• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الجزء الأول سورة البقرة آیات102الی105


مجمع البيان ج : 1 ص : 330
وَ اتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشيَطِينُ عَلى مُلْكِ سلَيْمَنَ وَ مَا كفَرَ سلَيْمَنُ وَ لَكِنَّ الشيَطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاس السحْرَ وَ مَا أُنزِلَ عَلى الْمَلَكينِ بِبَابِلَ هَرُوت وَ مَرُوت وَ مَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَد حَتى يَقُولا إِنَّمَا نحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَينَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ مَا هُم بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَد إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ مَا يَضرُّهُمْ وَ لا يَنفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشترَاهُ مَا لَهُ فى الاَخِرَةِ مِنْ خَلَق وَ لَبِئْس مَا شرَوْا بِهِ أَنفُسهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ(102)
القراءة
قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و لكن الشياطين كفروا و لكن الله قتلهم و لكن الله رمى بتخفيف النون من لكن و رفع الاسم بعدها و الباقون بالتشديد و روي في الشواذ على الملكين بكسر اللام عن ابن عباس و الحسن .

الحجة
قال أبو علي اعلم أن لكن لا نعلم شيئا على مثاله في الأسماء و لا في الأفعال و هي مثل إن في أنها مثقلة ثم تخفف إلا أن إن و أن إذا خففتا فقد ينصب بهما كما كان ينصب بهما مثقلتين و إن كان غير الأعمال أكثر و لم نعلم أن أحدا حكى النصب في لكن إذا خففت فيشبه إن و النصب لم يجيء في هذا الحرف مخففا ليكون ذلك دلالة على أن الأصل في هذه الحروف أن لا تعمل إذا خففت لزوال اللفظ الذي به شابه الفعل في التخفيف و لكن و إن لم يشابه الفعل فإن فيه ما يشبه الفعل إذا فصلته كقولهم أراك منتفخا أريد أن تفخ مثل كتف فقدر منفصلا ثم خفف كذلك يقدر في لكن الانفصال فيشبه ليت و إن .

مجمع البيان ج : 1 ص : 331
اللغة
أتبعه أقتدي به و تتلو معناه تتبع لأن التالي تابع و قيل معناه تقرأ من تلوت كتاب الله أي قرأته قال الله تعالى هنالك تتلوا كل نفس ما أسلفت أي تتبع و قال حسان بن ثابت :
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله
و يتلو كتاب الله في كل مشهد و السحر و الكهانة و الحيلة نظائر يقال سحره يسحره سحرا و قال صاحب العين السحر عمل يقرب إلى الشياطين و من السحر الأخذة التي تأخذ العين حتى يظن أن الأمر كما ترى و ليس الأمر كما ترى و الجمع الأخذ فالسحر عمل خفي لخفاء سببه يصور الشيء بخلاف صورته و يقلبه عن جنسه في الظاهر و لا يقلبه عن جنسه في الحقيقة أ لا ترى إلى قوله سبحانه و تعالى يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى و السحر الغذاء قال امرؤ القيس :
أرانا موضعين لحتم غيب
و نسحر بالطعام و بالشراب و السحر أيضا الرئة يقال للجبان انتفخ سحره و الفتنة و الامتحان و الاختبار نظائر يقال فتنته فتنة و أفتنه قال أعشى همدان فجاء باللغتين :
لقد فتنتني و هي بالأمس أفتنت
سعيدا فأمسى قد قلا كل مسلم و فتنت الذهب في النار إذا اختبرته فيها لتعلم أ خالص هو أم مشوب فقيل لكل ما أحميته في النار فتنة و فتنت الخبزة في النار أنضجتها و منه قوله يوم هم على النار يفتنون أي يشوون و تعلم قد تكون بمعنى اعلم كما قيل علمت و أعلمت بمعنى و كذلك فهمت و أفهمت قال كعب بن زهير :
تعلم رسول الله أنك مدركي
و أن وعيدا منك كالأخذ باليد و قيل إن بينهما فرقا فمعنى تعلم تسبب إلى ما به تعلم من النظر في الأدلة و ليس في اعلم هذا المعنى فقد يقال ذلك لما يعلم بلا تأمل كقولك اعلم أن الفعل يدل على الفاعل و أن ما لم يسبق المحدث محدث و تقول في الأول تعلم النحو و الفقه و المرء تأنيثه المرأة و يقال مرة بلا ألف و الضرر و الألم و الأذى نظائر و الضر نقيض النفع يقال ضره يضره ضرا و أضر به إضرارا و اضطره إليه اضطرارا قال صاحب العين الضر و الضر لغتان فإذا ضممت إليه النفع فتحت الضاد و الضرير الذاهب البصر من الناس يقال رجل ضرير بين الضرارة
مجمع البيان ج : 1 ص : 332
و في الحديث لا ضرر و لا ضرار و ضريرا الوادي جانباه و كل شيء دنا منك حتى يزحمك فقد أضر بك و أصل الباب الانتقاص و الأذن في اللغة على ثلاثة أقسام ( أحدها ) بمعنى العلم كقوله فأذنوا بحرب من الله أي فاعلموا و قال الحطيئة :
ألا يا هند إن جددت وصلا
و إلا فأذنيني بانصرام و ( الثاني ) بمعنى الإباحة و الإطلاق كقوله تعالى فانكحوهن بإذن أهلهن و الثالث بمعنى الأمر كقوله نزله على قلبك بإذن الله و النفع و المنفعة و اللذة نظائر و حد النفع هو كل ما يكون به الحيوان ملتذا أما لأنه لذة أو يؤدي إلى لذة و حد الضرر كل ما يكون به الحيوان ألما أما لأنه ألم أو يؤدي إلى ألم و الخلاق النصيب من الخير قال أمية بن أبي الصلت :
يدعون بالويل فيها لا خلاق لهم
إلا سرابيل من قطر و أغلال .

