• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 226 الي 250


[ 226 ]
وحرمان ضعفاء الاولاد أو بقاؤهم تحت الولاية والقيمومة قريبا مما تقدم من سنة الروم واليونان. وأما الفارس فإنهم كانوا يرون نكاح المحارم وتعدد الزوجات كما تقدم ويرون التبني وكانت أحب النساء إلى الزوج ربما قامت مقام الابن بالادعاء وترث كما يرث الابن والدعي بالسوية وكانت تحرم بقية الزوجات والبنت المزوجة لا ترث حذرا من انتقال المال إلى خارج البيت والتى لم تزوج بعد ترث نصف سهم الابن فكانت الزوجات غير الكبيرة والبنت المزوجة محرومات وكانت الزوجة الكبيرة والابن والدعي والبنت غير المزوجة بعد مرزوقين. وأما العرب فقد كانوا يحرمون النساء مطلقا والصغار من البنين ويمتعون أرشد الاولاد ممن يركب الفرس ويدفع عن الحرمة فإن لم يكن فالعصبة. هذا حال الدنيا يوم نزلت آيات الارث ذكرها وتعرض لها كثير من تواريخ آداب الملل ورسومهم والرحلات وكتب الحقوق وأمثالها من أراد الاطلاع على تفاصيل القول أمكنه أن يراجعها. وقد تلخص من جميع ما مر أن السنة كانت قد استقرت في الدنيا يومئذ على حرمان النساء بعنوان أنهن زوجة أو ام أو بنت أو اخت إلا بعناوين اخرى مختلفة وعلى حرمان الصغار والايتام إلا في بعض الموارد تحت عنوان الولاية والقيمومة الدائمة غير المنقطعة. 4 ما ذا صنع الاسلام والظرف هذا الظرف قد تقدم مرارا أن الاسلام يرى أن الاساس الحق للاحكام والقوانين الانسانية هو الفطرة التى فطر الناس عليها ولا تبديل لخلق الله وقد بنى الارث على أساس الرحم التى هي من الفطرة والخلقة الثابتة وقد ألغى إرث الادعياء حيث يقول تعالى وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدى السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم: الاحزاب - 5. ثم أخرج الوصية من تحت عنوان الارث وأفردها عنوانا مستقلا يعطى به ويؤخذ وإن كانوا يسمون التملك من جهة الايصاء إرثا وليس ذلك مجرد اختلاف في التسمية
________________________________________
[ 227 ]
فإن لكل من الوصية والارث ملاكا آخر وأصلا فطريا مستقلا فملاك الارث هو الرحم ولا نفوذ لارادة المتوفى فيها أصلا وملاك الوصية نفوذ إرادة المتوفى بعد وفاته وإن شئت قل حين ما يوصى في ما يملكه في حياته واحترام مشيته فلو ادخلت الوصية في الارث لم يكن ذلك إلا مجرد تسمية. وأما ما كان يسميها الناس كالروم القديم مثلا إرثا فلم يكن لاعتبارهم في سنة الارث أحد الامرين إما الرحم وإما احترام إرادة الميت بل حقيقة الامر أنهم كانوا يبنون الارث على احترام الارادة وهى إرادة الميت بقاء المال الموروث في البيت الذى كان فيه تحت يد رئيس البيت وربه أو إرادته انتقاله بعد الموت إلى من يحبه الميت ويشفق عليه فكان الارث على أي حال يبتنى على احترام الارادة ولو كان مبتنيا على أصل الرحم واشتراك الدم لرزق من المال كثير من المحرومين منه وحرم كثير من المرزوقين. ثم إنه بعد ذلك عمد إلى الارث وعنده في ذلك أصلان جوهريان أصل الرحم وهو العنصر المشترك بين الانسان وأقربائه لا يختلف فيه الذكور والاناث والكبار والصغار حتى الاجنة في بطون أمهاتهم وإن كان مختلف الاثر في التقدم والتأخر ومنع البعض للبعض من جهة قوته وضعفه بالقرب من الانسان والبعد منه وانتفاء الوسائط وتحققها قليلا أو كثيرا كالولد والاخ والعم وهذا الاصل يقضى باستحقاق أصل الارث مع حفظ الطبقات المتقدمة والمتأخرة. وأصل اختلاف الذكر والانثى في نحو وجود القرائح الناشئة عن الاختلاف في تجهيزهما بالتعقل والاحساسات فالرجل بحسب طبعه إنسان التعقل كما أن المرأة مظهر العواطف والاحساسات اللطيفة الرقيقة وهذا الفرق مؤثر في حياتيهما التأثير البارز في تدبير المال المملوك وصرفه في الحوائج وهذا الاصل هو الموجب للاختلاف في السهام في الرجل والمرأة وإن وقعا في طبقة واحدة كالابن والبنت والاخ والاخت في الجملة على ما سنبينه. واستنتج من الاصل الاول ترتب الطبقات بحسب القرب والبعد من الميت لفقدان الوسائط وقلتها وكثرتها فالطبقة الاولى هي التى تتقرب من الميت بلا واسطة وهى الابن والبنت والاب والام والثانية الاخ والاخت والجد والجدة وهى تتقرب من
________________________________________
[ 228 ]
الميت بواسطة واحدة وهى الاب أو الام أو هما معا والثالثة العم والعمة والخال والخالة وهى تتقرب إلى الميت بواسطتين وهما أب الميت أو امه وجده أو جدته وعلى هذا القياس والاولاد في كل طبقة يقومون مقام آبائهم ويمنعون الطبقة اللاحقة وروعي حال الزوجين لاختلاط دمائهما بالزواج مع جميع الطبقات فلا يمنعهما طبقة ولا يمنعان طبقة. ثم استنتج من الاصل الثاني اختلاف الذكر والانثى في غير الام والكلالة المتقربة بالام بأن للذكر مثل حظ الانثيين. والسهام الستة المفروضة في الاسلام النصف والثلثان والثلث والربع والسدس والثمن وإن اختلفت وكذا المال الذى ينتهى إلى أحد الوراث وإن تخلف عن فريضته غالبا بالرد أو النقص الوارد وكذا الاب والام وكلالة الام وإن تخلفت فرائضهم عن قاعدة للذكر مثل حظ الانثيين ولذلك يعسر البحث الكلى الجامع في باب الارث إلا أن الجميع بحسب اعتبار النوع في تخليف السابق للاحق يرجع إلى استخلاف أحد الزوجين للآخر واستخلاف الطبقة المولدة وهم الآباء والامهات للطبقة المتولدة وهم الاولاد والفريضة الاسلامية في كل من القبيلين أعنى الازواج والاولاد للذكر مثل حظ الانثيين. وينتج هذا النظر الكلى أن الاسلام يرى اقتسام الثروة الموجودة في الدنيا بالثلث والثلثين فللانثى ثلث وللذكر ثلثان هذا من حيث التملك لكنه لا يرى نظير هذا الرأي في الصرف للحاجة فإنه يرى نفقة الزوجة على الزوج ويأمر بالعدل المقتضى للتساوي في المصرف ويعطى للمرأة استقلال الارادة والعمل فيما تملكه من المال لا مداخلة للرجل فيه وهذه الجهات الثلاث تنتج أن للمرأة أن تتصرف في ثلثى ثروة الدنيا الثلث الذى تملكها ونصف الثلثين اللذين يملكهما الرجل وليس في قبال تصرف الرجل إلا الثلث. 5 - علام استقر حال النساء واليتامى في الاسلام أما اليتامى فهم يرثون كالرجال الاقوياء ويربون وينمى أموالهم تحت ولاية الاولياء كالاب والجد أو عامة المؤمنين أو الحكومة الاسلامية حتى إذا بلغوا النكاح وأونس منهم الرشد دفعت إليهم أموالهم واستووا على مستوى الحياة المستقلة وهذا أعدل السنن المتصورة في حقهم.
