• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 301 الي 325


[ 301 ]
يقولوا بحجية القراءة الشاذة كما لا يلزمهم القول بوقوع النسخ وإنما يستفيدون من الجميع من جهة الدلالة على أن هؤلاء القراء والرواة كانوا يرون دلالة الآية على نكاح المتعة. وأما قوله لا سيما إذا كان النظم والاسلوب يأباه كما هنا فكلامه يعطي أنه جعل المراد من المسافحة مجرد سفح الماء وصبه - أخذا بالاصل اللغوي المشتق منه ثم جعله أمرا منوطا بالقصد ولزمه أن الازدواج الموقت بقصد قضاء الشهوة وصب الماء سفاح لا نكاح، وقد غفل عن أن الاصل اللغوي في النكاح أيضا هو الوقاع ففي لسان العرب: قال الازهري أصل النكاح في كلام العرب الوطئ ولازم ما سلكه أن يكون النكاح أيضا سفاحا ويختل به المقابلة بين النكاح والسفاح. على أن لازم القول بأن قصد صب الماء يجعل الازدواج الموقت سفاحا أن يكون النكاح الدائم بقصد قضاء الشهوة وصب الماء سفاحا وهل يرضى رجل مسلم أن يفتي بذلك ؟ فإن قال: بين النكاح الدائم والمؤجل في ذلك فرق فإن النكاح الدائم موضوع بطبعه على قصد الاحصان بالازدواج وإيجاد النسل وتشكيل البيت بخلاف النكاح المؤجل فهذا منه مكابرة فإن جميع ما يترتب على النكاح الدائم من الفوائد كصون النفس عن الزنا والتوقي عن اختلال الانساب وإيجاد النسل والولد وتأسيس البيت يمكن أن يترتب على النكاح المؤجل ويختص بأن فيه نوع تسهيل وتخفيف على هذه الامة يصون به نفسه من لا يقدر على النكاح الدائم لفقره أو لعدم قدرته على نفقة الزوجة أو لغربة أو لعوامل مختلفة اخر تمنعه عن النكاح الدائم. وكذا كل ما يترتب على النكاح المؤجل - مما عده ملاكا للسفاح - كقصد صب الماء وقضاء الشهوة فإنه جائز الترتب على النكاح الدائم ودعوى أن النكاح الدائم بالطبع موضوع للفوائد السابقة ونكاح المتعة موضوع بالطبع لهذه المضار اللاحقة - على أن تكون مضارا - دعوى واضحة الفساد. وإن قال إن نكاح المتعة لما كان سفاحا كان زنا يقابل النكاح رد عليه: بأن السفاح الذي فسره بصب الماء أعم من الزنا وربما شمل النكاح الدائم ولا سيما إذا كان بقصد صب الماء. وأما قوله فإن كان هناك نوع ما من إحصان نفسه الخ فمن عجيب الكلام
________________________________________
[ 302 ]
وليت شعري ما الفرق الفارق بين الرجل والمرأة في ذلك حتى يكون الرجل المتمتع يمكنه أن يحصن نفسه بنكاح المتعة من الزنا وتكون المرأة لا يصح منها هذا القصد وهل هذا إلا مجازفة. وأما ما أنشده من الشعر في بحث حقيقي يتعرض لكشف حقيقة من الحقائق الدينية التي تتفرع عليها آثار هامة حيوية دنيوية واخروية لا يستهان بها سواء كان نكاح المتعة محرما أو مباحا. فماذا ينفع الشعر وهو نسيج خيالي الباطل أعرف عنده من الحق والغواية أمس به من الهداية. وهلا أنشده في ذيل ما مر من الروايات ولا سيما في ذيل قول عمر في رواية الطبري المتقدم فالآن من شاء نكح بقبضة وفارق عن ثلاث بطلاق. وهل لهذا الطعن غرض يتوجه إليه إلا الله ورسوله في أصل تشريع هذا النوع من النكاح تأسيسا أو إمضاء وقد كان دائرا بين المسلمين في أول الاسلام بمرئى من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومسمع بلا شك فإن قال إنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما أذن فيه لقيام الضرورة عليه من شمول الفقر وإكباب الفاقة على عامة المسلمين وعروض الغزوات كما يظهر من بعض الروايات المتقدمة. قلنا مع فرض تداوله في أول الاسلام بين الناس وشهرته باسم نكاح المتعة والاستمتاع لا مناص من الاعتراف بدلالة الآية على جوازه مع إطلاقها وعدم صلاحية شئ من الآيات و الروايات على نسخها فالقول بارتفاع إباحته تأول في دلالة الآية من غير دليل. سلمنا أن إباحته كانت بإذن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمصلحة الضرورة لكنا نسأل أن هذه الضرورة هل كانت في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشد وأعظم منها بعده ولا سيما في زمن الراشدين وقد كان يسير جيوش المسلمين إلى مشارق الارض ومغاربها بالالوف بعد الالوف من الغزاة ؟ وأي فرق بين أوائل خلافة عمر وأواخره من حيث تحول هذه الضرورة من فقر وغزوة واغتراب في الارض وغير ذلك وما هو الفرق بين الضرورة والضرورة. وهل الضرورة المبيحة اليوم وفي جو الاسلام الحاضر أشد وأعظم أو في زمن
________________________________________
[ 303 ]
النبي صلى الله عليه وآله وسلم والنصف الاول من عهد الراشدين وقد أظل الفقر العام على بلاد المسلمين وقد مضت حكومات الاستعمار والدول القاهرة المستعلية والفراعنة من أولياء امور المسلمين كل لبن في ضرعهم وحصدوا الرطب من زرعهم واليابس. وقد ظهرت الشهوات في مظاهرها وازينت بأحسن زينتها وأجملها ودعت إلى اقترافها بأبلغ دعوتها ولا يزال الامر يشتد والبلية تعم البلاد والنفوس وشاعت الفحشاء بين طبقات الشبان من المتعلمين والجنديين وعملة المعامل وهم الذين يكونون المعظم من سواد الانسانية ونفوس المعمورة. ولا يشك شاك ولن يشك في أن الضرورة الموقعة لهم في فحشاء الزنا واللواط وكل انخلاع شهواني عمدتها العجز من تهيئة نفقة البيت والمشاغل المؤقتة المؤجلة المانعة من إتخاذ المنزل والنكاح الدائم بغربة أو خدمة أو دراسة ونحو ذلك فما بال هذه الضرورات تبيح في صدر الاسلام وهي أقل وأهون عند القياس نكاح المتعة لكنها لا تقوم للاباحة في غير ذلك العهد وقد أحاطت البلية وعظمت الفتنة. ثم قال ثم إنه ينافى ما تقرر في القرآن بمعنى هذا كقوله عزو جل في صفة المؤمنين والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فاولئك هم العادون: المؤمنون - 7 أي المتجاوزون ما أحل الله لهم إلى ما حرمه عليهم وهذه الآيات لا تعارض الآية التي نفسرها يعني قوله فما استمتعتم به الآية بل هي بمعناها فلا نسخ والمرأة المتمتع بها ليست زوجة فيكون لها على الرجل مثل الذي عليها بالمعروف كما قال الله تعالى وقد نقل عن الشيعة أنفسهم أنهم لا يعطونها أحكام الزوجة ولوازمها فلا يعدونها من الاربع اللواتي يحل للرجل أن يجمع بينها مع عدم الخوف من الجور بل يجوزون للرجل أن يتمتع بالكثير من النساء ولا يقولون برجم الزاني المتمتع إذ لا يعدونه محصنا وذلك قطع منهم بأنه لا يصدق عليه قوله تعالى في المستمتعين محصنين غير مسافحين وهذا تناقض صريح منهم. ونقل عنهم بعض المفسرين أن المرأة المتمتع بها ليس لها إرث ولا نفقة ولا طلاق ولا عدة والحاصل أن القرآن بعيد من هذا القول ولا دليل في هذه الآية ولا شبه دليل عليه البتة.
