• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الجزء الأول سورة البقرة آیات 84الی88


وَ إِذْ أَخَذْنَا مِيثَقَكُمْ لا تَسفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَ لا تخْرِجُونَ أَنفُسكُم مِّن دِيَرِكُمْ ثمَّ أَقْرَرْتمْ وَ أَنتُمْ تَشهَدُونَ(84)
اللغة
السفك الصب سفكت الدم أسفكه سفكا و واحد الدماء دم و أصله دمي في قول أكثر النحويين و دليل من قال إن أصله دمي قول الشاعر :
فلو أنا على حجر ذبحنا
جرى الدميان بالخبر اليقين
مجمع البيان ج : 1 ص : 300
و قال قوم أصله دمي إلا أنه لما حذف و رد إليه ما حذف منه حركت الميم لتدل الحركة على أنه استعمل محذوفا و النفس مأخوذة من النفاسة و هي الجلالة فنفس الإنسان أنفس ما فيه و الدار هي المنزل الذي فيه أبنية المقام بخلاف منزل الارتحال و قال الخليل كل موضع حله قوم فهو دار لهم و إن لم يكن فيه أبنية و الإقرار الاعتراف و الشهادة أخذ من المشاهدة و هو الإخبار عن الشيء بما يقوم مقام المشاهدة في المعرفة .

الإعراب
تقدير الإعراب في هذه الآية مثل الذي قلناه في الآية الأولى على السواء .

المعنى
ثم عطف سبحانه على ما تقدم من الأخبار عن اليهود بنقض المواثيق و العهود بقوله « و إذ أخذنا ميثاقكم » أي ميثاق أسلافكم الذين كانوا في زمن موسى و الأنبياء الماضين صلوات الله على نبينا و عليهم أجمعين و إنما أضاف الميثاق إليهم لما كانوا أخلافا لهم على ما سبق الكلام فيه و قوله « لا تسفكون دماءكم » معناه لا يقتل بعضكم بعضا لأن في قتل الرجل منهم الرجل قتل نفسه إذا كانت ملتهما واحدة و دينهما واحد أو أهل الدين الواحد بمنزلة الرجل الواحد في ولاية بعضهم بعضا قال النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) إنما المؤمنون في تراحمهم و تعاطفهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو واحد تداعى له سائر الجسد بالحمى و السهر هذا قول قتادة و أبي العالية و قيل معناه لا يقتل الرجل منكم غيره فيقاربه قصاصا فيكون بذلك قاتلا لنفسه لأنه كالسبب فيه و قوله « و لا تخرجون أنفسكم من دياركم » معناه لا يخرج بعضكم بعضا من دياركم بأن تغلبوا على الدار و قيل معناه لا تفعلوا ما تستحقون به الإخراج من دياركم كما فعله بنو النضير و قوله « ثم أقررتم و أنتم تشهدون » أي أقررتم بذلك و أنتم شاهدون على من تقدمكم بأخذنا منهم الميثاق و بما بذلوه من أنفسهم من القبول و الالتزام و قيل معنى إقرارهم هو الرضاء به و الصبر عليه كما قال الشاعر :
أ لست كليبيا إذا سيم خطة
أقر كإقرار الحليلة للبعل و اختلف في المخاطب بقوله « و أنتم تشهدون » فقيل اليهود الذين بين ظهراني مهاجر رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) أيام هجرته إليهم وبخهم الله تعالى على تضييعهم أحكام ما في أيديهم من التوراة التي كانوا يقرون بحكمها و قال لهم « ثم أقررتم » يعني أقر أولكم و سلفكم و أنتم تشهدون على إقرارهم بأخذي الميثاق عليهم بأن لا تسفكوا دماءكم و لا
مجمع البيان ج : 1 ص : 301
تخرجوا أنفسكم من دياركم و تصدقون بذلك عن ابن عباس و قيل إنه خبر من الله عز و جل عن أوائلهم و لكنه أخرج الخبر بذلك مخرج المخاطبة لهم على النحو الذي تقدم في الآيات و أنتم تشهدون أي و أنتم شهود عن أبي العالية و يحتمل قوله « و أنتم تشهدون » أمرين ( أحدهما ) أن معناه و أنتم تشهدون على أنفسكم بالإقرار و ( الثاني ) أن معناه و أنتم تحضرون سفك دمائكم و إخراج أنفسكم من دياركم و قال بعض المفسرين نزلت الآية في بني قريظة و النضير و قيل نزلت في أسلاف اليهود .
ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسكُمْ وَ تخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنكُم مِّن دِيَرِهِمْ تَظهَرُونَ عَلَيْهِم بِالاثْمِ وَ الْعُدْوَنِ وَ إِن يَأْتُوكُمْ أُسرَى تُفَدُوهُمْ وَ هُوَ محَرَّمٌ عَلَيْكمْ إِخْرَاجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَبِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْض فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِك مِنكمْ إِلا خِزْىٌ فى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَ يَوْمَ الْقِيَمَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشدِّ الْعَذَابِ وَ مَا اللَّهُ بِغَفِل عَمَّا تَعْمَلُونَ(85)
القراءة
قرأ أهل الكوفة تظاهرون بتخفيف الظاء هاهنا و في التحريم و الباقون بالتشديد فيهما و قرأ أبو جعفر و نافع و عاصم و الكسائي و يعقوب « أسارى تفادوهم » بالألف فيهما و قرأ حمزة وحده أسرى تفدوهم بغير ألف فيهما و قرأ ابن كثير و ابن عامر و أبو عمرو أسارى بألف تفدوهم بغير ألف و كان أبو عمرو و حمزة و الكسائي يميلون الراء من أسارى و نافع يقرأ بين بين و الباقون يفتحون .