________________________________________
[ 229 ]
وأما النساء فإنهن بحسب النظر العام يملكن ثلث ثروة الدنيا ويتصرفن في ثلثيها بما تقدم من البيان وهن حرات مستقلات فيما يملكن لا يدخلن تحت قيمومة دائمة ولا موقتة ولا جناح على الرجال فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف. فالمرأة في الاسلام ذات شخصية تساوى شخصية الرجل في حرية الارادة والعمل من جميع الجهات ولا تفارق حالها حال الرجل إلا في ما تقتضيه صفتها الروحية الخاصة المخالفة لصفة الرجل الروحية وهى أن لها حياة إحساسية وحياة الرجل تعقلية فاعتبر للرجل زيادة في الملك العام ليفوق تدبير التعقل في الدنيا على تدبير الاحساس والعاطفة وتدورك ما ورد عليها من النقص باعتبار غلبتها في التصرف وشرعت عليها وجوب إطاعة الزوج في أمر المباشرة وتدورك ذلك بالصداق وحرمت القضاء والحكومة والمباشرة للتقال لكونها امورا يجب بناؤها على التعقل دون الاحساس وتدورك ذلك بوجوب حفظ حماهن والدفاع عن حريمهن على الرجال ووضع على عاتقهم أثقال طلب الرزق والانفاق عليها وعلى الاولاد وعلى الوالدين ولها حق حضانة الاولاد من غير إيجاب وقد عدل جميع هذه الاحكام بامور اخرى دعين إليها كالتحجب وقلة مخالطة الرجال وتدبير المنزل وتربية الاولاد. وقد أوضح معنى امتناع الاسلام عن إعطاء التدابير العامة الاجتماعية كتدبير الدفاع والقضاء والحكومة للعاطفة والاحساس ووضع زمامها في يدها النتائج المرة التى يذوقها المجتمع البشري إثر غلبة الاحساس على التعقل في عصرنا الحاضر وأنت بالتأمل في الحروب العالمية الكبرى التى هي من هدايا المدنية الحاضرة وفي الاوضاع العامة الحاكمة على الدنيا وعرض هذه الحوادث على العقل والاحساس العاطفي تقف على تشخيص ما منه الاغراء وما إليه النصح والله الهادى. على أن الملل المتمدنة من الغربيين لم يألوا جهدا ولم يقصروا حرصا منذ مئات السنين في تربية البنات مع الابناء في صف واحد وإخراج ما فيهن من استعداد الكمال من القوة إلى الفعل وأنت مع ذلك إذا نظرت في فهرس نوابغ السياسة ورجال القضاء والتقنين وزعماء الحروب وقوادها وهي الخلال الثلاث المذكورة الحكومة القضاء القتال لم تجد فيه شيئا يعتد به من أسماء النساء ولا عددا يقبل المقايسة إلى المئات والالوف من الرجال وهذا في نفسه أصدق شاهد على أن طباع النساء لا تقبل الرشد
________________________________________
[ 230 ]
والنماء في هذه الخلال التى لا حكومة فيها بحسب الطبع إلا للتعقل وكلما زاد فيها دبيب العواطف زادت خيبة وخسرانا. وهذا وأمثاله من أقطع الاجوبة للنظرية المشهورة القائلة أن السبب الوحيد في تأخر النساء عن الرجال في المجتمع الانساني هو ضعف التربية الصالحة فيهن منذ أقدم عهود الانسانية ولو دامت عليهن التربية الصالحة الجيدة مع ما فيهن من الاحساسات والعواطف الرقيقة لحقن الرجال أو تقدمن عليهم في جهات الكمال. وهذا الاستدلال أشبه بالاستدلال بما ينتج نقيض المطلوب فإن اختصاصهن بالعواطف الرقيقة أو زيادتها فيهن هو الموجب لتأخرهن فيما يحتاج من الامور إلى قوة التعقل وتسلطه على العواطف الروحية الرقيقة كالحكومة والقضاء وتقدم من يزيد عليهن في ذلك وهم الرجال فإن التجارب القطعي يفيد أن من اختص بقوة صفة من الصفات الروحية فإنما تنجح تربيته فيما يناسبها من المقاصد والمآرب ولازمه أن تنجح تربية الرجال في أمثال الحكومة والقضاء ويمتازوا عنهن في نيل الكمال فيها وأن تنجح تربيتهن فيما يناسب العواطف الرقيقة ويرتبط بها من الامور كبعض شعب صناعة الطب والتصوير والموسيقى والنسج والطبخ وتربية الاطفال وتمريض المرضى وأبواب الزينة ونحو ذلك ويتساوى القبيلان فيما سوى ذلك. على أن تأخرهن فيما ذكر من الامور لو كان مستندا إلى الاتفاق والصدفة كما ذكر لانتقض في بعض هذه الازمنة الطويلة التى عاش فيها المجتمع الانساني وقد خمنوها بملايين من السنين كما أن تأخر الرجال فيما يختص من الامور المختصة بالنساء كذلك ولو صح لنا أن نعد الامور اللازمة للنوع غير المنفكة عن مجتمعهم وخاصة إذا ناسبت امورا داخلية في البنية الانسانية من الاتفاقيات لم يسع لنا أن نحصل على خلة طبيعية فطرية من خلال الانسانية العامة كميل طباعه إلى المدنية والحضارة وحبه للعلم وبحثه عن أسرار الحوادث ونحو ذلك فإن هذه صفات لازمة لهذا النوع وفي بنية أفراده ما يناسبها من القرائح نعدها لذلك صفات فطرية نظير ما نعد تقدم النساء في الامور الكمالية المستظرفة وتأخرهن في الامور التعقلية والامور الهائلة والصعبة الشديدة من مقتضى قرائحهن وكذلك تقدم الرجال وتأخرهم في عكس ذلك. فلا يبقى بعد ذلك كله إلا انقباضهن من نسبة كمال التعقل إلى الرجال وكمال
________________________________________
[ 231 ]
الاحساس والتعطف إليهن وليس في محله فإن التعقل والاحساس في نظر الاسلام موهبتان إلهيتان مودعتان في بنية الانسان لمأرب إلهية حقه في حياته لا مزية لاحداهما على الاخرى ولا كرامة إلا للتقوى وأما الكمالات الاخر كائنة ما كانت فإنما تنمو وتربو إذا وقعت في صراطه وإلا لم تعد إلا أوزارا سيئة. 6 - قوانين الارث الحديثة هذه القوانين والسنن وإن خالفت قانون الارث الاسلامي كما وكيفا على ما سيمر بك إجمالها غير أنها استظهرت في ظهورها واستقرارها بالسنة الاسلامية في الارث فكم بين موقف الاسلام عند تشريع إرث النساء في الدنيا وبين موقفهن من الفرق. فقد كان الاسلام يظهر أمرا ما كانت الدنيا تعرفه ولا قرعت أسماع الناس بمثله ولا ذكرته أخلاف عن أسلافهم الماضين وآبائهم الاولين وأما هذه القوانين فإنها أبديت وكلف بها امم حينما كانت استقرت سنة الاسلام في الارث بين الامم الاسلامية في معظم المعمورة بين مئات الملايين من الناس توارثها الاخلاف من أسلافهم في أكثر من عشرة قرون ومن البديهيات في أبحاث النفس أن وقوع أمر من الامور في الخارج ثم ثبوتها واستقرارها نعم العون في وقوع ما يشابهها وكل سنة سابقة من السنن الاجتماعية مادة فكرية للسنن اللاحقة المجانسة بل الاولى هي المادة المتحولة إلى الثانية فليس لباحث اجتماعي أن ينكر استظهار القوانين الجديدة في الارث بما تقدمها من الارث الاسلامي وتحوله إليها تحولا عادلا أو جائرا. ومن أغرب الكلام ما ربما يقال قاتل الله عصبية الجاهلية الاولى إن القوانين الحديثة إنما استفادت في موادها من قانون الروم القديمة وأنت قد عرفت ما كانت عليه سنة الروم القديمة في الارث وما قدمته السنة الاسلامية إلى المجتمع البشرى وأن السنة الاسلامية متوسطة في الظهور والجريان العملي بين القوانين الرومية القديمة وبين القوانين الغربية الحديثة وكانت متعرفة متعمقة في مجتمع الملايين ومئات الملايين من النفوس الانسانية قرونا متوالية متطاولة ومن المحال أن تبقى سدى وعلى جانب من التأثير في أفكار هؤلاء المقننين. وأغرب منه أن هؤلاء القائلين يذكرون أن الارث الاسلامي مأخوذ من الارث الرومي القديم.
