما من كبائر ما نهى عنه في القرآن. ومنها قول بعضهم إن الكبيرة كل ما أوعد الله عليه بالنار في القرآن وربما أضاف إليه بعضهم السنة وفيه أنه لا دليل على انعكاسه كليا. ومنها قول بعضهم إنها كل ما يشعر بالاستهانة بالدين وعدم الاكتراث به قال به إمام الحرمين واستحسنه الرازي وفيه أنه عنوان الطغيان والاعتداء وهى إحدى الكبائر وهناك ذنوب كبيرة موبقة وإن لم تقترف بهذا العنوان كأكل مال اليتيم وزنا المحارم وقتل النفس المؤمنة من غير حق. ومنها قول بعضهم إن الكبيرة ما حرمت لنفسها لا لعارض وهذا كالمقابل للقول السابق وفيه أن الطغيان والاستهانة ونحو ذلك من أكبر الكبائر وهى عناوين طارية وبطروها على معصية وعروضها لها تصير من الكبائر الموبقة. ومنها قول بعضهم إن الكبائر ما اشتملت عليه آيات سورة النساء من أول السورة إلى تمام ثلاثين آية وكأن المراد أن قوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية إشارة إلى المعاصي المبينة في الآيات السابقة عليه كقطيعة الرحم وأكل مال اليتيم والزنا ونحو ذلك وفيه أنه ينافي إطلاق الآية. ومنها قول بعضهم وينسب إلى ابن عباس كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة ولعله لكون مخالفته تعالى أمرا عظيما وفيه أنك قد عرفت أن انقسام المعصية إلى الكبيرة والصغيرة إنما هو بقياس بعضها إلى بعض وهذا الذى ذكره مبنى على قياس حال الانسان في مخالفته وهو عبد إلى الله سبحانه وهو رب كل شئ ومن الممكن أن يميل إلى هذا القول بعضهم بتوهم كون الاضافة في قوله تعالى كبائر ما تنهون عنه بيانية لكنه فاسد لرجوع معنى الآية حينئذ إلى قولنا إن تجتنبوا المعاصي جميعا نكفر عنكم سيئاتكم ولا سيئة مع اجتناب المعاصي وإن اريد تكفير
________________________________________
[ 327 ]
سيئات المؤمنين قبل نزول الآية اختصت الآية بأشخاص من حضر عند النزول وهو خلاف ظاهر الآية من العموم ولو عمت الآية عاد المعنى إلى أنكم إن عزمتم على اجتناب جميع المعاصي واجتنبتموها كفرنا عنكم سيئاتكم السابقة عليه وهذا أمر نادر شاذ المصداق أو عديمه لا يحمل عليه عموم الآية لان نوع الانسان لا يخلو عن السيئة واللمم إلا من عصمه الله بعصمته فافهم ذلك. ومنها أن الصغيرة ما نقص عقابه عن ثواب صاحبه والكبيرة ما يكبر عقابه عن ثوابه نسب إلى المعتزلة وفيه أن ذلك أمر لا يدل عليه هذه الآية ولا غيرها من آيات القرآن نعم من الثابت بالقرآن وجود الحبط في بعض المعاصي في الجملة لا في جميعها سواء كان على وفق ما ذكروه أو لا على وفقه وقد مر البحث عن معنى الحبط مستوفى في الجزء الثاني من هذا الكتاب. وقالوا أيضا يجب تكفير السيئات والصغائر عند اجتناب الكبائر ولا تحسن المؤاخذة عليها وهذا أيضا أمر لا تدل الآية عليه البتة. ومنها أن الكبر والصغر اعتباران يعرضان لكل معصية فالمعصية التى يقترفها الانسان استهانة بأمر الربوبية واستهزاء أو عدم مبالاة به كبيرة وهى بعينها لو اقترفت من جهة استشاطة غضب أو غلبة جبن أو ثورة شهوة كانت صغيرة مغفورة بشرط اجتناب الكبائر. ولما كان هذه العناوين الطارية المذكورة يجمعها العناد والاعتداء على الله أمكن أن يلخص الكلام بأن كل واحدة من المعاصي المنهى عنها في الدين إن اتى بها عنادا واعتداءا فهى كبيرة وإلا فهى صغيرة مغفورة بشرط اجتناب العناد والاعتداء. قال بعضهم إن في كل سيئة وفي كل نهى خاطب الله به كبيرة أو كبائر وصغيرة أو صغائر وأكبر الكبائر في كل ذنب عدم المبالاة بالنهي والامر واحترام التكليف ومنه الاصرار فإن المصر على الذنب لا يكون محترما ولا مباليا بالامر والنهى فالله تعالى يقول إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه أي الكبائر التى يتضمنها كل شئ تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم أي نكفر عنكم صغيره فلا نؤاخذكم عليه. وفيه أن استلزام اقتران كل معصية مقترفة بما يوجب كونها طغيانا واستعلاء
________________________________________
[ 328 ]
على الله سبحانه صيرورتها معصية كبيرة لا يوجب كون الكبر دائرا مدار هذا الاعتبار حتى لا يكون بعض المعاصي كبيرة في نفسها مع عدم عروض شئ من هذه العناوين عليه فإن زنا المحارم بالنسبة إلى النظر إلى الاجنبية وقتل النفس المحرمة ظلما بالنسبة إلى الضرب كبيرتان عرض لهما عارض من العناوين أم لم يعرض نعم كلما عرض شئ من هذه العناوين المهلكة اشتد النهى بحسبه وكبرت المعصية وعظم الذنب فما الزنا عن هوى النفس وغلبة الشهوة والجهالة كالزنا بالاستباحة. على أن هذا المعنى إن تجتنبوا في كل معصية كبائرها نكفر عنكم صغائرها معنى ردى لا يحتمله قوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم الآية بحسب ما لها من السياق على ما لا يخفى لكل من استأنس قليل استيناس بأساليب الكلام. ومنها ما يتراءى من ظاهر كلام الغزالي على ما نقل عنه (1) من الجمع بين الاقوال وهو أن بين المعاصي بقياس بعضها إلى بعض كبيرة وصغيرة كزنا المحصنة من المحارم بالنسبة إلى النظر إلى الاجنبية وإن كانت بعض المعاصي يكبر بانطباق بعض العناوين المهلكة الموبقة عليه كالاصرار على الصغائر فبذلك تصير المعصية كبيرة بعد ما لم تكن. فبهذا يظهر أن المعاصي تنقسم إلى صغيرة وكبيرة بحسب قياس البعض إلى البعض بالنظر إلى نفس العمل وجرم الفعل ثم هي مع ذلك تنقسم إلى القسمين بالنظر إلى أثر الذنب ووباله في إحباطه للثواب بغلبته عليه أو نقصه منه إذا لم يغلبه فيزول الذنب بزوال مقدار يعادله من الثواب فإن لكل طاعة تأثيرا حسنا في النفس يوجب رفعة مقامها وتخلصها من قذارة البعد وظلمة الجهل كما أن لكل معصية تأثيرا سيئا فيها يوجب خلاف ذلك من انحطاط محلها وسقوطها في هاوية البعد وظلمة الجهل. فإذا اقترف الانسان شيئا من المعاصي وقد هيأ لنفسه شيئا من النور والصفاء بالطاعة فلا بد من أن يتصادم ظلمة المعصية ونور الطاعة فإن غلبت ظلمة المعصية ووبال الذنب نور الطاعة وظهرت عليه أحبطته وهذه هي المعصية الكبيرة وإن غلبت الطاعة بما لها من النور والصفاء أزالت ظلمة الجهل وقذارة الذنب ببطلان مقدار
________________________________________
(1) نقله الفخر الرازي في تفسير عن الغزالي في منتخبات كتاب الاحياء
________________________________________
[ 329 ]