الإعراب
قوله « ما تتلوا » فيه وجهان أحدهما أن تكون تتلوا بمعنى تلت و إنما جاز ذلك لما عام من اتصال الكلام بعهد سليمان فيمن قال إن المراد على عهد ملك سليمان أو في زمن ملك سليمان أو بملك سليمان فيمن لم يقدر حذف المضاف فدل ذلك على إن مثال المضارع أريد به الماضي قال سيبويه قد تقع يفعل في موضع فعل كقول الشاعر :
و لقد أمر على اللئيم يسبني
فمضيت ثمة قلت لا يعنيني و الوجه الآخر أن يكون يفعل على بابه لا يريد به فعل و لكنه حكاية حاول و إن كان ماضيا كقوله و إذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم فيسومونكم حكاية للحال في الوقت الذي كانت فيه و إن كان آل فرعون منقرضين في وقت هذا الخطاب و من هذا ما أنشده ابن الأعرابي :
جارية في رمضان الماضي
تقطع الحديث بالإيماض و قوله « و ما أنزل » ذكر في ما ثلاثة أقوال ( أحدها ) أنه بمعنى الذي و أنزل صلته و موضعه نصب بكونه معطوفا على السحر و قيل أنه معطوف على قوله « ما تتلوا الشياطين » و ( ثانيها ) أنه بمعنى أيضا و موضعه جر و يكون معطوفا بالواو على ملك سليمان و ( ثالثها ) أنه بمعنى الجحد و النفي و تقديره و ما كفر سليمان و لم ينزل الله السحر على الملكين و بابل اسم بلد لا ينصرف للتعريف و التأنيث و قوله فيتعلمون » لا
مجمع البيان ج : 1 ص : 333
يخلو من أحد أمرين إما أن يكون الفعل معطوفا بالفاء على فعل قبله أو يكون خبر مبتدأ محذوف و الفعل الذي قبله لا يخلو إما أن يكون كفروا من قوله « و لكن الشياطين كفروا » فيجوز أن يكون فيتعلمون معطوفا عليه لأن كفروا في موضع رفع بكونه خبر لكن فعطف عليه بالمرفوع و هو قول سيبويه فأما يعلمون فيجوز أن تكون في موضع نصب على الحال من كفروا أي كفروا في حال تعليمهم و يجوز أن يكون بدلا من كفروا لأن تعليم الشياطين كفر في المعنى و إذا كان كذلك جاز البدل فيه إذا كان إياه في المعنى كما كان مضاعفة العذاب لما كان لقي الآثام في قوله و من يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب جاز إبداله منه و إما أن يكون الفعل الذي عطف عليه يتعلمون قوله « يعلمون » و هو قول الفراء و أنكر الزجاج هذا القول قال لأن قوله « منهما » دليل على التعلم من الملكين خاصة قال أبو علي فهذا يدخل على قول سيبويه أيضا كما يدخل على قول الفراء لأنهما جميعا قالا بعطفه على فعل الشياطين قال و هذا الاعتراض ساقط من جهتين إحداهما أن التعلم و إن كان من الملكين خاصة فلا يمتنع أن يكون قوله « فيتعلمون » عطف على كفروا و على يعلمون و إن كان متعلقا بهما و كان الضمير في منهما راجعا إلى الملكين فإن قلت كيف يجوز هذا و هل يسوغ أن يقدر هذا التقدير و يلزمك أن يكون النظم و لكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر فيتعلمون منهما فتضمر الملكين قبل ذكرهما و الإضمار قبل الذكر غير جائز و إن لزمك في هذا القول الإضمار قبل الذكر و كان ذلك غير جائز لزم أن لا تجيز العطف على واحد من الفعلين اللذين هما كفروا و يعلمون بل تعطفه على فعل مذكور بعد ذكر الملكين كما ذهب إليه أبو إسحاق الزجاج فإنه عطف على ما يوجبه معنى الكلام عند قوله « فلا تكفر » أي فيأبون فيتعلمون أو على يعلمان من قوله « ما يعلمان من أحد » لأنهما فعلان مذكوران بعد الملكين فالجواب أما النظم فإنه على ما ذكرته و هو صحيح و أما الإضمار قبل الذكر فإن منهما في قوله « فيتعلمون منهما » إذا كان ضميرا عائدا إلى الملكين فإن إضمارهما بعد تقدم ذكرهما و ذلك سائغ و نظيره قوله تعالى و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات لما تقدم ذكره أضمر اسمه و لو قال ابتلى ربه إبراهيم لم يجز لكونه إضمار قبل الذكر و هذا بين جدا فالاعتراض بذلك على سيبويه و الفراء ساقط و أما الجهة الأخرى التي يسقط منها ذلك فهي أنه قد قيل في قوله تعالى « و ما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر » ثلاثة أقوال يأتي شرحها في المعنى قولان منها تعلم السحر فيهما من الملكين و قول منها تعلمه من الشياطين فيكون نظم الكلام على هذا و لكن الشياطين هاروت و ماروت كفروا يعلمون الناس السحر فيتعلمون منهما « و ما أنزل على الملكين ببابل » أي لم ينزل « و ما
مجمع البيان ج : 1 ص : 334