الحجة
من قرأ « تظاهرون » بالتخفيف فالأصل فيه تتظاهرون فحذف التاء الثانية لاجتماع التاءين و من قرأ تظاهرون بالتشديد فالأصل فيه أيضا تتظاهرون فأدغم التاء في الظاء لقرب المخرجين و كل واحد من الفريقين كره اجتماع الأمثال ففريق خفف بالإدغام و فريق بالحذف فالتاء التي اعتلت بالإدغام هي التاء التي اعتلت بالحذف و وجه قول من قرأ أسرى أنه جمع أسير فعيل بمعنى مفعول نحو قتيل بمعنى مقتول و قتلي و جريح و جرحى
مجمع البيان ج : 1 ص : 302
و هو أقيس من أسارى و وجه قول من قال « أسارى » أنه شبهة بكسالى و ذلك أن الأسير لما كان محبوسا عن كثير من تصرفه للأسر كما أن الكسلان محتبس عن ذلك لعادته السيئة شبه به فأجرى عليه هذا الجمع كما قيل مرضى و موتى و هلكى لما كانوا مبتلين بهذه الأشياء المصابين بها فأشبه في المعنى فعيلا بمعنى مفعول فأجري عليه في الجمع اللفظ الذي لفعيل بمعنى مفعول و كما شبه أسارى بكسالى شبه كسلى بأسرى و من قرأ « تفادوهم » فلأن لكل واحد من الفريقين فعلا فمن الآسر دفع الأسير و من المأسور منهم دفع فدائه فوجه تفادوهم على هذا ظاهر و من قرأ تفدوهم فالمعنى فيه مثل المعنى في « تفادوهم » و هذا الفعل يتعدى إلى مفعولين إلى الأول بنفسه و إلى الثاني بالجار كقوله « و فديناه بذبح عظيم » و قول الشاعر :
يودون لو يفدونني بنفوسهم
و مثنى الأواقي و القيان النواهد و قال الأعشى في فادي :
عند ذي تاج إذا قيل له
فاد بالمال تراخى و مرح المفعول الأول محذوف و التقدير فاد الأسرى بالمال و في الآية المفعول الثاني الذي يصل إليه الفعل بالحرف محذوف .

اللغة
تظاهرون تعاونون و الظهير المعين و قوله و الملائكة بعد ذلك ظهير التقدير فيه الجمع و اللفظ على الإفراد و مثله قول رؤبة :
دعها فما النحوي من صديقها ) أي من أصدقائها و ظاهر بين درعين لبس إحداهما فوق الأخرى و الإثم الفعل القبيح الذي يستحق بها اللوم و نظيره الوزر و قال قوم معنى الإثم هو ما تنفر منه النفس و لم يطمئن إليه القلب و منه قول النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) لنواس بن سمعان حين سأله عن البر و الإثم فقال البر ما اطمأنت إليه نفسك و الإثم ما حك في صدرك و العدوان الإفراط في الظلم يقال عدا فلان في ظلمه عدوا و عدوا و عدوانا و عداء و قيل العدوان مجاوزة الحد و الأسر الأخذ بالقهر و أصله الشد و الحبس و أسره إذا شده و قال أبو عمرو بن العلاء الأسارى الذين هم في الوثاق و الأسرى الذين هم في اليد و إن لم يكونوا في الوثاق و الخزي السوء و الذل يقال خزي الرجل خزيا و يقال في الحياء خزي خزاية .