________________________________________
[ 304 ]
أقول أما قوله ثم إنه ينافى ما تقرر في القرآن بمعنى هذا الخ محصله أن آيات المؤمنون والذين هم لفروجهم حافظون الآيات تقصر الحل في الازواج والمتمتع بها ليست زوجة فالآيات مانعة من حلية المتعة اولا ومانعة من شمول قوله فما استمتعتم به منهن الآية لها ثانيا. فأما أن الآيات تحرم المتعة فقد أغمض فيه عن كون الآيات مكية والمتعة كانت دائرة بعد الهجرة في الجملة فهل كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يبيح ما حرمه القرآن بإجازته المتعة وقوله صلى الله عليه وآله وسلم حجة بنص القرآن فيعود ذلك إلى التناقض في نفس القرآن أو أن إباحته كانت ناسخة لآيات الحرمة والذين هم الآيات ثم منع عنها القرآن أو النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحييت بذلك الآيات بعد موتها واستحكمت بعد نسخها وهذا أمر لا يقول به ولا قال به أحد من المسلمين ولا يمكن أن يقال به. وهذا في نفسه نعم الشاهد على أن المتمتع بها زوجة وأن المتعة نكاح وأن هذه الآيات تدل على كون التمتع تزوجا وإلا لزم أن تنتسخ بترخيص النبي صلى الله عليه وآله وسلم فالآيات حجة على جواز التمتع دون حرمته. وبتقرير آخر آيات المؤمنون والمعارج والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم الآيات أقوى دلالة على حلية المتعة من سائر الآيات فمن المتفق عليه بينهم أن هذه الآيات محكمة غير منسوخة وهى مكية ومن الضرورى بحسب النقل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخص في المتعة ولو لا كون المتمتع بها زوجة كان الترخيص بالضرورة ناسخا للآيات وهى غير منسوخة فالتمتع زوجية مشرعة فإذا تمت دلالة الآيات على تشريعه فما يدعى من نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها فاسد أيضا لمنافاته الآيات واستلزامه نسخها وقد عرفت أنها غير منسوخة بالاتفاق. وكيف كان فالمتمتع بها على خلاف ما ذكره زوجة والمتعة نكاح وناهيك في ذلك ما وقع فيما نقلناه من الروايات من تسميته في لسان الصحابة والتابعين بنكاح المتعة حتى في لسان عمر بن الخطاب في الروايات المشتملة على نهيه كرواية البيهقى عن عمر في خطبته ورواية مسلم عن أبى نضرة حتى ما وقع من لفظه في رواية كنز العمال عن سليمان بن يسار بينوا حتى يعرف النكاح من السفاح فإن معناه أن المتعة نكاح
________________________________________
[ 305 ]
لا يتبين من السفاح وأنه يجب عليكم أن تبينوه منه فأتوا بنكاح يبين ويتميز منه والدليل على ذلك قوله بينوا. وبالجملة كون المتعة نكاحا وكون المتمتع بها زوجة في عرف القرآن ولسان السلف من الصحابة ومن تلاهم من التابعين مما لا ينبغى الارتياب فيه وإنما تعين اللفظان النكاح والتزويج في النكاح الدائم بعد نهى عمر وانتساخ العمل به بين الناس فلم يبق مورد لصدق اللفظين إلا النكاح الدائم فصار هو المتبادر من اللفظ إلى الذهن كسائر الحقائق المتشرعة. ومن هنا يظهر سقوط ما ذكره بعد ذلك فإن قوله وقد نقل عن الشيعة أنفسهم أنهم لا يعطونها أحكام الزوجة ولوازمها الخ يسأل عنه فيه ما هو المراد بالزوجة أما الزوجة في عرف القرآن فإنهم يعطونها أحكامها من غير استثناء وأما الزوجة في عرف المتشرعة كما ذكر المعروفة في الفقه فإنهم لا يعطونها أحكامها ولا محذور. وأما قوله وذلك قطع منهم بأنه لا يصدق عليه أي على الزانى المتمتع قوله تعالى محصنين غير مسافحين وهذا تناقض صريح منهم ففيه أنا ذكرنا في ذيل الآية فيما تقدم أن ظاهرها من جهة شمولها ملك اليمين أن المراد بالاحصان إحصان التعفف دون الازدواج ولو سلم أن المراد بالاحصان إحصان الازدواج فالآية شاملة لنكاح المتعة وأما عدم رجم الزانى المتمتع مع أن الرجم ليس حكما قرآنيا فإنما هو لبيان أو لتخصيص من السنة كسائر أحكام الزوجية من الميراث والنفقة والطلاق والعدد. وتوضيح ذلك أن آيات الاحكام إن كانت مسوقة على الاهمال لكونها واردة مورد أصل التشريع فما يطرأ عليها من القيود بيانات من غير تخصيص ولا تقييد وإن كانت عمومات أو إطلاقات كانت البيانات الواردة في السنة مخصصات أو مقيدات من غير محذور التناقض والمرجع في ذلك علم اصول الفقه. وهذه الآيات أعنى آيات الارث والطلاق والنفقة كسائر الآيات لا تخلو من التخصيص والتقييد كالارث والطلاق في المرتدة والطلاق عند ظهور العيوب المجوزة
________________________________________
[ 306 ]
لفسخ العقد والنفقة عند النشوز فلتخصص بالمتعة فالبيانات المخرجة للمتعة عن حكم الميراث والطلاق والنفقة مخصصات أو مقيدات وتعين ألفاظ التزويج والنكاح والاحصان ونحو ذلك في الدوام من جهة الحقيقة المتشرعة دون الحقيقة الشرعية فلا محذور أصلا كما نوهمه فإذا قال الفقيه مثلا الزانى المحصن يجب رجمه ولا رجم في الزانى المتمتع لعدم إحصانه فإنما ذلك لكونه يصطلح بالاحصان على دوام النكاح ذي الآثار الكذائية ولا ينافي ذلك كون الاحصان في عرف القرآن موجودا في الدائمة والمنقطعة معا وله في كل منهما آثار خاصة. وأما نقله عن بعضهم أن الشيعة لا تقول في المتعة بالعدة ففرية بينة فهذه جوامع الشيعة وهذه كتبهم الفقهية مملوءة بأن عدة المتمتع بها حيضتان وقد تقدم بعض الروايات في ذلك بطرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ثم قال وأما الاحاديث والآثار المروية في ذلك فمجموعها يدل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يرخص لاصحابه فيها في بعض الغزوات ثم نهاهم عنها ثم رخص فيها مرة أو مرتين ثم نهاهم عنها نهيا مؤبدا. وأن الرخصة كانت للعلم بمشقة اجتناب الزنا مع البعد من نسائهم فكانت من قبيل ارتكاب أخف الضررين فإن الرجل إذا عقد على امرأة خلية نكاحا موقتا وأقام معها ذلك الزمن الذى عينه فذلك أهون من تصديه للزنا بأية امرأة يمكنه أن يستميلها. اقول ما ذكره أن مجموع الروايات تدل على الترخيص في بعض الغزوات ثم النهى ثم الترخيص فيها مرة أو مرتين ثم النهى المؤبد لا ينطبق على ما تقدم من الروايات على ما فيها من التدافع والتطارد فعليك بالرجوع إليها وقد تقدم أكثرها حتى ترى أن مجموعها يكذب ما ذكره من وجه الجمع حرفا حرفا. ثم قال ويرى أهل السنة أن الرخصة في المتعة مرة أو مرتين يقرب من التدريج في منع الزنا منعا باتا كما وقع التدريج في تحريم الخمر وكلتا الفاحشتين كانتا فاشيتين في الجاهلية ولكن فشو الزنا كان في الاماء دون الحرائر. اقول أما قوله إن الرخصة في المتعة نوع من التدرج في منع الزنا فمحصله أن المتعة كانت عندهم من أنواع الزنا وقد كانت كسائر الزنا فاشية في الجاهلية فتدرج
________________________________________
[ 307 ]
النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنع عن الزنا بالرفق ليقع موقع القبول من الناس فمنع عن غير المتعة من أقسامه وأبقى زنا المتعة فرخص فيه ثم منع ثم رخص حتى تمكن من المنع البات فمنعه منعا مؤبدا. ولعمري إنه من فضيح اللعب بالتشريعات الدينية الطاهرة التى لم يرد الله بها إلا تطهير هذه الامة وإتمام النعمة عليهم. ففيه اولا ما تقدم أن نسبة المنع ثم الترخيص ثم المنع ثم الترخيص في المتعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع فرض دلالة آيات سورتي المعارج والمؤمنون والذين هم لفروجهم حافظون الآيات وهى مكية على حرمة المتعة على ما أصر عليه هذا القائل ليس إلا نسبة نسخ الآيات إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالترخيص ثم نسخ هذا النسخ وإحكام الآيات ثم نسخ الآيات ثم إحكامها وهكذا وهل هذا إلا نسبة اللعب بكتاب الله إليه صلى الله عليه وآله وسلم. وثانيا أن الآيات الناهية عن الزنا في كتاب الله تعالى هي قوله في سورة الاسراء ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا: أسرى - 32 وأي لسان أصرح من هذا اللسان والآية مكية واقعة بين آيات المناهى وكذا قوله قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلى أن قال ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن: الانعام - 151 كلمة الفواحش جمع محلى باللام واقعة في سياق النهى مفيدة لاستغراق النهى كل فاحشة وزنا والآية مكية وكذا قوله قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن: الاعراف - 33 والآية أيضا مكية وكذا قوله والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فاولئك هم العادون المؤمنون - 7 المعارج - 31 والسورتان مكيتان والآيات تحرم المتعة على قول هذا القائل كما تحرم سائر أقسام الزنا. فهذه جل الآيات الناهية عن الزنا المحرمة للفاحشة وجميعها مكية صريحة في التحريم فأين ما ذكره من التدرج في التحريم والمنع أو أنه يقول كما هو اللازم الصريح لقوله بدلالة آيات المؤمنون على الحرمة إن الله سبحانه حرمها تحريما باتا ثم النبي صلى الله عليه وآله وسلم تدرج في المنع عملا بالرخصة بعد الرخصة مداهنة لمصلحة الايقاع موقع القبول وقد شدد الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الخلة بعينها قال تعالى وإن كادوا
________________________________________
[ 308 ]
ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا ولو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا: أسرى - 75. وثالثا أن هذا الترخيص المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرة بعد مرة إن كان ترخيصا من غير تشريع للحل والفرض كون المتعة زنا وفاحشة كان ذلك مخالفة صريحة منه صلى الله عليه وآله وسلم لربه لو كان من عند نفسه وهو معصوم بعصمة الله تعالى ولو كان من عند ربه كان ذلك أمرا منه تعالى بالفحشاء وقد رده تعالى بصريح قوله خطابا لنبيه قل إن الله لا يأمر بالفحشاء الآية: الاعراف - 28. وإن كان ترخيصا مع تشريع للحل لم تكن زنا وفاحشة فإنها سنة مشروعة محدودة بحدود محكمة لا تجامع الطبقات المحرمة كالنكاح الدائم ومعها فريضة المهر كالنكاح الدائم والعدة المانعة عن اختلاط المياه واختلال الانساب ومعها ضرورة حاجة الناس إليها فما معنى كونها فاحشة وليست الفاحشة إلا العمل المنكر الذي يستقبحه المجتمع لخلاعته من الحدود وإخلاله بالمصلحة العامة ومنعه عن القيام بحاجة المجتمع الضرورية في حياتهم. ورابعا أن القول بكون التمتع من أنواع الزنا الدائرة في الجاهلية اختلاق في التاريخ واصطناع لا يرجع إلى مدرك تاريخي إذ لا عين منه في كتب التاريخ ولا أثر بل هو سنة مبتكرة إسلامية وتسهيل من الله تعالى على هذه الامة لاقامة أودهم ووقايتهم من انتشار الزنا وسائر الفواحش بينهم لو أنهم كانوا وفقوا لاقامة هذه السنة وإذا لم تكن الحكومات الاسلامية تغمض في أمر الزنا وسائر الفواحش هذا الاغماض الذي ألحقها تدريجيا بالسنن القانونية وامتلات بها الدنيا فسادا ووبالا. وأما قوله وكلتا الفاحشتين كانتا فاشيتين في الجاهلية ولكن فشو الزنا كان في الاماء دون الحرائر ظاهره أن مراده بالفاحشتين الزنا وشرب الخمر وهو كذلك إلا أن كون الزنا فاشيا في الاماء دون الحرائر مما لا أصل له يركن إليه فإن الشواهد التاريخية المختلفة المتفرقة تؤيد خلاف ذلك كالاشعار التي قيلت في ذلك وقد تقدم في رواية ابن عباس أن أهل الجاهلية لم تكن ترى بالزنا بأسا إذا لم يكن علنيا.
________________________________________
[ 309 ]
ويدل عليه أيضا مسألة الادعاء والتبني الدائر في الجاهلية فإن الادعاء لم يكن بينهم مجرد تسمية ونسبة بل كان ذلك أمرا دائرا بينهم يبتغي به أقوياؤهم تكثير العدة والقوة بالالحاق ويستندون فيه إلى زنا ارتكبوه مع الحرائر حتى ذوات الازواج منهم وأما الاماء فهم ولا سيما أقوياؤهم يعيبون الاختلاط بهن والمعاشقة والمغازلة معهن وإنما كانت شأن الاماء في ذلك أن مواليهن يقيمونهن ذلك المقام اكتسابا واسترباحا. ومن الدليل على ما ذكرناه ما ورد من قصص الالحاق في السير والآثار كقصة إلحاق معاوية بن أبي سفيان زياد بن أبيه لابيه أبي سفيان وما شهد به شاهد الامر عند ذلك وغيرها من القصص المنقولة نعم ربما يستشهد على عدم فشو الزنا بين الحرائر في الجاهلية بقول هند للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عند البيعة وهل الحرة تزني ؟ لكن الرجوع إلى ديوان حسان والتأمل فيما هجا به هندا بعد وقعتي بدر وأحد يرفع اللبس ويكشف ما هو حقيقة الامر. ثم قال بعد كلام له في تنقيح معنى الاحاديث ورفعه التدافع الواقع بينها على زعمه والعمدة عند أهل السنة في تحريمها وجوه أولها ما علمت من منافاتها لظاهر القرآن في أحكام النكاح والطلاق والعدة إن لم نقل لنصوصه وثانيها الاحاديث المصرحة بتحريمها تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة إلى أن قال وثالثها نهى عمر عنها وإشارته بتحريمها على المنبر وإقرار الصحابة له على ذلك وقد علم أنهم ما كانوا يقرون على منكر وأنهم كانوا يرجعونه إذا أخطأ. ثم اختار أن تحريمه لها لم يكن عن اجتهاد منه وإنما كان استنادا إلى التحريم الثابت بنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما يسند إليه التحريم من جهة أنه مبين للحرمة أو منفذ لها كما يقال حرم الشافعي النبيذ وأحله أبو حنيفة. أقول أما الوجه الاول والثانى فقد عرفت آنفا وفي البيان المتقدم حقيقة القول فيهما بما لا مزيد عليه وأما الوجه الثالث فتحريم عمر لها سواء كان ذلك باجتهاد منه أو باستناده إلى تحريم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما يدعيه هذا القائل وسواء كان سكوت الصحابة عنه هيبة له وخوفا من تهديده أو إقرارا له في تحريمه كما ذكره أو لعدم
________________________________________
[ 310 ]