يعلمان من أحد » أي و ما يعلم هاروت و ماروت من أحد فمنهما على هذا القول لا يرجع إلى الملكين إنما يرجع إلى هاروت و ماروت اللذين هما الشياطين في المعنى فأما حمل الكلام على التثنية و الشياطين جمع فسائغ يجوز أن يحمل على المعنى فيجمع و على لفظ هاروت و ماروت فيثنى و نظيره قوله و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ثم قال فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى و يجوز أن يكون يتعلمون معطوفا على يعلمان من قوله « و ما يعلمان من أحد » فيكون الضمير الذي في يتعلمون لأحد إلا أنه جمعه لما حمل على المعنى كقوله تعالى فما منكم من أحد عنه حاجزين فأما جواز عطفه على ما ذكره الزجاج من قوله و قيل إن يتعلمون عطف على ما يوجبه معنى الكلام لأن المعنى إنما نحن فتنة فلا تكفر فيأبون فيتعلمون و هذا قول حسن فهو قول الفراء قال أبو علي و هو عندي جائز لأنه من المضمر الذي فهم للدلالة عليه و أما كونه خبرا للمبتدأ المحذوف فعلى أن تقديره فهم يتعلمون منهما و ذلك غير ممتنع و قد قيل في قوله منهما أن الضمير عائد إلى السحر و الكفر قاله أبو مسلم قال لأنه تقدم الدليل عليها في قوله « كفروا » و هذا كقوله سبحانه سيذكر من يخشى و يتجنبها الأشقى أي يتجنب الذكرى و قوله « و لقد علموا لمن اشتراه » قال الزجاج دخول اللام على قد على جهة القسم و التوكيد و قال النحويون في قوله « لمن اشتراه » قولين جعل بعضهم من بمعنى الشرط و جعل الجواب « ما له في الآخرة من خلاق » و هذا ليس بموضع شرط و جزاء و لكن المعنى و لقد علموا الذي اشتراه ما له في الآخرة من خلاق كما تقول و الله لقد علمت للذي جاءك ما له من عقل انتهى كلام الزجاج و أقول فموضع من رفع بالابتداء و موضع « ما له في الآخرة من خلاق » رفع على أنه خبر المبتدأ و هذا قول سيبويه فاللام في قوله « لمن اشتراه » لام الابتداء دون القسم لأن هذه اللام قد تكون تأكيدا لغير القسم و اللام مع الجملة التي بعدها في موضع نصب بعلموا كما أن الاستفهام كذلك في نحو علمت أ زيد في الدار أم عمرو و هذا هو المسمى تعليقا قال أبو علي قول من قال إن من جزاء بعيد لأنه إذا كان جزاءا فاللام في لمن اشتراه سبب دخوله القسم كالتي في قوله و لئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك و لئن شئنا لنذهبن فيقتضي ذلك قسما و القسم الذي يقتضيه قوله « لمن اشتراه » إذا حملت من على أنه جزاء لا يخلو من أن يكون علموا لأن العلم و الظن قد يقامان مقام القسم كما في قوله :
و لقد علمت لتأتين منيتي
إن المنايا لا تطيش سهامها و قوله و ظنوا ما لهم من محيص أو يكون مضمرا بين قوله « علموا » و قوله « لمن اشتراه »
مجمع البيان ج : 1 ص : 335
و يبعد أن يكون علموا قسما و قوله « لمن اشتراه » جوابه هنا لأنه في هذا الموضع محلوف عليه مقسم و المقسم عليه لا يكون قسما لأنه يلزم من هذا أن يدخل قسم على قسم لأن في أول الكلام قسما و هو المضمر الجالب للأم في لقد فهذا هو القسم الأول و الثاني هو الذي يدخل عليه هذا القسم الأول المضمر و هو قد علموا إذا أجبته باللام فيمن جعله ابتداء و بالنفي فيمن جعل من جزاءا و دخول القسم على القسم يبعد عند سيبويه و لا يسوغ فمن أجل هذا بعد عنده أن يكون علموا هنا بمنزلة القسم و أن يجاب بجوابه فقال سيبويه و الخليل لا يقوى أن تقول و حقك و حق زيد لأفعلن و الواو الثاني واو قسم لا يجوز إلا مستكرها لأنه لا يجوز هذا في محلوف عليه إلا أن يضم الآخر إلى الأول و يحلف بهما على المحلوف عليه و لهذا جعل هو و الخليل الحرف في قوله و الليل إذا يغشى و النهار إذا تجلى و ما خلق الذكر و الأنثى للعطف دون القسم فلهذا حمل اللام في لمن اشتراه على أنها لام ابتداء دون قسم و ليست كاللام الأخرى في أنها تقتضي قسما لا محالة في نحو قولهم لعمرك لأفعلن كذا فلا يلزم على تأوله دخول قسم على قسم و يبعد أيضا أن يكون القسم مضمرا بين قوله « و لقد علموا » و بين « لمن اشتراه » لأن علموا يقتضي مفعوليه و إذا وقع قسم بينه و بين مفعوليه لم يجب و كان لغوا كما أنه في نحو قولك زيد و الله منطلق و إن تأتني و الله أتيتك لغو لا جواب له و لأنه لو أجيب للزم اعتماد علمت عليه فصار القسم في موضع نصب لوقوعه موقع مفعولي علمت و ذلك يمتنع لأنك لو جعلته في موضع مفعوليه لأخرجته عما وضع له لأنه إذا وضع ليؤكد به غيره فلو جعلته في موضع المفعولين لأخرجته عن أن يكون تأكيدا لغيره و لجعلته قائما بنفسه و لو جاز أن يكون في موضع مفعولي علمت لجاز أن يوصل به و يوصف به النكرة و هذا ممتنع فمعلوم إذا أن القسم بعد علمت لا يلزم أن يكون له جواب فإضمار القسم بعد علموا غير جائز لأنه ليس يجوز إلا أن يكون له جواب يدل عليه إذا حذف كما يدل ليفعلن و نحوه من الجواب على القسم و المحذوف فإذا لم يجز أن يكون له جواب لم يجز حذفه و إرادته فقد بعد أيضا أن يكون القسم مضمرا بعد علمت فلما كان علموا مقسما عليه في هذا الموضع فإذا جعلت من بغير معنى الذي لزمك أن يكون علمت قسما و يكون قوله « ما لهم في الآخرة من خلاق » و جوابه و كان دخول القسم على القسم غير سائغ عند سيبويه و حمل اللام في لمن على أنه لام الابتداء و من بمعنى الذي لئلا يلزم ما لا يستحسنه و لا يستجيزه من دخول قسم على قسم فمذهب سيبويه في هذا هو البين .