الإعراب
قوله « ثم أنتم هؤلاء » فيه ثلاثة أقوال ( أحدها ) أن أنتم مبتدأ و هؤلاء منادى مفرد تقديره يا هؤلاء و تقتلون خبر المبتدأ ( و ثانيها ) أن هؤلاء تأكيد لأنتم ( و ثالثها ) أنه بمعنى الذين و تقتلون صلة له أي أنتم الذين تقتلون أنفسكم فعلى هذا يكون تقتلون لا
مجمع البيان ج : 1 ص : 303
موضع له من الإعراب و مثله في الصلة و قوله « و ما تلك بيمينك يا موسى » أي و ما التي بيمينك و أنشد النحويون في ذلك :
عدس ما لعباد عليك إمارة
نجوت و هذا تحملين طليق و قوله « تظاهرون عليهم » في موضع نصب على الحال من تخرجون و قوله « و هو محرم عليكم إخراجهم » هو على ضربين ( أحدهما ) أن يكون إضمار الإخراج الذي تقدم ذكره في قوله « و تخرجون فريقا منكم » ثم بين ذلك بقوله « إخراجهم » تأكيدا لتراخي الكلام ( و الآخر ) أن يكون هو ضمير القصة و الحديث فكأنه قال و الحديث محرم عليكم إخراجهم كما قال الله « قل هو الله أحد » أي الأمر الذي هو الحق الله أحد .