وقوعه موقع قبول الناس منهم كما يدل عليه الروايات عن على وجابر وابن مسعود وابن عباس فتحريمه وحلفه على رجم مستحلها وفاعلها لا يؤثر في دلالة الآية عليها وعدم انثلام هذه الحلية بكتاب أو سنة فدلالة الآيات وإحكامها مما لا غبار عليه. وقد أغرب بعض الكتاب حيث ذكر أن المتعة سنة جاهلية لم تدخل في الاسلام قط حتى يحتاج إلى إخراجها منه وفي نسخها إلى كتاب أو سنة وما كان يعرفها المسلمون ولا وقعت إلا في كتب الشيعة. أقول وهذا الكلام المبنى على الصفح عما يدل عليه الكتاب والحديث والاجماع والتاريخ يتم به تحول الاقوال في هذه المسألة تحولها العجيب فقد كانت سنة قائمة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نهى عنها في عهد عمر ونفذ النهى عند عامة الناس ووجه النهى بانتساخ آية الاستمتاع بآيات اخرى أو بنهي النبي عنها وخالف في ذلك عدة من الاصحاب (1) وجم غفير ممن تبعهم من فقهاء الحجاز واليمن وغيرهم حتى مثل ابن جريح من أئمة الحديث وكان يبالغ في التمتع حتى تمتع بسبعين امرأة (2) ومثل مالك أحد أئمة الفقه الاربعة (3) هذا ثم أعرض المتأخرون من أهل التفسير عن دلالة آية الاستمتاع على المتعة وراموا تفسيرها بالنكاح الدائم وذكروا أن المتعة كانت سنة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نسخت بالحديث ثم راموا في هذه الاواخر أنها كانت من أنواع الزنا في الجاهلية رخص فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم رخصة بعد رخصة ثم نهى عنها نهيا مؤبدا إلى يوم القيامة ثم ذكر هذا القائل الاخير أنها زنا جاهلي محض لا خبر عنها في الاسلام قط إلا ما وقع في كتب الشيعة والله أعلم بما يصير إليه حال المسألة في مستقبل الزمان
________________________________________
(1) ومن عجيب الكلام ما ذكره الزجاج في هذه الآية: أن هذه آية غلط فيها قوم غلطا عظيما لجهلهم باللغة وذلك أنهم ذكروا أن قوله: " فما استمتعتم به منهن " من المتعة التي قد أجمع أهل العلم أنها حرام ثم ذكر أن معنى الاستمتاع هو النكاح وليتني أدرى أن أي فصل من كلامه يقبل الاصلاح أرميه امثال ابن عباس وابي وغيره بالجهل باللغة ؟ أم دعواه إجماع أهل العلم على الحرمة ؟ أم دعواه الخبرة باللغة وقد جعل الاستمتاع بمعنى النكاح ؟ (2) راجع ترجمة ابن جريح في تهذيب التهذيب وميزان الاعتدال. (3) راجع للحصول على هذه الاقوال الكتب الفقهية وفي تفصيل أبحاثها الفقهية والكلامية ما ألفه أساتذة الفن من القدماء والمتأخرين وخاصة أعلام العصر الحاضر من نظار باحثي الحجج. (*)
________________________________________
[ 311 ]
= بحث علمي = رابطة النسب وهي الرابطة التي تربط الفرد من الانسان بالفرد الآخر من جهة الولادة وجامع الرحم هي في الاصل رابطة طبيعية تكوينية تكون الشعوب والقبائل وتحمل الخصال المنبعثة عن الدم فتسريها حسب تسرية الدم وهي المبدأ للآداب والرسوم والسنن القوميه بما تختلط وتمتزج بسائر الاسباب والعلل المؤثرة. وللمجتمعات الانسانية المترقية وغير المترقية نوع اعتناء بها في السنن والقوانين الاجتماعية في الجملة في نكاح وإرث وغير ذلك وهم مع ذلك لا يزالون يتصرفون في هذه الرابطة النسبية توسعة وتضييقا بحسب المصالح المنبعثة عن خصوصيات مجتمعهم كما سمعت في المباحث السابقة أن غالب الامم السالفة كانوا لا يرون للمرأة قرابة رسما وكانوا يرون قرابة الدعي وبنوته وكما أن الاسلام ينفي القرابة بين الكافر المحارب والمسلم ويلحق الولد للفراش وغير ذلك. ولما اعتبر الاسلام للنساء القرابة بما أعطاهن من الشركة التامة في الاموال والحرية التامة في الارادة والعمل على ما سمعت في المباحث السابقة وصار بذلك الابن والبنت في درجة واحدة من القرابة والرحم الرسمي وكذلك الاب والام والاخ والاخت والجد والجدة والعم والعمة والخال والخالة صار عمود النسب الرسمي متنزلا من ناحية البنات كما كان يتنزل من ناحية البنين فصار ابن البنت ابنا للانسان كبنوة ابن الابن وهكذا ما نزل وكذا صار بنت الابن وبنت البنت بنتين للاإسان على حد سواء وعلى ذلك جرت الاحكام في المناكح والمواريث وقد عرفت فيما تقدم أن آية التحريم " حرمت عليكم امهاتكم وبناتكم " الآية دالة على ذلك. وقد قصر السلف من باحثينا في هذه المسألة وأشباهها (وهي مسألة اجتماعية وحقوقية) فحسبوها مسألة لغوية يستراح فيها إلى قضاء اللغة فاشتد النزاع بينهم فيما وضع له لفظ الابن مثلا فمن معمم ومن مخصص وكل ذلك من الخطاء. وقد ذكر بعضهم أن الذي تعرفه اللغة من البنوة ما يجرى من ناحية الابن وأما ابن البنت وكل ما يجري من ناحيتها فللحوق هؤلاء بآبائهم لا بجدهم الامي
________________________________________
[ 312 ]
لا يعدهم العرب أبناءا للانسان وأما قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للحسنين: ابناى هذان إمامان قاما أو قعدا وغير ذلك فهذا الاطلاق إطلاق تشريفي وأنشد في ذلك قول القائل. بنونا بنو أبنائنا وبناتنا * * بنوهن أبناء الرجال الاباعد. ونظيره قول الآخر: وإنما امهات الناس أوعية * * مستودعات وللانساب آباء أقول وقد اختلط عليه طريق البحث فحسبه بحثا لغويا زعم فيه أن العرب لو وضعت لفظ الابن لما يشمل ابن البنت تغيرت بذلك نتيجة البحث وهو غفلة عن أن الآثار والاحكام المترتبة في المجتمعات المختلفة البشرية على الابوة والبنوة ونحوهما لا تتبع اللغات وإنما تتبع نوع بنية المجتمع والسنن الدائرة فيها وربما تغيرت هذه الاحكام والآثار بتغيير السنة الاجتماعية في المجتمع مع بقاء اللغة على حالها وهذا يكشف عن كون البحث اجتماعيا أو عائدا إليه لا لفظيا لغويا. وأما ما أنشد من الشعر فليس يسوي الشعر في سوق الحقائق شيئا وليس إلا زخرفة خيالية وتزويقا وهميا حتى يستدل بكل ما تقوله شاعر لاغ ولا سيما فيما يداخله القرآن الذي هو قول فصل وليس بالهزل. وأما مسألة لحوق الابناء بآبائهم دون الاجداد من جانب الامهات فهي على أنها ليست مسألة لفظية لغوية ليست من فروع النسب حتى يستلزم لحوق الابن والبنت بالاب انقطاع نسبهما من جهة الام بل من فروع قيمومة الرجل على البيت من حيث الانفاق وتربية الاولاد ونحوها. وبالجملة فالام تنقل رابطة النسب إلى أولادها من ذكور أو إناث كما ينقلها الاب ومن آثاره البارزة في الاسلام الميراث وحرمة النكاح نعم هناك أحكام ومسائل أخر لها ملاكات خاصة كلحوق الولد والنفقة ومسألة سهم اولي القربى من السادات وكل تتبع ملاكها الخاص بها. (بحث علمي آخر) النكاح والازدواج من السنن الاجتماعية التي لم تزل دائرة في المجتمعات الانسانية
________________________________________
[ 313 ]