المعنى
ثم عطف سبحانه على ما تقدم من أنه نبذ فريق من اليهود كتاب الله

بعدی
مجمع البيان ج : 1 ص : 336
الذي في أيديهم وراء ظهورهم فقال « و اتبعوا ما تتلوا الشياطين » و اختلف في المعنى بقوله « و اتبعوا » على ثلاثة أقوال ( أحدها ) أنهم اليهود الذين كانوا على عهد النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) عن الربيع و ابن إسحاق و السدي ( و ثانيها ) أنهم اليهود الذين كانوا في زمن سليمان عن ابن عباس و ابن جريج ( و ثالثها ) أن المراد به الجميع لأن متبعي السحر لم يزالوا منذ عهد سليمان إلى أن بعث محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و روي عن الربيع أن اليهود سألوا محمدا (صلى الله عليهوآلهوسلّم) زمانا عن التوراة لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوا عنه فيخصمهم فلما رأوا ذلك قالوا هذا أعلم بما أنزل علينا منا و أنهم سألوه عن السحر و خاصموه به فأنزل الله تعالى « و اتبعوا ما تتلوا الشياطين » الآية أي اقتدوا بما كانت تتلو الشياطين أي تتبع و تعمل به عن ابن عباس و قيل معناه تقرأ عن عطا و قتادة و قيل معناه تكذب عن أبي مسلم يقال تلا عليه إذا كذب قال سبحانه و تعالى و يقولون على الله الكذب أ تقولون على الله ما لا تعلمون فإذا صدق قيل تلا عنه و إذا أبهم جاز الأمران و اختلف في قوله « الشياطين » فقيل هم شياطين الجن لأنه المستفاد من إطلاق هذه اللفظة و قيل هم شياطين الإنس المتمردون في الضلالة كما قال جرير :
أيام يدعونني الشيطان من غزلي
و كن يهوينني إذ كنت شيطانا و قيل هم شياطين الجن و الإنس و قوله « على ملك سليمان » قيل معناه في ملك سليمان كقول أبي النجم :
فهي على الأفق كعين الأحول ) أي في الأفق ثم إن هذا يحتمل معنيين ( أحدهما ) في عهد ملك سليمان ( و الثاني ) في نفس ملك سليمان كما يقال فلان يطعن في ملك فلان و في نفس فلان و قيل معناه على عهد ملك سليمان و قال أبو مسلم معناه ما كانت تكذب الشياطين على ملك سليمان و على ما أنزل على الملكين و أما قوله « و ما كفر سليمان و لكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر » بين بهذا أن ما كانت تتلوه الشياطين و تأثره و ترويه كان كفرا إذ برأ سليمان (عليه السلام) منه و لم يبين سبحانه بقوله « ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان » أنها أي شيء كانت تتلو الشياطين ثم لم يبين بقوله سبحانه « و ما كفر سليمان » أن ذلك الكفر أي نوع من أنواع الكفر حتى قال « و لكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر » فبين سبحانه أن ذلك الكفر كان من نوع السحر فإن اليهود أضافوا إلى سليمان السحر و زعموا أن ملكه كان به فبرأه الله منه و هو قول ابن عباس و ابن جبير و قتادة و اختلف في السبب الذي لأجله أضافت اليهود السحر إلى سليمان (عليه السلام) فقيل إن سليمان كان قد جمع كتب السحرة و وضعها في خزانته و قيل كتمها تحت كرسيه لئلا
مجمع البيان ج : 1 ص : 337
يطلع عليها الناس و لا يعلموا بها فلما مات سليمان استخرجت السحرة تلك الكتب و قالوا إنما تم ملك سليمان بالسحر و به سخر الإنس و الجن و الطير و زينوا السحر في أعين الناس بالنسبة إلى سليمان (عليه السلام) و شاع ذلك في اليهود و قبلوه لعداوتهم لسليمان عن السدي و روي العياشي بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال لما هلك سليمان وضع إبليس السحر ثم كتبه في كتاب و اطواه و كتب على ظهره هذا ما وضع آصف بن برخيا من ملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم من أراد كذا و كذا فليقل كذا و كذا ثم دفنه تحت السرير ثم استثاره لهم فقال الكافرون ما كان يغلبنا سليمان إلا بهذا و قال المؤمنون هو عبد الله و نبيه فقال الله في كتابه « و اتبعوا ما تتلوا الشياطين » الآية و في قوله « و لكن الشياطين كفروا » ثلاثة أقوال ( أحدها ) أنهم كفروا بما استخرجوه من السحر و ( ثانيها ) أنهم كفروا بما نسبوا إلى سليمان من السحر ( و ثالثها ) أنهم سحروا فعبر عن السحر بالكفر و في قوله « يعلمون الناس السحر » قولان ( أحدهما ) أنهم ألقوا السحر إليهم فتعلموه ( و الثاني ) أنهم دلوهم على استخراجه من تحت الكرسي فتعلموه و قوله « و ما أنزل على الملكين ببابل هاروت و ماروت » فيه وجوه .