يعادل ظلمة الذنب من نور الطاعة ويبقى الباقي من نورها وصفائها تتنور وتصفو به النفس وهذا معنى التحابط وهو بعينه معنى غفران الذنوب الصغيرة وتكفير السيئات وهذا النوع من المعاصي هي المعاصي الصغيرة. وأما تكافؤ السيئة والحسنة بما لهما من العقاب والثواب فهو وإن كان مما يحتمله العقل في بادى النظر ولازمه صحة فرض إنسان أعزل لا طاعة له ولا معصية ولا نور لنفسه ولا ظلمة لكن يبطله قوله تعالى فريق في الجنة وفريق في السعير انتهى ملخصا. وقد رده الرازي بأنه يبتنى على اصول المعتزلة الباطلة عندنا وشدد النكير على الرازي في المنار قائلا: وإذا كان هذا (يعني انقسام المعصية إلى الصغيرة والكبيرة في نفسها) صريحا في القرآن فهل يعقل أن يصح عن ابن عباس إنكاره ؟ لا بل روى عبد الرزاق عنه أنه قيل له: هل الكبائر سبع ؟ فقال: هي إلى السبعين أقرب وروى ابن جبير أنه قال: هي إلى السبعمائة أقرب وإنما عزي القول بإنكاره تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر إلى الاشعرية. وكأن القائلين بذلك منهم أرادوا أن يخالفوا به المعتزلة ولو بالتأويل كما يعلم من كلام ابن فورك فإنه صحح كلام الاشعرية وقال: معاصي الله كلها كبائر وإنما يقال لبعضها: صغيرة وكبيرة بإضافة (1) وقالت المعتزلة: الذنوب على ضربين: صغائر وكبائر وهذا ليس بصحيح انتهى وأول الآية تأويلا بعيدا. وهل يؤول الآيات والاحاديث لاجل أن يخالف المعتزلة ولو فيما أصابوا فيه ؟ لا يبعد ذلك فإن التعصب للمذاهب هو الذي صرف كثيرا من العلماء الازكياء عن إفادة أنفسهم وأمتهم بفطنتهم وجعل كتبهم فتنة للمسلمين اشتغلوا بالجدل فيها عن حقيقة الدين وستري ما ينقله الرازي عن الغزالي ويرده لاجل ذلك وأين الرازي من الغزالي وأين معاوية من علي انتهى ويشير في آخر كلامه إلى ما نقلناه عن الغزالي والرازي.
________________________________________
(1) أي الاضافة بحسب قصود المعاصي المختلفة لا اضافة بعض المعاصي إلى بعضها في نفسها.
________________________________________
[ 330 ]
وكيف كان فما ذكره الغزالي وإن كان وجيها في الجملة لكنه لا يخلو عن خلل من جهات. الاولى: أن ما ذكره من انقسام المعاصي إلى الصغائر والكبائر بحسب تحابط الثواب والعقاب لا ينطبق دائما على ما ذكره من الانقسام بحسب نفس المعاصي ومتون الذنوب في أول كلامه فإن غالب المعاصي الكبيرة المسلمة في نفسها يمكن أن يصادف في فاعله ثوابا كبيرا يغلب عليها وكذا يمكن أن تفرض معصية صغيرة تصادف من الثواب الباقي في النفس ما هو أصغر منها وأنقص وبذلك يختلف الصغيرة والكبيرة بحسب التقسيمين فمن المعاصي ما هي صغيرة على التقسيم الاول كبيرة بحسب التقسيم الثاني ومنها ما هي بالعكس فلا تطابق كليا بين التقسيمين. والثانية أن التصادم بين آثار المعاصي والطاعات وإن كان ثابتا في الجملة لكنه مما لم يثبت كليا من طريق الظواهر الدينية من الكتاب والسنة أبدا وأي دليل من طريق الكتاب والسنة يدل على تحقق التزايل والتحابط بنحو الكلية بين عقاب المعاصي وثواب الطاعات. والذى أجرى تفصيل البحث فيه من الحالات الشريفة النورية النفسانية والحالات الاخرى الخسيسة الظلمانية كذلك أيضا فإنها وإن كانت تتصادم بحسب الغالب وتتزايل وتتفانى لكن ذلك ليس على وجه كلى دائمي بل ربما يثبت كل من الفضيلة والرذيلة في مقامها وتتصالح على البقاء وتقتسم النفس كأن شيئا منها للفضيلة خاصة وشيئا منها للرذيلة خاصة فترى الرجل المسلم مثلا يأكل الربا ولا يلوى عن ابتلاع أموال الناس ولا يصغى إلى استغاثة المطلوب المستأصل المظلوم ويجتهد في الصلوات المفروضة ويبالغ في خضوعه وخشوعه أو أنه لا يبالى في إهراق الدماء وهتك الاعراض والافساد في الارض ويخلص لله أي إخلاص في امور من الطاعات والقربات وهذا هو الذى يسميه علماء النفس اليوم بازدواج الشخصية بعد تعددها وتنازعها وهو أن تتنازع الميول المختلفة النفسانية وتثور بعضها على بعض بالتزاحم والتعارض ولا يزال الانسان في تعب داخلي من ذلك حتى تستقر الملكتان فتزدوجان وتتصالحان ويغيب كل عند ظهور الاخرى وانتهاضها و إمساكها على فريستها كما عرفت من المثال المذكور آنفا
________________________________________
[ 331 ]
والثالثة أن لازم ما ذكره أن يلغو اعتبار الاجتناب في تكفير السيئات فإن من لا يأتي بالكبائر لا لانه يكف نفسه عنها مع القدرة والتمايل النفساني عليها بل لعدم قدرته عليها وعدم استطاعته منها فإن سيئاته تنحبط بالطاعات لغلبة ثوابه على الفرض على ما له من العقاب وهو تكفير السيئات فلا يبقى لاعتبار اجتناب الكبائر وجه مرضى. قال الغزالي في الاحياء اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والارادة كمن يتمكن من امرأة ومن مواقعتها فيكف نفسه عن الوقاع فيقتصر على نظر أو لمس فإن مجاهدة نفسه بالكف عن الوقاع أشد تأثيرا في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في إظلامه فهذا معنى تكفيره فإن كان عنينا أو لم يكن امتناعه إلا بالضرورة للعجز أو كان قادرا ولكن امتنع لخوف أمر الآخرة فهذا لا يصلح للتكفير أصلا وكل من لا يشتهى الخمر بطبعه ولو أبيح له لما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التى هي من مقدماته كسماع الملاهي والاوتار نعم من يشتهى الخمر وسماع الاوتار فيمسك نفسه بالمجاهدة عن الخمر ويطلقها في السماع فمجاهدته النفس بالكف ربما يمحو عن قلبه الظلمة التى ارتفعت إليه من معصية السماع فكل هذه أحكام اخروية انتهى. وقال أيضا في محل آخر كل ظلمة ارتفعت إلى القلب لا يمحوها إلا نور يرتفع إليها بحسنة تضادها والمتضادات هي المتناسبات فلذلك ينبغى أن تمحى كل سيئة بحسنة من جنسها لكى تضادها فإن البياض يزال بالسواد لا بالحرارة والبرودة وهذا التدريج والتحقيق من التلطف في طريقة المحو فالرجاء فيه أصدق والثقة به أكثر من أن يواظب على نوع واحد من العبادات وإن كان ذلك أيضا مؤثرا في المحو انتهى كلامه. وكلامه كما ترى يدل على أن المحبط للسيئات هو الاجتناب الذى هو الكف مع أنه غير لازم على هذا القول. والكلام الجامع الذى يمكن أن يقال في المقام مستظهرا بالآيات الكريمة هو أن الحسنات والسيئات متحابطة في الجملة غير أن تأثير كل سيئة في كل حسنة وبالعكس بنحو النقص منه أو إفنائه مما لا دليل عليه ويدل عليه اعتبار حال الاخلاق والحالات النفسانية التى هي نعم العون في فهم هذه الحقائق القرآنية في باب الثواب والعقاب. وأما الكبائر والصغائر من المعاصي فظاهر الآية كما عرفت هو أن المعاصي بقياس
________________________________________
[ 332 ]