________________________________________
[ 232 ]
وبالجملة فالقوانين الحديثة الدائرة بين الملل الغربية وإن اختلفت في بعض الخصوصيات غير أنها كالمطبقة على تساوى الرجال والنساء في سهم الارث فالبنات والبنون سواء و الامهات والآباء سواء في السهام وهكذا. وقد رتبت الطبقات في قانون فرنسا على هذا النحو 1 البنون والبنات 2 الآباء والامهات والاخوة والاخوات 3 الاجداد والجدات 4 الاعمام والعمات والاخوال والخالات وقد أخرجوا علقة الزوجية من هذه الطبقات وبنوها على أساس المحبة والعلقة القلبية ولا يهمنا التعرض لتفاصيل ذلك وتفاصيل الحال في سائر الطبقات من أرادها فليرجع إلى محلها. والذى يهمنا هو التأمل في نتيجة هذه السنة الجارية وهى اشتراك المرأة مع الرجل في ثروة الدنيا الموجودة بحسب النظر العام الذى تقدم غير أنهم جعلوا الزوجة تحت قيمومة الزوج لا حق لها في تصرف مالى في شئ من أموالها الموروثة إلا بإذن زوجها وعاد بذلك المال منصفا بين الرجل والمرأة ملكا وتحت ولاية الرجل تدبيرا وإدارة وهناك جمعيات منتهضة يبذلون مساعيهم لاعطاء النساء الاستقلال وإخراجهن من تحت قيمومة الرجال في أموالهن ولو وفقوا لما يريدون كانت الرجال والنساء متساويين من حيث الملك ومن حيث ولاية التدبير والتصرف. 7 - مقايسة هذه السنن بعضها إلى بعض ونحن بعد ما قدمنا خلاصة السنن الجارية بين الامم الماضية وقرونها الخالية إلى الباحث الناقد نحيل إليه قياس بعضها إلى البعض والقضاء على كل منها بالتمام والنقص ونفعه للمجتمع الانساني وضرره من حيث وقوعه في صراط السعادة ثم قياس ما سنه شارع الاسلام إليها والقضاء بما يجب أن يقضى به. والفرق الجوهرى بين السنة الاسلامية والسنن غيرها في الغاية والغرض فغرض الاسلام أن تنال الدنيا صلاحها وغرض غيره أن تنال ما تشتهيها وعلى هذين الاصلين يتفرع ما يتفرع من الفروع قال تعالى وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون: البقرة - 216 وقال تعالى وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا: النساء - 19.
________________________________________
[ 233 ]
8 - الوصية قد تقدم أن الاسلام أخرج الوصية من تحت الوراثة وأفردها عنوانا مستقلا لما فيها من الملاك المستقل وهو احترام إرادة المالك بالنسبة إلى ما يملكه في حياته وقد كانت الوصية بين الامم المتقدمة من طرق الاحتيال لدفع الموصى ماله أو بعض ماله إلى غير من تحكم السنة الجارية بإرثه كالاب ورئيس البيت ولذلك كانوا لا يزالون يضعون من القوانين ما يحدها ويسد بنحو هذا الطريق المؤدى إلى إبطال حكم الارث ولا يزال يجرى الامر في تحديدها هذا المجرى حتى اليوم وقد حدها الاسلام بنفوذها إلى ثلث المال فهى غير نافذة في الزائد عليه وقد تبعته في ذلك بعض القوانين الحديثة كقانون فرنسا غير أن النظرين مختلفان ولذلك كان الاسلام يحث عليها والقوانين تردع عنها أو هي ساكتة. والذى يفيده التدبر في آيات الوصية والصدقات والزكاة والخمس ومطلق الانفاق أن في هذه التشريعات تسهيل طريق أن يوضع ما يقرب من نصف رقبة الاموال والثلثان من منافعها للخيرات والمبرات وحوائج طبقة الفقراء والمساكين لتقرب بذلك الطبقات المختلفة في المجتمع ويرتفع الفواصل البعيدة من بينهم وتقام به أصلاب المساكين مع ما في القوانين الموضوعة بالنسبة إلى كيفية تصرف المثرين في ثروتهم من تقريب طبقتهم من طبقة المساكين ولتفصيل ذا البحث محل آخر سيمر بك إن شاء الله تعالى = واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا (15) - واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما (16)) (بيان) قوله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة إلى قوله منكم يقال أتاه وأتى
________________________________________
[ 234 ]
به أي فعله والفاحشة من الفحش وهو الشناعة فهي الطريقة الشنيعة وقد شاع استعمالها في الزنا وقد اطلقت في القرآن على اللواط أو عليه وعلى السحق معا في قوله تعالى إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين: العنكبوت - 28. والظاهر أن المراد بها ههنا الزنا على ما ذكره جمهور المفسرين ورووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر عند نزول آية الجلد - أن الجلد هو السبيل الذي جعله الله لهن إذا زنين ويشهد بذلك ظهور الآية في أن هذا الحكم سينسخ حيث يقول تعالى أو يجعل الله لهن سبيلا ولم ينقل أن السحق نسخ حده بشئ آخر ولا أن هذا الحد اجرى على أحد من اللاتي يأتينه وقوله أربعة منكم يشهد بأن العدد من الرجال. قوله تعالى فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت إلى آخر الآية رتب الامساك وهو الحبس المخلد على الشهادة لا على أصل تحقق الفاحشة وإن علم به إذا لم يشهد عليه الشهود وهو من منن الله سبحانه على الامة من حيث السماحة والاغماض. والحكم هو الحبس الدائم بقرينة الغاية المذكورة في الكلام أعني قوله حتى يتوفاهن الموت غير أنه لم يعبر عنه بالحبس والسجن بل بالامساك لهن في البيوت وهذا أيضا من واضح التسهيل والسماحة بالاغماض وقوله حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا أي طريقا إلى التخلص من الامساك الدائم والنجاة منه. وفي الترديد إشعار بأن من المرجو أن ينسخ هذا الحكم وهكذا كان فإن حكم الجلد نسخه فإن من الضروري أن الحكم الجاري على الزانيات في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمعمول به بعده بين المسلمين هو الجلد دون الامساك في البيوت فالآية على تقدير دلالتها على حكم الزانيات منسوخة بآية الجلد والسبيل المذكور فيها هو الجلد بلا ريب. قوله تعالى واللذان يأتيانها منكم فآذوهما الآيتان متناسبتان مضمونا والضمير في قوله يأتيانها راجع إلى الفاحشة قطعا وهذا يؤيد كون الآيتين جميعا مسوقتين لبيان حكم الزنا وعلى ذلك فالآية الثانية متممة الحكم في الاولى فإن الاولى لم تتعرض إلا لما للنساء من الحكم و الثانية تبين الحكم فيهما معا وهو الايذاء فيتحصل من مجموع الآيتين حكم الزاني والزانية معا وهو إيذاؤهما وإمساك النساء في البيوت.
