الفصل الثاني :عهد امامته (2)
وفي الكوفة ، خليط من الناس مختلفون ، فهناك من أنصار معاوية الذين أفسدتهم هدايا الحزب الأموي ومواعيده ، وهناك بعض الخوارج القشريين ، وهناك من يثبط الناس عن الجهاد ، وهناك أهل البصائر يُلهبون حماس الشعب ، ويحرضونهم لقتال أهل البغي بشتى أساليب الاستنهاض . والإمام الحسن (ع) لايزال يبعث الخطباء المفوَّهين ، والوجهاء البارزين إلى الأطراف ، يدعوهم إلى نصرته ، ولا يزال أيضاً يُلهب أفئدة الكوفيين بالخطبة إثر الأخرى .
ولكن أهل الكوفـــــة كانوا باردين كالثلج أمام هذه الدعوة ، لأن الحروب الطاحنة التي سبقت عهد الإمـــام ( من الجمل إلى صِفِّين والنهروان ) قد أنهكتهم ، وقد أعرب الإمام الحسن نفسه في مناسبة عن هذه العلة التي تثبط عزيمة أهل الكوفة عن الخروج معه فقال :
وكنتم في مسيركم إلى صفِّين ودينُكم أَمام دنياكم ، وأصبحتم اليوم ودنياكم أَمام دينِكم . وأنتم بين قتيلَين ، قتيلٍ بصِفِّين تبكون عليه ، وقتيلٍ بالنهروان تطلبون بثأره . فأما الباقي فخاذل ، وأما الباكي فثائـــر .
وبالرغم من معاكسة كلّ الظروف ، فإن أصحاب الحق قرروا اقتحام غمار الجهاد المقدس ، علَّهم يكونون الفاتحين .
ولكنها فعلتْ مكائدُ معاوية فعلَها ، حيث كان قد سخّر طائفةً غير قليلة من ذوي الأطماع ، يدبرون له مؤامراته ، فيبثون الشائعات عن قوة جيش الشام ، وقلة جند الكوفة ، وضعفه ، وعدم القدرة على مقاومته ، وعملت الدنانير والدراهم عملها الخبيث الأرعن ، فإذا بالعدة المعتمد عليها من قواد جيش الإمام الحسن (ع) ينهارون أمام قوة إعلام معاوية ، أو قوة إغرائه .
ورغم أن قيادة السرية من جيش الإمام ، كانت حكيمة ، تحت لواء عبد اللـه بن العباس فقد ذهبت ضحية مكر معاوية ، وتغرير القائد ، وإليك القصة :
أرسل الإمام ابن عمه لملاقاة معاوية وكتب إليه هذه الوصية :
يا ابن العم ، إني باعث إليك اثنَي عشر ألفاً ، من فرسان العرب ، وقَرَّاء مصر ، الرجل منهم يريد الكتيبة . فِسِرْ بهم وأَلِنْ لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وأَدْنِهم من مجالسك ، فإنهم بقية ثقاة أمير المؤمنين . وَسِرْ بهم على شط الفرات ، ثم امضِ حتى تستقبل معاوية . فإن أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك ، فاني على أثرك وشيكاً . وليكن خبرك عندي كلّ يوم ، وشاور هذَين - يعني قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس - فإذا لقيت معاوية فلا تقاتله ، حتى يقاتلك ، فإن فعل فقاتله ؛ وإن أُصبتَ فقيس بن سعد على الناس ، فإن أُصيب فسعيد بن قيس على الناس [15] .