بعضها إلى بعض كقتل النفس المحترمة ظلما بالقياس إلى النظر إلى الاجنبية وشرب الخمر بالاستحلال بالقياس إلى شربها بهوى النفس بعضها كبيرة وبعضها صغيرة من غير ظهور ارتباط ذلك بمسألة الاحباط والتكفير بالكلية. ثم إن الآية ظاهرة في أن الله سبحانه يعد لمن اجتنب الكبائر أن يكفر عنه سيئاته جميعا ما تقدم منها وما تأخر على ما هو ظاهر إطلاق الآية ومن المعلوم أن الظاهر من هذا الاجتناب أن يأتي كل مؤمن بما يمكنه من اجتناب الكبائر وما يصدق في مورده الاجتناب من الكبائر لا أن يجتنب كل كبيرة بالكف عنها فإن الملتفت أدنى التفات إلى سلسلة الكبائر لا يرتاب في أنه لا يتحقق في الوجود من يميل إلى جميعها ويقدر عليها عامة أو يندر ندرة ملحقة بالعدم وتنزيل الآية هذه المنزلة لا يرتضيها الطبع المستقيم. فالمراد أن من اجتنب ما يقدر عليه من الكبائر وتتوق نفسه إليه منها وهى الكبائر التى يمكنه أن يجتنبها كفر الله سيئاته سواء جانسها أو لم يجانسها. وأما أن هذا التكفير للاجتناب بأن يكون الاجتناب في نفسه طاعة مكفرة للسيئات كما أن التوبة كذلك أو أن الانسان إذا لم يقترف الكبائر خلى ما بينه وبين الصغائر والطاعات الحسنة فالحسنات يكفرن سيئاته وقد قال الله تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات: هود - 114 ظاهر الآية إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم الآية أن للاجتناب دخلا في التكفير وإلا كان الانسب بيان أن الطاعات يكفرن السيئات كما في قوله إن الحسنات الآية أو أن الله سبحانه يغفر الصغائر مهما كانت من غير حاجة إلى سرد الكلام جملة شرطية. والدليل على كبر المعصية هو شدة النهى الوارد عنها أو الايعاد عليها بالنار أو ما يقرب من ذلك سواء كان ذلك في كتاب أو سنة من غير دليل على الحصر. = بحث روائي = في الكافي عن الصادق عليه السلام: الكبائر التي أوجب الله عليها النار وفي الفقيه وتفسير العياشي عن الباقر عليه السلام: في الكبائر قال كل ما أوعد الله عليها النار
________________________________________
[ 333 ]
وفي ثواب الاعمال عن الصادق عليه السلام: من اجتنب ما أوعد الله عليه النار - إذا كان مؤمنا كفر الله عنه سيئاته ويدخله مدخلا كريما - والكبائر السبع الموجبات - قتل النفس الحرام وعقوق الوالدين - وأكل الربا والتعرب بعد الهجرة - وقذف المحصنة وأكل مال اليتيم - والفرار من الزحف أقول و الروايات من طرق الشيعة وأهل السنة في عد الكبائر كثيرة سيمر بك بعضها وقد عد الشرك بالله فيما نذكر منها إحدى الكبائر السبع إلا في هذه الرواية ولعله عليه السلام أخرجه من بينها لكونه أكبر الكبائر ويشير إليه قوله إذا كان مؤمنا. وفي المجمع روى عبد العظيم بن عبد الله الحسنى عن أبى جعفر محمد بن على عن أبيه على بن موسى الرضا عن موسى بن جعفر عليهم السلام قال: دخل عمرو بن عبيد البصري - على أبى عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام - فلما سلم وجلس تلا هذه الآية - الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش ثم أمسك - فقال أبو عبد الله ما أسكتك - قال احب أن أعرف الكبائر من كتاب الله - قال نعم يا عمرو أكبر الكبائر الشرك بالله - لقول الله عز وجل إن الله لا يغفر أن يشرك به - وقال من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار - وبعده اليأس من روح الله لان الله يقول - ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون - ثم الامن من مكر الله لان الله يقول - ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون - ومنها عقوق الوالدين لان الله تعالى جعل العاق جبارا شقيا - في قوله وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا - ومنها قتل النفس التى حرم الله إلا بالحق لانه يقول - ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها الآية - وقذف المحصنات لان الله يقول - إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات - لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم - وأكل مال اليتيم لقوله - الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية - والفرار من الزحف لان الله يقول - ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة - فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير - وأكل الربا لان الله يقول - الذين يأكلون الربا لا يقومون - إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان من المس - ويقول فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله - والسحر لان الله يقول - ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق - والزنا لان الله يقول - ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة - ويخلد فيه مهانا واليمين الغموس لان الله يقول - إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم
________________________________________
[ 334 ]
ثمنا قليلا - اولئك لا خلاق لهم في الآخرة الآية - والغلول قال الله ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة - ومنع الزكاة المفروضة لان الله يقول - يوم يحمى عليها في نار جهنم - فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم الآية - وشهادة الزور وكتمان الشهادة لان الله يقول - ومن يكتمها فإنه آثم قلبه - وشرب الخمر لان الله عدل بها عبادة الاوثان - وترك الصلاة متعمدا وشيئا مما فرض الله تعالى - لان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول - من ترك الصلاة متعمدا فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله - ونقض العهد وقطيعة الرحم لان الله يقول - اولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار - قال فخرج عمرو بن عبيد له صراخ من بكائه وهو يقول - هلك من قال برأيه ونازعكم في الفضل والعلم اقول قد روى من طرق أهل السنة ما يقرب منه عن ابن عباس ويتبين بالرواية أمران. الاول أن الكبيرة من المعاصي ما اشتد النهى عنها إما بالاصرار والبلوغ في النهى أو بالايعاد بالنار من الكتاب أو السنة كما يظهر من موارد استدلاله عليه السلام ومنه يظهر معنى ما مر في حديث الكافي أن الكبيرة ما أوجب الله عليها النار وما مر في حديث الفقيه وتفسير العياشي أن الكبيرة ما أوعد الله عليها النار فالمراد بإيجابها وإيعادها أعم من التصريح والتلويح في كلام الله أو حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأظن أن ما نقل في ذلك عن ابن عباس أيضا كذلك فمراده بالايعاد بالنار أعم من التصريح والتلويح في قرآن أو حديث ويشهد بذلك ما في تفسير الطبري عن ابن عباس قال الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب ويتبين بذلك أن ما نقل عنه أيضا في تفسير الطبري وغيره كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة ليس خلافا في معنى الكبيرة وإنما هو تكبير للمعاصي جميعا بقياس حقارة الانسان إلى عظمة ربه كما مر. والثاني أن حصر المعاصي الكبيرة في بعض ما تقدم وما يأتي من الروايات أو في ثمانية أو في تسع كما في بعض الروايات النبوية المروية من طرق السنة أو في عشرين كما في هذه الرواية أو في سبعين كما في روايات اخرى كل ذلك باعتبار اختلاف
________________________________________
[ 335 ]