________________________________________
[ 235 ]
لكن لا يلائم ذلك قوله تعالى بعد فإن تابا واصلحا فاعرضوا عنهما فإنه لا يلائم الحبس المخلد فلا بد أن يقال إن المراد بالاعراض الاعراض عن الايذاء دون الحبس فهو بحاله. ولهذا ربما قيل تبعا لما ورد في بعض الروايات وسننقلها إن الآية الاولى لبيان حكم الزنا في الثيب والثانية مسوقة لحكم الابكار وإن المراد بالايذاء هو الحبس في الابكار ثم تخلية سبيلهن مع التوبة والاصلاح لكن يبقى أولا الوجه في تخصيص الاولى بالثيبات والثانية بالابكار من غير دليل يدل عليه من جهة اللفظ وثانيا وجه تخصيص الزانية بالذكر في الآية الاولى وذكرهما معا في الآية الثانية واللذان يأتيانها منكم. وقد عزي إلى أبي مسلم المفسر أن الآية الاولى لبيان حكم السحق بين النساء والآية الثانية تبين حكم اللواط بين الرجال والآيتان غير منسوختين. وفساده ظاهر أما في الآية الاولى فلما ذكرناه في الكلام على قوله و اللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم وأما في الآية الثانية فلما ثبت في السنة من أن الحد في اللواط القتل وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من عمل منكم عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول وهذا إما حكم ابتدائى غير منسوخ وإما حكم ناسخ لحكم الآية وعلى أي حال يبطل قوله. ومن الممكن أن يقال في معنى الآيتين نظرا إلى الظاهر السابق إلى الذهن من الآيتين والقرائن المحفوف بها الكلام وما تقدم من الاشكال فيما ذكروه من المعنى والله أعلم أن الآية متضمنة لبيان حكم زنا المحصنات ذوات الازواج ويدل عليه تخصيص الآية النساء بالذكر دون الرجال وإطلاق النساء على الازواج شائع في اللسان وخاصة إذا أضيفت إلى الرجال كما في قوله نسائكم قال تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة: النساء - 4 وقال تعالى من نسائكم اللاتي دخلتم بهن: النساء - 23. وعلى هذا فقد كان الحكم الاولى المؤجل لهن الامساك في البيوت ثم شرع لهن الرجم وليس نسخا للكتاب بالسنة على ما استدل به الجبائى فإن السنخ إنما هو رفع الحكم الظاهر بحسب الدليل في التأبيد وهذا حكم مقرون بما يشعر بأنه مؤجل
________________________________________
[ 236 ]
سينقطع بانقطاعه وهو قوله أو يجعل الله لهن سبيلا لظهوره في أن هناك حكما سيطلع عليهن ولو سمى هذا نسخا لم يكن به بأس فإنه غير متضمن لما يلزم نسخ الكتاب بالسنة من الفساد فإن القرآن نفسه مشعر بأن الحكم سيرتفع بانقطاع أمده والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مبين لمرادات القرآن الكريم. والآية الثانية متضمنة لحكم الزنا من غير إحصان وهو الايذاء سواء كان المراد به الحبس أو الضرب بالنعال أو التعيير بالقول أو غير ذلك والآية على هذا منسوخة بآية الجلد من سورة النور وأما ما ورد من الرواية في كون الآية متضمنة لحكم الابكار فمن الآحاد وهي مع ذلك مرسلة ضعيفة بالارسال والله أعلم هذا ولا يخلو مع ذلك من وهن. قوله تعالى فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إلخ تقييد التوبة بالاصلاح لتحقيق حقيقة التوبة وتبيين أنها ليست مجرد لفظ أو حالة مندفعة. (بحث روائي) في الصافي عن تفسير العياشي عن الصادق عليه السلام: في قوله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة الآية هي منسوخة - والسبيل هي الحدود وفيه عن الباقر عليه السلام: سئل عن هذه الآية فقال هي منسوخة - قيل كيف كانت - قال كانت المرأة إذا فجرت - فقام عليها أربعة شهود ادخلت بيتا ولم تحدث - ولم تكلم ولم تجالس - واوتيت بطعامها وشرابها - حتى تموت أو يجعل الله لهن سبيلا - قال جعل السبيل الجلد والرجم - الحديث قيل قوله واللذان يأتيانها منكم - قال يعني البكر - إذا أتت الفاحشة التي أتتها هذه الثيب فآذوهما - قال تحبس أقول القصة أعني كون الحكم المجرى عليهن في صدر الاسلام الامساك في البيوت حتى الوفاة مما رويت بعدة من طرق أهل السنة عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وغيرهم ونقل عن السدى أن الحبس في البيوت كان حكما للثيبات والايذاء الواقع في الآية الثانية كان حكما للجواري والفتيان الذين لم ينكحوا وقد عرفت ما ينبغي أن يقال في المقام
________________________________________
(1) فان اشعار المنسوخ بالنسخ لا ينافي النسخ " منه ".
________________________________________
[ 237 ]
= إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما (17) - وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما (18)): (بيان) مضمون الآيتين لا يخلو عن ارتباط بما تقدمهما من الآيتين فإنهما قد اختتمتا بذكر التوبة فمن الممكن أن يكون هاتان نزلتا مع تينك وهاتان الآيتان مع ذلك متضمنتان لمعنى مستقل في نفسه وهو إحدى الحقائق العالية الاسلامية والتعاليم الراقية القرآنية وهي حقيقة التوبة وشأنها وحكمها. قوله تعالى إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب التوبة هي الرجوع وهي رجوع من العبد إلى الله سبحانه بالندامة والانصراف عن الاعراض عن العبودية ورجوع من الله إلى العبد رحمة بتوفيقه للرجوع إلى ربه أو بغفران ذنبه وقد مر مرارا أن توبة واحدة من العبد محفوفة بتوبتين من الله سبحانه على ما يفيده القرآن الكريم. وذلك أن التوبة من العبد حسنة تحتاج إلى قوة والحسنات من الله والقوة لله جميعا فمن الله توفيق الاسباب حتى يتمكن العبد من التوبة ويتمشى له الانصراف عن التوغل في غمرات البعد والرجوع إلى ربه ثم إذا وفق للتوبة والرجوع احتاج في التطهر من هذه الالواث وزوال هذه القذارات والورود و الاستقرار في ساحة القرب إلى رجوع آخر من ربه إليه بالرحمة والحنان والعفو والمغفرة.
