قبل أن نتحدّث عن هذه الاُقصوصة ينبغي أن نذكّر بأنّ النص القرآني الكريم قد عقّب على اُقصوصة نوح (عليه السلام) قبل أن ينتقل إلى اُقصوصة هود أي قصة قوم عاد ، ...
عقّب على ذلك قائلا:
﴿اهْبِطْ بِسَلام مِنّا وَ بَرَكات عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَم مِمَّنْ مَعَكَ﴾
﴿وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ﴾
إنّ هذه الفقرة الأخيرة من التعقيب على الاُقصوصة ، و نعني بها:
﴿وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنّا عَذابٌ أَلِيمٌ﴾
هذه الفقرة لها أهميتها الفنّية في الأقاصيص اللاحقة من هذه السورة و بضمنها الاُقصوصة الرئيسة هود ، فيما سيمسّها، أي اُمّة هود العذابُ الأليم الذي مهّدت به اُقصوصة نوح. و هو أمرٌ سنلحظه مفصلا عند حديثنا عن الاُقصوصة الجديدة.
تلخيص الحكاية:
يقول النص: إنّ هوداً اُرسلَ إلى قومه عاد و هم اُخوته في النسب و طالبهم بالإيمان باللّه و التوبة من ذنوبهم ، واعداً إيّاهم أنّ السماء سترسل عليهم المطر متتابعاً.
و كانت أرضهم كما تقول النصوص المفسّرةُ قد أجدبت ، كما وعدهم هود بأنّ السماء ستمدّهم بالقوّة أعداداً و أموالا و أبداناً في حالة توبتهم من الذنوب.
إلاّ أنّ القوم لم تنفعهم هذه النصيحة الصادقة ، فبدأوا يعترضون عليه بحجج واهية ، مطالبين إيّاه بتقديم شاهد على صدق رسالته ، مؤكّدين عليه أنـّهم سوف لن يتركوا عبادة الأصنام ، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك حتى وصل الأمر إلى أنـّهم اتّهموه بالجنون ، و إلى أنّ أصنامهم هي التي عاقبته ، فجعلته مخبولا مادام قد شتمها و أنكر مشروعية عبادتها.
و قد أجابهم هود على هذه التهمة البليدة ، بأ نّه يُشهد اللّه على براءته ممّا نُسِبَ إليه مُتحدّياً إيّاهم بأن يعملوا هم و أصنامهم ما يشاؤون من التآمر عليه ، و إلى أنّ اللّه يمتلك ناصية الكائنات بأكملها ، فليعملوا ما يشاؤون ، و ليركبوا رؤوسهم ، فإنّ اللّه سوف ينتقم منهم و يبيدهم بأجمعهم و يستخلف قوماً آخرين.
و فعلا أبادَهُم اللّه و انجى هوداً و من معه من المؤمنين.
و هذا هو العقاب الدنيوي لهم.
و أيضاً ينتظرهم العقاب الاُخروي يوم القيامة جزاء موقفهم هذا.
* * *
من هذا التلخيص للحكاية نتعرّف على جملة اُمور:
منها: أنّ هؤلاء القوم بلغ من تمسّكهم بالأصنام إلى الدرجة التي اعتقدوا فيها أنّ أصنامهم أصابت هوداً بالسوء ، لأنـّه تعرّض لها بالشتم و الإنكار.
إنّ هذا النمط من التمسّك بالآلهة الخرافية يكشف عن مدى التخلّف الذهني لهؤلاء القوم ، و من ثمّ مدى العناد الذي يطبع سلوكهم.
و منها: أنّ السماء قطعت لهم وعداً ـ على لسان هود ـ أن ترسل عليهم المطر ، و تُخصب أرضهم التي كانت تشكو الجدب ، و أن تمدّهم بأسباب القوّة في أجسادهم و أموالهم و شتّى مجالات حياتهم.
لكنّهم مع ذلك رفضوا هذا العرض و تمسّكوا بعنادهم المذكور.
و منها: أنّ السماء نتيجةً لموقفهم المنكر أبادتهم في نهاية المطاف ، و توعّدتهم بالعقاب الاُخروي أيضاً.
إذن ، الاُقصوصة تتحدّث عن عرض سخيّ قدّمته السماء ، لكنه رُفِضَ من قِبَلِ هؤلاء القوم ، و تتحدّث عن موقف بالغ الإلتواء من حيث التمسّك بالأصنام بنحو جعلهم يرفضون عطاء السماء و يفضّلون العطاء الوهمي لأصنامهم. ثمّ كانت النتيجة أنـّهم خسروا الدنيا بما فيها من الأصنام التي لم تستطع أن تمنع العذاب عنهم ، فضلا عن أنـّهم خسروا الآخرة بما ينتظرهم من العذاب المُقبل.