مراتب الكبر في المعصية كما يدل عليه ما في الرواية من قوله عند تعداد الكبائر وأكبر الكبائر الشرك بالله. وفي الدر المنثور أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اجتنبوا السبع الموبقات قالوا وما هن يا رسول الله ؟ قال الشرك بالله وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق - والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم - والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات. وفيه أخرج ابن حيان وابن مردويه عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن والديات - وبعث به مع عمرو بن حزم. قال وكان في الكتاب - أن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة إشراك بالله - وقتل النفس المؤمنة بغير حق - والفرار يوم الزحف وعقوق الوالدين - ورمي المحصنة وتعلم السحر - وأكل الربا وأكل مال اليتيم. وفيه أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن أنس سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ألا إن شفاعتي لاهل الكبائر من امتي ثم تلا هذه الآية - إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم الآية. ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شئ عليما (32) - ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والاقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شئ شهيدا (33) - الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات
________________________________________
[ 336 ]
حافظات للغيب بما حفظ الله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا (34) - وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا (35)): (بيان) الآيات مرتبطة بما تقدم من أحكام المواريث وأحكام النكاح يؤكد بها أمر الاحكام السابقة ويستنتج منها بعض الاحكام الكلية التي تصلح بعض الخلال العارضة في المعاشرة بين الرجال والنساء. قوله تعالى " ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض " التمني قول الانسان ليت كذا كان كذا والظاهر أن تسمية القول بذلك من باب توصيف اللفظ بصفة المعنى وإنما التمني إنشاء نحو تعلق من النفس نظير تعلق الحب بما تراه متعذرا أو كالمتعذر سواء أظهر ذلك بلفظ أو لم يظهر. وظاهر الآية أنها مسوقة للنهي عن تمني فضل وزيادة موجودة ثابتة بين الناس وأنه ناش عن تلبس بعض طائفتي الرجال والنساء بهذا الفضل وأنه ينبغي الاعراض عن التعلق بمن له الفضل والتعلق بالله بالسؤال من الفضل الذي عنده تعالى وبهذا يتعين أن المراد بالفضل هو المزية التي رزقها الله تعالى كلا من طائفتي الرجال والنساء بتشريع الاحكام التي شرعت في خصوص ما يتعلق بالطائفتين كلتيهما كمزية الرجال على النساء في عدد الزوجات وزيادة السهم في الميراث ومزية النساء على الرجال في وجوب جعل المهر لهن ووجوب نفقتهن على الرجال. فالنهي عن تمني هذه المزية التي اختص بها صاحبها إنما هو لقطع شجرة الشر والفساد من أصلها فإن هذه المزايا مما تتعلق به النفس الانسانية لما أودعه الله في النفوس
________________________________________
[ 337 ]
من حبها والسعي لها لعمارة هذه الدار فيظهر الامر أولا في صورة التمني فإذا تكرر تبدل حسدا مستبطنا فإذا أديم عليه فاستقر في القلب سرى إلى مقام العمل والفعل الخارجي ثم إذا انضمت بعض هذه النفوس إلى بعض كان ذلك بلوى يفسد الارض ويهلك الحرث والنسل. ومن هنا يظهر أن النهي عن التمني نهي إرشادي يعود مصلحته إلى مصلحة حفظ الاحكام المشرعة المذكورة وليس بنهي مولوي. وفي نسبة الفضل إلى فعل الله سبحانه والتعبير بقوله بعضكم على بعض إيقاظ لصفة الخضوع لامر الله بإيمانهم به وغريزة الحب المثارة بالتنبه حتى يتنبه المفضل عليه أن المفضل بعض منه غير مبان. قوله تعالى للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن ذكر الراغب أن الاكتساب إنما يستعمل فيما استفاده الانسان لنفسه والكسب أعم مما كان لنفسه أو لغيره والبيان المتقدم ينتج أن يكون هذه الجملة مبينة للنهي السابق عن التمني وبمنزلة التعليل له أي لا تتمنوا ذلك فإن هذه المزية إنما وجدت عند من يختص بها لانه اكتسبها بالنفسية التي له أو بعمل بدنه فإن الرجال إنما اختصوا بجواز اتخاذ أربع نسوة مثلا وحرم ذلك على النساء لان موقعهم في المجتمع الانساني موقع يستدعي ذلك دون موقع النساء وخصوا في الميراث بمثل حظ الانثيين لذلك أيضا وكذلك النساء خصصن بنصف سهم الرجال وجعل نفقتهن على الرجال وخصصن بالمهر لاستدعاء موقعهن ذلك وكذلك ما اكتسبته إحدى الطائفتين من المال بتجارة أو طريق آخر هو الموجب للاختصاص وما الله يريد ظلما للعباد. ومن هنا يظهر أن المراد بالاكتساب هو نوع من الحيازة والاختصاص أعم من أن يكون بعمل اختياري كالاكتساب بصنعة أو حرفة أو لا يكون بذلك لكنه ينتهي إلى تلبس صاحب الفضل بصفة توجب له ذلك كتلبس الانسان بذكورية أو أنوثية توجب له سهما ونصيبا كذا. وأئمة اللغة وإن ذكروا في الكسب والاكتساب أنهما يختصان بما يحوزه الانسان
________________________________________
[ 338 ]
بعمل اختياري كالطلب ونحوه لكنهم ذكروا أن الاصل في معنى الكسب هو الجمع وربما جاز أن يقال اكتسب فلان بجماله الشهرة ونحو ذلك وفسر الاكتساب في الآية بذلك بعض المفسرين وليس من البعيد أن يكون الاكتساب في الآية مستعملا فيما ذكر من المعنى على سبيل التشبيه والاستعارة. وأما كون المراد من الاكتساب في الآية ما يتحراه الانسان بعمله ويكون المعنى للرجال نصيب مما استفادوه لانفسهم من المال بعملهم وكذا النساء ويكون النهي عن التمني نهيا عن تمني ما بيد الناس من المال الذي استفادوه بصنعة أو حرفة فهو وإن كان معنى صحيحا في نفسه لكنه يوجب تضييق دائرة معنى الآية وانقطاع رابطتها مع ما تقدم من آيات الارث والنكاح. وكيف كان فمعنى الآية على ما تقدم من المعنى ولا تتمنوا الفضل والمزية المالي وغير المالي الذي خص الله تعالى به أحد القبيلين من الرجال والنساء ففضل به بعضكم على بعض فإن ذلك الفضل أمر خص به من خص به لانه أحرزه بنفسيته في المجتمع الانساني أو بعمل يده بتجارة ونحوها وله منه نصيب وإنما ينال كل نصيبه مما اكتسبه. قوله تعالى واسألوا الله من فضله الانعام على الغير بشئ مما عند المنعم لما كان غالبا بما هو زائد لا حاجة للمنعم إليه سمي فضلا ولما صرف الله تعالى وجوه الناس عن العناية بما أوتي أرباب الفضل من الفضل والرغبة فيه وكان حب المزايا الحيوية بل التفرد بها والتقدم فيها والاستعلاء من فطريات الانسان لا يسلب عنه حينا صرفهم تعالى إلى نفسه ووجه وجوههم نحو فضله وأمرهم أن يعرضوا عما في أيدي الناس ويقبلوا إلى جنابه ويسألوا من فضله فإن الفضل بيد الله وهو الذي أعطى كل ذي فضل فضله فله أن يعطيكم ما تزيدون به وتفضلون بذلك على غيركم ممن ترغبون فيما عنده وتتمنون ما أعطيه. وقد أبهم هذا الفضل الذي يجب أن يسأل منه بدخول لفظة من عليه وفيه من الفائدة أولا التعليم بأدب الدعاء والمسألة من جنابه تعالى فإن الاليق بالانسان المبني على الجهل بما ينفعه ويضره بحسب الواقع إذا سأل ربه العالم بحقيقة ما ينفع خلقه وما يضرهم القادر على كل شئ أن يسأله الخير فيما تتوق نفسه إليه ولا يطنب في تشخيص ما يسأله منه وتعيين الطريق إلى وصوله فكثيرا ما رأينا من كانت تتوق نفسه إلى حاجة من الحوائج الخاصة كمال أو ولد أو جاه ومنزلة أو صحة وعافية وكان