________________________________________
[ 238 ]
وهذان الرجوعان من الله سبحانه هما التوبتان الحافتان لتوبة العبد ورجوعه قال تعالى ثم تاب عليهم ليتوبوا: التوبة - 118 وهذه هي التوبة الاولى وقال تعالى فاولئك أتوب عليهم: البقرة - 160 وهذه هي التوبة الثانية وبين التوبتين منه تعالى توبة العبد كما سمعت. وأما قوله على الله للذين لفظة على واللام تفيدان معنى النفع والضرر كما في قولنا دارت الدائرة لزيد على عمرو وكان السباق لفلان على فلان ووجه إفادة على واللام معنى الضرر والنفع أن على تفيد معنى الاستعلاء واللام معنى الملك والاستحقاق ولازم ذلك أن المعاني المتعلقة بطرفين ينتفع بها أحدهما ويتضرر بها الآخر كالحرب والقتال والنزاع ونحوها فيكون أحدهما الغالب والآخر المغلوب ينطبق على الغالب منهما معنى الملك وعلى المغلوب معنى الاستعلاء وكذا ما أشبه ذلك كمعنى التأثير بين المتأثر والمؤثر ومعنى العهد والوعد بين المتعهد والمتعهد له والواعد والموعود له وهكذا فظهر أن كون على واللام لمعنى الضرر والنفع إنما هو أمر طار من ناحية مورد الاستعمال لا من ناحية معنى اللفظ. ولما كان نجاح التوبة إنما هو لوعد وعده الله عباده فأوجبها بحسبه على نفسه لهم قال ههنا إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة فيجب عليه تعالى قبول التوبة لعباده لكن لا على أن لغيره أن يوجب عليه شيئا أو يكلفه بتكليف سواء سمى ذلك الغير بالعقل أو نفس الامر أو الواقع أو الحق أو شيئا آخر تعالى عن ذلك وتقدس بل على أنه تعالى وعد عباده أن يقبل توبة التائب منهم وهو لا يخلف الميعاد فهذا معنى وجوب قبول التوبة على الله فيما يجب وهو أيضا معنى وجوب كل ما يجب على الله من الفعل وظاهر الآية أولا أنها لبيان أمر التوبة التي لله أعني رجوعه تعالى بالرحمة إلى عبده دون توبة العبد وإن تبين بذلك أمر توبة العبد بطريق اللزوم فإن توبة الله سبحانه إذا تمت شرائطها لم ينفك ذلك من تمام شرائط توبة العبد وهذا أعني كون الآية في مقام بيان توبة الله سبحانه لا يحتاج إلى مزيد توضيح. وثانيا أنها تبين أمر التوبة أعم مما إذا تاب العبد من الشرك والكفر بالايمان أو تاب من المعصية إلى الطاعة بعد الايمان فإن القرآن يسمى الامرين جميعا بالتوبة قال
________________________________________
[ 239 ]
تعالى الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شئ رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك: المؤمن - 7 يريد للذين آمنوا بقرينة أول الكلام فسمى الايمان توبة وقال تعالى ثم تاب عليهم: التوبة - 118. والدليل على أن المراد هي التوبة أعم من أن تكون من الشرك أو المعصية التعميم الموجود في الآية التالية وليست التوبة الخ فإنها تتعرض لحال الكافر والمؤمن معا وعلى هذا فالمراد بقوله يعملون السوء ما يعم حال المؤمن والكافر معا فالكافر كالمؤمن الفاسق ممن يعمل السوء بجهالة إما لان الكفر من عمل القلب والعمل أعم من عمل القلب والجوارح أو لان الكفر لا يخلو من أعمال سيئة من الجوارح فالمراد من الذين يعملون السوء بجهالة الكافر والفاسق إذا لم يكونا معاندين في الكفر و المعصية. وأما قوله تعالى بجهالة فالجهل يقابل العلم بحسب الذات غير أن الناس لما شاهدوا من أنفسهم أنهم يعملون كلا من أعمالهم الجارية عن علم وإرادة وأن الارادة إنما تكون عن حب ما وشوق ما سواء كان الفعل مما ينبغي أن يفعل بحسب نظر العقلاء في المجتمع أو مما لا ينبغي أن يفعل لكن من له عقل مميز في المجتمع عندهم لا يقدم على السيئة المذمومة عند العقلاء فأذعنوا بأن من اقترف هذه السيئات المذمومة لهوى نفساني وداعية شهوية أو غضبية خفي عليه وجه العلم وغاب عنه عقله المميز الحاكم في الحسن والقبيح والممدوح والمذموم وظهر عليه الهوى وعندئذ يسمى حاله في علمه وإرادته جهالة في عرفهم وإن كان بالنظر الدقيق نوعا من العلم لكن لما لم يؤثر ما عنده من العلم بوجه قبح الفعل وذمه في ردعه عن الوقوع في القبح والشناعة الحق بالعدم فكان هو جاهلا عندهم حتى أنهم يسمون الانسان الشاب الحدث السن قليل التجربة جاهلا لغلبة الهوى وظهور العواطف والاحساسات النيئة على نفسه ولذلك أيضا تراهم لا يسمون حال مقترف السيئات إذا لم ينفعل في اقتراف السيئة عن الهوى والعاطفة جهالة بل يسمونها عنادا وعمدا وغير ذلك. فتبين بذلك أن الجهالة في باب الاعمال إتيان العمل عن الهوى وظهور الشهوة والغضب من غير عناد مع الحق ومن خواص هذا الفعل الصادر عن جهالة أن إذا سكنت ثورة القوى وخمد لهيب الشهوة أو الغضب باقتراف للسيئة أو بحلول مانع أو
________________________________________
[ 240 ]
بمرور زمان أو ضعف القوى بشيب أو مزاج عاد الانسان إلى العلم وزالت الجهالة وبانت الندامة بخلاف الفعل الصادر عن عناد وتعمد ونحو ذلك فإن سبب صدوره لما لم يكن طغيان شئ من القوى والعواطف والاميال النفسانية بل أمرا يسمى عندهم بخبث الذات ورداءة الفطرة لا يزول بزوال طغيان القوى والاميال سريعا أو بطيئا بل دام نوعا بدوام الحياة من غير أن يلحقه ندامة من قريب إلا أن يشاء الله. نعم ربما يتفق أن يرجع المعاند اللجوج عن عناده ولجاجه واستعلائه على الحق فيتواضع للحق ويدخل في ذل العبودية فيكشف ذلك عندهم عن أن عناده كان عن جهالة وفي الحقيقة كل معصية جهالة من الانسان وعلى هذا لا يبقى للمعاند مصداق إلا من لا يرجع عن سوء عمله إلى آخر عهده بالحياة والعافية. ومن هنا يظهر معنى قوله تعالى ثم يتوبون من قريب أي إن عامل السوء بجهالة لا يقيم عاكفا على طريقته ملازما لها مدى حياته من غير رجاء في عدوله إلى التقوى والعمل الصالح كما يدوم عليه المعاند اللجوج بل يرجع عن عمله من قريب فالمراد بالقريب العهد القريب أو الزمان القريب وهو قبل ظهور آيات الآخرة وقدوم الموت. وكل معاند لجوج في عمله إذا شاهد ما يسوؤه من جزاء عمله ووبال فعله ألزمته نفسه على الندامة والتبري من فعله لكنه بحسب الحقيقة ليس بنادم عن طبعه وهداية فطرته بل إنما هي حيلة يحتالها نفسه الشريرة للتخلص من وبال الفعل والدليل عليه أنه إذا اتفق تخلصه من الوبال المخصوص عاد ثانيا إلى ما كان عليه من سيئات الاعمال قال تعالى ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون: الانعام - 28. والدليل على أن المراد بالقريب في الآية هو ما قبل ظهور آية الموت قوله تعالى في الآية التالية وليست التوبة إلى قوله قال إنى تبت الآن. وعلى هذا يكون قوله ثم يتوبون من قريب كناية عن المساهلة المفضية إلى فوت الفرصة. ويتبين مما مر أن القيدين جميعا أعني قوله بجهالة وقوله ثم يتوبون من قريب احترازيان يراد بالاول منهما أن لا يعمل السوء عن عناد واستعلاء على الله وبالثاني منهما