( أحدها ) أن المراد أن الشياطين يعلمون الناس السحر و الذي أنزل على الملكين و إنما أنزل على الملكين وصف السحر و ماهيته و كيفية الاحتيال فيه ليعرفا ذلك و يعرفاه الناس فيجتنبوه غير أن الشياطين لما عرفوه استعملوه و إن كان المؤمنون إذا عرفوه اجتنبوه و انتفعوا بالاطلاع على كيفيته ( و ثانيها ) أن يكون المراد على ما ذكرناه قبل من أن معناه و اتبعوا ما كذبت به الشياطين على ملك سليمان و على ما أنزل على الملكين أي معهما و على ألسنتهما كما قال سبحانه ما وعدتنا على رسلك أي معهم و على ألسنتهم ( و ثالثها ) أن يكون ما بمعنى النفي و المراد و ما كفر سليمان و لا أنزل الله السحر على الملكين و لكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت و ماروت و يكون قوله ببابل هاروت و ماروت من المؤخر الذي معناه التقديم و يكون في هذا التأويل هاروت و ماروت رجلين من جملة الناس و يكون الملكان اللذان نفى عنهما السحر جبرئيل و ميكائيل (عليهماالسلام) لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تدعي أن الله عز و جل أنزل السحر على لسان جبرائيل و ميكائيل على سليمان فأكذبهم الله في ذلك و يجوز أن يكون هاروت و ماروت يرجعان إلى الشياطين كأنه قال و لكن الشياطين هاروت و ماروت كفروا و يسوغ ذلك كما ساغ في قوله و كنا لحكمهم شاهدين يعني لحكم داود و سليمان و يكون على هذا قوله « و ما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة » راجعا إلى هاروت و ماروت و معنى قولهما إنما نحن فتنة
مجمع البيان ج : 1 ص : 338
« فلا تكفر » يكون علي طريق الاستهزاء و التماجن لا على سبيل النصيحة و التحذير و يجوز على هذا التأويل أيضا الذي يتضمن النفي و الجحد أن يكون هاروت و ماروت اسمين للملكين و نفى عنهما إنزال السحر و يكون قوله « و ما يعلمان » راجعا إلى قبيلتين من الجن و الإنس أو إلى شياطين الجن و الإنس فيحسن التثنية لهذا و روي هذا التأويل في حمل ما على النفي عن ابن عباس و غيره من المفسرين و حكي عنه أيضا أنه كان يقرأ على الملكين بكسر اللام و يقول متى كان العلجان ملكين إنما كانا ملكين و على هذه القراءة لا ينكر أن يرجع قوله « و ما يعلمان من أحد » إليهما و يمكن على هذه القراءة في الآية وجه آخر و إن لم يحمل قوله « و ما أنزل على الملكين » على الجحد و النفي و هو أن يكون هؤلاء الذين أخبر عنهم اتبعوا ما تتلوه الشياطين و تدعيه على ملك سليمان و اتبعوا ما أنزل على الملكين من السحر و لا يكون الإنزال مضافا إلى الله تعالى و إن أطلق لأنه جل و عز لا ينزل السحر بل يكون أنزله إليهما بعض الضلال و يكون معنى أنزل و إن كان من الأرض حمل إليهما لا من السماء أنه أتي به من نجود البلاد و أعاليها فإن من هبط من النجد إلى الغور يقال نزل و اختلف في بابل فقيل هي بابل العراق لأنه تبلبلت بها الألسن عن ابن مسعود و قيل هي بابل دماوند عن السدي و قيل هي نصيبين إلى رأس العين و هاروت و ماروت قيل هما رجلان على ما تقدم بيانه و قيل هما ملكان من الملائكة أهبطهما الله إلى الأرض على صورة الإنس لئلا ينفر الناس منهما إذا كانا على صورة الملائكة و اختلف في سبب هبوطهما فقيل إن الله أهبطهما ليأمرا بالدين و ينهيا عن السحر و يفرقا بينه و بين المعجز لأن السحر كان كثيرا في ذلك الوقت ثم اختلف في ذلك فقال قوم كانا يعلمان الناس كيفية السحر و ينهيان عن فعله ليكون النهي بعد العلم فإن من لا يعرف الشيء لا يمكنه اجتنابه و قال آخرون لم يكن لهما تعليم السحر لما في ذلك من الإغراء بفعله و إنما اهبطا لمجرد النهي إذ كان السحر فاشيا و قيل أيضا في سبب هبوطهما إن الملائكة تعجبت من معاصي بني آدم مع كثرة نعم الله عليهم فقال طائفة منهم يا ربنا أ ما تغضب مما يعمل خلقك في أرضك و مما يفترون عليك من الكذب و الزور و يرتكبونه من المعاصي و قد نهيتهم عنها و هم في قبضتك و تحت قدرتك فأحب الله سبحانه أن يعرفهم ما من به عليهم من عجيب
مجمع البيان ج : 1 ص : 339