________________________________________
[ 339 ]
يلح في الدعاء والمسألة لاجلها لا يريد سواها ثم لما استجيب دعاؤه وأعطى مسألته كان في ذلك هلاكه وخيبة سعيه في الحياة. وثانيا الاشارة إلى أن يكون المسؤول ما لا يبطل به الحكمة الالهية في هذا الفضل الذي قرره الله تعالى بتشريع أو تكوين فمن الواجب أن يسألوا شيئا من فضل الله الذي اختص به غيرهم فلو سأل الرجال ما للنساء من الفضل أو بالعكس ثم أعطاهم الله ذلك بطلت الحكمة وفسدت الاحكام والقوانين المشرعة فافهم. فينبغي للانسان إذا دعا الله سبحانه عندما ضاقت نفسه لحاجة أن لا يسأله ما في أيدي الناس مما يرفع حاجته بل يسأله مما عنده وإذا سأله مما عنده أن لا يعلم لربه الخبير بحاله طريق الوصول إلى حاجته بل يسأله أن يرفع حاجته بما يعلمه خيرا من عنده. وأما قوله تعالى إن الله كان بكل شئ عليما فتعليل للنهي في صدر الآية أي لا تتمنوا ما أعطاه الله من فضله من أعطاه الله إن الله بكل شئ عليم لا يجهل طريق المصلحة ولا يخطئ في حكمه. (كلام في حقيقية قرآنية) اختلاف القرائح والاستعدادات في اقتناء مزايا الحياة في أفراد الانسان مما ينتهي إلى اصول طبيعية تكوينية لا مناص عن تأثيرها في فعلية اختلاف درجات الحياة وعلى ذلك جرى الحال في المجتمعات الانسانية من أقدم عهودها إلى يومنا هذا فيما نعلم. فقد كانت الافراد القوية من الانسان يستعبدون الضعفاء ويستخدمونهم في سبيل مشتهياتهم وهوى نفوسهم من غير قيد أو شرط وكان لا يسع لاولئك الضعفاء المساكين إلا الانقياد لاوامرهم ولا يهتدون إلا إلى إجابتهم بما يشتهونه ويريدونه منهم لكن القلوب ممتلئة غيظا وحنقا والنفوس متربصة ولا يزال الناس على هذه السنة التي ابتدأت سنة شيوخية وانتهت إلى طريقة ملوكية وامبراطورية. حتى إذا وفق النوع الانساني بالنهضة بعد النهضة على هدم هذه البنية المتغلبة وإلزام أولياء الحكومة والملك على اتباع الدساتير والقوانين الموضوعة لصلاح المجتمع وسعادته فارتحلت بذلك حكومة الارادات الجزافية وسيطرة السنن الاستبدادية ظاهرا وارتفع
________________________________________
[ 340 ]
اختلاف طبقات الناس وانقسامهم إلى مالك حاكم مطلق العنان ومملوك محكوم مأخوذ بزمامه غير أن شجرة الفساد أخذت في النمو في أرض غير الارض ومنظر غير منظره السابق والثمرة هي الثمرة وهو تمايز الصفات باختلاف الثروة بتراكم المال عند بعض وصفارة الكف عند آخر وبعد ما بين القبيلين بعدا لا يتمالك به المثري الواجد من نفسه إلا أن ينفذ بثروته في جميع شؤون حياة المجتمع ولا المسكين المعدم إلا أن ينهض للبراز ويقاوم الاضطهاد. فاستتبع ذلك سنة الشيوعية القائلة بالاشتراك في مواد الحياة وإلغاء المالكية وإبطال رؤوس الاموال وإن لكل فرد من المجتمع أن يتمتع بما عملته يداه وهيأه كماله النفساني الذي اكتسبه فانقطع بذلك أصل الاختلاف بالثروة والجدة غير أنه أورث من وجود الفساد ما لا يكاد تصيبه رمية السنة السابقة وهو بطلان حرية إرادة الفرد وانسلاب اختياره والطبيعة تدفع ذلك والخلقة لا توافقه وهيهات أن يعيش ما يرغم الطبيعة ويضطهد الخلقة. على أن أصل الفساد مع ذلك مستقر على قراره فإن الطبيعة الانسانية لا تنشط إلا لعمل فيه إمكان التميز والسبق ورجاء التقدم والفخر ومع إلغاء التمايزات تبطل الاعمال و فيه هلاك الانسانية وقد احتالوا لذلك بصرف هذه التميزات إلى الغايات والمقاصد الافتخارية التشريفية غير المادية وعاد بذلك المحذور جذعا فإن الانسان إن لم يذعن بحقيقتها لم يخضع لها وإن أذعن بها كان حال التمايز بها حال التمايز المادي. وقد احتالت الديموقراطية لدفع ما تسرب إليها من الفساد بإيضاح مفاسد هذه السنة بتوسعة التبليغ وبضرب الضرائب الثقيلة التي تذهب بجانب عظيم من أرباح المكاسب والمتاجر ولما ينفعهم ذلك فظهور دبيب الفساد في سنة مخالفيهم لا يسد طريق هجوم الشر على سنتهم أنفسهم ولا ذهاب جل الربح إلى بيت المال يمنع المترفين عن إترافهم ومظالمهم وهم يحيلون مساعيهم لمقاصدهم من تملك المال إلى التسلط وتداول المال في أيديهم فالمال يستفاد من التسلط ووضع اليد عليه وإدارته ما يستفاد من ملكه. فلا هؤلاء عالجوا الداء ولا اولئك ولا دواء بعد الكي وليس إلا لان الذي جعله البشر غاية وبغية لمجتمعه وهو التمتع بالحياة المادية بوصلة تهدي إلى قطب الفساد ولن تنقلب عن شأنها أينما حولت ومهما نصبت
________________________________________
[ 341 ]
والذي يراه الاسلام لقطع منابت هذا الفساد أن حرر الناس في جميع ما يهديهم إليه الفطرة الانسانية ثم قرب ما بين الطبقتين برفع مستوى حياة الفقراء بما وضع من الضرائب المالية ونحوها وخفض مستوى حياة الاغنياء بالمنع عن الاسراف والتبذير والتظاهر بما يبعدهم من حاق الوسط وتعديل ذلك بالتوحيد والاخلاق وصرف الوجوه عن المزايا المادية إلى كرامة التقوى وابتغاء ما عند الله من الفضل. وهو الذي يشير إليه قوله تعالى واسألوا الله من فضله الآية وقوله إن أكرمكم عند الله أتقاكم: الحجرات - 13 وقوله ففروا إلى الله: الذاريات - 50 وقد بينا فيما تقدم أن صرف وجوه الناس إلى الله سبحانه يستتبع اعتناءهم بأمر الاسباب الحقيقية الواقعية في تحري مقاصدهم الحيوية من غير أن يستتبع البطالة في اكتساب معيشة أو الكسل في ابتغاء سعادة فليس قول القائل إن الاسلام دين البطالة والخمود عن ابتغاء المقاصد الحيوية الانسانية إلا رمية من غير مرمى جهلا هذا ملخص القول في هذا المقصد وقد تكرر الكلام في أطرافه تفصيلا فيما تقدم من مختلف المباحث من هذا الكتاب. قوله تعالى ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والاقربون الآية الموالي جمع مولى وهو الولي وإن كثر استعماله في بعض المصاديق من الولاية كالمولى لسيد العبد لولايته عليه والمولى للناصر لولايته على أمر المنصور والمولى لابن العم لولايته على نكاح بنت عمه ولا يبعد أن يكون في الاصل مصدرا ميميا أو اسم مكان اريد به الشخص المتلبس به بوجه كما نطلق اليوم الحكومة والمحكمة ونريد بهما الحاكم. والعقد مقابل الحل واليمين مقابل اليسار واليمين اليد اليمنى واليمين الحلف وله غير ذلك من المعاني. ووقوع الآية مع قوله قبل ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض في سياق واحد واشتمالها على التوصية بإعطاء كل ذي نصيب نصيبه وأن الله جعل لكل موالي مما ترك الوالدان والاقربون يؤيد أن تكون الآية أعني قوله ولكل جعلنا الخ بضميمة الآية السابقة تلخيصا للاحكام والاوامر التي في آيات الارث ووصية إجمالية لما فيها من الشرائع التفصيلية كما كان قوله قبل آيات الارث للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون الآية تشريعا إجماليا كضرب القاعدة في باب الارث تعود إليه تفاصيل أحكام الارث.