________________________________________
[ 241 ]
أن لا يؤخر الانسان التوبة إلى حضور موته كسلا وتوانيا ومماطلة إذ التوبة هي رجوع العبد إلى الله سبحانه بالعبودية فيكون توبته تعالى أيضا قبول هذا الرجوع ولا معنى للعبودية إلا مع الحياة الدنيوية التي هي ظرف الاختيار وموطن الطاعة والمعصية ومع طلوع آية الموت لا اختيار تتمشى معه طاعة أو معصية قال تعالى يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: الانعام - 158 وقال تعالى فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التى قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون: المؤمن - 85 إلى غير ذلك من الآيات. وبالجملة يعود المعنى إلى أن الله سبحانه إنما يقبل توبة المذنب العاصي إذا لم يقترف المعصية استكبارا على الله بحيث يبطل منه روح الرجوع والتذلل لله ولم يتساهل ويتسامح في أمر التوبة تساهلا يؤدي إلى فوت الفرصة بحضور الموت. ويمكن أن يكون قوله بجهالة قيدا توضيحيا ويكون المعنى للذين يعملون السوء ولا يكون ذلك إلا عن جهل منهم فإنه مخاطرة بالنفس وتعرض لعذاب أليم أو لا يكون ذلك إلا عن جهل منهم بكنه المعصية وما يترتب عليها من المحذور ولازمه كون قوله ثم يتوبون من قريب إشارة إلى ما قبل الموت لا كناية عن المساهلة في أمر التوبة فإن من يأتي بالمعصية استكبارا ولا يخضع لسلطان الربوبية يخرج على هذا الفرض بقوله ثم يتوبون من قريب لا بقوله بجهالة وعلى هذا لا يمكن الكناية بقوله ثم يتوبون عن التكاهل والتوانى فافهم ذلك ولعل الوجه الاول أوفق لظاهر الآية. وقد ذكر بعضهم أن المراد بقوله ثم يتوبون من قريب أن تتحقق التوبة في زمان قريب من وقت وقوع المعصية عرفا كزمان الفراغ من إتيان المعصية أو ما يعد عرفا متصلا به لا أن يمتد إلى حين حضور الموت كما ذكر. وهو فاسد لافساده معنى الآية التالية فإن الآيتين في مقام بيان ضابط كلي لتوبة الله سبحانه أي لقبول توبة العبد على ما يدل عليه الحصر الوارد في قوله إنما التوبة على الله للذين إلخ والآية الثانية تبين الموارد التي لا تقبل فيها التوبة ولم يذكر في
________________________________________
[ 242 ]
الآية إلا موردان هما التوبة للمسئ المتسامح في التوبة إلى حين حضور الموت والتوبة للكافر بعد الموت ولو كان المقبول من التوبة هو ما يعد عرفا قريبا متصلا بزمان المعصية لكان للتوبة غير المقبولة مصاديق اخر لم تذكر في الآية. قوله تعالى فاولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما الاتيان بإسم الاشارة الموضوع للبعيد لا يخلو من إشارة إلى ترفيع قدرهم وتعظيم أمرهم كما يدل قوله يعملون السوء بجهالة على المساهلة في إحصاء معاصيهم على خلاف ما في الآية الثانية وليست التوبة للذين يعملون السيئات الخ وقد اختير لختم الكلام قوله وكان الله عليما حكيما دون أن يقال وكان الله غفورا رحيما للدلالة على أن فتح باب التوبة إنما هو لعلمه تعالى بحال العباد وما يؤديهم إليه ضعفهم وجهالتهم ولحكمته المقتضية لوضع ما يحتاج إليه إتقان النظام وإصلاح الامور وهو تعالى لعلمه وحكمته لا يغره ظواهر الاحوال بل يختبر القلوب ولا يستزله مكر ولا خديعة فعلى التائب من العباد أن يتوب حق التوبة حتى يجيبه الله حق الاجابة. قوله تعالى وليست التوبة للذين يعملون السيئات الخ في عدم إعادة قوله على الله مع كونه مقصودا ما لا يخفى من التلويح إلى انقطاع الرحمة الخاصة والعناية الالهية عنهم كما أن إيراد السيئات بلفظ الجمع يدل على العناية بإحصاء سيئاتهم وحفظها عليهم كما تقدمت الاشارة إليه. وتقييد قوله يعملون السيئات بقوله حتى إذا جاء أحدهم الموت المفيد لاستمرار الفعل إما لان المساهلة في المبادرة إلى التوبة وتسويفها في نفسه معصية مستمرة متكررة أو لانه بمنزلة المداومة على الفعل أو لان المساهلة في أمر التوبة لا تخلو غالبا عن تكرر معاص مجانسة للمعصية الصادرة أو مشابهة لها. وفي قوله حتى إذا حضر أحدهم الموت دون أن يقال حتى إذا جاءهم الموت دلالة على الاستهانة بالامر والاستحقار له أي حتى يكون أمر التوبة هينا هذا الهوان سهلا هذه السهولة حتى يعمل الناس ما يهوونه ويختاروا ما يشاؤونه ولا يبالون وكلما عرض لاحدهم عارض الموت قال إنى تبت الآن فتندفع مخاطر الذنوب ومهلكة
________________________________________
[ 243 ]
مخالفة الامر الالهي بمجرد لفظ يردده ألسنتهم أو خطور يخطر ببالهم في آخر الامر. ومن هنا يظهر معنى تقييد قوله قال إنى تبت بقوله الآن فإنه يفيد أن حضور الموت ومشاهدة هذا القائل سلطان الآخرة هما الموجبان له أن يقول تبت سواء ذكره أو لم يذكره فالمعنى إني تائب لما شاهدت الموت الحق والجزاء الحق وقد قال تعالى في نظيره حاكيا عن المجرمين يوم القيامة ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون: السجدة - 12. فهذه توبة لا تقبل من صاحبها لان اليأس من الحياة الدنيا وهول المطلع هما اللذان أجبراه على أن يندم على فعله ويعزم على الرجوع إلى ربه ولات حين رجوع حيث لا حياة دنيوية ولا خيرة عملية. قوله تعالى ولا الذين يموتون وهم كفار هذا مصداق آخر لعدم قبول التوبة وهو الانسان يتمادى في الكفر ثم يموت وهو كافر فإن الله لا يتوب عليه فان إيمانه وهو توبته لا ينفعه يومئذ وقد تكرر في القرآن الكريم أن الكفر لا نجاة معه بعد الموت وأنهم لا يجابون وإن سألوا قال تعالى إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فاولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار اولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون: البقرة - 162 وقال تعالى إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملؤ الارض ذهبا ولو افتدى به اولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين: آل عمران - 91 ونفى الناصرين نفي للشفاعة في حقهم كما تقدم في الكلام على الآية في الجزء الثالث من الكتاب. وتقييد الجملة بقوله وهم كفار يدل على التوبة للعاصي المؤمن إذا مات على المعصية من غير استكبار ولا تساهل فإن التوبة من العبد بمعنى رجوعه إلى عبودية اختيارية و إن ارتفع موضوعها بالموت كما تقدم لكن التوبة منه تعالى بمعنى الرجوع بالمغفرة والرحمة يمكن أن يتحقق بعد الموت لشفاعة الشافعين وهذا في نفسه من الشواهد على أن المراد بالآيتين بيان حال توبة الله سبحانه لعباده لا بيان حال توبة العبد إلى الله إلا بالتبع.
