الأصل الكريم
التربية :
ولقد أولاه النبيُّ والوصيُّ والزهراءُ عليهم الصلاة والسلام من التربية الإسلامية الصالحة ما أهَّله للقيادة الكبرى . فإن بيت الرسالة كان يربي الحسن وهو يعلم ما سوف يكون له من المنزلة في المجتمع الإسلامي ، كما يوضح للمؤمنين منزلته وكرامته .
فكان النبيُّ (ص) يرفعه على صدره ، ثم يقيمه لكي يكون منتصباً ويأخذ بيديه يجره إلى طرف وجهه الكريم جرَّاً خفيفاً وهو ينشد قائلاً :
حزقَّةً حزقَّة [1] تَرَقَّ عينَ بَقَّة .
ويلاطفه ويداعبه .. ثم يروح يدعو : اللـهم إني أُحبه فأَحبَّ من يحبه ويقصد أن يسمع الناس من أتباعه لكي تمضي سيرتُه فيه أسوة للمؤمنين ، بكرامة الحسن (ع) واحترامه .
ومرة يصلي النبي بالمسلمين في المسجد ، فيسجد ويسجدون ، يرددون في خضوع : سبحان ربي الأعلى وبحمده مرة بعد مرة ، ثم ينتظرون الرسول أن يرفع رأسه ولكن النبيَّ يطيل سجوده ، وهم يتعجبون : ماذا حدث ؟. ولولا أنهم يسمعون صوت النبي لايزال يَبعث الهيبة والضراعة في المسجد لظنوا شيئاً .
ولا يزالون كذلك حتى يرفع النبي رأسه ، وتتم الصلاة ، وهم في أحر الشوق إلى معرفة سبب إبطائه في السجود فيقول لهم : جاء الحسن فركب عنقي ، فأشفقت عليه من أن أُنزله قسراً ، فصبرت حتى نزل اختياراً .
وحيناً : يصعد النبي (ص) المنبر ويعظ الناس ويرشدهم ، فيأتي الحسنان من جانب المسجد فيتعثَّران بـثَوْبَيهمــــا فإذا به يهبط من المنبر مسرعاً إليهما حتى يأخذهما إلى المنبر ، يجعــل أحدهمــــا علــــى وركــــه اليمنــــى ، والآخــر على اليسرى ، ويستمر قائلاً : صدق اللـه ورسوله ، « اَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَــةٌ » (الانفال/28) نظرت إلى هذين الصبيَّين يمشيان ويعثران فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما .
وكان يصطحبهما في بعض أسفاره القريبة ، ويُردفهما على بغلته من قُدَّامه ومن خَلْفه لئلا يشتاق إليهما فلا يجدهما ، أو لئلا يشتاقا إليه فلا يجدانه . وكان يشيد بذكرهما في كلّ مناسبة ، ويظهر كرامتهما إعلاناً أو تنويهاً . فقد أخذهما معه يوم المباهلة وأخذ أباهما وأمهما فظهر من ساطع برهانهم جميعاً ما أذهل الأساقفة [2] .
ودخل رسول اللـه دار فاطمة (ع) ، وسلم ثلاثاً على عادته في كلّ دار ، فلم يجبه أحد . فانصرف إلى فنـــاء ، فقعد في جماعة من أصحابه ثم جاء الحسن ووثب في حبوة جدّه فالتزمه جدّه ، ثم قبله في فيه ثـــم
راح يقول : الحسن مني والحسين من علي .
وكثيراً ما كان الناس يتعجبون من صنع الرسول هذا ، كيف يعلنها لإبْنَيهِ إعلاناً ، فذات مرة شاهده أحـــد أصحابه وهو يقبل الحســـن ويشمه فقال - وقد كره هذا العمل - : إن لي عشرة ما قبَّلت واحـــداً منهم ، فقال رسول اللـه : من لايرحم لايُرحم . وفي رواية حفص قال : فغضب رسول الله (ص) حتى التمع لونه وقال للرجل : ان كان اللـه نزع الرحمة من قلبك ما أصنع بك ؟ ثم لما رأى مناسبة سانحة أردف قائلاً :
الحسن والحسين ابناي ، مَن أَحبَّهما أحبني ومن أحبني أحبه اللـه ، ومن أحبه اللـه أدخله الجنة . ومن أبغضهما أبغضني ، ومن أبغضني أبغضه اللـه ، ومن أبغضه اللـه أدخله النار .