أي مجتمع كان على ما بيدنا من تاريخ هذا النوع إلى هذا اليوم وهو في نفسه دليل على كونه سنة فطرية. على أن من أقوى الدليل على ذلك كون الذكر والانثى مجهزين بحسب البنية الجسمانية بوسائل التناسل والتوالد كما ذكرناه مرارا والطائفتان الذكر والانثى في ابتغاء ذلك شرع سواء وإن زيدت الانثى بجهاز الارضاع والعواطف الفطرية الملائمة لتربية الاولاد. ثم إن هناك غرائز إنسانية تنعطف إلى محبة الاولاد وتقبل قضاء الطبيعة بكون الانسان باقيا ببقاء نسله وتذعن بكون المرأة سكنا للرجل وبالعكس وتحترم أصل الوراثة بعد احترامها لاصل الملك والاختصاص وتحترم لزوم تأسيس البيت. والمجتمعات التى تحترم هذه الاصول والاحكام الفطرية في الجملة لا مناص لها من الاذعان بسنة النكاح على نحو الاختصاص بوجه بمعنى أن لا يختلط الرجال والنساء على نحو يبطل الانساب وإن فرض التحفظ عن فساد الصحة العامة وقوة التوالد الذى يوجبه شيوع الزنا والفحشاء. هذه اصول معتبرة عند جميع الامم الجارية على سنة النكاح في الجملة سواء خصوا الواحد بالواحد أو جوزوا الكثير من النساء للواحد من الرجال أو بالعكس أو الكثير منهم للكثير منهن على اختلاف هذه السنن بين الامم فإنهم مع ذلك يعتبرون النكاح بخاصته التى هي نوع ملازمة ومصاحبة بين الزوجين. فالفحشاء والسفاح الذى يقطع النسل ويفسد الانساب أول ما تبغضه الفطرة الانسانية القاضية بالنكاح ولا تزال ترى لهذه المباغضة آثارا بين الامم المختلفة والمجتمعات المتنوعة حتى الامم التى تعيش على الحرية التامة في الرجال والنساء في المواصلات والمخالطات الشهوية فإنهم متوحشون من هذه الخلاعات المسترسلة وتراهم يعيشون بقوانين تحفظ لهم أحكام الانساب بوجه. والانسان مع إذعانه بسنة النكاح لا يتقيد فيه بحسب الطبع ولا يحرم على نفسه ذا قرابة أو أجنبيا ولا يجتنب الذكر من الانسان اما ولا اختا ولا بنتا ولا
________________________________________
[ 314 ]
غيرهن ولا الانثى منه أبا ولا أخا ولا ابنا بحسب الداعية الشهوية فالتاريخ والنقل يثبت نكاح الامهات و الاخوات والبنات وغيرهن في الامم العظيمة الراقية والمنحطة والاخبار تحقق الزنا الفاشى في الملل المتمدنة اليوم بين الاخوة والاخوات والآباء والبنات وغيرهن فطاغية الشهوة لا يقوم لها شئ وما كان بين هذه الامم من اجتناب نكاح الامهات والاخوات والبنات وما يلحق بهن فإنما هو سنة موروثة ربما انتهت إلى بعض الآداب والرسوم القومية. وإنك إذا قايست القوانين المشرعة في الاسلام لتنظيم أمر الازدواج بسائر القوانين والسنن الدائرة في الدنيا وتأملت فيها منصفا وجدتها أدق وأضمن لجميع شؤون الاحتياط في حفظ الانساب وسائر المصالح الانسانية الفطرية وجميع ما شرعه من الاحكام في أمر النكاح وما يلحق به يرجع إلى حفظ الانساب وسد سبيل الزنا. فالذي روعى فيه مصلحة حفظ الانساب من غير واسطة هو تحريم نكاح المحصنات من النساء وبذلك يتم إلغاء ازدواج المرأة بأكثر من زوج واحد في زمان واحد فإن فيه فساد الانساب كما أنه هو الملاك في وضع عدة الطلاق بتربص المرأة بنفسها ثلاثة قروء تحرزا من اختلاط المياه. وأما سائر أصناف النساء المحرم نكاحها وهى أربعة عشر صنفا المعدودة في آيات التحريم فإن الملاك في تحريم نكاحهن سد باب الزنا فإن الانسان وهو في المجتمع المنزلى أكثر ما يعاشر ويختلط ويسترسل ويديم في المصاحبة إنما هو مع هذه الاصناف الاربعة عشر ودوام المصاحبة ومساس الاسترسال يوجب كمال توجه النفس وركوز الفكر فيهن بما يهدى إلى تنبه الميول والعواطف الحيوانية وهيجان دواعى الشهوة وبعثها الانسان إلى ما يستلذه طبعه وتتوق له نفسه ومن يحم حول الحمى أوشك أن يقع فيه. فكان من الواجب أن لا يقتصر على مجرد تحريم الزنا في هذه الموارد فإن دوام المصاحبة وتكرر هجوم الوساوس النفسانية وورود الهم بعد الهم لا يدع للانسان مجال التحفظ على نهى واحد من الزنا. بل كان يجب أن تحرم هؤلاء تحريما مؤبدا وتقع عليه التربية الدينية حتى
________________________________________
[ 315 ]
يستقر في القلوب اليأس التام من بلوغهن والنيل منهن ويميت ذلك تعلق الشهوة بهن ويقطع منبتها ويقلعها من أصلها وهذا هو الذى نرى من كثير من المسلمين حتى في المتوغلين في الفحشاء المسترسلين في المنكرات منهم أنهم لا يخطر ببالهم الفحشاء بالمحارم وهتك ستر الامهات والبنات ولو لا ذلك لم يكد يخلو بيت من البيوت من فاحشة الزنا ونحوه وهذا كما أن الاسلام سد باب الزنا في غير المحارم بإيجاب الحجاب والمنع عن اختلاط الرجال بالنساء والنساء بالرجال ولو لا ذلك لم ينجح النهى عن الزنا في الحجز بين الانسان وبين هذا الفعال الشنيع فهناك أحد أمرين إما أن يمنع الاختلاط كما في طائفة وإما أن يستقر اليأس من النيل بالمرة بحرمة مؤبدة يتربى عليها الانسان حتى يستوى على هذه العقيدة لا يبصر مثاله فيما يبصر ولا يسمعه فيما يسمع فلا يخطر بباله أبدا. وتصديق ذلك ما نجده من حال الامم الغربيه فإن هؤلاء معاشر النصارى كانت ترى حرمة الزنا وتعد تعدد الزوجات في تلو الزنا أباحت اختلاط النساء بالرجال فلم تلبث حتى فشا الفحشاء فيها فشوا لا يكاد يوجد في الالف منهم واحد يسلم من هذا الداء ولا في ألف من رجالهم واحد يستيقن بكون من ينتسب إليه من أولاده من صلبه ثم لم يمكث هذا الداء حتى سرى إلى الرجال مع محارمهم من الاخوات والبنات والامهات ثم إلى ما بين الرجال والغلمان ثم الشبان أنفسهم ثم... وثم... آل الامر إلى أن صارت هذه الطائفة التى ما خلقها الله سبحانه إلا سكنا للبشر ونعمة يقيم بها صلب الانسانية ويطيب بها عيشة النوع مصيدة يصطاد بها في كل شأن سياسي واقتصادي واجتماعي ووسيلة للنيل إلى كل غرض يفسد حياة المجتمع والفرد وعادت الحياة الانسانية امنية تخيلية ولعبا ولهوا بتمام معنى الكلمة وقد اتسع الخرق على الراتق. هذا هو الذى بنى عليه الاسلام مسألة تحريم المحرمات من المبهمات وغيرها في باب النكاح إلا المحصنات من النساء على ما عرفت. وتأثير هذا الحكم في المنع عن فشو الزنا وتسربه في المجتمع المنزلي كتأثير حكم الحجاب في المنع عن ظهور الزنا وسريان الفساد في المجتمع المدني على ما عرفت. وقد تقدم أن قوله تعالى وربائبكم اللاتى في حجوركم الآية لا تخلو عن إشارة إلى هذه الحكمة ويمكن أن تكون الاشارة إليه بقوله تعالى في آخر آيات التحريم
________________________________________
[ 316 ]
يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسان ضعيفا: النساء - 28 فإن تحريم هذه الاصناف الاربعة عشر من الله سبحانه تحريما باتا يرفع عن كاهل الانسان ثقل الصبر على هواهن والميل إليهن والنيل منهن على إمكان من الامر وقد خلق الانسان ضعيفا في قبال الميول النفسانية والدواعي الشهوانية وقد قال تعالى إن كيدكن عظيم: يوسف - 28 فإن من أمر الصبر أن يعيش الانسان مع واحدة أو أكثر من النساء الاجنبيات ويصاحبهن في الخلوة والجلوة ويتصل بهن ليلا ونهارا ويمتلئ سمعه وبصره من لطيف إشاراتهن وحلو حركاتهن حينا بعد حين ثم يصبر على ما يوسوسه نفسه في أمرهن ولا يجيبها في ما تتوق إليه والحاجة إحدى الحاجتين الغذاء والنكاح وما سواهما فضل يعود إليهما وكأنه هو الذى أشار إليه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: من تزوج أحرز نصف دينه - فليتق الله في النصف الآخر (1) = يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما (29) - ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا (30)) = بيان = في الآية شبه اتصال بما سبقتها حيث إنها تتضمن النهى عن أكل المال بالباطل وكانت الآيات السابقة متضمنة للنهى عن أكل مهور النساء بالعضل والتعدى ففي الآية انتقال من الخصوص إلى العموم. قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم إلى قوله منكم
