علاج الرياء
لما كانت الأسباب الباعثة على الرياء هي حب لذة المدح والفرار من ألم الذم والطمع بما في أيدي الناس، فالطريق في علاجه أن يقطع هذه الأسباب وقد تقدم طريق العلاج في قطع الاولين، ويأتي طريق إزالة الثالث. وما نذكره هنا من العلاج العلمي للرياء، هو أن يعلم أن الشيء إنما يرغب فيه لكونه نافعاً، وإذا علم أنه ضار ليعرض عنه البتة، وحينئذ فينبغي لكل مؤمن أن يتذكر مضرة الرياء وما يفوته من صلاح قلبه وما يحرم عنه في الحال من التوفيق وفي الآخرة من المنزلة عند الله وما يتعرض له من المقت والعذاب ومتى تذكر ذلك وقابل ما يحصل له في الدنيا من الناس الذين راءى لأجلهم بما يفوته في الآخرة من ثواب الاعمال، لترك الرياء لا محالة، مع ان العمل الواحد ربما تترجح به كفة حسناته لو خلص فإذا فسد بالرياء حول إلى كفة السيئات، فتترجح به ويهوي إلى النار. هذا مع أن المرائي في الدنيا متشتت الهم متفرق البال بسبب ملاحظة قلوب الناس، فان رضاهم غاية لا تدرك، وكلما يرضى به فريق يسخط به فريق ومن طلب رضاهم في سخط الله سخط الله عليه وأسخطهم أيضاً. ثم أي غرض له في مدحهم وإيثار ذم الله لأجل مدحهم ولا يزيده مدحهم رزقا ولا اجلالا ولا ينفعه يوم فقره وفاقته وهو يوم القيامة؟! ومن كان رياؤه لأجل الطمع بما في ايدي الناس، ينبغي أن يعلم ان الله هو المسخر للقلوب بالمنع والاعطاء، وان الخلق مضطرون فيه، ولا رازق إلا الله، ومن طمع في الخلق لم يخل عن الذل والخسة، وان وصل إلى المراد لم يخل عن المنة والمهانة، وإذا قرر ذلك في نفسه ولم يكن منكراً لأمسه، زالت غفلته وفترت عن الرياء رغبته وأقبل على الله بقلبه، وانقطع بشراشره إلى جناب ربه. ويكفيه أن يعلم أن الناس لو علموا ما في باطنه من قصد الرياء وإظهار الإخلاص لمقتوه، وسيكشف الله عن سره حتى يبغضه إليهم ولو أخلص لله لكشف الله لهم اخلاصه وحببه اليهم وسخرهم له، وأطلق ألسنتهم بمدحه وثنائه، مع أنه لا يحصل له كمال بمدحهم ولا نقصان بذمهم.
ثم من تنور قلبه بنور الإيمان وانشرح صدره باليقين والعرفان، وعرف معنى الواجب وحقيقة الممكن، وتيقن بأن الواجب ـ أي الحقيقة التي تقتضي بنفس ذاته التحقق والبقاء، وهو صرف الوجود ـ يجب أن يكون تاماً فوق التمام، ولا يتصور حقيقة أتم كمالا منه، والحقيقة التي هذا شأنها يجب أن يكون ما سواها باسره مستنداً إليها وصادراً عنها على أشرف انحاء الصدور وأقواها. وهذا النحو الأشرف الأقوى الذي لا يتصور نحوه أقوى منه في الاختراع وأدل منه على كمال عظمة الموجد وقدرته، وهو كون ما سواه سبحانه من الموجودات، إما اعتبارات وشؤنات لدرجات ذاته واشراقات لتجليات صفاته، كما ذهب إليه قوم، أو كونها ماهيات امكانية اختراعية علماً وعيناً، صادرة عن سبحانه بوجودات خاصة متعددة ارتباطية بمحض ارادته ومشيته، كما ذهب إليه آخرون[1] ولو لم يكن غيره من الموجودات مستنداً إليه على أقوى أنحاء الاستناد، لم يكن تاماً فوق التمام، إذ تكون الذات التي يستند الكل إليها باحد النحوين اكمل منه واشرف. وإذا عرف أنه سبحانه كذلك، يعرف أنه ليس في الوجود حقيقة أحد سواه وغيره حقيقته العدم وما له من الوجود والظهور منه سبحانه، وبعد هذه المعرفة لا يختار غيره تعالى عليه، ويعلم أن العباد كلهم عجزة لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرراً، ولا يملكون موتاً ولا حياة، فلا يتغير قلبه بمشاهدة الخلق، ولا يلتفت إليهم إلا بخطرات ضعيفة لايشق عليه ازالتها، فيعمل عمل من لو كان على وجه الأرض وحده لكان يعمله.
وأما العلاج العملي، فهو أن يعود نفسه على اخفاء العبادات واغلاق الابواب دونها، كما تغلق الابواب دون الفواحش، حتى يقنع قلبه بعلم الله واطلاعه على عبادته، ولا تنازعه النفس إلى طلب علم غير الله به. وذلك وإن شق في بداية المجاهدة، لكن إذا صبر عليه مدة بالتكلف سقط عنه ثقله وهان عليه بتواصل الطاف الله وما يمده به عبادة من حسن التوفيق والتأييد:
" إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم "[2].
فمن العبد المجاهدة ومن الله الهداية:
" إن الله لا يضيع أجر المحسنين "[3].