ثم أخذهما هذا عن اليمين وذاك عن الشمال ، مبالغة في الحب .
ولطالما كان يسمع الصحابة قولته الكريمة :
هذان ابناي وابنا بنتي ، اللـهم إني أُحبهما ، وأُحب من يحبهما .
أو كلمته العظيمة يقولها وهو يشير إلى الحسن (ع) : وأُحب من يحبه .
ويرى أبو هريرة الإمام الحسن (ع) بعد وفاة جده الرسول فيقول له : أرني أقبل منك حيث رأيت رسول اللـه يقبّل ، ثمّ قبّل سرّته . ومن ذلك يظهر أن رسول اللـه (ص) كان يعلن ذلك إعلاناً ، حتى يراه الناس جميعاً .
وقد بالغ النبيُّ (ص) في مدح الحسنين ، حتى لكان يُظن أنهما أفضل من والدهما علي (ع) ، مما حدا به إلى أن يستدرك ذلك فيقول : هما فاضلان في الدنيا والآخرة وأبوهما خير منهما .
.. وطالما كان يرفعهما على كتفيه - يذرع معهما طرقات المدينة والناس يشهدون ، وقد يقول لهما :
نعم الْجَمل جَمَلُكما ، ونعم الراكبان أنتما .
وطالما كان ينادي الناس فيقول :
الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة .
أو :
الحسن والحسين ريحانتاي من الدنيا .
أو :
الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا .
ولقد قال - مرة - :
إذا كان يوم القيامة زين عرش رب العالمين بكلّ زينة ، ثم يؤتى بمنبرين من نور طولهما مائة ميل ، فيوضع أحدهما عن يمين العرش ، والآخر عن يسار العرش ، ثم يؤتى بالحسن والحسين فيقوم الحسن على أحدهما والحسين على الآخر ، يزيِّن الرب تبارك وتعالى بهما عرشه كما يُزَيِّنُ المرأةَ قرطاها [3] .
وعن الرضا عن آبائه عليه وعليهم السلام ، قال : قال رسول اللـه :
الولد ريحانة وريحانتاي الحسن والحسين [4] .
وعن رسول اللـه (ص) : من أحبّ الحسن والحسين فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني [5] .
وعنه (ص) : الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة [6] .
وروى عمران بن حصين عن رسول اللـه (ص) أنه قال له : يا عمران بن حصين ! إن لكلّ شيء موقعاً من القلب ، وما وقع موقع هذين من قلبي شيء قط ..
فقلت : كل هذا يا رسول اللـه !
قال : يا عمران وما خفي عليك أكثر ، إن اللـه أمرني بحبّهما [7] .
وروى أبو ذر الغفاري قال : رأيت رسول اللـه يقبِّل الحسن بن عليّ وهو يقول :
من أحب الحسن والحسين وذريتهما مخلصاً لم تلفح النار وجهه ، ولو كانت ذنوبه بعدد رمل عالج ، إلاّ ان يكون ذنباً يخرجه من الإيمان [8] .
وروى سلمان فقال : سمعت رسول اللـه يقول في الحسن والحسين :
اللـهم إنّي أُحبُّهما فأَحبَّهما وأَحبب من أحبَّهما .. .
وقال : من أحبّ الحسن والحسين أحببته ، ومن أحببته أحبه اللـه ، ومن أحبه اللـه أدخله الجنة ومن أبغضهما أبغضته ، ومن أبغضته أبغضه اللـه ، ومن أبغضه اللـه أدخله النار [9] .
وما إلى ذلك من أقوال مضيئة نعلم - علم اليقين - أنها لم تكن صادرة عن نفسه ، بل عن الوحي الذي لم يكن ينطق إلاّ به .
ولازالت عناية الرسول تشمل الوليد حتى شبّ ، وقد أخذ من منبع الخير ومآثره ، فكان أهلاً لقيادة المسلمين . وهكذا رآه الرسول ومن قبله إله الرسول ، إذ أوحى إليه أن يستخلف عليّــــاً ، ثم حسناً وحسينـاً ، فطفق يأمر الناس بمودَّتهم واتِّباعهم واتخاذ سبيلهم . ولئن شككنا في شيء فلن نشك في أن من رباه الرسول ، كان أولى الناس بخلافته .
بعد فقد الرسول :
وكــان للحســن (ع) من العمر زهاء ثمانية أعوام حينما لحق الرسول (ص) بالرفيــــق الأعلى ( في السنــــة
الحادية عشرة من الهجرة ) فأثَّر في قلبه ألم الفاجعة ، وأضرم فيه نيران الكآبة والحزن .
