دفع اشكال في حب المال والجاه
إن قيل: الوجه في حبهما بالعرض وفي حب قدر ما يضطر إليهما في المعيشة وضرورة البدن ظاهر، فما الوجه في حبهما باعيانهما وفي حب الزائد عن قدر الضرورة منهما؟ كحب جمع المال، وكنز الكنوز، وادخار الذخائر، واستكثار الخزائن وراء جميع الحاجات، وحب اتساع الجاه وانتشار الصيت إلى اقاصي البلاد التي يعلم قطعاً أنه قط لا يطؤها ولا يشاهد أهلها ليعظموه ويعينوه على غرض من اغراضه، فانه مع ذلك يلتذ به غاية الالتذاذ ويسر به غاية السرور، حتى لا يجد في نفسه لذة أقوى منه، ويراه فوق جميع لذاته وابتهاجاته.
قلنا: الوجه في ذلك أمران:
الأول ـ دفع ألم الخوف الناشئ من سوء الظن وطول الأمل. فان الإنسان وإن كان من المال ما يكفيه في الحال، إلا أنه لطول أمله قد يخطر بباله ان المال الذي فيه كفايته ربما يتلف فيحتاج إلى غيره، فإذا خطر ذلك بباله، هاج الخوف في قلبه، ولا يزول ألم الخوف إلا بالأمن الحاصل من وجود مال آخر يفزع إليه إن أصابت هذا المال آفة، فهو أبداً لحبه للحياة وشفقته على نفسه يقدر طول الحياة وهجوم الحاجات، ويقدر إمكان تطرق الآفات إلى الأموال ويستشعر الخوف من ذلك، فيطلب ما يدفع خوفه، وهو كثرة المال، حتى ان اصيب بطائفة من ماله يفزع إلى الأخرى. وهذا خوف لا موقف له عند مقدار مخصوص من المال، ولذلك لم يكن لميله موقف إلى أن يملك جميع ما في الدنيا، ولذلك قال (ص): " منهومان لا يشبعان: منهوم العلم، ومنهوم المال " ومثل هذه العلة تطرد في حب قيام المنزلة والجاه في قلوب الاباعد عن وطنه وبلده، فانه لا يخلو عن تقدير سبب يزعجه عن الوطن، أو يزعج أولئك عن أوطانهم إلى وطنهم إلى وطنه، ويحتاج إلى الاستعانة بهم ومهما كان ذلك ممكناً، كان للنفس لذة وسرور بقيام المنزلة في قلوبهم، لما فيه من الأمن من هذا الخوف.
الثاني ـ أن الإنسان مركب من أصول مختلفة: هي القوة الشهوية، والقوة السبعية، والقوة الشيطانية، والروح الذي هو أمر رباني، ولذلك له ميل إلى صفات بهيمية، كالأكل والوقاع، والى صفات سبعية، كالقتل والايذاء، والى صفات شيطانية، كالمكر والخديعة والاغواء، والى صفات ربوبية، كالعلم والقدرة والكبر والعز والفخر والاستعلاء، فهو لما فيه من الأمر الرباني يحب الربوبية بالطبع، ومعنى الربوبية التوحد بالكمال، والتفرد بالوجود على سبيل الاستقلال، والاستيلاء على جميع الأشياء بالغلبة، واستناد الكل إليه بالصدور منه والمعلولية.
وبالجملة: مقتضى الربوبية التفرد بالوجود والكمال ورجوع كل وجود وكمال إليه، إذ هو التام فوق التمام، ولا يتحقق ذلك إلا بالتفرد بالوجود والكمال والقدرة والاستيلاء على جميع ما عداه. إذ المشاركة في الوجود نقص لا محالة، فكمال الشمس في أنها موجودة وحدها. فلو كانت معها شمس اخرى كان ذلك نقصاناً في حقها، إذ لم تكن متفردة بكمال معنى الشمسية فإذا كان معنى الربوبية هو التفرد بالوجود والكمال، وكل إنسان كان فيه أمر رباني، فالتفرد بالوجود والكمال محبوب له بالطبع، وضده ـ اعني العبودية ـ قهر على نفسه، لأنه علم أن المتفرد بالوجود والكمال هو الله تعالى، إذ ليس معه موجود سواه، فان ما سواه أثر من آثار قدرته لا قوام له بذاته، بل هو قائم به، وليس له معية بالوجود بالنسبة إليه تعالى، إذ المعية توجب المساواة في الرتبة، وهي نقصان في الكمال إذا الكامل الحقيقي من لا نظير له في الوجود، والكمال بوجه من الوجوه وان كان لغيره وجود وكمال بعد كونه صادراً منه معلولا له، إذ تحقق الموجودات وذوات الممكنات لا يوجب نقصاناً في ذاته سبحانه بعد استنادها جميعها إليه، وكونها أضعف منه بمراتب غير متناهية في الوجود والكمال شدة وقوة، فكما ان اشراق نور الشمس في أقطار الآفاق ليس نقصاناً في الشمس، بل هو من جملة كمالها، وانما نقصانها بوجود شمس أخرى مساوية لها في الرتبة مستغنية عنها، فكذلك وجود كل ما في العالم إذا كان من اشراق نور القدرة الإلهية تابعاً لها، لم يكن ذلك نقصاناً في الواجب سبحانه، بل كان كمالا له.