ثم سار بنفسه - بعد أيام - في عدد هائل من الجيش ، لعله كان ثلاثين ألفاً أو يزيدون ، حتى بلغ مظلم ساباط ، التي كانت قريبة من المدائن ، فعملت دسائس معاوية في مقدمة جيش الإمام ، فأذيع بين الناس نبأ كان له أثر عميق في صفوف الجيش . وكان النبأ يقول : ( إن الحسن يكاتب معاوية على الصلح فَلِمَ تقتلون أنفسكم ؟ ) ثم أخذ يستميل قادة الجيش بالمال والوعود ، فإذا هم يتسللون إليه في خفاء ، ويكتب عبيد اللـه نبأ ذلك إلى الإمام . ولكن مؤامرته تلك لم تكن بذات أهمية ، حتى اشترى ضمير القائد الأعلى فكتب إليه يقول :
إن الحسن قد راسلني في الصلح ، وهو مسلِّم الأمر إليّ ، فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعاً ، وإلاّ دخلت وأنت تابع ، ولك إن أجبتني الآن أعطيك ألف ألف درهم أعجِّل لك في هذا الوقت نصفها وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر .
إن معاوية مكر بعبيد اللـه بثلاثة أساليب ، فإنه قال له :
أولاً : إن الحسن يراسله في الصلح ، وهذه أول ما هدت أركان عبيد اللـه فقال في نفسه : إذن فلم أُسيء سمعتي في التاريخ ، وأحمل خطيئة الدماء التي تهراق تحت لوائي . ثم قال له :
ثانياً : كن متبوعاً ، فغره بالرئاسة . وأخيراً وعده بمليون درهم وهذا الأخير كان أهم الثلاثة ، في شخص ألزمه إمامه بالعدل ، والمساواة مع أقل الناس .
فأنسلّ عبيد اللـه القائد العام دون أن يخبر أحداً ، فأصبح الجيش يبحث عن القائد ليقيم بهم صلاة الصبح فلا يجده ، فقام قيس الثاني للجيش يصلي بالناس الصبح ، ثم لما انتهى خطب فيهم يهدئ روع الناس ، ويُطمْئن قلوبهم ويقول :
إن هذا وأباه لم يأتوا بيوم خيراً قط ، إن أباه عمُّ رسول اللـه ، خرج يقاتله ببدر ، فأسره كعب بن عمرو الأنصاري ، فأتي به رسول اللـه (ص) فأخذ فداءه ، فقسّمه بين المسلمين ، وإن أخاه ولاه عليٌّ على البصرة فسرق ماله ، ومال المسلمين ، فاشترى به الجواري ، وزعم أن ذلك له حلال . وإنَّ هذا ولاّه عليٌ على اليمن ، فهرب من بسر بن أرطاة وترك ولده ، حتى قتلوا وصنع الآن هذا الذي صنع .
فإذا بالجيش يصبح مؤيداً .
الحمد لله الذي أخرجه من بيننا . إلاّ انّ هذا الجيش الذي هرب قائده إلى معسكر العدو ، لم يكن في وضع يقاوم جيش معاوية لذلك تفرق أكثره ولم يبقَ منه إلاّ ربع عدده أربعة آلاف فقط .
وان هذا العدد الهائل الذي انتقص من اثني عشر بعث الخيبة في نفوس الجند في المقدمة ، كما بعث الخيبة في نفوس سائر الجيش الثاوي في مظلم ساباط ، حيث كان الإمام وحيث كان الجيش الذي انتشرت فيه دعايات معاوية ، التي لازالت تُبث فيه عبر جواسيسه . وبدأ بعضهم يتسللون إلى معاوية وكتب بعضهم إليه أن لو شئت جئنا بالحسن إليك أسيراً ، ولو شئت قتلناه . وجاءت عطايا معاوية التي زادت على مئة ألف غالباً ، ووعوده بتزويج بناته لهذا القائد أو ذاك .
وهكذا نستطيع أن نعرف مدى ضغط الظروف التي أجبرت الإمام (ع) على الصلح ، من هذه الخطبة اللاهبة ، التي ألقاها على مسامع المساومين بالضمائر ، الذين كانوا يشكلون الأغلبية الساحقة من جيشه (ع) . ويظهر من هذه الخطبة أنهم كانوا متأثرين بدعايات معاوية إلى حد بعيد ، حيث كانوا يلحُّون على الإمام بالتنازل عن حقه ومبايعة معاوية والإمام يأبى عليهم ذلك ، كما يظهر أنه كان من الوجهاء مَنْ فَكَّرَ في اغتيال الإمام ، كما اغتال صاحبُه أباه (ع) .