ولانصراف دفة الحكم عن أمير المؤمنين (ع) ، الذي كان له الحق الشرعي فيها ، أحسّ الحسن (ع) بمزيد من الحزن والغيظ ، لا لأن والده حُرم حقّاً هو له ، أو منصباً هو أهله ، أو زوي عنه من الدنيا ما كان لهم .. كلا ، لأنّه كان يرى أن انحراف المسلمين عن الجادة ، يعني انحدارهم إلى هوة الضلال بعد انتشالهم عنها ، ورجوعهم إلى مفاسد الجاهلية ، بعد تخلصهم منها ، لذلك حزن واشتد حزنه .
وذات يوم دخل المسجد فرأى الخليفة الأول يخطب في الناس على منبر جده ، بل أبيه ، فثارت في فؤاده لوعة وكآبة ، فانقلبت إلى غيظ وسخط ، فاخترق الجميع حتى بلغ المنبر قائلاً : انزلْ ، انزلْ عن منبر أبي ..؟
فسكت الخليفة الأول :
وكرر الحسن (ع) يقول : وقد تقدم إلى المنبر شيئاً : انزل ، إياك أَعني . فقام صحابي ، وضمّ الحسن (ع) إلى نفسه يُسكت عنه الروع ، وساد الصمت حيناً ، ثم اخترقه الخليفة الأول وهو يقول : صدقتَ فمنبر أبيك ، ولم يزد شيئاً . ولكنه عاتب عليّاً (ع) بعد ذلك وقد ظن أنه أثار الحسن عليه ، بيد أن الإمام (ع) حلف له أنه لم يفعل .
ونلتقي بالحسن (ع) بعد هذا الحادث بثلاث وعشرين سنة حينما اندلعت الثورة الجامحة من المسلمين تطالب الخليفة الثالث بخلع نفسه من الخلافة .. والثورة كانت تضطرم شيئاً فشيئاً ، وينضم إليها المسلمون أفواجاً وأفواجاً .. وقد اشتد بهم الحنق على سياسة الخليفة وسلوك تابعيه ، وكانت الثورة تنقاد بأمر العظماء من أصحاب الرسول (ص) وزعماء المسلمين ، أمثال عمار بن ياسر ، ومالك بن الحارث ( الأشتر ) ، ومحمد بن أبي بكر ، غير أنه انضوى تحت ألويتهم عدة غير قليلة من سواد الشعب من العراق ، ومصر وطائفة من الأعراب ، ولم يكن هؤلاء - طبعاً - ذوي سداد في الرأي ، وحنكة في التجربة بل أُولي نخوة ومصالح .. واشتد أمر الثورة ، حتى حاصروا دار عثمان يطالبونه : إما أن يخلع نفسه وإما أن يلبي دعوتهم . وأبى عثمان إلاّ الإعتماد على جيش معاوية . الذي استنجده وذلك الجيش كان قد أمره معاوية بالوقوف خارج المدينة حتى يأذن له بدخولها .
وذات يوم أراد الإمام أمير المؤمنين علي (ع) أن يخبر عثمان بعزمه على الدفاع عنه ، والمشورة له والنصح للعالم الإسلامي ، إن أراد ذلك .. ولكن من يبلّغ هذه الرسالة إلى عثمان ، وحول بيته عشرات الألوف يهزون الرماح ويسلّون السيوف . فقام الحسن (ع) قائلا : أنا لذلك . ثم أخذ يخترق الجميع في عزيمة الشجاع العظيم ، حتى أتى دار عثمان ، فدخلها بكلّ طمأنينة وبلَّغ رسالة والده ، وجلس ينصحه ويشير عليه بالخير غير مبالٍ بما يثيره الثوار خارج البيت من صلصلة سيوف ، ودمدمة سروج ، ودغدغة رماح . فإنهم كانوا في حالة صَرَع ، لا يؤمن أن يخترقوا الدار ، فيقتلوا من فيها ، وفيها الحسن . غير أنه جلــــس رابــــط الجــــأش ثابت العزيمة ، شجاع الفؤاد ، لأنه علم أنه إن أصيب بشـــيء ففي سبيــــل النصح فــــي
سبيل اللـه ودفع غائلة الفتنة عن المسلمين .
وهكذا جلس حتى أتمّ واجبه وبلّغ رسالته ، ورجع يخترق جموع الثوار مرة أخرى ..