________________________________________
[ 342 ]
ولازم ذلك أن ينطبق من اجمل ذكره من الوراث والمورثين على من ذكر منهم تفصيلا في آيات الارث فالمراد بالموالي جميع من ذكر وارثا فيها من الاولاد والابوين والاخوة والاخوات وغيرهم. والمراد بالاصناف الثلاث المذكورين في الآية بقوله الوالدان والاقربون والذين عقدت أيمانكم الاصناف المذكورة في آيات الارث وهم ثلاثه الوالدان والاقربون والزوجان فينطبق قوله الذين عقدت أيمانكم على الزوج والزوجة. فقوله ولكل أي ولكل واحد منكم ذكرا أو انثى جعلنا موالي أي أولياء في الوراثة يرثون ما تركتم من المال وقوله مما ترك من فيه للابتداء متعلق بالموالي كأن الولاية نشأت من المال أو متعلق بمحذوف أي يرثون أو يؤتون مما ترك وما ترك هو المال الذي تركه الميت المورث الذي هو الوالدان والاقربون نسبا والزوج والزوجة. وإطلاق الذين عقدت أيمانكم على الزوج والزوجة إطلاق كنائي فقد كان دأبهم في المعاقدات والمعاهدات أن يصافحوا فكأن أيمانهم التي يصافحون بها هي التي عقدت العقود وأبرمت العهود فالمراد الذين أوجدتم بالعقد سببية الازدواج بينكم وبينهم. وقوله فآتوهم نصيبهم الضمير للموالي والمراد بالنصيب ما بين في آيات الارث والفاء للتفريع والجملة متفرعة على قوله تعالى ولكل جعلنا موالي ثم أكد حكمه بإيتاء نصيبهم بقوله إن الله كان على كل شئ شهيدا. وهذا الذي ذكرناه من معنى الآية أقرب المعاني التي ذكروها في تفسيرها وربما ذكروا أن المراد بالموالي العصبة دون الورثة الذين هم أولى بالميراث ولا دليل عليه من جهة اللفظ بخلاف الورثة. وربما قيل إن من في قوله مما ترك الوالدان والاقربون بيانية والمراد بما الورثة الاولياء والمعنى ولكل منكم جعلنا أولياء يرثونه وهم الذين تركهم وخلفهم الوالدان والاقربون. وربما قيل إن المراد بالذين عقدت أيمانكم الحلفاء فقد كان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول دمي دمك وحربي حربك وسلمي سلمك وترثني وأرثك وتعقل عني وأعقل عنك فيكون للحليف السدس من مال الحليف.
________________________________________
[ 343 ]
وعلى هذا فالجملة مقطوعة عما قبلها والمعنى والحلفاء آتوهم سدسهم ثم نسخ ذلك بقوله واولوا الارحام بعضهم أولى ببعض وقيل إن المراد آتوهم نصيبهم من النصر والعقل والرفد ولا ميراث وعلى هذه فلا نسخ في الآية. وربما قيل إن المراد بهم الذين آخا بينهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة وكانوا يتوارثون بذلك بينهم ثم نسخ ذلك بآية الميراث. وربما قيل اريد بهم الادعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية فأمروا في الاسلام أن يوصوا لهم بوصية وذلك قوله تعالى فآتوهم نصيبهم. وهذه معان لا يساعدها سياق الآية ولا لفظها على ما لا يخفي للباحث المتأمل ولذلك أضربنا عن الاطناب في البحث عما يرد عليها. قوله تعالى الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم القيم هو الذي يقوم بأمر غيره والقوام والقيام مبالغة منه. والمراد بما فضل الله بعضهم على بعض هو ما يفضل ويزيد فيه الرجال بحسب الطبع على النساء وهو زيادة قوة التعقل فيهم وما يتفرع عليه من شدة البأس والقوة والطاقة على الشدائد من الاعمال ونحوها فإن حياة النساء حياة إحساسية عاطفية مبنية على الرقة واللطافة والمراد بما أنفقوا من أموالهم ما أنفقوه في مهورهن ونفقاتهن. وعموم هذه العلة يعطي أن الحكم المبني عليها أعني قوله الرجال قوامون على النساء غير مقصور على الازواج بأن يختص القوامية بالرجل على زوجته بل الحكم مجعول لقبيل الرجال على قبيل النساء في الجهات العامة التي ترتبط بها حياة القبيلين جميعا فالجهات العامة الاجتماعية التي ترتبط بفضل الرجال كجهتي الحكومة والقضاء مثلا الذين يتوقف عليهما حياة المجتمع وإنما يقومان بالتعقل الذي هو في الرجال بالطبع أزيد منه في النساء وكذا الدفاع الحربي الذي يرتبط بالشدة وقود التعقل كل ذلك مما يقوم به الرجال على النساء. وعلى هذا فقوله الرجال قوامون على النساء ذو إطلاق تام وأما قوله بعد فالصالحات قانتات الخ الظاهر في الاختصاص بما بين الرجل وزوجته على ما سيأتي فهو
________________________________________
[ 344 ]
فرع من فروع هذا الحكم المطلق وجزئي من جزئياته مستخرج منه من غير أن يتقيد به إطلاقه. قوله تعالى فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله المراد بالصلاح معناه اللغوي وهو ما يعبر عنه بلياقة النفس والقنوت هو دوام الطاعة والخضوع. ومقابلتها لقوله واللاتي تخافون نشوزهن الخ تفيد أن المراد بالصالحات الزوجات الصالحات وأن هذا الحكم مضروب على النساء في حال الازدواج لا مطلقا وأن قوله قانتات حافظات الذي هو إعطاء للامر في صورة التوصيف أي ليقنتن وليحفظن حكم مربوط بشؤون الزوجية والمعاشرة المنزلية وهذا مع ذلك حكم يتبع في سعته وضيقه علته أعني قيمومة الرجل على المرأة قيمومة زوجية فعليها أن تقنت له وتحفظه فيما يرجع إلى ما بينهما من شؤون الزوجية. وبعبارة اخرى كما أن قيمومة قبيل الرجال على قبيل النساء في المجتمع إنما تتعلق بالجهات العامة المشتركة بينهما المرتبطة بزيادة تعقل الرجل وشدته في البأس وهي جهات الحكومة والقضاء والحرب من غير أن يبطل بذلك ما للمرأة من الاستقلال في الارادة الفردية وعمل نفسها بأن تريد ما أحبت وتفعل ما شاءت من غير أن يحق للرجل أن يعارضها في شئ من ذلك في غير المنكر فلا جناح عليهم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف كذلك قيمومة الرجل لزوجته ليست بأن لا تنفذ للمرأة في ما تملكه إرادة ولا تصرف ولا أن لا تستقل المرأة في حفظ حقوقها الفردية والاجتماعية والدفاع عنها والتوسل إليها بالمقدمات الموصلة إليها بل معناها أن الرجل إذ كان ينفق ما ينفق من ماله بإزاء الاستمتاع فعليها أن تطاوعه وتطيعه في كل ما يرتبط بالاستمتاع والمباشرة عند الحضور وأن تحفظه في الغيب فلا تخونه عند غيبته بأن توطئ فراشه غيره وأن تمتع لغيره من نفسها ما ليس لغير الزوج التمتع منها بذلك ولا تخونه فيما وضعه تحت يدها من المال وسلطها عليه في ظرف الازدواج والاشتراك في الحياة المنزلية. فقوله فالصالحات قانتات أي ينبغي أن يتخذن لانفسهن وصف الصلاح وإذا كن صالحات فهن لا محاله قانتات أي يجب أن يقنتن ويطعن أزواجهن إطاعة دائمة فيما أرادوا منهن مما له مساس بالتمتع ويجب عليهن أن يحفظن جانبهم في جميع ما لهم من الحقوق إذا غابوا.