خلقهم و ما طبعهم عليه من الطاعة و عصمهم به من الذنوب فقال لهم اندبوا منكم ملكين حتى أهبطهما إلى الأرض و اجعل فيهما من طبائع المطعم و المشرب و الشهوة و الحرص و الأمل مثل ما جعلت في ولد آدم ثم اختبرهما في الطاعة لي قال فندبوا لذلك هاروت و ماروت و كانا من أشد الملائكة قولا في العيب لولد آدم و استجرار عتب الله عليهم قال فأوحى الله إليهما أن اهبطا إلى الأرض فقد جعلت فيكما من طبائع المطعم و المشرب و الشهوة و الحرص و الأمل مثل ما جعلت في ولد آدم و أنظر أن لا تشركا بي شيئا و لا تقتلا النفس التي حرم الله قتلها و لا تزنيا و لا تشربا الخمر ثم أهبطهما إلى الأرض على صورة البشر و لباسهم فرفع لهما بناء مشرف فأقبلا نحوه فإذا امرأة جميلة حسناء أقبلت نحوهما فوقعت في قلوبهما موقعا شديدا ثم إنهما ذكرا ما نهيا عنه من الزنا فمضيا ثم حركتهما الشهوة فرجعا إليها فراوداها عن نفسها فقالت إن لي دينا أدين به و لست أقدر في ديني على أن أجيبكما إلى ما تريدان إلا أن تدخلا في ديني فقالا و ما دينك فقالت لي إله من عبده و سجد له كان لي السبيل إلى أن أجيبه إلى كل ما سألني قالا و ما إلهك قالت هذا الصنم قال فائتمرا بينهما فغلبتهما الشهوة التي جعلت فيهما فقالا لها نجيبك إلى ما سألت قالت فدونكما فاشربا الخمر فإنه قربان لكما عنده و به تصلان إلى ما تريدان فقالا هذه ثلاث خصال قد نهانا ربنا عنها الشرك و الزنا و شرب الخمر فائتموا بينهما ثم قالا لها ما أعظم البلية بك قد أجبناك قال فشربا الخمر و سجدا للصنم ثم راوداها عن نفسها فلما تهيأت لهما دخل عليهما سائل يسأل فلما رأياه فزعا منه فقال لهما إنكما لمريبان قد خلوتما بهذه المرأة الحسناء إنكما لرجلا سوء و خرج عنهما فقالت لهما بادرا إلى هذا الرجل فاقتلاه قبل أن يفضحكما و يفضحني ثم دونكما فاقضيا حاجتكما و أنتما مطمئنان آمنان قال فقاما إلى الرجل فأدركاه فقتلاه ثم رجعا إليها فلم يرياها و بدت لهما سوآتهما و نزع عنهما رياشهما و سقط في أيديهما فأوحى الله تعالى إليهما إنما أهبطتكما إلى الأرض ساعة من نهار فعصيتماني بأربع معاص قد نهيتكما عنها و تقدمت إليكما فيها فلم تراقباني و لم تستحيا مني و قد كنتما أشد من ينقم على أهل الأرض من المعاصي فاختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة قال فاختارا عذاب الدنيا فكانا يعلمان الناس السحر بأرض بابل ثم لما علما الناس رفعا من الأرض إلى الهواء فهما معذبان منكسان معلقان في الهواء إلى يوم القيامة هذا الخبر رواه العياشي مرفوعا إلى أبي جعفر الباقر (عليه السلام) و من قال بعصمة الملائكة (عليهم السلام) لم يجز هذا الوجه و قوله « و ما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر » يعني الملكين ما يعلمان أحدا و العرب تستعمل لفظة علم بمعنى أعلم أي لا يعرفان
مجمع البيان ج : 1 ص : 340
صفات السحر و كيفيته حتى يقلا أي الأبعد أن يقولا إنما فتنة أي محنة لأن الفتنة بمعنى المحنة و الاختبار و الابتلاء و إنما كانا محنة من حيث ألقيا إلى المكلفين أمرا لينزجروا عنه و يمتنعوا من مواقعته و هم إذا عرفوه أمكن أن يستعملوه و يرتكبوه فقالا لمن يطلعانه على ذلك لا تكفر باستعماله و لا تعدل عن الغرض في إلقائه إليك فإنه إنما ألقي إليك لتجتنبه لا لتفعله و لا يكون على هذا التأويل تعلم السحر كفرا و معصية كما أن من عرف الزنا لم يأثم بأنه عرفه و إنما يأثم بالعمل و قيل إن المراد به نفي تعليمهما السحر و التقدير و لا يعلمان أحدا السحر فيقولان إنما نحن فتنة فعلى هذا يكون تعليم السحر من الشياطين و النهي عنه من الملكين و قوله « فلا تكفر » يعني به أحد ثلاثة أشياء ( أحدها ) فلا تكفر بالعمل بالسحر ( و الثاني ) فلا تكفر بتعلم السحر و يكون مما امتحن الله عز و جل بالملكين الناس في ذلك الوقت و جعل المحنة في الكفر و الإيمان أن يقبل القابل تعلم السحر فيكون بتعلمه كافرا و بتركه التعلم مؤمنا لأن السحر كان قد كثر و هذا ممكن أن يمتحن الله به كما امتحن بالنهر في قوله فمن شرب منه فليس مني ( و الثالث ) فلا نكفر بكليهما و قوله « فيتعلمون منهما » أي من هاروت و ماروت و قيل من السحر و الكفر و قيل أراد بدلا مما علماهم و يكون المعنى أنهم يعدلون عما علمهم الملكان من النهي عن السحر إلى فعله و استعماله كما يقال ليت لنا من كذا و كذا أي بدلا منه و كقول الشاعر :
جمعت من الخيرات و طبا و علبة
و صرا لإخلاف المزممة البزل
و من كل أخلاق الكرام نميمة
و سعيا على الجار المجاور بالمحل .