المعنى
« ثم أنتم » يا معشر يهود بني إسرائيل بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم أن لا تسفكوا دماءكم و لا تخرجوا أنفسكم من دياركم و بعد شهادتكم على أنفسكم بذلك أنه واجب عليكم و لازم لكم الوفاء به « تقتلون أنفسكم » أي يقتل بعضكم بعضا كقوله سبحانه « فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم » أي ليسلم بعضكم على بعض و قيل معناه تتعرضون للقتل « و تخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم » أي متعاونين عليهم في إخراجكم إياهم « بالإثم و العدوان و إن يأتوكم أسارى تفادوهم و هو محرم عليكم إخراجهم » أي و أنتم مع قتلكم من تقتلون منكم إذا وجدتم أسيرا في أيدي غيركم من أعدائكم تفدونهم و قتلكم إياهم و إخراجكموهم من ديارهم حرام عليكم كما أن تركهم أسرى في أيدي عدوهم حرام عليكم فكيف تستجيزون قتلهم و لا تستجيزون ترك فدائهم من عدوهم و هما جميعا في حكم اللازم لكم فيهم سواء لأن الذي حرمت عليكم من قتلهم و إخراجهم من دورهم نظير الذي حرمت عليكم من تركهم أسرى في أيدي عدوهم « أ فتؤمنون ببعض الكتاب » الذي فرضت عليكم فيه فرائضي و بينت لكم فيه حدودي و أخذت عليكم بالعمل بما فيه ميثاقي فتصدقون به فتفادون أسراكم من أيدي عدوهم « و تكفرون ببعض » و تكفرون ببعضه فتجحدونه فتقتلون من حرمت عليكم قتله من أهل دينكم و قومكم و تخرجونهم من ديارهم و قد علمتم أن الكفر منكم ببعضه نقض منكم لعهدي و ميثاقي و اختلف فيمن عنى بهذه الآية فروى عكرمة عن ابن عباس أن قريظة و النضير كانا أخوين كالأوس و الخزرج فافترقوا فكانت النضير مع الخزرج و كانت قريظة مع الأوس فإذا اقتتلوا عاونت كل فرقة حلفاءها فإذا وضعت الحرب أوزارها فدوا أسراها تصديقا لما في التوراة و الأوس و الخزرج أهل شرك
مجمع البيان ج : 1 ص : 304
يعبدون الأوثان لا يعرفون جنة و لا نارا و لا قيامة و لا كتابا فأنبأ الله تعالى اليهود بما فعلوه و قال أبو العالية كان بنو إسرائيل إذا استضعف قوم قوما أخرجوهم من ديارهم و قد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم و لا يخرجوا أنفسهم من ديارهم و أخذ عليهم الميثاق أن أسر بعضهم بعضا أن يفادوهم فأخرجوهم من ديارهم ثم فادوهم ف آمنوا بالفداء ففدوا و كفروا بالإخراج من الديار فأخرجوهم و قيل ليس الذين أخرجوهم الذين فودوا و لكنهم قوم آخرون على ملتهم فأنبهم الله تعالى على ذلك و قال أبو مسلم الأصبهاني ليس المراد بقوله « أ فتؤمنون » الآية أنهم يخرجون و هو محرم و يفدون و هو واجب و إنما يرجع ذلك إلى بيان صفة محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و غيره و قوله « فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا » اختلف في الخزي الذي خزاهم الله إياه بما سلف منهم من المعصية فقيل هو حكم الله الذي أنزله على نبيه محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) من أخذ القاتل بمن قتل و القود به قصاصا و الانتقام من الظالم للمظلوم و قيل بل هو أخذ الجزية منهم ما أقاموا على ذمتهم على وجه الذل و الصغار و قيل الخزي الذي خزوا به في الدنيا هو إخراج رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) بني النضير من ديارهم لأول الحشر و قتل بني قريظة و سبي ذراريهم و كان ذلك خزيا لهم في الدنيا ثم أعلم الله سبحانه أن ذلك غير مكفر عنهم ذنوبهم و أنهم صائرون بعده إلى عذاب عظيم فقال « و يوم القيامة يردون إلى أشد العذاب » أي إلى أشد العذاب الذي أعده الله لأعدائه و هو العذاب الذي لا روح فيه مع اليأس من التخلص « و ما الله بغافل عما تعملون » أي و ما الله بساه عن أعمالهم الخبيثة بل هو حافظ لها و مجاز عليها و من قرأه بالتاء رده إلى المواجهين بالخطاب في قوله « أ فتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض » و مما يسأل في هذه الآية أن ظاهرها يقتضي صحة اجتماع الإيمان و الكفر و ذلك مناف للصحيح من المذهب و القول فيه أن المعنى أنهم أظهروا التصديق ببعض الكتاب و الإنكار للبعض دون بعض و هذا يدل على أنهم لا ينفعهم الإيمان بالبعض مع الكفر بالبعض الآخر و في هذه الآية تسلية لنبينا (صلى الله عليهوآلهوسلّم) في ترك قبول اليهود قوله و انحيازهم عن الإيمان به فكأنه يقول كيف يقبلون قولك و يسلمون لأمرك و يؤمنون بك و هم لا يعملون بكتابهم مع إقرارهم به و بأنه من عند الله تعالى .

مجمع البيان ج : 1 ص : 305
أُولَئك الَّذِينَ اشترَوُا الْحَيَوةَ الدُّنْيَا بِالاَخِرَةِ فَلا يخَفَّف عَنهُمُ الْعَذَاب وَ لا هُمْ يُنصرُونَ(86)
اللغة
الخفة نقيض الثقل و التخفيف و التسهيل و التهوين نظائر و اختلف في الخفة و الثقل فقيل أنه يرجع إلى تناقص الجواهر و تزايدها و قيل إن الاعتماد اللازم سفلا يسمى ثقلا و الاعتماد اللازم المختص بجهة العلو يسمى خفة .

المعنى
أشار إلى الذين أخبر عنهم بأنهم يؤمنون ببعض الكتاب و يكفرون ببعض فقال « أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا » أي ابتاعوا رياسة الدنيا « بالآخرة » أي رضوا بها عوضا من نعيم الآخرة التي أعدها الله تعالى للمؤمنين جعل سبحانه تركهم حظوظهم من نعيم الآخرة بكفرهم بالله ثمنا لما ابتاعوه به من خسيس الدنيا ثم أخبر أنهم لا حظ لهم في نعيم الآخرة بقوله « فلا يخفف عنهم العذاب » أي لا ينقص من عذابهم و لا يهون عنهم « و لا هم ينصرون » أي لا ينصرهم أحد في الآخرة فيدفع عنهم بنصرته عذاب الله تعالى .
وَ لَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسى الْكِتَب وَ قَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسلِ وَ ءَاتَيْنَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَتِ وَ أَيَّدْنَهُ بِرُوح الْقُدُسِ أَ فَكلَّمَا جَاءَكُمْ رَسولُ بِمَا لا تهْوَى أَنفُسكُمُ استَكْبرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ(87)
القراءة
قرأ ابن كثير القدس بسكون الدال في جميع القرآن و الباقون بضم القاف و الدال و روي في الشواذ عن أبي عمرو و آيدناه على زنة أفعلناه و القراءة « أيدناه » بالتشديد .