________________________________________
(1) مروية في نكاح الوسائل
________________________________________
[ 317 ]
الاكل معروف وهو إنفاد ما يمكن أن يتغذى به بالتقامه وبلعه مثلا ولما فيه من معنى التسلط والانفاد يقال أكلت النار الحطب شبه فيه إعدام النار الحطب بإحراقه بإنفاد الآكل الغذاء بالتناول والبلع ويقال أيضا أكل فلان المال أي تصرف فيه بالتسلط عليه وذلك بعناية أن العمدة في تصرف الانسان في الاشياء هو التغذى بها لانه أشد ما يحتاج إليه الانسان في بقائه وأمسه منه ولذلك سمى التصرف أكلا لكن لا كل تصرف بل التصرف عن تسلط يقطع تسلط الغير على المال بالتملك ونحوه كأنه ينفده ببسط سلطته عليه والتصرف فيه كما ينفد الآكل الغذاء بالاكل. والباطل من الافعال ما لا يشتمل على غرض صحيح عقلائي والتجارة هي التصرف في رأس المال طلبا للربح على ما ذكره الراغب في مفرداته قال وليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ انتهى فتنطبق على المعاملة بالبيع والشرى. وفي تقييد قوله لا تأكلوا أموالكم بقوله بينكم الدال على نوع تجمع منهم على المال ووقوعه في وسطهم إشعارا أو دلالة بكون الاكل المنهى عنه بنحو إدارته فيما بينهم ونقله من واحد إلى آخر بالتعاور والتداول فتفيد الجملة أعنى قوله لا تأكلوا أموالكم بينكم بعد تقييدها بقوله بالباطل النهى عن المعاملات الناقلة التى لا تسوق المجتمع إلى سعادته ونجاحه بل تضرها وتجرها إلى الفساد والهلاك وهى المعاملات الباطلة في نظر الدين كالربا والقمار والبيوع الغررية كالبيع بالحصاة والنواة وما أشبه ذلك. وعلى هذا فالاستثناء الواقع في قوله إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم استثناء منقطع جئ به لدفع الدخل فإنه لما نهى عن أكل المال بالباطل ونوع المعاملات الدائرة في المجتمع الفاسد التى يتحقق بها النقل والانتقال المالى كالربويات والغرريات والقمار وأضرابها باطلة بنظر الشرع كان من الجائز أن يتوهم أن ذلك يوجب انهدام أركان المجتمع وتلاشى أجزائها وفيه هلاك الناس فاجيب عن ذلك بذكر نوع معاملة في وسعها أن تنظم شتات المجتمع وتقيم صلبه وتحفظه على استقامته وهى التجارة عن تراض ومعاملة صحيحة رافعة لحاجة المجتمع وذلك نظير قوله تعالى يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم: الشعراء - 89 فإنه لما نفى النفع عن المال والبنين يوم القيامة أمكن أن يتوهم أن لا نجاح يومئذ ولا فلاح فإن معظم ما ينتفع به الانسان إنما هو المال والبنون فإذا سقطا عن التأثير لم يبق إلا اليأس والخيبة فاجيب أن هناك
________________________________________
[ 318 ]
أمرا آخر نافعا كل النفع وإن لم يكن من جنس المال والبنين وهو القلب السليم. وهذا الذي ذكرناه من انقطاع الاستثناء هو الاوفق بسياق الآية وكون قوله بالباطل قيدا أصليا في الكلام نظير قوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس الآية: البقرة - 188 وعلى هذا لا تخصص الآية بسائر المعاملات الصحيحة والامور المشروعة غير التجارة مما يوجب التملك ويبيح التصرف في المال كالهبة والصلح والجعالة وكالامهار والارث ونحوها. وربما يقال إن الاستثناء متصل وقوله بالباطل قيد توضيحي جئ به لبيان حال المستثنى منه بعد خروج المستثنى وتعلق النهي والتقدير لا تأكلوا أموالكم بينكم إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم فإنكم إن أكلتموها من غير طريق التجارة كان أكلا بالباطل منهيا عنه كقولك لا تضرب اليتيم ظلما إلا تأديبا وهذا النحو من الاستعمال وإن كان جائزا معروفا عند أهل اللسان إلا أنك قد عرفت أن الاوفق لسياق الآية هو انقطاع الاستثناء. وربما قيل إن المراد بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله وبالتجارة صرفه فيما يرضاه وربما قيل إن الآية كانت تنهى عن مطلق أكل مال الغير بغير عوض وإنه كان الرجل منهم يتحرج عن أن يأكل عند أحد من الناس بعدما نزلت هذه الآية حتى نسخ ذلك بقوله في سورة النور ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم إلى قوله أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا: النور - 61 وقد عرفت أن الآية بمعزل عن الدلالة على أمثال هذه المعاني. ومن غريب التفسير ما رام به بعضهم توجيه اتصال الاستثناء مع أخذ قوله بالباطل قيدا احترازيا فقال ما حاصله إن المراد بالباطل أكل المال بغير عوض يعادله فالجمله المستثنى منها تدل على تحريم أخذ المال من الغير بالباطل ومن غير عوض ثم استثنى من ذلك التجارة مع كون غالب مصاديقها غير خالية عن الباطل فإن تقدير العوض بالقسطاس المستقيم بحيث يعادل المعوض عنه في القيمة حقيقة متعسر جدا لو لم يكن متعذرا. فالمراد بالاستثناء التسامح بما يكون فيه أحد العوضين أكبر من الآخر وما يكون سبب التعاوض فيه براعة التاجر في تزيين سلعته وترويجها بزخرف القول من غير
________________________________________
[ 319 ]
غش ولا خداع ولا تغرير كما يقع ذلك كثيرا إلى غير ذلك من الاسباب. وكل ذلك من باطل التجارة أباحته الشريعة مسامحة وتسهيلا لاهلها ولو لم يجوز ذلك في الدين بالاستثناء لما رغب أحد من أهله في التجارة واختل نظام المجتمع الديني انتهى ملخصا. وفساده ظاهر مما قدمناه فإن الباطل على ما يعرفه أهل اللغة ما لا يترتب عليه أثره المطلوب منه وأثر البيع والتجارة تبدل المالين وتغير محل الملكين لرفع حاجة كل واحد من البيعين إلى مال الآخر بأن يحصل كل منهما على ما يرغب فيه وينال إربه بالمعادلة وذلك كما يحصل بالتعادل في القيمتين كذلك يحصل بمقابلة القليل الكثير إذا انضم إلى القليل شئ من رغبة الطالب أو رهبته أو مصلحة اخرى يعادل بانضمامها الكثير والكاشف عن جميع ذلك وقوع الرضا من الطرفين ومع وقوع التراضي لا تعد المبادلة باطلة البتة. على أن المستأنس باسلوب القرآن الكريم في بياناته لا يرتاب في أن من المحال أن يعد القرآن أمرا من الامور باطلا ثم يأمر به ويهدي إليه وقد قال تعالى في وصفه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم: الاحقاف - 30 وكيف يهدي إلى الحق ما يهدي إلى الباطل ؟ على أن لازم هذا التوجيه أن يهتدي الانسان اهتداء حقا فطريا إلى حاجته إلى المبادلة في الاموال ثم يهتدي اهتداء حقا فطريا إلى المبادلة بالموازنة ثم لا يكون ما يهتدي إليه وافيا لرفع حاجته حقا حتى ينضم إليه شئ من الباطل وكيف يمكن أن تهتدي الفطرة إلى أمر لا يكفي في رفع حاجتها ولا يفي إلا ببعض شأنها ؟ وكيف يمكن أن تهتدي الفطرة إلى باطل وهل الفارق بين الحق والباطل في الاعمال إلا اهتداء الفطرة وعدم اهتدائها ؟ فلا مفر لمن يجعل الاستثناء متصلا من أن يجعل قوله بالباطل قيدا توضيحيا. وأعجب من هذا التوجيه ما نقل عن بعضهم أن النكتة في هذا الاستثناء المنقطع هي الاشارة إلى أن جميع ما في الدنيا من التجارة وما في معناها من قبيل الباطل لانه لا ثبات له ولا بقاء فينبغي أن لا يشتغل به العاقل عن الاستعداد للدار الآخرة التى هي خير وأبقى انتهى.