ولما علم ذلك، وتيقن بأن التفرد بالوجود والكمال والاستيلاء التام على جميع الأشياء لا يليق به، لأنه عبد مملوك مقهور تحت القدرة الإلهية، عرف أنه عاجز عن درك منتهى الكمال الذي هو التفرد بالوجود والاستيلاء أي كون وجود غيره منه. إلا أنه لم تسقط شهوته للكمال، بل هو محب له ملتذ به لذاته لا لمعنى آخر وراء الكمال، وطالب لتحصيل ما يتمكن منه. فمطلق الكمال محبوب عنده، إلا أن طلبه إنما يتعلق بالكمال الممكن في حقه ومن الكمال الممكن في حقه أن يحصل له نوع استيلاء على كل الموجودات، فكان ذلك محبوباً عنده ومطلوباً له. ولما كانت الموجودات منقسمة إلى مالا تحصى ولكن لا تستولى عليه قدرة الخلق بالتصرف، كالأفلاك والكواكب وملكوت السماوات ونفوس الملائكة والجن والشياطين والجبال والبحار وغير ذلك، والى ما يقبل التغير وتستولي عليه قدرة العباد، كالأرض وأجزائها وما عليها من المعادن والنبات والحيوان، ومن جملتها قلوب الآدميين ونفوسهم لكونها قابلة للتغيير والتأثير مثل أجسادهم واجساد سائر الحيوانات ـ فلم يكن للإنسان أن يتصور إمكان استيلائه على الكل بالتصرف فيه، فلم يتعرض لطلب ذلك، بل أحب في كل منها نوع الاستيلاء الذي يمكن في حقه والاستيلاء الذي يمكنه في حقه بالنظر إلى القسمين الاولين هو الاحاطة عليه بالعلم والاطلاع على اسراره، لأن ذلك نوع استيلاء. إذ المحاط به تحت القدرة، والعالم كالمستولى عليه. ولذلك أحب الإنسان ان يعرف الواجب تعالى والملائكة والافلاك والكواكب وعجائب الملك والملكوت، لأن ذلك نوع استيلاء، والاستيلاء نوع كمال.
وأما القسم الثالث، فيمكنه أن يستولى عليه بالتصرف فيه كيف يريد فيقدر على الاراضي والأملاك بأن يتصرف فيها بالحيازة والضبط والزرع والغرس، وعلى الأجساد الأرضية الحيوانية والنباتية والجمادية بالركوب والضبط والحمل والرفع والوضع والتسليم والمنع، وعلى نفوس الآدميين وقلوبهم بأن تكون مسخرة متصرفة تحت اشارته وارادته وصيرورتها محبة له باعتقاد الكمال فيه. ولكون هذا النوع من الاستيلاء نوع كمال، أحب الإنسان هذا الاستيلاء على الأموال والقلوب، وإن كان لا يحتاج إليهما في ملبسه ومطعمه وفي شهوات نفسه، ولذلك طلب استرقاق العبيد واستعباد الأحرار ولو بالقهر والغلبة وقد ظهر مما ذكر: أن محبوب النفس بذاتها هو الكمال بالعلم والقدرة، والمال والجاه محبوب لكونه من أسباب القدرة ولما كانت المعلومات والمقدورات غير متناهية، فلا يكاد أن تقف النفس إلى حد من العلم والقدرة، ولهما درجات غير متناهية، فسرور كل نفس ولذتها بقدر الدرجة التي تدركها.
دفع اشكال في حب المال والجاه
- الزيارات: 3640