وحيناً آخر نجد الإمام الحسن (ع) ، وقد قتل عثمان وازدحمت الحوادث من بعده ، يرى من هنا معاوية يدعو إلى نفسه ، ومن هنا الناكثون يحشدون الجيوش تحت قميص عثمان ، وقد أُخرجت زوجة الرسول (ص) في الموكب لتنتقم .
والإمام الحسن (ع) كان يومئذ فتىً له كلّ مؤهلات القيادة والوصاية ، وقد كان له الحظ الأوفر بعد أبيه في تسيير القضايا وتدبير الأمور ، والعالم الإسلامي آنذاك أحوج ما يكون إلى تدبيره وسياسته ، لأن خطأة واحدة كانت كفيلة بإبادتها رأساً .. والإمام أمير المؤمنين كان يتردد بين أمرين ما أصعب الإختيار بينهما . وهما أن يقعد ويتقاعس عن الحرب وقد أرادها له خصومه ليستولي على الأمور أولو المطامع والشهوات . أو أن يحارب - وقد فعل - وفي الحرب مذبحة المسلمين ..
ولا يهمنا من ذلك إلاّ أن الإمام الحسن (ع) عاش تجارب والده الذي كانت تجاربه بنفسه . حيث إن والده العظيم كان يشاطره أمور الخلافة كلها لسببين :
أولاً : لِمَا كان فيه من الكفاءة والمقدرة .
ثانياً : لكي يهدي الناس إلى الإمام من بعده ، وليروا في نجله العظيم القائدَ المحنَّكَ الحازمَ ، والحاكمَ العادل الرؤوف . ففي اليوم الذي بويع والده بالخلافة كان عليه أن يرقى المنبر على عادة الخلفاء من قبله ليبين سياسته ، لكي يكون الناس على خبرة وعلم . هكذا روت الأحاديث أنه (ع) استدعى الحسن (ع) ليصعد المنبر لئلا تقول قريش من بعده إنه لا يَحسن شيئاً ، هكذا كما صرح بذلك أمير المؤمنين ذاته . فصعد المنبر ، ووعظ الناس وأبلغ ، ثم راح الإمام يردد فضائل السبطين على الملأ العام .
وظــلّ الحسن (ع) الساعد المتين لوالده العظيم ، في تلك الفتنة الكبرى ، التي رافقت خلافة علي (ع)، نعم ففي فتنة البصرة بعث الإمام نجله على رأس وفد فيه عبد اللـه بن العباس ، وعمار بن ياسر وقيس بن سعد ، يستنفر أهل الكوفة لحرب الغدرة من أصحاب الجمل ، وقد حمل معه كتاباً عن أمير المؤمنين فيه عرض خاطف عن قصة مقتل عثمان ، وبيان الحقيقة في ذلك .. فجاء الإمام ، يريد استنهاض الناس الذين كانت ، ولازالت ، ولاتها تثبطهم عن الخروج مع الإمام فعاتب أولاً أبا موسى الأشعري المراوغ ، على تثبيطه الناس ، وكان يومئذٍ والياً على الكوفة ، ثم تلا عليهم الكتاب بنصه :
إني خرجت مخرجي هذا ، إمّا ظالماً وإمّا مظلوماً ، وإمّا باغياً وإمّا مبغيّاً عَلَيّ ، فأُنشد اللـه رجلاً بلغه كتابي هذا إلاّ نفر إليَّ ، فإن كنت مظلوماً أعانني ، وإن كنت ظالماً استعتبني .
ثم أخذ يحثهم على الجهاد وهو يقول على ما في بعض الروايات :
أيها الناس إنّا جئنا ندعوكم إلى اللـه وإلى كتابه وسنّة رسوله ، وإلى أفقه من تفقه من المسلمين ، وأعدل من تعدلون ، وأفضل من تفضلون ، وأوفى من تبايعون ، من لم يعبه القرآن ، ولم تجهله السنّة ، ولم تقعد به السابقة . إلى من قرَّبه اللـه تعالى ورسولُه ، قرابتين : قرابة الدين ، وقرابة الرحم ، إلى من سبق الناس إلى كلِّ مأثرة . إلى من كفى اللـه به ورسوله ، والناسُ متخاذلون . تقرَّب منه والناس متباعدون ، وصلى معه وهم مشركون ، وقاتل معه وهم منهزمون ، وبارز معه وهم مُحجمون ، وصدَّقه وهم يكذبون ؛ إلى من لا ترد له راية ولا تكافأ له سابقة .