الحجة
التخفيف و التثقيل في القدس و كذلك فيما كان مثله نحو الحلم و الحلم و العنق و العنق و « أيدناه » إنما كانت القراءة المشهورة فيه فعلناه لما يعرض من تصحيح العين مخافة توالي إعلالين في آيدناه على أفعلناه و معنى هذا أنه لو أعلت عينه كما يجب إعلال عين أفعلت من الأجوف كأقمت و أبعت لتتابع فيه إعلالان لأن أصل آيدت أأيدت كما أن أصل آمن ءأمن فانقلبت الهمزة الثانية ألفا لاجتماع همزتين في كلمة واحدة و الأولى منهما
مجمع البيان ج : 1 ص : 306
مفتوحة و الثانية ساكنة و كان يجب أيضا أن تلقى حركة العين على الفاء و تحذف العين كما ألقيت حركة الواو من أقومت على القاف قبلها فصار أقمت و كان يجب على هذا أن تقلب الفاء هنا واوا لأنها قد تحركت و انفتح ما قبلها و لا بد من قلبها لوقوع الهمزة الأولى قبلها كما قلبت في تكسير آدم آوادم فكان يجب أن تقول أودته كأقمته فتحذف العين كما ترى و تقلب الفاء التي هي في الأصل همزة واوا فيعتل الفاء و العين جميعا و إذا كان يؤدي القياس إلى هذا رفض و كثر فيه فعلت ليؤمن الإعلالان و جاء أيدت قليلا شاذا على الأصل و إذا كانوا قد أخرجوا عين أفعلت و هي حرف علة على الصحة في نحو قوله :
صددت فأطولت الصدود و قلما
وصال على طول الصدود يدوم و أعوز القوم و أغيمت السماء و لو أعلت لم يخف فيه توالي إعلالين كان خروج أيدت على الصحة لئلا يجتمع إعلالان أولى و أحرى .

اللغة
قفينا أي أردفنا و أتبعنا بعضهم خلف بعض و أصله من القفا يقال قفوت فلانا إذا صرت خلف قفاه كما يقال دبرته قال امرؤ القيس :
و قفي على آثارهن بحاصب
و غيبة شؤبوب من الشد ملهب و الرسل جمع رسول كالصبر و الشكر في جمع صبور و شكور و أيدناه قوينا من الأيد و الآد و هما القوة و مثلهما في البناء على فعل و فعل الذيم و الذام و العيب و العاب قال العجاج :
من أن تبدلت بادي آدا ) أي بقوة شبابي قوة الشيب و القدس الطهر و التقديس التطهير و قولنا في صفة الله تعالى القدوس أي الطاهر المنزة عن أن يكون له ولد أو يكون في فعله و حكمه ما ليس بعدل و بيت المقدس لا يخلو المقدس فيه إما أن يكون مصدرا أو مكانا فإن كان مكانا فالمعنى بيت المكان الذي فعل فيه الطهارة و أضيف إلى الطهارة لأنه منسك كما جاء أن طهر بيتي للطائفين و تطهيره إخلاؤه من الصنم و إبعاده منه فعلى هذا يكون معناه بيت مكان الطهارة و إن كان مصدرا كان كقوله إلي مرجعكم و نحوه من المصادر التي جاءت على هذا المثال و الهوى مقصورا و الشهوة نظيران هوي يهوى هوى .