________________________________________
[ 345 ]
وأما قوله بما حفظ الله فالظاهر أن ما مصدرية والباء للآلة والمعنى إنهن قانتات لازواجهن حافظات للغيب بما حفظ الله لهم من الحقوق حيث شرع لهم القيمومة وأوجب عليهن الاطاعة وحفظ الغيب لهم. ويمكن أن يكون الباء للمقابلة والمعنى حينئذ أنه يجب عليهن القنوت وحفظ الغيب في مقابلة ما حفظ الله من حقوقهن حيث أحيا أمرهن في المجتمع البشري وأوجب على الرجال لهن المهر والنفقة والمعنى الاول أظهر. وهناك معان ذكروها في تفسير الآية أضربنا عن ذكرها لكون السياق لا يساعد شيئا منها. قوله تعالى واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن النشوز العصيان والاستكبار عن الطاعة والمراد بخوف النشوز ظهور آياته وعلائمه ولعل التفريع على خوف النشوز دون نفسه لمراعاة حال العظة من بين العلاجات الثلاث المذكورة فإن الوعظ كما أن له محلا مع تحقق العصيان كذلك له محل مع بدو آثار العصيان وعلائمه. والامور الثلاثة أعني ما يدل عليه قوله فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن وإن ذكرت معا وعطف بعضها على بعض بالواو فهي امور مترتبة تدريجية فالموعظة فإن لم تنجح فالهجرة فإن لم تنفع فالضرب ويدل على كون المراد بها التدرج فيها أنها بحسب الطبع وسائل للزجر مختلفة آخذه من الضعف إلى الشدة بحسب الترتيب المأخوذ في الكلام فالترتيب مفهوم من السياق دون الواو. وظاهر قوله واهجروهن في المضاجع أن تكون الهجرة مع حفظ المضاجعة كالاستدبار وترك الملاعبة ونحوها وإن أمكن أن يراد بمثل الكلام ترك المضاجعة لكنه بعيد وربما تأيد المعنى الاول بإتيان المضاجع بلفظ الجمع فإن المعنى الثاني لا حاجة فيه إلى إفادة كثرة المضجع ظاهرا. قوله تعالى فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إلخ أي لا تتخذوا عليهن علة تعتلون بها في إيذائهن مع إطاعتهن لكم ثم علل هذا النهي بقوله إن الله كان عليا كبيرا وهو إيذان لهم أن مقام ربهم على كبير فلا يغرنهم ما يجدونه من القوة والشدة في أنفسهم فيظلموهن بالاستعلاء والاستكبار عليهن.
________________________________________
[ 346 ]
قوله تعالى وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا الشقاق البينونة والعداوة وقد قرر الله سبحانه بعث الحكمين ليكون أبعد من الجور والتحكم وقوله إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما أي إن يرد الزوجان نوعا من الاصلاح من غير عناد ولجاج في الاختلاف فإن سلب الاختيار من أنفسهما وإلقاء زمام الامر إلى الحكمين المرضيين يوجب وفاق البين. واسند التوفيق إلى الله مع وجود السبب العادي الذي هو إرادتهما الاصلاح والمطاوعة لما حكم به الحكمان لانه تعالى هو السبب الحقيقي الذي يربط الاسباب بالمسببات وهو المعطي لكل ذى حق حقه ثم تمم الكلام بقوله إن الله كان عليما خبيرا ومناسبته ظاهرة. (كلام في معنى قيمومة الرجال على النساء) تقوية القرآن الكريم لجانب العقل الانساني السليم وترجيحه إياه على الهوى واتباع الشهوات والخضوع لحكم العواطف والاحساسات الحادة وحضه وترغيبه في اتباعه وتوصيته في حفظ هذه الوديعة الالهية عن الضيعة مما لا ستر عليه ولا حاجة إلى إيراد دليل كتابي يؤدي إليه فقد تضمن القرآن آيات كثيرة متكثرة في الدلالة على ذلك تصريحا وتلويحا وبكل لسان وبيان. ولم يهمل القرآن مع ذلك أمر العواطف الحسنة الطاهرة ومهام آثارها الجميلة التي يتربى بها الفرد ويقوم بها صلب المجتمع كقوله أشداء على الكفار رحماء بينهم الفتح - 29 وقوله لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة: الروم - 21 وقوله قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق: الاعراف - 32 لكنه عدلها بالموافقة لحكم العقل فصار اتباع حكم هذه العواطف والميول اتباعا لحكم العقل. وقد مر في بعض المباحث السابقة أن من حفظ الاسلام لجانب العقل وبنائه أحكامه المشرعة على ذلك أن جميع الاعمال والاحوال والاخلاق التي تبطل استقامة العقل في حكمه وتوجب خبطه في قضائه وتقويمه لشؤون المجتمع كشرب الخمر والقمار وأقسام المعاملات الغررية والكذب والبهتان والافتراء والغيبة كل ذلك محرمة في الدين.