________________________________________
[ 244 ]
قوله تعالى أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما اسم الاشارة يدل على بعدهم من ساحة القرب والتشريف والاعتاد والاعداد أو الوعد. (كلام في التوبة) التوبة بتمام معناها الوارد في القرآن من التعاليم الحقيقية المختصة بهذا الكتاب السماوي فإن التوبة بمعنى الايمان عن كفر وشرك وإن كانت دائرة في سائر الاديان الالهية كدين موسى وعيسى عليهما السلام لكن لا من جهة تحليل حقيقة التوبة وتسريتها إلى الايمان بل باسم أن ذلك إيمان. حتى أنه يلوح من الاصول التي بنوا عليها الديانة المسيحية المستقلة عدم نفع التوبة واستحالة أن يستفيد منها الانسان كما يظهر مما أوردوه في توجيه الصلب والفداء وقد تقدم نقله في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا الكتاب. هذا وقد انجر أمر الكنيسة بعد إلى الافراط في أمر التوبة إلى حيث كانت تبيع أوراق المغفرة وتتجر بها وكان أولياء الدين يغفرون ذنوب العاصين فيما اعترفوا به عندهم لكن القرآن حلل حال الانسان بحسب وقوع الدعوة عليه وتعلق الهداية به فوجده بالنظر إلى الكمال والكرامة والسعادة الواجبة له في حياته الاخروية عند الله سبحانه التي لا غنى له عنها في سيره الاختياري إلى ربه فقيرا كل الفقر في ذاته صفر الكف بحسب نفسه قال تعالى يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني: فاطر - 15 وقال ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا: الفرقان - 3. فهو واقع في مهبط الشقاء ومنحط البعد ومنعزل المسكنة كما يشير إليه قوله تعالى لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين: التين - 5 وقوله وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا: مريم - 72 وقوله فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى: طه - 117. وإذا كان كذلك فوروده منزلة الكرامة واستقراره في مستقر السعادة يتوقف على انصرافه عما هو فيه من مهبط الشقاء ومنحط البعد وانقلاعه عنه برجوعه إلى ربه
________________________________________
[ 245 ]
وهو توبته إليه في أصل السعادة وهو الايمان وفي كل سعادة فرعية وهي كل عمل صالح أعني التوبة و الرجوع عن أصل الشقاء وهو الشرك بالله سبحانه وعن فروعات الشقاء وهي سيئات الاعمال بعد الشرك فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله والانخلاع عن ألواث البعد والشقاء يتوقف عليها الاستقرار في دار الكرامة بالايمان والتنعم بأقسام نعم الطاعات والقربات وبعبارة اخرى يتوقف القرب من الله ودار كرامته على التوبة من الشرك ومن كل معصية قال تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون: النور - 31 فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله تعم التوبتين جميعا بل تعمهما وغيرهما على ما سيجئ إن شاء الله. ثم إن الانسان لما كان فقيرا في نفسه لا يملك لنفسه خيرا ولا سعادة قط إلا بربه كان محتاجا في هذا الرجوع أيضا إلى عناية من ربه بأمره وإعانة منه له في شأنه فيحتاج رجوعه إلى ربه بالعبودية والمسكنة إلى رجوع من ربه إليه بالتوفيق والاعانة وهو توبة الله سبحانه لعبده المتقدمة على توبة العبد إلى ربه كما قال تعالى ثم تاب عليهم ليتوبوا: التوبة - 118 وكذلك الرجوع إلى الله سبحانه يحتاج إلى قبوله بمغفرة الذنوب وتطهيره من القذارات وألواث البعد وهذه هي التوبة الثانية من الله سبحانه المتأخرة عن توبة العبد إلى ربه كما قال تعالى فاولئك يتوب الله عليهم الآية. وإذا تأملت حق التأمل وجدت أن التعدد في توبة الله سبحانه إنما عرض لها من حيث قياسها إلى توبة العبد وإلا فهي توبة واحدة هي رجوع الله سبحانه إلى عبده بالرحمة ويكون ذلك عند توبة العبد رجوعا إليه قبلها وبعدها وربما كان مع عدم توبة من العبد كما تقدم استفادة ذلك من قوله ولا الذين يموتون وهم كفار وأن قبول الشفاعة في حق العبد المذنب يوم القيامة من مصاديق التوبة ومن هذا الباب قوله تعالى والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما (1). وكذلك القرب والبعد لما كانا نسبيين أمكن أن يتحقق البعد في مقام القرب بنسبة بعض مواقفه ومراحله إلى بعض ويصدق حينئذ معنى التوبة على رجوع بعض المقربين من عباد الله الصالحين من موقفه الذي هو فيه إلى موقف أرفع منه وأقرب إلى ربه كما يشهد به ما يحكيه تعالى من توبة الانبياء وهم معصومون بنص كلامه كقوله تعالى فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه: البقرة - 37 وقوله تعالى وإذ يرفع
________________________________________
(1) سورة النساء آية 27.
________________________________________
[ 246 ]
إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل إلى قوله وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم: البقرة - 128 وقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام سبحانك تبت اليك وأنا أول المؤمنين: الاعراف - 143 وقوله تعالى خطابا لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والابكار: المؤمن - 55 وقوله تعالى لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والانصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة: التوبة - 117. وهذه التوبة العامة من الله سبحانه هي التى يدل عليها إطلاق آيات كثيرة من كلامه تعالى كقوله تعالى غافر الذنب وقابل التوب: المؤمن - 3 وقوله تعالى يقبل التوبة عن عباده: الشورى - 25 إلى غير ذلك. فتلخص مما مر أولا أن نشر الرحمة من الله سبحانه على عبده لمغفرة ذنوبه وإزالة ظلمة المعاصي عن قلبه سواء في ذلك الشرك وما دونه توبة منه تعالى لعبده وأن رجوع العبد إلى ربه لمغفرة ذنوبه وإزالة معاصيه سواء في ذلك الشرك وغيره توبه منه إلى ربه. ويتبين به أن من الواجب في الدعوة الحقة أن تعتني بأمر المعاصي كما تعتني بأصل الشرك وتندب إلى مطلق التوبة الشامل للتوبة عن الشرك والتوبة عن المعاصي. وثانيا أن التوبة من الله سبحانه لعبده أعم من المبتدئة واللاحقة فضل منه كسائر النعم التي يتنعم بها خلقه من غير إلزام وإيجاب يرد عليه تعالى من غيره وليس معنى وجوب قبول التوبة عليه تعالى عقلا إلا ما يدل عليه أمثال قوله تعالى وقابل التوب " غافر - 3 وقوله وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون " النور - 31 " وقوله إن الله يحب التوابين الآية: البقرة - 222 وقوله فاولئك يتوب الله عليهم الآية من الآيات المتضمنة لتوصيفه تعالى بقبول التوبة والنادبة إلى التوبة الداعية إلى الاستغفار والانابة وغيرها المشتملة على وعد القبول بالمطابقة أو الالتزام والله سبحانه لا يخلف الميعاد. ومن هنا يظهر أن الله سبحانه غير مجبور في قبول التوبة بل له الملك من غير استثناء يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فله أن يقبل ما يقبل من التوبة على ما وعد ويرد ما يرد منها كما هو ظاهر قوله تعالى إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم
________________________________________
[ 247 ]