القالع مغارس الرياء من قلبه بقطع الطمع واستحقار مدح الناس وذمهم ربما لا يتركه الشيطان، (لا) سيما في أثناء العبادة، فعارضه بخطرات الرياء ونزعاته، حتى احدث في قلبه ميلا خفياً إلى الرياء وحباً له. والحق أن ذلك ليس من الرياء المحرم، ولا تفسد به العبادة، مع كونه كارهاً لهذا الميل والحب وقاهراً على نفسه ماقتاً لها في تأثرها وتغيرها عن نزعات الشيطان ومنازعا للشيطان ومجاهداً إياه لدفع خطراته، لأن الله لم يكلف عباده إلا ما يطيقون، وليس في وسعهم منع الشيطان عن نزعاته ولا قمع الطبع حتى لا يميل إلى شهواته، وغاية ما يقدرون عليه أن يقابلوا نزعاته وميل الطبع بالكراهة والقهر على النفس في هذا الميل، مع المجاهدة في دفع ذلك بتذكر المعالجات المقررة لدفع الرياء والوساوس، وإذا فعلوا ذلك أدوا ما يجب عليهم. ويدل على ذلك أيضاً ما تقدم من الأخبار الدالة على عدم المؤاخذة بمجرد الوسوسة، وقول النبي (ص): " الحمد لله الذي رد كيد الشيطان إلى الوسوسة ". فوسوسة الشيطان وميل النفس لا يضران مع ردهما بالكراهة والإباء، إذ الوساوس والخواطر والتذكرات والتخيلات المهيجة للرياء من الشيطان، والميل والرغبة بعد تلك الخواطر من النفس، والإباء والكراهة من الإيمان ومن آثار العقل فلا يضر ما من النفس والشيطان إذا قوبل بما من العقل والإيمان. ولذا قال بعض الأكابر " ما كان من نفسك فكرهته نفسك لنفسك، فلا يضرك ما هو من عدوك وما كان من نفسك فرضيته نفسك لنفسك فعاتبها عليه ".
ثم الطرق المتصورة في دفع خطرات الرياء في اثناء العبادة مع كراهتها أربع:
الأولى ـ أن يشتغل بمجادلة الشيطان في رد نزعاته، ويطيل معه الجدال.
الثانية ـ أن يقتصر على تكذيب الشيطان ودفعه من غير اشتغال بمجادلته.
الثالثة ـ ألا يشتغل بتكذيبه أيضاً، بل يكتفي بما قرر في عقد ضميره من كراهة الرياء وكذب الشيطان، فيستمر على ما كان عليه مستصحباً له غير مشتغل بالمخاصمة والتكذيب.
الرابعة ـ أن يزيد فيما هو فيه من الإخلاص والاشتغال بالله، أو ما يؤدى إليهما، كإخفاء العبادة والصدقة غيظا للشيطان، لأن ذلك يغيظ الشيطان ويوجب يأسه، ومهما عرف من العبد هذه العادة، كف عنه خوفاً من أن يزيد في حسناته.
ولا ريب في أن الاشتغال بالمجادلة والتكذيب وأطالتهما يمنع الحضور ويصد عن التوجه إلى الله، وهو نقصان لأهل السلوك، فالصواب لكل مؤمن ان يقرر دائما في عقد ضميره كراهية الرياء وتكذيب الشيطان ويعزم أبداً على أنه إذا تهجم عليه الشيطان وعارضه بنزعات الرياء زاد ما هو فيه مما يغيظ الشيطان ويوجب يأسه، فإذا حدثت خطرات الشيطان في الأثناء اكتفى بما عقد عليه أولا مستصحباً له، وزاد في الإخلاص وما يؤدى إليه فان ذلك يوجب قنوط الشيطان. وإذا عرف العبد بهذه الصفة لا يتعرض له لئلا يزيد فيما يغيظه. وينبغي لكل مؤمن أن يكون هذا ديدنه في جميع الصفات والملكات، مثلا إذا حصل اليقين والعقيدة الجازمة بالمبدأ وصفاته الكمالية، وقرر ذلك في نفسه، وأثبت في قلبه كراهية الشك وخطور الوساوس، فإذا حدث بعض الوساوس في أثناء عبادة أو غيرها، ينبغي ألا يشتغل بطول المجاهدة مع الشيطان، ويكفي بما تقرر في قلبه من اليقين وكراهية الشك والوسوسة، معتقداً بأن هذه الوساوس لا أصل لها ولا عبرة بها. وكذا إذا قرر في نفسه النصيحة للمسلمين وكراهية الحسد، فإذا أوقع الشيطان نزغات الحسد في قلبه، ينبغي ألا يلتفت إليها، ويستصعب ما كان عليه من النصيحة والكراهة، وقس عليها سائر الصفات والأخلاق.
ثم مثل من يشتغل بطول المجاهدة مع الشيطان مثل من قصد مجلساً من مجالس العلم والوعظ لينال فائدة وهداية فعارضه ضال فاسق ودعاه إلى مجلس فسق فأبى وانكر عليه، فإذا عرف الضال إياه، اشتغل بالمجادلة معه، وهو أيضاً يساعده على ذلك ليرد ضلاله، ظاناً أن ذلك مصلحته مع أنه غرض الضال إذ قصده من المجادلة أن يؤخره عن نيل مقصوده. ومثل من يشتغل بالتكذيب مثل من لا يشتغل بالقتال مع الضال بعد دعوته إلى مجلس الضلال، بل وقف بقدر أن يدفع في منحره، وذهب مستعجلا ففرح الضال بقدر توقفه للدفع. ومثل من يكتفي بعقد الضمير مثل من لم يلتفت إلى الضال بعد دعوته أصلا، واستمر على ما كان عليه من المشي ومثل من يزيد فيما كان له من الإخلاص أو ما يؤدى إليه مثل من يزيد في عجلته بعد دعوته ليغيظه. ولا ريب في أن الضال يمكن أن يعاود الجميع في الدعوة إلى الضلالة إذا مروا عليه مرة أخرى إلا الأخير، مخافة أن يزداد فائدة باستعجاله.
علاج الرياء
- الزيارات: 4301