وهو يسألكم النصر ويدعوكم إلى الحقّ ويأمركم بالمسير إليه ، لتؤازروه وتنصروه على قوم نكثوا راية بيعتـــه ، وقتلوا أهل الصلاح من أصحابه ، ومثّلوا بعمُاله ، وانتهبوا بيت ماله ، فأشخصوا إليه رحمكم اللـه، فأمروا بالمعروف ، وأنهوا عن المنكر ، واحضروا بما يحضر به الصالحون .. .
هكذا أتم المقطوعة الأولى من خطبته .. فبيَّن لهم أولاً دستور صاحب الدولة ، بنص الكتاب الذي أرسله الخليفة ، ثم راح يبيِّن شخصية الداعي لهم حتى يأتمنوه على دينهم ودنياهم . ثم أخذ ببيان جانب الفتنة ليبعث فيهم الروح الإنسانية التي تحثهم على الدفاع عن المقدَّسات ، وأخيراً تكلم معهم عن الناحية الدينية ، فأبلغ بذلك كمال مراده .
ثم أَتبع هذه الخطبة ، بأخرى ، ألهب فيها حماساً ، ودعا إلى الجهاد ، ولازال بهم حتى إحتشد منهم جمع كثير ، وكان هناك تدابير أخرى تتبع هذه الخطب ، وتنفذها .
وسار الجيش إلى البصرة ، والتقى الفريقان والتحم الجيشان ، ورأى الإمام : أن الراية المعادية هي المركز الذي يجب أن يقصد ، فإن وقعت فالعدو منهزم ، وإن بقيت فإن في ذلك مقتلاً كبيراً من الفريقين ولا يريد ذلك الإمام (ع) .
فتوجه إلى محمد بن الحنفية - نجله الشجاع الصنديد الذي كان مضرب المثل في الناس بالقوة والشجاعة - يأمره بالإقدام ، ومحاولة اسقاط العلم ، وقد كانت تلك المحاولة صعبة جدّاً ، حيث إن الجيوش كانت تعتبر العلم كلّ شيء في نصرها أو هزيمتها ، فكانت تدافع عنه بما أوتيت من قوة وبأس .
فــأقــدم محمد في عزيمة ثابتة ، بيد أنه لم يَخْطُ خُطوات حتى عرف الخصم مناوءه ، فجعل الجيش كلــــه يُمطر عليه السهام ، فإذا به يجد نفسه تحت وابل من النبال ، فرجع إلى مركز القيادة عند أمير المؤمنيـن .. فزجره الإمام فأجاب : إنه إنما صبر حتى يخف النبل وثم يتابع زحفه وهنا يكتب بعض الرواة: أن الإمام عزم على إنجاز المهمة بنفسه ، بيد أن الإمام الحسن قام يكفيه ذلك ، فقال له والده ، بعد تردد ربما كان ناشئاً عن محافظته الكبيرة على حياة السبطين لأنه كان ينحدر منهما نسل النبي (ص) ، فإذا استشهد فمن الذي يحفظ نسب النبي (ص) ؟. ومن الذي يكون إمتداداً له ؟
قال له بعد أن تردد بعض الوقت : سر على اسم اللـه .
واقتحم الإمام خضم الجيش .. فتقاطرت عليه النبال ، وعلي (ع) ينظر إليه عن كثب ، ومحمد على جنبه يرق .. ولم يزل الحسن (ع) يغيب في لجج الرجال ويطفو عليها حيناً آخر ، حتى بلغ مركز الراية فأسقطها ، وهزم الجيش وتمّ النصر على يده (ع) .
.. ولو ظللنا نتابع الأحداث التي جرت على خلافة أمير المؤمنين .. نتحسس عن شخصية الإمام الحسن (ع) ، لطال ذلك بنا كثيراً ، لأنها كانت الشخصية الثانية في تلك الأحداث الرهيبة ، ولها من اللمعان والوضاءة ما يبهر الأبصار ويُدهش العقول .
______________________________________
([1]) الحزقة : القصير الذي يقارب الخطو .
([2]) الحسن بن علي : ( ص 21 ) .
([3]) المصدر : ( ج 43 ، ص 262 ) .
([4]) المصدر : ( ص 264 ) .
([5]) المصدر .
([6]) المصدر : ( ص 265) .
([7]) المصدر : ( ص 269 ) .
([8]) المصدر : ( ص 270 ) .
([9]) المصدر : ( ص 275 ) .