المعنى
ثم ذكر سبحانه إنعامه عليهم بإرسال رسله إليهم و ما قابلوه به من
مجمع البيان ج : 1 ص : 307
تكذيبهم فقال « و لقد آتينا موسى الكتاب » أي أعطيناه التوراة و أنزلنا إليه « و قفينا من بعده » أي أتبعنا من بعد موسى « بالرسل » رسولا بعد رسول يتبع الآخر الأول في الدعاء إلى وحدانية الله تعالى و القيام بشرائعه على منهاج واحد لأن كل من بعثه الله تعالى نبيا بعد موسى إلى زمن عيسى (عليه السلام) فإنما بعثه بإقامة التوراة و العمل بما فيها و الدعاء إلى ذلك « و آتينا عيسى بن مريم البينات » أي أعطيناه المعجزات و الدلالات على نبوته من إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص و نحو ذلك من الآيات الدالة على صدقه و صحة نبوته و قال بعضهم أراد بالبينات الإنجيل و ما فيه من الأحكام و الآيات الفاصلة بين الحلال و الحرام « و أيدناه بروح القدس » أي قويناه و أعناه بجبريل (عليه السلام) عن قتادة و السدي و الضحاك و الربيع و اختلف في سبب تسمية جبرائيل (عليه السلام) روحا على وجوه ( أحدها ) أنه يحيي بما يأتي به من البينات الأديان كما تحيى بالأرواح الأبدان ( و ثانيها ) أنه سمي بذلك لأن الغالب عليه الروحانية و كذلك سائر الملائكة و إنما خص بهذا الاسم تشريفا له ( و ثالثها ) أنه سمي به و أضيف إلى القدس لأنه كان بتكوين الله تعالى إياه روحا من عنده من غير ولادة والد ولده و قال ابن زيد المراد بروح القدس الإنجيل كما سمى الله تعالى القرآن روحا فقال و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا فكذلك سمي الإنجيل روحا و روى الضحاك عن ابن عباس أن الروح الاسم الذي كان عيسى (عليه السلام) يحيي به الموتى و قال الربيع هو الروح الذي نفخ فيه فأضافه إلى نفسه تشريفا كما قال بيت الله و ناقة الله و أقوى الأقوال و الوجوه قول من قال هو جبرائيل (عليه السلام) و إذا قيل لم خص عيسى (عليه السلام) من بين الأنبياء بأنه مؤيد بجبرائيل و كل نبي مؤيد به فالقول فيه إنه إنما خص بذلك لثبوت اختصاصه به من صغره إلى كبره فكان يسير معه حيث سار و لما هم اليهود بقتله لم يفارقه حتى صعد به إلى السماء و كان تمثل لمريم عند حملها به و بشرها به و نفخ فيها و اختلف في معنى القدس فقيل هو الطهر و قيل هو البركة عن السدي و حكى قطرب أنهم يقولون قدس عليه الأنبياء أي بركوا و على هذا فإنه كدعاء إبراهيم (عليه السلام) للحرم رب اجعل هذا بلدا آمنا و كقول زكريا و اجعله رب رضيا و قيل القدس هو الله تعالى عن الحسن و الربيع و ابن زيد و قالوا القدوس و القدس واحد و قوله « أ فكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم » خطاب لليهود فكأنه قال يا معشر يهود بني إسرائيل أ كلما جاءكم رسول من رسلي بغير الذي تهواه أنفسكم تعظمتم و تجبرتم و أنفتم من قبول قوله « ففريقا كذبتم و فريقا تقتلون » أي فكذبتم منهم بعضا ممن لم تقدروا على قتله مثل عيسى (عليه السلام) و محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و قتلتم بعضا مثل يحيى و زكريا و غيرهما و ظاهر الخطاب و إن خرج مخرج التقرير
مجمع البيان ج : 1 ص : 308
فهو بمعنى الخبر و إنما أضاف هذا الفعل إليهم و إن لم يباشروه بنفوسهم لأنهم رضوا بفعل أسلافهم فأضيف الفعل إليهم و إن فعله أسلافهم .
وَ قَالُوا قُلُوبُنَا غُلْف بَل لَّعَنهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ(88)
القراءة
القراءة المشهورة « غلف » بسكون اللام و روي في الشواذ عن أبي عمرو غلف بضم اللام .

الحجة
من قرأ بالتسكين فهو جمع الأغلف مثل أحمر و حمر و يقال للسيف إذا كان في غلاف أغلف و قوس غلفاء و جمعها غلف و لا يجوز تثقيله إلا في ضرورة الشعر نحو قول طرفة :
أيها الفتيان في مجلسنا
جردوا منها ورادا و شقر فحركت لضرورة الشعر فمن قرأ غلف مثقلا فهو جمع غلاف نحو مثال و مثل و حمار و حمر فيكون معناه أن قلوبنا أوعية للعلم فما بالها لا تفهم و يجوز أن يكون التسكين عن التثقيل مثل رسل و رسل .