________________________________________
[ 347 ]
والباحث المتأمل يحدس من هذا المقدار أن من الواجب أن يفوض زمام الامور الكلية والجهات العامة الاجتماعية التي ينبغي أن تدبرها قوة التعقل ويجتنب فيها من حكومة العواطف والميول النفسانية كجهات الحكومة والقضاء والحرب إلى من يمتاز بمزيد العقل ويضعف فيه حكم العواطف وهو قبيل الرجال دون النساء. وهو كذلك قال الله تعالى الرجال قوامون على النساء والسنة النبوية التي هي ترجمان البيانات القرآنية بينت ذلك كذلك وسيرته صلى الله عليه وآله وسلم جرت على ذلك أيام حياته فلم يول امرأة على قوم ولا أعطى امرأة منصب القضاء ولا دعاهن إلى غزاة بمعنى دعوتهن إلى أن يقاتلن. وأما غيرها من الجهات كجهات التعليم والتعلم والمكاسب والتمريض والعلاج وغيرها مما لا ينافي نجاح العمل فيها مداخلة العواطف فلم تمنعهن السنة ذلك والسيرة النبوية تمضى كثيرا منها والكتاب أيضا لا يخلو من دلالة على إجازة ذلك في حقهن فإن ذلك لازم ما اعطين من حرية الارادة والعمل في كثير من شؤون الحياة إذ لا معنى لاخراجهن من تحت ولاية الرجال وجعل الملك لهن بحيالهن ثم النهي عن قيامهن بإصلاح ما ملكته إيديهن بأي نحو من الاصلاح وكذا لا معنى لجعل حق الدعوى أو الشهادة لهن ثم المنع عن حضورهن عند الوالي أو القاضي وهكذا. اللهم إلا فيما يزاحم حق الزوج فإن له عليها قيمومة الطاعة في الحضور والحفظ في الغيبة ولا يمضى لها من شؤونها الجائزة ما يزاحم ذلك. (بحث روائي) في المجمع: في قوله تعالى ولا تتمنوا ما فضل الله الآية - أي لا يقل أحدكم - ليت ما اعطي فلان من النعمة والمرأة الحسنى كان لي فإن ذلك يكون حسدا ولكن يجوز أن يقول اللهم أعطني مثله قال: وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. أقول وروى العياشي في تفسيره عن الصادق عليه السلام مثله. في تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عن الباقر والصادق عليهما السلام في قوله تعالى ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده وفي قوله ولا تتمنوا ما فضل الله به
________________________________________
[ 348 ]
بعضكم على بعض أنهما نزلتا في علي عليه السلام. أقول والرواية من باب الجري والتطبيق. وفي الكافي وتفسير القمي عن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام قال: ليس من نفس إلا وقد فرض الله لها رزقها حلالا يأتيها في عافية وعرض لها بالحرام من وجه آخر فإن هي تناولت شيئا من الحرام - قاصها به من الحلال الذي فرض لها وعند الله سواهما فضل كثير وهو قول الله عز وجل واسألوا الله من فضله. أقول ورواه العياشي عن إسماعيل بن كثير رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وروى هذا المعنى أيضا عن أبي الهذيل عن الصادق عليه السلام وروى قريبا منه أيضا القمي في تفسيره عن الحسين بن مسلم عن الباقر عليه السلام. وقد تقدم كلام في حقيقة الرزق وفرضه وانقسامه إلى الرزق الحلال والحرام في ذيل قوله والله يرزق من يشاء بغير حساب: البقرة - 212 في الجزء الثاني فراجعه. وفي صحيح الترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير من طريق حكيم بن جبير عن رجل لم يسمه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل وإن من أفضل العبادة انتظار الفرج. وفي التهذيب بإسناده عن زرارة قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والاقربون - قال عنى بذلك اولى الارحام في المواريث ولم يعن أولياء النعمة فأولاهم بالميت أقربهم إليه من الرحم التي تجره إليها. وفيه أيضا بإسناده عن إبراهيم بن محرز قال: سأل أبا جعفر عليه السلام رجل وأنا عنده قال - فقال رجل لامرأته أمرك بيدك - قال أنى يكون هذا والله يقول - الرجال قوامون على النساء ليس هذا بشئ وفي الدر المنثور أخرج ابن أبى حاتم من طريق أشعث بن عبد الملك عن الحسن قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستعدى على زوجها أنه لطمها - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
________________________________________
[ 349 ]
القصاص - فأنزل الله الرجال قوامون على النساء الآية - فرجعت بغير قصاص: أقول ورواه بطرق اخرى عنه صلى الله عليه وآله وسلم وفي بعضها قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أردت أمرا وأراد الله غيره ولعل المورد كان من موارد النشوز وإلا فذيل الآية فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ينفى ذلك. وفي ظاهر الروايات إشكال آخر من حيث إن ظاهرها أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم القصاص بيان للحكم عن استفتاء من السائل لا قضاء فيما لم يحضر طرفا الدعوى ولازمه أن يكون نزول الآية تخطئة للنبى صلى الله عليه وآله وسلم في حكمه وتشريعه وهو ينافي عصمته وليس بنسخ فإنه رفع حكم قبل العمل به والله سبحانه وإن تصرف في بعض أحكام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضعا أو رفعا لكن ذلك إنما هو في حكمه ورأيه في موارد ولايته لا في حكمه فيما شرعه لامته فإن ذلك تخطئة باطلة. وفي تفسير القمى في رواية أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام: في قوله قانتات يقول مطيعات وفي المجمع: في قوله تعالى فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن الآية: عن أبى جعفر عليه السلام قال: يحول ظهره إليها وفي معنى الضرب عن أبى جعفر عليه السلام: أنه الضرب بالسواك وفي الكافي بإسناده عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام: في قوله فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها - قال الحكمان يشترطان إن شاءا فرقا - وإن شاءا جمعا فإن فرقا فجائز - وإن جمعا فجائز أقول وروى هذا المعنى وما يقرب منه بعدة طرق اخر فيه وفي تفسير العياشي. وفي تفسير العياشي عن ابن مسلم عن أبى جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في امرأة تزوجها رجل - وشرط عليها وعلى أهلها ان تزوج عليها امرأة - وهجرها أو أتى عليها سرية فإنها طالق - فقال شرط الله قبل شرطكم إن شاء وفى بشرطه - وإن شاء أمسك امرأته ونكح عليها - وتسرى عليها وهجرها إن أتت سبيل ذلك - قال الله في كتابه - فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع - وقال احل لكم مما ملكت أيمانكم - وقال واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن - واهجروهن في المضاجع
________________________________________
[ 350 ]
واضربوهن - فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان عليا كبيرا وفي الدر المنثور أخرج البيهقى عن أسماء بنت يزيد الانصارية: أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه - فقالت بأبى أنت وامى إنى وافدة النساء اليك - واعلم نفسي لك الفداء - أنه ما من امرأة كائنة في شرق ولا غرب - سمعت بمخرجي هذا إلا وهى على مثل رأيى - إن الله بعثك بالحق إلى الرجال والنساء - فآمنا بك وبإلهك الذى أرسلك - وإنا معشر النساء محصورات مقسورات - قواعد بيوتكم ومقضى شهواتكم - وحاملات أولادكم - وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمعة والجماعات - وعيادة المرضى وشهود الجنائز - والحج بعد الحج وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله - وإن الرجل منكم إذا خرج حاجا أو معتمرا - أو مرابطا حفظنا لكم أموالكم - وغزلنا لكم أثوابكم وربينا لكم أموالكم (1) - فما نشارككم في الاجر يا رسول الله - فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه بوجهه كله - ثم قال هل سمعتم مقالة امرأة قط - أحسن من مساءلتها في أمر دينها من هذه - فقالوا يا رسول الله ما ظننا أن امرأة تهتدى إلى مثل هذا - فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليها - ثم قال لها انصرفي أيتها المرأة - وأعلمى من خلفك من النساء - أن حسن تبعل إحداكن لزوجها وطلبها مرضاته - واتباعها موافقته يعدل ذلك كله - فأدبرت المرأة وهى تهلل وتكبر استبشارا اقول والروايات في هذا المعنى كثيرة مروية في جوامع الحديث من طرق الشيعة وأهل السنة ومن أجمل ما روى فيه ما رواه في الكافي عن أبى إبراهيم موسى بن جعفر عليهما السلام: جهاد المرأة حسن التبعل ومن أجمع الكلمات لهذا المعنى مع اشتماله على اس ما بنى عليه التشريع ما في نهج البلاغة ورواه أيضا في الكافي بإسناده عن عبد الله ابن كثير عن الصادق عليه السلام عن علي عليه أفضل السلام وبإسناده أيضا عن الاصبغ ابن نباتة عنه عليه السلام في رسالته إلى ابنه: أن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة وما روى في ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنما المرأة لعبة من اتخذها فلا يضيعها - وقد كان يتعجب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - كيف تعانق المرأة بيد ضربت بها ففي الكافي أيضا بإسناده عن أبى مريم عن أبى جعفر عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيضرب
________________________________________
(1) اولادكم ظ
_


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page