________________________________________
[ 320 ]
وهو خطأ فإنه على تقدير صحته نكتة للاستثناء المتصل لا الاستثناء المنقطع على أن هذه المعنويات من الحقائق إنما يصح أن يذكر لمثل قوله تعالى وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهى الحيوان: العنكبوت - 64 وقوله تعالى ما عندكم ينفد وما عند الله باق: النحل - 96 وقوله تعالى قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة: الجمعة - 11 وأما ما نحن فيه فجريان هذه النكتة توجب تشريع الباطل ويجل القرآن عن الترخيص في الباطل بأي وجه كان. قوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم ظاهر الجملة أنها نهى عن قتل الانسان نفسه لكن مقارنتها قوله لا تأكلوا أموالكم بينكم حيث إن ظاهره أخذ مجموع المؤمنين كنفس واحدة لها مال يجب أن تأكلها من غير طريق الباطل ربما أشعرت أو دلت على أن المراد بالانفس جميع نفوس المجتمع الدينى المأخوذة كنفس واحدة نفس كل بعض هي نفس الآخر فيكون في مثل هذا المجتمع نفس الانسان نفسه ونفس غيره أيضا نفسه فلو قتل نفسه أو غيره فقد قتل نفسه وبهذه العناية تكون الجملة أعنى قوله ولا تقتلوا أنفسكم مطلقة تشمل الانتحار الذى هو قتل الانسان نفسه وقتل الانسان غيره من المؤمنين. وربما أمكن أن يستفاد من ذيل الآية أعنى قوله إن الله كان بكم رحيما أن المراد من قتل النفس المنهى عنه ما يشمل إلقاء الانسان نفسه في مخاطرة القتل والتسبيب إلى هلاك نفسه المؤدى إلى قتله وذلك أن تعليل النهى عن قتل النفس بالرحمة لهذا المعنى أوفق وأنسب كما لا يخفى ويزيد على هذا معنى الآية عموما واتساعا وهذه الملائمة بعينها تؤيد كون قوله إن الله كان بكم رحيما تعليلا لقوله ولا تقتلوا أنفسكم فقط. قوله تعالى ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما الآية العدوان مطلق التجاوز سواء كان جائزا ممدوحا أو محظورا مذموما قال تعالى فلا عدوان إلا على الظالمين: البقرة - 193 وقال تعالى وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان: المائدة - 2 فهو أعم موردا من الظلم ومعناه في الآية تعدى الحدود التى حدها الله تعالى والاصلاء بالنار الاحراق بها. وفي الآية من حيث اشتمالها على قوله ذلك التفات عن خطاب المؤمنين إلى
________________________________________
[ 321 ]
خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلويحا إلى أن من فعل ذلك منهم وهم نفس واحدة والنفس الواحدة لا ينبغى لها أن تريد هلاك نفسها فليس من المؤمنين فلا يخاطب في مجازاته المؤمنون وإنما يخاطب فيها الرسول المخاطب في شأن المؤمنين وغيرهم ولذلك بنى الكلام على العموم فقيل ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه ولم يقل ومن يفعل ذلك منكم. وذيل الآية أعنى قوله وكان ذلك على الله يسيرا يؤيد أن يكون المشار إليه بقوله ذلك هو النهى عن قتل الانفس بناء على كون قوله إن الله كان بكم رحيما ناظرا إلى تعليل النهى عن القتل فقط لما من المناسبة التامة بين الذيلين فإن الظاهر أن المعنى هو أن الله تعالى إنما ينهاكم عن قتل أنفسكم رحمة بكم ورأفة وإلا فمجازاته لمن قتل النفس بإصلائه النار عليه يسير غير عسير ومع ذلك فعود التعليل وكذا التهديد إلى مجموع الفقرتين في الآية الاولى أعنى النهى عن أكل المال بالباطل والنهى عن قتل النفس لا ضير فيه. وأما قول بعضهم إن التعليل والتهديد أو التهديد فقط راجع إلى جميع ما ذكر من المناهى من أول السورة إلى هذه الآية وكذا قول آخرين إن ذلك إشارة إلى جميع ما ذكر من المناهى من قوله يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها الآية: آية - 19 من السورة إلى هنا لعدم ذكر جزاء للمناهى الواقعة في هذه الآيات فمما لا دليل على اعتباره. وتغيير السياق في قوله فسوف نصليه نارا بالخصوص عن سياق الغيبة الواقع في قوله إن الله كان بكم رحيما إلى سياق التكلم تابع للالتفات الواقع في قوله ذلك عن خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول ثم الرجوع إلى الغيبة في قوله وكان ذلك على الله يسيرا اشعار بالتعليل أي وذلك عليه يسير لانه هو الله عز اسمه. = بحث روائي = في المجمع: في قوله تعالى بالباطل - قولان أحدهما أنه الربا والقمار والبخس والظلم - قال: وهو المروى عن الباقر عليه السلام
________________________________________
[ 322 ]
وفي نهج البيان عن الباقر والصادق عليه السلام: أنه القمار والسحت والربا والايمان وفي تفسير العياشي عن أسباط بن سالم قال: كنت عند أبى عبد الله عليه السلام فجاءه رجل - فقال له أخبرني عن قول الله - يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل - قال عنى بذلك القمار - وأما قوله ولا تقتلوا أنفسكم - عنى بذلك الرجل من المسلمين يشد على المشركين وحده - يجئ في منازلهم فيقتل فنهاهم الله عن ذلك أقول الآية عامة في الاكل بالباطل وذكر القمار وما أشبهه من قبيل عد المصاديق وكذا تفسير قتل النفس بما ذكر في الرواية تعميم للآية لا تخصيص بما ذكر. وفيه عن إسحاق بن عبد الله بن محمد بن علي بن الحسين قال حدثنى الحسن بن زيد عن أبيه عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الجبائر تكون على الكسير - كيف يتوضأ صاحبها وكيف يغتسل إذا اجنب - قال يجزيه المسح بالماء عليها في الجنابة والوضوء - قلت فإن كان في برد يخاف على نفسه - إذا أفرغ الماء على جسده فقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما وفي الفقيه قال الصادق عليه السلام: من قتل نفسه متعمدا فهو في نار جهنم خالدا فيها - قال الله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما - ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما - فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا أقول والروايات كما ترى تعمم معنى قوله ولا تقتلوا أنفسكم الآية كما استفدناه فيما تقدم وفي معنى ما تقدم روايات اخر. وفي الدر المنثور أخرج ابن ماجة وابن المنذر عن ابن سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما البيع عن تراض وفيه أخرج ابن جرير عن ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم باع رجلا ثم قال له - اختر فقال قد اخترت فقال هكذا البيع وفيه أخرج البخاري والترمذي والنسائي عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما للآخر اختر اقول قوله البيعان بالخيار ما لم يتفرقا مروى من طرق الشيعة أيضا وقوله أو يقول أحدهما للآخر اختر لتحقيق معنى التراضي