و أخيراً فإنّ الاُقصوصة تتحدّث عن أنّ النجاة ستكون من نصيب صاحب الرسالة ، و مَن آمن معه من حيث المصير الدنيوي.
إنّ هذه الدلالات التي استخلصناها من الاُقصوصة تمثل الخطوط المشتركة لكلّ الأقاصيص التي وردت في سورة هود ، مع ملاحظة أنّ كلّ قصة تطرح أنماطاً مختلفة من الذهنيات التي تطبع القوم الكافرين ، لكنها متماثلة من حيث الطابع العام للذهنية.
و يمكننا ملاحظة هذه الدلالات المتماثلة من خلال الاُسلوب الذي صيغت الأقاصيصُ به.
فقد بدأت كلّ قصة بعرض نمط الذهنية المتخلّفة لدى هؤلاء الأقوام. فقوم هود قالوا له: إنّ أصنامهم قد مسّت هوداً بسوء. و قوم صالح قالوا له: إنّهم كانوا يرجون منه أن يكون على عقليتهم ، لا أن ينهاهم عن عبادة الأصنام.
و قوم شعيب قالوا له: لانفقه كلامك ... إلى آخره.
ثمّ جاء اُسلوب العقاب متماثلا لدى الجميع ، و جاء التعقيب على ذلك متماثلا بدوره ، و جاء إنقاذ المؤمنين متماثلا أيضاً.
ففي قصة نوح أشار النص إلى عقاب الكافرين و إنقاذ المؤمنين بقوله:
﴿حَتّى إِذا جاءَ أَمْرُنا ... قُلْنَا: احْمِلْ فِيها﴾
و في قصة هود: قوم عاد:
﴿وَ لَمّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾
و في قصة صالح: مجتمع ثمود:
﴿فَلَمّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾
و في قصة شعيب:
﴿وَ لَمّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾
إذن الأقاصيص صيغت باُسلوب واحد من حيث الإشارة إلى مجيء الأمر و إنقاذ الرسول و من معه.
كما جاء التعقيب عليها واحداً ، ففي قصة هود جاء التعقيب كما يلي:
﴿أَلا بُعْداً لِعاد قَوْمِ هُود﴾
و في قصة صالح:
﴿أَلا بُعْداً لَِثمُودَ﴾
و في قصة شعيب:
﴿أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ﴾
إنّ كلّ هذه التعقيبات تدلّنا على أنّ الأقاصيص في هذه السورة خاضعة لنسق واحد من حيث تماثل الذهنية لدى الكافرين ، و تماثل العقاب ، و تماثل الإنقاذ ، و تماثل الضلال لدى المتمرّدين.
بيد أنـّه ينبغي أن نشير إلى أنّ كلّ اُقصوصة قد تميّزت بأحداث و مواقف متفرّدة في الآن ذاته. كما كان هناك تناسق بين مجموعة من الأقاصيص و بين سواها. فمثلاً قصص قوم عاد ومجتمع ثمود و شعيب تتناسق من حيث المواقف و المصائر و التعقيب عليها.
أمّا قصص نوح و إبراهيم و لوط ، فكلّ منها متميّزٌ عن الآخر ، و متميّز عن أقاصيص هود و صالح و شعيب.
و الحقّ أنّ إبراز أمثلة هذه التناسق و التميّز في الآن ذاته يتطلّب معالجة كبيرة لا يستطيع أن يستكنه أسرارها الفنّية إلاّ متذوّق خاص يمتلك قدرات فنّية من الصعب توافرها إلاّ لدى الخاصة من المتلقّين.
من هنا ، لا نجد مسوّغاً حادّاً يدفعنا إلى كشف الأسرار الفنّية لهذه الأقاصيص ، مادام هدفنا منصبّاً على تقديم المادة القصصية للمتذوّق العادي.
أمّا المتذوّق الخاص فله مكان آخر قد نتوفّر على تحقيقه في غير هذه الدراسات.
على أيّة حال ، يهمّنا أن نتابع أقاصيص هذه السورة كلاّ على حدة مع محاولة إبراز بعض خطوط التلاقي بينها.
و الأقاصيص هي: أقاصيص صالح و إبراهيم و لوط و شعيب و موسى ، لكننا سنؤجّل الحديث عن هؤلاء الأبطال إلى سورة اُخرى ، عدا قصة إبراهيم و لوط (عليهما السلام)ماداموا يتكرّرون رسماً في جمل من السورة عبر سياق خاص لكلّ سورة تستلزمها طبيعة الأفكار المطروحة في هذه السورة أو تلك ، ممّا يترتب على ذلك تفاوت بين الأقاصيص التي تتناول بطلا محدّداً ، بالرغم من رسمه متكرراً ، كما قلنا .