" آل عمران - 90 " ويمكن أن يكون من هذا الباب قوله تعالى إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا " النساء - 137 " ومن عجيب ما قيل في هذا الباب قول بعضهم في قوله تعالى في قصة غرق فرعون وتوبته حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين: يونس - 91. قال ما محصله ان الآية لا تدل على رد توبته وليس في القرآن أيضا ما يدل على هلاكه الابدي وانه من المستبعد عند من يتامل سعة رحمة الله وسبقتها غضبه أن يجوز عليه تعالى أنه يرد من التجأ إلى باب رحمته وكرامته متذللا مستكينا بالخيبة واليأس والواحد منا إذا أخذ بالاخلاق الانسانية الفطرية من الكرم والجود والرحمة ليرحم أمثال هذا الانسان النادم حقيقة على ما قدم من سوء الفعال فكيف بمن هو أرحم الراحمين وأكرم الاكرمين وغياث المستغيثين. وهو مدفوع بقوله تعالى وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا جاء أحدهم الموت قال إنى تبت الآن الآية وقد تقدم أن الندامة حينئذ ندم كاذب يسوق الانسان إلى إظهاره مشاهدته وبال الذنب ونزول البلاء. ولو كان كل ندم توبة وكل توبة مقبولة لدفع ذلك قوله تعالى حكاية لحال المجرمين يوم القيامة وأسروا الندامة لما رأوا العذاب: سبأ - 33 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الحاكية لندمهم على ما فعلوا وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا والرد عليهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون. وإياك أن تتوهم أن الذى سلكه القرآن الكريم من تحليل التوبة على ما تقدم توضيحه تحليل ذهني لا عبرة به في سوق الحقائق وذلك أن البحث في باب السعادة والشقاء والصلاح والطلاح الانسانيين لا ينتج غير ذلك فإنا إذا اعتبرنا حال الانسان العادى في المجتمع على ما نراه من تأثير التعليم والتربية في الانسان وجدناه خاليا في نفسه عن الصلاح والطلاح الاجتماعيين قابلا للامرين جميعا ثم إذا أراد أن يتحلى بحلية الصلاح ويتلبس بلباس التقوى الاجتماعي لم يمكن له ذلك إلا بتوافق الاسباب على خروجه من
________________________________________
[ 248 ]
الحال الذى فيه وذلك يحاذي التوبة الاولى من الله سبحانه في باب السعادة المعنوية ثم انتزاعه وانصراف نفسه عما هو فيه من رثاث الحال وقيد التثبط والاهمال وهو توبه بمنزلة التوبة من العبد فيما نحن فيه ثم زوال هيئة الفساد ووصف الرذالة المستولية على قلبه حتى يستقر فيه وصف الكمال ونور الصلاح فإن القلب لا يسع الصلاح والطلاح معا وهذا يحاذي قبول التوبة والمغفرة فيما نحن فيه وكذلك يجرى في مرحلة الصلاح الاجتماعي الذى يسير فيه الانسان بفطرته جميع ما اعتبره الدين في باب التوبة من الاحكام والآثار جريا على الفطرة التى فطر الله الناس عليها. وثالثا أن التوبة كما يستفاد من مجموع ما تقدم من الآيات المنقولة وغيرها إنما هي حقيقة ذات تأثير في النفس الانسانية من حيث إصلاحها وإعدادها للصلاح الانساني الذى فيه سعادة دنياه وآخرته وبعبارة اخرى التوبة إنما تنفع إذا نفعت في إزالة السيئات النفسانية التى تجر إلى الانسان كل شقاء في حياته الاولى والاخرى وتمنعه من الاستقرار على أريكة السعادة وأما الاحكام الشرعية والقوانين الدينية فهى بحالها لا ترتفع عنه بتوبة كما لا ترتفع عنه بمعصية. نعم ربما ارتبط بعض الاحكام بها فارتفعت بالتوبة بحسب مصالح الجعل وهذا غير كون التوبة رافعة لحكم من الاحكام قال تعالى واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما: النساء - 16 وقال تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الارض ذلك لهم خزى في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم: المائدة - 34 إلى غير ذلك. ورابعا أن الملاك الذى شرعت لاجله التوبة على ما تبين مما تقدم هو التخلص من هلاك الذنب وبوار المعصية لكونها وسيلة الفلاح ومقدمة الفوز بالسعادة كما يشير إليه قوله تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون: النور - 31 ومن فوائدها مضافة إلى ذلك أن فيها حفظا لروح الرجاء من الانخماد والركود فإن الانسان لا يستقيم سيره الحيوى إلا بالخوف والرجاء المتعادلين حتى يندفع عما يضره وينجذب إلى ما ينفعه ولو لا ذلك لهلك قال تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم
________________________________________
[ 249 ]
لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم: الزمر - 54 ولا يزال الانسان على ما نعرف من غريزته على نشاط من الروح الفعالة وجد في العزيمة والسعى ما لم تخسر صفقته في متجر الحياة وإذا بدا له ما يخسر عمله ويخيب سعيه ويبطل امنيته استولى عليه اليأس وانسلت به أركان عمله وربما انصرف بوجهه عن مسيره آئسا من النجاح خائبا من الفوز والفلاح والتوبة هي الدواء الوحيد الذى يعالج داءه ويحيى به قلبه وقد أشرف على الهلكة والردى. ومن هنا يظهر سقوط ما ربما يتوهم أن في تشريع التوبة والدعوة إليها إغراء بالمعصية وتحريصا على ترك الطاعة فإن الانسان إذا أيقن أن الله يقبل توبته إذا اقترف أي معصية من المعاصي لم يخلف ذلك في نفسه أثرا دون أن تزيد جرأته على هتك حرمات الله والانغمار في لجج المعاصي والذنوب فيدق باب كل معصية قاصدا أن يذنب ثم يتوب. وجه سقوطه أن التوبة إنما شرعت مضافا إلى توقف التحلى بالكرامات على غفران الذنوب للتحفظ على صفة الرجاء وتأثيره حسن أثره وأما ما ذكر من استلزامه أن يقصد الانسان كل معصية بنية أن يعصى ثم يتوب فقد فاته أن التوبة بهذا النعت لا يتحقق معها حقيقة التوبة فإنها انقلاع عن المعصية ولا انقلاع في هذا الذى يأتي به والدليل عليه أنه كان عازما على ذلك قبل المعصية ومع المعصية وبعد المعصية ولا معنى للندامة أعنى التوبة قبل تحقق الفعل بل مجموع الفعل والتوبة في أمثال هذه المعاصي مأخوذ فعلا واحدا مقصود بقصد واحد مكرا وخديعة يخدع بها رب العالمين ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله. وخامسا أن المعصية وهى الموقف السوء من الانسان ذو أثر سئ في حياته لا يتاب منها ولا يرجع عنها إلا مع العلم والايقان بمساءتها ولا ينفك ذلك عن الندم على وقوعها أولا والندم تأثر خاص باطني من فعل السئ ويتوقف على استقرار هذا الرجوع ببعض الافعال الصالحة المنافية لتلك السيئة الدالة على الرجوع والتوبة ثانيا. وإلى هذا يرجع جميع ما اعتبر شرعا من آداب التوبة كالندم والاستغفار والتلبس بالعمل الصالح والانقلاع عن المعصية إلى غير ذلك مما وردت به الاخبار وتعرض له كتب الاخلاق.
________________________________________
[ 250 ]
وسادسا أن التوبة وهى الرجوع الاختياري عن السيئة إلى الطاعة والعبودية إنما تتحقق في ظرف الاختيار وهو الحياة الدنيا التى هي مستوى الاختيار وأما فيما لا اختيار للعبد هناك في انتخاب كل من طريقي الصلاح والطلاح والسعادة والشقاوة فلا مسرح للتوبة فيه وقد تقدم ما يتضح به ذلك. ومن هذا الباب التوبة فيما يتعلق بحقوق الناس فإنها إنما تصلح ما يتعلق بحقوق الله سبحانه وأما ما يتعلق من السيئة بحقوق الناس مما يحتاج في زواله إلى رضاهم فلا يتدارك بها البتة لان الله سبحانه احترم الناس بحقوق جعلها لهم في أموالهم وأعراضهم ونفوسهم وعد التعدي إلى أحدهم في شئ من ذلك ظلما وعدوانا وحاشاه أن يسلبهم شيئا مما جعله لهم من غير جرم صدر منهم فيأتي هو نفسه بما ينهى عنه ويظلمهم بذلك وقد قال عز من قائل إن الله لا يظلم الناس شيئا: يونس - 44. إلا أن الاسلام وهو التوبة من الشرك يمحو كل سيئة سابقة وتبعة ماضية متعلقة بالفروع كما يدل عليه قوله عليه السلام: الاسلام يجب ما قبله وبه تفسر الآيات المطلقة الدالة على غفران السيئات جميعا كقوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له: الزمر - 54. ومن هذا الباب أيضا توبة من سن سنة سيئة أو أضل الناس عن سبيل الحق وقد وردت أخبار أن عليه مثل أوزار من عمل بها أو ضل عن الحق فإن حقيقة الرجوع لا تتحقق في أمثال هذه الموارد لان العاصى أحدث فيها حدثا له آثار يبقى ببقائها ولا يتمكن من إزالتها كما في الموارد التي لا تتجاوز المعصية ما بينه وبين ربه عز اسمه. وسابعا أن التوبة وإن كانت تمحو ما تمحوه من السيئات كما يدل عليه قوله تعالى فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله: البقرة - 275 على ما تقدم من البيان في الجزء الثاني من هذا الكتاب بل ظاهر قوله تعالى إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فاولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ومن تاب وعمل عملا صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا: الفرقان - 71 وخاصة بملاحظة الآية الثانية أن التوبة بنفسها أو بضميمة الايمان والعمل الصالح توجب تبدل السيئات


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page