(مسوغات الغيبة)
لما عرفت ان الغيبة ذكر الغير بما يكرهه لو سمعه، فاعلم ان ذلك انما يحرم إذا قصد به هتك عرضه، والتفكه به، أو اضحاك الناس منه. واما إذا كان ذلك لغرض صحيح لا يمكن التوصل إليه إلا به. فلا يحرم، والاغراض الصحيحة المرخصة له أمور.
الأول ـ التظلم عند من له رتبة الحكم واحقاق الحقوق، كالقضاة والمفتين والسلاطين، فان نسبة الظلم والسوء إلى الغير عندهم لاستيفاء الحق جائز، لقول النبي (ص): " لصاحب الحق مقال "، وقوله (ص): " لي الواجد يحل عرضه وعقوبته " وعدم انكاره (ص) على قول هند بحضرته: إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني اياي وولدي، افآخذ من غير علمه؟ وقوله (ص) لها: " خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف ".
والثاني ـ الاستعانة على رفع المنكر ورد العاصي إلى الصلاح، وانما يستباح بها ذكر مساءته بالقصد الصحيح لا بدونه.
الثالث ـ نصح المستشير في التزويج، وإيداع الأمانة، وامثالهما كذلك جرح الشاهد والمفتي والقاضي إذا سئل عنهم، فله ان يذكر ما يعرفه من عدم العدالة والأهلية للإفتاء والقضاء، بشرط صحة القصد وارادة الهداية وعدم باعث حسد او تلبيس من الشيطان، وكذلك توقى المسلمين من الشر والضرر أو سراية الفسق والبدعة، فإن من رأى عالماً أو غيره من المؤمنين يتردد إلى ذي شر أو فاسق أو مبتدع، وخاف أن يتضرر ويتعدى إليه الفسق والبدعة بمصاحبته. ويجوز له أن يكشف له ما يعرفه من شره وفسقه وبدعته. بشرط كون الباعث مجرد خوف وصول الشر والفساد أو سراية الفسق والبدعة اليه. قال رسول الله (ص): " أترعوون عن ذكر الفاجر حتى لا يعرفه الناس؟ اذكروه بما فيه يحذره الناس ". ومن جملة ما يدخل في تحذير المسلمين وتوقيهم من الشر والضرر، وإظهار عيب يعلمه في مبيع، وان كره البايع، حفظاً للمشتري من الضرر. مثل أن يشتري عبداً، وقد عرفه بالسرقة أو الفسق أو عيب آخر، أو فرساً، وقد عرفه بكونه مال الغير، فله أن يظهر ذلك، لاستلزام سكوته ضرراً على المشتري.
الرابع ـ رد من ادعى نسباً ليس له.
الخامس ـ القدح في مقالة أو دعوى باطلة في الدين.
السادس ـ الشهادة على فاعل المحرم حسبة
السابع ـ ضرورة التعريف، فانه اذا كان أحد معروفاً بلقب يعرب عن عيب، وتوقف تعريفه عليه، ولم يكن اثم في ذكره، بشرط عدم إمكان التعريف بعبارة آخرى، لفعل الرواة والعلماء في الإعصار والامصار فانهم يقولون: روى الأعمش والأعرج وغير ذلك، لأن الغالب صيرورته بحيث لا يكرهه صاحبه.
الثامن ـ كون المقول فيه مستحقاً للاستخفاف، لتظاهره وتجاهره بفسق، كالظلم والزنا وشرب الخمر وغير ذلك، بشرط عدم التعدى عما يتظاهر به، إذا لو ذكره بغير ما يتظاهر به لكان اثماً، وأما إذا ذكر منه مجرد ما يتجاهر به فلا اثم عليه، إذ صاحبه لا يستنكف من ذكره، وربما يتفاخر به ويقصد اظهاره. ومع قطع النظر عن ذلك، فالأخبار دالة عليه، كما تقدم جملة منها. وقال رسول الله (ص): " من القى جلباب الحياء من وجهه فلا غيبة له ". وقال (ص): " ليس لفاسق غيبة ".
والظاهر أن ذكر ما يتجاهر به من العيوب ليس غيبة، لا شرعاً ولا لغة، لا انه غيبة استثنى جوازها شرعاً، قال الجوهري: " الغيبة أن يتكلم خلف إنسان مستور بما يغمه لو سمعه، فان كان صدقاً سمى غيبة وإن كان كذبا سمى بهتاناً ".
هذا وقد صرح جماعة بجواز الغيبة في موضعين آخرين: أحدهما: أن يكون اثنان أو اكثر مطلعين على عيب رجل، فيقع تحاكيه بينهم من غير أن يظهروه لغيرهم ممن لم يطلع عليه، وفي بعض الأخبار المتقدمة دلالة على جوازه، كما لا يخفى. وثانيهما: أن يكون متعلقها ـ اعني المقول فيه ـ غير محصور، كأن يقال: " قال قوم كذا، أو أهل البلد الفلاني كذا ". ومثله إذا قال: " بعض الناس يقول أو يفعل كذا، أو من مر بنا اليوم شأنه كذا "، إذا لم يتعين البعض والمار عند المخاطب، لو انتقل إلى شخص معين لقيام بعض القرائن، كانت غيبة محرمة، وكذا لو قال: بعض من قدم من السفر، أو بعض من يدعي العلم "، إن كان معه قرينة يفهم عين الشخص فهو غيبة وإلا فلا. وكذا ذكر مصنف في كتابه فاضلا معيناً، وتهجين كلامه بلا اقتران شيء من الاعذار المحوجة إلى ذكره غيبة، وأما لو ذكره بدون تعيينه، كأن يقول: " ومن الفضلاء من صدر عنه في المقام هفوة أو عثرة "، فليس غيبة. ثم السر في اشتراط الغيبة بكونه تعريضاً لشخص معين، وعدم كون التعرض بالمبهم وغير المحصور غيبة، عدم حصول الكراهة مع الابهام وعدم الانحصار، كما لا يخفى. وربما كان في بعض الأخبار أيضاً اشعار به، وقد كان رسول (ص): إذا كره من إنسان شيئاً يقول: " ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا " من دون تعيين للفاعل.
مسوغات الغيبة
- الزيارات: 4017