وبعد كلّ ذلك كانت الظروف تُكره الإمام على الصلح مع معاوية إلى أجل هم بالغوه ، فكتب إلى معاوية أو كتب إليه معاوية ، على اختلاف بين المؤرخين في شأن الصلح ، ورضي الطرفان بذلك بعد أن اتفقا على بنوده التي لم تكن ترجع إلى الإمام إلاّ بالخير ، وعلى الأمة إلاّ بالصلاح .
ومن راجع كلمات الإمام الحسن (ع) التي قالها بعد الصلح لأصحابه بعد أن أنكروا عليه ذلك يعرف مدى تأثر قضيته بالظروف المعاكسة التي لم تزل ترفع إليهم بالفتنة إثر الفتنة .
لقد قال لأحدهم إذ ذاك : [16]
لستُ مُذِلاًّ للمؤمنين ، ولكني مُعِزُّهم ، ما أردت بمصالحتي إلاّ أن أدفع عنكم القتل ، عندما رأيت تَباطُؤَ أصحابي ونُكولَهم عن القتال .
وقال للآخر في هذا الشأن - وقد كان من الخوارج الذين لم يكن بغضهم للحسن (ع) وشيعته بأقل عن بغضهم لمعاوية وأصحابه - قال له :
ويحك أيها الخارجي !! لا تقضِ ، فإن الذي أحوجني إلى ما فعلت قتلكم أبي ، وطعنكم إيّايّ ، وانتهابكم متاعي . وإنّكم لمّا سرتم إلى صِفِّين ، كان دينكم أمام دنياكم ، وقد أصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم ، ويحـك أيها الخارجي ! إني رأيت أهل الكوفة قوماً لا يوثق بهم ، وما أغترٍ بهم إلاّ من ذل ، وليس أحـــد منهم يوافــــق رأي الآخــــر . ولقد لقي أبي منهـــم أموراً صعبــة ، وشدائد مرّة ، وهي أسرع البـــلاد خرابـــــــــاً
وأهلها هم الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً [17] .
ولذلك ولغيره من الأسباب صالح الإمام معاوية وكتب إليه هذه الوثيقة التالية :
بسم اللـه الرحمن الرحيم
هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب ، معاوية بن أبي سفيان ، صالحه على أن يسلِّم إليه ولاية الأمر على :
1- أن يعمل فيهم بكتاب اللـه وسنّة رسوله وسيرة الخلفاء الصالحين .
2- وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً ، بل يكون الأمر بعده للحسن ثم لأخيه الحسين .
3- وعلى أن الناس آمنون حيث كانوا في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم .
4- وعلى أن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم ونسائهم وأولادهم . وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد اللـه وميثاقه وما أخذ اللـه على أحد من خلقه بالوفاء وبما أعطى اللـه من نفسه .
5- وعلى أن لايبغي للحسن بن علي ، ولا لأخيه الحسين ، ولا لأحد من أهل بيت رسول اللـه ، غائلة سراً ولا جهراً ، ولا يخيف أحداً منهم في افق من الآفاق .
تعهد عليه فلان بن فلان ، بذلك وكفى باللـه تعهيداً [18]
والموثوق أن محل الصلح كان مسكن ساباط ، قريباً من موقع مدينة بغداد اليوم ، حيث كان معسكر الإمام الحسن (ع) . فلما أن تمّ ذلك رجع الإمام بمن معه إلى الكوفة .
__________________________________________
([15]) بحار الأنوار : ( ج 44 ، ص 51 ) .
([16]) قال ذلك .
([17]) تذكرة الخواص : ( ص 207 ) .
([18]) ذكـر هذه الوثيقة العلاّمة باقر شريف القرشي عن الفصـول المهمة : ( ص 145 ) وكشف الغمــــة : ( ص 170 ) والبحار : ( ج 10 ، ص 115 ) . وغيرها ثم علق عليها هذه الصورة أفضل صورة وردت مبينة لكيفية الصلح .