________________________________________
[ 323 ]
= إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما (31) = بيان = الآية غير عادمة الارتباط بما قبلها فإن فيما قبلها ذكرا من المعاصي الكبيرة. قوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه إلى قوله سيئاتكم الاجتناب أصله من الجنب وهو الجارحة بنى منها الفعل على الاستعاره فإن الانسان إذا أراد شيئا استقبله بوجهه ومقاديم بدنه وإذا أعرض عنه وتركه وليه بجنبه فاجتنبه فالاجتناب هو الترك قال الراغب وهو أبلغ من الترك انتهى وليس إلا لانه مبنى على الاستعارة ومن هذا الباب الجانب والجنيبة والاجنبى. والتكفير من الكفر وهو الستر وقد شاع استعماله في القرآن في العفو عن السيئات والكبائر جمع كبيرة وصف وضع موضع الموصوف كالمعاصي ونحوها والكبر معنى إضافي لا يتحقق إلا بالقياس إلى صغر ومن هنا كان المستفاد من قوله كبائر ما تنهون عنه أن هناك من المعاصي المنهى عنها ما هي صغيرة فيتبين من الآية اولا أن المعاصي قسمان صغيرة وكبيرة وثانيا أن السيئات في الآية هي الصغائر لما فيها من دلالة المقابلة على ذلك. نعم العصيان والتمرد كيفما كان كبير وأمر عظيم بالنظر إلى ضعف المخلوق المربوب في جنب الله عظم سلطانه غير أن القياس في هذا الاعتبار إنما هو بين الانسان وربه لا بين معصية ومعصية فلا منافاة بين كون كل معصية كبيرة باعتبار وبين كون بعض المعاصي صغيرة باعتبار آخر. وكبر المعصية إنما يتحقق بأهمية النهى عنها إذا قيس إلى النهى المتعلق بغيرها ولا يخلو قوله تعالى ما تنهون عنه من إشعار أو دلالة على ذلك والدليل على أهمية النهى تشديد الخطاب بإصرار فيه أو تهديد بعذاب من النار ونحو ذلك.
________________________________________
[ 324 ]
قوله تعالى وندخلكم مدخلا كريما المدخل بضم الميم وفتح الخاء اسم مكان والمراد منه الجنة أو مقام القرب من الله سبحانه وإن كان مرجعهما واحدا. = كلام في الكبائر والصغائر وتكفير السيئات = لا ريب في دلالة قوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم الآية على انقسام المعاصي إلى كبائر وصغائر سميت في الآية بالسيئات ونظيرها في الدلالة قوله تعالى ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها الآية: الكهف - 49 إذ إشفاقهم مما في الكتاب يدل على أن المراد بالصغيرة والكبيرة صغائر الذنوب وكبائرها. وأما السيئة فهى بحسب ما تعطيه مادة اللفظ وهيئته هي الحادثة أو العمل الذى يحمل المساءة ولذلك ربما يطلق لفظها على الامور والمصائب التى يسوء الانسان وقوعها كقوله تعالى وما أصابك من سيئة فمن نفسك الآية: النساء - 79 وقوله تعالى ويستعجلونك بالسيئة الآية: الرعد - 6 وربما اطلق على نتائج المعاصي وآثارها الخارجية الدنيوية والاخروية كقوله تعالى فأصابهم سيئات ما عملوا الآية: النحل - 34 وقوله تعالى سيصيبهم سيئات ما كسبوا: الزمر - 51 وهذا بحسب الحقيقة يرجع إلى المعنى السابق وربما اطلق على نفس المعصية كقوله تعالى وجزاء سيئة سيئة مثلها الآية: الشورى - 40 والسيئة بمعنى المعصية ربما اطلقت على مطلق المعاصي أعم من الصغائر والكبائر كقوله تعالى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم و مماتهم ساء ما يحكمون: الجاثية - 21 إلى غير ذلك من الآيات. وربما اطلقت على الصغائر خاصة كقوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم الآية إذ مع فرض اجتناب الكبائر لا تبقى للسيئات إلا الصغائر. و بالجملة دلالة الآية على انقسام المعاصي إلى الصغائر والكبائر بحسب القياس الدائر بين المعاصي أنفسها مما لا ينبغى أن يرتاب فيه. وكذا لا ريب أن الآية في مقام الامتنان وهى تقرع أسماع المؤمنين بعناية لطيفة
________________________________________
[ 325 ]
إلهية أنهم إن اجتنبوا البعض من المعاصي كفر عنهم البعض الآخر فليس إغراء على ارتكاب المعاصي الصغار فإن ذلك لا معنى له لان الآية تدعو إلى ترك الكبائر بلا شك وارتكاب الصغيرة من جهة أنها صغيرة لا يعبأ بها ويتهاون في أمرها يعود مصداقا من مصاديق الطغيان والاستهانة بأمر الله سبحانه وهذا من أكبر الكبائر بل الآية تعد تكفير السيئات من جهة أنها سيئات لا يخلو الانسان المخلوق على الضعف المبنى على الجهالة من ارتكابها بغلبة الجهل والهوى عليه فمساق هذه الآية مساق الآية الداعية إلى التوبة التى تعد غفران الذنوب كقوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم الآية: الزمر - 54 فكما لا يصح أن يقال هناك إن الآية تغرى إلى المعصية بفتح باب التوبة وتطييب النفوس بذلك فكذا ههنا بل أمثال هذه الخطابات إحياء للقلوب الآئسة بالرجاء. ومن هنا يعلم أن الآية لا تمنع عن معرفة الكبائر بمعنى أن يكون المراد بها اتقاء جميع المعاصي مخافة الوقوع في الكبائر والابتلاء بارتكابها فإن ذلك معنى بعيد عن مساق الآية بل المستفاد من الآية أن المخاطبين هم يعرفون الكبائر ويميزون هؤلاء الموبقات من النهى المتعلق بها ولا أقل من أن يقال إن الآية تدعو إلى معرفة الكبائر حتى يهتم المكلفون في الاتقاء منها كل الاهتمام من غير تهاون في جنب غيرها فإن ذلك التهاون كما عرفت إحدى الكبائر الموبقة. وذلك أن الانسان إذا عرف الكبائر وميزها وشخصها عرف أنها حرمات لا يغمض من هتكها بالتكفير إلا عن ندامة قاطعة وتوبة نصوح ونفس هذا العلم مما يوجب تنبه الانسان وانصرافه عن ارتكابها. وأما الشفاعة فإنها وإن كانت حقه إلا أنك قد عرفت فيما تقدم من مباحثها أنها لا تنفع من استهان بأمر الله سبحانه واستهزأ بالتوبة والندامة واقتراف المعصية بالاعتماد على الشفاعة تساهل وتهاون في أمر الله سبحانه وهو من الكبائر الموبقة القاطعة لسبيل الشفاعة قطعا. ومن هنا يتضح معنى ما تقدم أن كبر المعصية إنما يعلم من شدة النهى الواقع عنها بإصرار أو تهديد بالعذاب كما تقدم


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page