اللغة
اللعن هو الإقصاء و الإبعاد يقال لعن فلان فلانا فهو ملعون ثم يصرف .
مفعول منه إلى فعيل فقيل لعين قال الشماخ :
و ماء قد وردت لوصل أروى
عليه الطير كالورق اللجين
ذعرت به القطا و نفيت عنه
مقام الذئب كالرجل اللعين .

الإعراب
« قليلا » منصوب بأنه صفة لمصدر محذوف و إنما حذف لأن الصفة تقوم مقامه و تدل عليه أي فإيمانا قليلا ما يؤمنون و قيل أنه منصوب على الحال أي يؤمنون و هم قليل و قيل و تقديره بقليل ما يؤمنون حذف الجار فوصل الفعل إليه فنصبه و ما هاهنا مزيدة للتوكيد و لا معنى لها كما في قوله « فبما رحمة من الله » و تقدير الكلام فقليلا يؤمنون و كما في قول الشاعر :
لو بابانين جاء يخطبها
خضب ما أنف خاطب بدم و قيل إن معنى ما هاهنا هو أن يدل على غاية التنكير في الاسم و فرط الإبهام فيه

بعدی
مجمع البيان ج : 1 ص : 309
كما يقال أمر ما و شيء ما إذا أريد المبالغة في الإبهام .

المعنى
« و قالوا قلوبنا غلف » رجع الكلام إلى الحكاية عن اليهود و عن سوء مقالهم و فعالهم فالمعنى على القراءة الأولى أنهم ادعوا أن قلوبهم ممنوعة من القبول فقالوا أي فائدة في إنذارك لنا و نحن لا نفهم ما تقول إذ ما تقوله ليس مما يفهم كقوله تعالى « و قالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه و في آذاننا وقر » و قال أبو علي الفارسي ما يدرك به المعلومات من الحواس و غيرها من الأعضاء إذا ذكر بأنه لا يعلم وصف بأن عليه مانعا من ذلك و دونه حائلا فمن ذلك قوله تعالى « أ فلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها » لما كان القفل حاجزا بين المقفل عليه و حائلا من أن يدخله ما يدخل إذا لم يكن مقفلا جعل مثالا للقلوب بأنها لا تعي و لا تفقه و كذلك قوله « لقالوا إنما سكرت أبصارنا » و « الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري » و قوله « بل هم منها عمون » كان شدة عنادهم تحملهم على الشك في المشاهدات و دفع المعلومات و أما المعنى على القراءة الثانية من تحريك العين في غلف فهو على أن المراد أن قلوبنا أوعية للعلم و نحن علماء و لو كان ما تقوله شيئا يفهم أوله طائل لفهمناه أو يكون المراد ليس في قلوبنا ما تذكره فلو كان علما لكان فيها و قوله « بل لعنهم الله بكفرهم » رد الله سبحانه عليهم قولهم أي ليس ذلك كما زعموا لكن الله سبحانه قد أقصاهم و أبعدهم من رحمته و طردهم عنها بجحودهم به و برسله و قيل معنى لعنهم طبع على قلوبهم على سبيل المجازاة لهم بكفرهم و قوله « فقليلا ما يؤمنون » معناه أن هؤلاء الذين وصفهم قليلو الإيمان بما أنزل على نبيه محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و إن كان معهم بعض الإيمان من التصديق بالله و بصفاته و غير ذلك مما كان فرضا عليهم و ذلك قليل بالإضافة إلى ما جحدوه من التصديق بنبوة نبينا (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و بما جاء به و الذي يليق بمذهبنا أن يكون المراد به لا إيمان لهم أصلا و إنما وصفهم بالقليل كما يقال قل ما رأيت هذا قط أي ما رأيت هذا قط و إن جعلت قليلا نصبا على الحال أي يؤمنون قليلا فمعناه لا يؤمن به إلا نفر قليل كعبد الله بن سلام و أصحابه و في هذه الآية رد على المجبرة لأن هؤلاء اليهود قالوا مثل ما يقولونه من أن على قلوبهم ما يمنع من الإيمان و يحول بينها و بينه فكذبهم الله تعالى في ذلك بأن لعنهم و ذمهم و لو كانوا صادقين لما استحقوا اللعن و الطرد و لكان الله سبحانه قد كلفهم ما لا يطيقونه .



أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page