و قوله « ما يفرقون به بين المرء و زوجه » فيه وجوه ( أحدها ) أنهم يوجدون أحدهما على صاحبه و يبغضونه إليه فيؤدي ذلك إلى الفرقة عن قتادة ( و ثانيها ) أنه يغوون أحد الزوجين و يحملونه على الكفر و الشرك بالله تعالى فيكون بذلك قد فارق زوجة الآخر المؤمن المقيم على دينه فيفرق بينهما اختلاف النحلة و تباين الملة ( و ثالثها ) أنهم يسعون بين الزوجين بالنميمة و الوشاية حتى يؤول أمرهما إلى الفرقة و المباينة و قوله « و ما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله » أي لا يلحقون بغيرهم ضررا إلا بعلم الله فيكون على وجه التهديد و قيل معناه إلا بتخلية الله عن الحسن قال من شاء الله منعه فلا يضره السحر و من شاء خلى بينه و بينه فيضره و قوله « و يتعلمون ما يضرهم و لا ينفعهم » معناه يضرهم
مجمع البيان ج : 1 ص : 341
في الآخرة و لا ينفعهم و إن كان ينفعهم في الدنيا لأنهم لما قصدوا بتعلمه أن يفعلوه و يرتكبوه لا أن يجتنبوه صار ذلك بسوء اختيارهم ضررا عليهم و قوله « و لقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق » يعني اليهود الذين نبذوا كتاب وراء ظهورهم علموا لمن استبدل السحر بدين الله فالهاء في اشتراه كناية عن السحر عن قتادة و جماعة من المفسرين فما له في الآخرة من نصيب و قوله « و لبئس ما شروا به أنفسهم » يعني بئس ما باعوا به حظ أنفسهم حيث اختاروا التكسب بالسحر و قوله « لو كانوا يعلمون » بعد قوله « و لقد علموا » ذكر فيه وجوه ( أحدها ) أن يكون الذين علموا غير الذين لم يعلموا أو يكون الذين علموا الشياطين أو الذين خبر تعالى عنهم بأنهم نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم و الذين لم يعلموا هم الذين تعلموا السحر ( و ثانيها ) أن يكون الذين علموا هم الذين لم يعلموا إلا أنهم علموا شيئا و لم يعلموا غيره فكأنه تعالى وصفهم بأنهم عالمون بأنه لا نصيب لمن اشترى ذلك و رضيه لنفسه على الجملة و لم يعلموا كنه ما يصيرون إليه من العقاب الدائم ( و ثالثها ) أن تكون الفائدة في نفي العلم بعد إثباته أنهم لم يعملوا بما علموا فكأنهم لم يعلموا كما قال كعب بن زهير يصف ذئبا و غرابا تبعاه ليصيبا من زاده :
إذا حضراني قلت لو تعلمانه
أ لم تعلما أني من الزاد مرمل فنفى عنهما العلم ثم أثبته و المعنى في نفيه العلم عنهما أنها لم يعملا بما علماه فكأنهما لم يعلماه و في هذه الآية دلالة على أن الأفعال تختلف باختلاف المقاصد و لذلك كان تعلم السحر لإزالة الشبهة و التحرز منه و اجتنابه إيمانا و لتصديقه و استعماله كفرا و اختلف في ماهية السحر على أقوال فقيل أنه ضرب من التخييل و صنعة من لطيف الصنائع و قد أمر الله تعالى بالتعوذ منه و جعل التحرز بكتابه وقاية منه و أنزل فيه سورة الفلق و هو قول الشيخ المفيد أبي عبد الله من أصحابنا و قيل أنه خدع و مخاريق و تمويهات لا حقيقة لها يخيل إلى المسحور أن لها حقيقة و قيل أنه يمكن الساحر أن يقلب الإنسان حمارا و يقلبه من صورة إلى صورة و ينشىء الحيوان على وجه الاختراع و هذا لا يجوز و من صدق به فهو لا يعرف النبوة و لا يأمن أن تكون معجزات الأنبياء من هذا النوع و لو أن الساحر و المعزم قدرا على نفع أو ضر و علما الغيب لقدرا على إزالة الممالك و استخراج الكنوز من معادنها و الغلبة على البلدان بقتل الملوك من غير أن ينالهم مكروه و ضرر فلما رأيناهم أسوء الناس حالا و أكثرهم مكيدة و احتيالا علمنا أنهم لا يقدرون على شيء من
مجمع البيان ج : 1 ص : 342
ذلك فأما ما روي من الأخبار أن النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) سحر فكان يرى أنه فعل ما لم يفعله و أنه لم يفعله ما فعله فأخبار مفتعلة لا يلتفت إليها و قد قال الله سبحانه و تعالى حكاية عن الكفار إن تتبعون إلا رجلا مسحورا فلو كان للسحر عمل فيه لكان الكفار صادقين في مقالهم حاشا النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) من كل صفة نقص تنفر عن قبول قوله فإنه حجة الله على خليقته و صفوته على بريته .
وَ لَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا وَ اتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ خَيرٌ لَّوْ كانُوا يَعْلَمُونَ(103)
اللغة
المثوبة و الثواب و الأجر نظائر و نقيض المثوبة العقوبة يقال ثاب يثوب ثوبا و ثوابا و أثابه إثابة و مثوبة و ثوابا و الأصل في الثواب ما رجع إليك من شيء يقال اعترت الرجل غشية ثم ثابت إليه نفسه و لذلك سمي الثواب ثوابا لأنه العائد إلى صاحبه مكافاة لما فعل و منه التثويب في الأذان و هو ترجيع الصوت يقال ثوب الداعي إذا كرر دعاءه إلى الحرب أو غيرها و يقال انهزم القوم ثم ثابوا أي رجعوا و الثوب مشتق من هذا أيضا لأنه ثاب لباسا بعد أن كان قطنا أو غزلا و المثابة الموضع يثوب إليه الناس و في الشواذ قرأ قتادة لمثوبة بسكون الثاء و فتح الواو و هي لغة كما قالوا مشورة و مشورة و أجمع العرب على قولهم هذا خير منه و هذا شر منه إلا بعض بني عامر فإنهم يقولون هذا أخير من ذا و أشر من ذا .

الإعراب
اللام في لمثوبة لام الابتداء و هي في موضع جواب لو لأنها تنبىء عن قولك لا تثيبوا و الضمير في أنهم عائد إلى الذين يتعلمون السحر .

المعنى
ثم قال سبحانه « و لو أنهم » يعني الذين يتعلمون السحر و يعملونه و قيل هم اليهود « آمنوا » أي صدقوا بمحمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و القرآن « و اتقوا » السحر و الكفر و قيل جميع المعاصي « لمثوبة من عند الله خير » أي لأثيبوا و ثواب الله خير « لو كانوا يعلمون » أي لو كانوا يستعملون ما يعلمونه و ليس أنهم كانوا يجهلون ذلك كما يقول الإنسان لصاحبه و هو يعظه ما أدعوك إليه خير لك لو كنت تعقل أو تنظر في العواقب و في قوله « لو كانوا يعلمون » و هو خير علموا أو لم يعلموا وجهان ( أحدهما ) أن معناه لو كانوا يعلمون لظهر لهم بالعلم ذلك أي لعلموا أن ثواب الله خير من السحر ( و الآخر ) أن المعنى فيه الدلالة على جهلهم و ترغيبهم في أن يعلموا ذلك و أن يطلبوا ما هو خير لهم من السحر و هو ثواب الله الذي ينال بطاعاته و اتباع مرضاته و في هذه الآية دلالة على بطلان قول أصحاب
مجمع البيان ج : 1 ص : 343
المعارف لأنه نفى ذلك العلم عنهم .
يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَقُولُوا رَعِنَا وَ قُولُوا انظرْنَا وَ اسمَعُوا وَ لِلْكفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ(104)
اللغة
المراعاة التفقد للشيء في نفسه أو أحواله و المراعاة و المحافظة و المراقبة نظائر و نقيض المراعاة الإغفال و رعى الله فلانا أي حفظه و رعيت له حقه و عهده فيمن خلف و أرعيته سمعي إذا أصغيت إليه و راعيته بعيني إذا لاحظته و جمع الراعي رعاء و رعاة و رعيان و كل من ولي قوما فهو راعيهم و هم رعيته و المرعي من الناس المسوس و الراعي السائس و استرعاه الله خلقه أي ولاه أمرهم ليرعاهم و الإرعاء الإبقاء على أخيك و الاسم الرعوى و الرعيا و راعني سمعك أي استمع و رجل ترعية للذي صنعته و صنعه آبائه الرعاية و قال الشاعر :
يسوسها ترعية حاف فضل و أصل الباب الحفظ و نظرت الرجل أنظر نظرة بمعنى انتظرته و ارتقبته .

المعنى
لما قدم سبحانه نهي اليهود عن السحر عقبه بالنهي عن إطلاق هذه اللفظة فقال سبحانه « يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا » كان المسلمون يقولون يا رسول الله راعنا أي استمع منا فحرفت اليهود هذه اللفظة فقالوا يا محمد راعنا و هم يلحدون إلى الرعونة يريدون به النقيصة و الوقيعة فلما عوتبوا قالوا نقول كما يقول المسلمون فنهى الله عن ذلك بقوله « لا تقولوا راعنا و قولوا انظرنا » و قال قتادة إنها كلمة كانت تقولها اليهود على وجه الاستهزاء و قال عطا هي كلمة كانت الأنصار تقولها في الجاهلية فنهوا عنها في الإسلام و قال السدي كان ذلك كلام يهودي بعينه يقال له رفاعة بن زيد يريد بذلك الرعونة فنهي المسلمون عن ذلك و قال الباقر (عليه السلام) هذه الكلمة سب بالعبرانية إليه كانوا يذهبون و قيل كان معناه عندهم اسمع لا سمعت و روي عن الحسن أنه كان يقرأ راعنا بالتنوين و هو شاذ لا يؤخذ به و معنى « انظرنا » يحتمل وجوها ( أحدها ) انتظرنا نفهم و نتبين ما تعلمنا ( و الآخر ) فقهنا و بين لنا يا محمد ( و الثالث ) أقبل علينا و يجوز أن يكون معناه أنظر إلينا فحذف حرف الجر و قوله « و اسمعوا » يحتمل أمرين ( أحدهما ) أن معناه اقبلوا ما يأمركم به قوله سمع الله لمن حمده و سمع الله دعاءك أي قبله و ( الثاني ) أن معناه استمعوا ما يأتيكم به الرسول عن الحسن « و للكافرين » بمحمد و القرآن « عذاب أليم » أي موجع
مجمع البيان ج : 1 ص : 344
قال الحسن و الضحاك كل ما في القرآن يا أيها الذين آمنوا فإنه نزل بالمدينة .
مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ وَ لا المُْشرِكِينَ أَن يُنزَّلَ عَلَيْكم مِّنْ خَير مِّن رَّبِّكمْ وَ اللَّهُ يخْتَص بِرَحْمَتِهِ مَن يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضلِ الْعَظِيمِ(105)
اللغة
المودة المحبة و الاختصاص بالشيء هو الانفراد به و ضد الاختصاص الاشتراك و يقال خصه بالشيء يخصه خصا إذا فضله به و الخصاص الفرج و الخص بيت من قصب أو شجر و إنما سمي خصا لأنه يرى ما فيه من خصاصة و كل خلل أو خرق يكون في السحاب أو المنخل فهو الخصاصة و أصل الباب الانفراد بالشيء و منه يقال للفرج الخصائص لانفراد كل واحد عن الآخر من غير جمع بينها و يقال أخصصته بالفائدة و اختصصت أنا بها كما يقال أفردته بها و انفردت أنا بها .

الأعراب
« الذين كفروا » في موضع رفع لأنه فاعل يود و المشركين في موضع جر بالعطف على أهل الكتاب و تقديره و لا من المشركين و قوله « أن ينزل » في موضع نصب لأنه مفعول يود و من في قوله « من خير » زائدة مؤكدة كقولك ما جاءني من أحد و موضع من خير رفع و من في قوله « من ربكم » لابتداء الغاية و التي في قوله « من أهل الكتاب » للتنويع و التبيين مثل التي في قوله فاجتنبوا الرجس من الأوثان .

المعنى
ثم أخبر سبحانه أيضا عن اليهود فقال « ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب و لا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم » معناه ما يحب الكافرون من أهل الكتاب و لا من المشركين بالله من عبدة الأوثان أن ينزل الله عليكم شيئا من الخير الذي هو عنده و الخير الذي تمنوا أن لا ينزله الله عليهم ما أوحى إلى نبيه (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و أنزله عليه من القرآن و الشرائع بغيا منهم و حسدا « و الله يختص برحمته من يشاء » و روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) و عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أن المراد برحمته هنا النبوة و به قال الحسن و أبو علي و الرماني و غيرهم من المفسرين قالوا يختص بالنبوة من يشاء من عباده « و الله ذو الفضل العظيم » هذا خبر منه سبحانه أن كل خير نال عباده في دينهم و دنياهم فإنه من


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page