الفصل الثالث: مواقف مشرقة
الإمام الحسن (ع) يجني ثمار الصلح :
وكان هدف الإمام الحسن (ع) من الصلح فضح معاوية ، وهدم أسس سلطته القائمة على القيم الجاهلية ، وتنظيم صفوف المعارضة من جديد ، واستغلال كل فرصة لبث روح الإيمان والتقوى في ضمائر الناس .
وفيما يلي نذكر بعضاً من مواقف الإمام مع سلطة معاوية التي كانت تهز عرشه ، وتُلهم معارضيه أسلوب مقاومته :
أ - بُعَيْدَ المصالحة صعد معاوية المنبر ، وجمع الناس فخطبهم وقال : إن الحسن بن علي رآني للخلافة أهلاً ، ولم يَر نفسه لها أهلاً ، وكان الحسن (ع) أسفل منه بمرقاة .
فلمّا فرغ من كلامه قام الحسن (ع) فحمد اللـه تعالى بما هو أهله ، ثمّ ذكر المباهلة ، فقال :
فجاء رسول اللـه (ص) من الأنفس بأبي ، ومن الأبناء بي وبأخي ، ومن النساء بأمّي . وكنّا أهله ونحن آله ، وهو منّا ونحن منه .
ولمّا نزلت آية التطهير جمعنا رسول اللـه (ص) في كساء لأُمِّ سلمة رضي اللـه عنها خيبري ثم قال : اللـهمّ هؤلاء أهل بيتي وعترتي ، فَأذهِبْ عنهم الرِّجسَ وطهّرهم تطهيراً . فلم يكن أحد في الكساء غيري وأخي وأبي وأُمّي ولم يكن أحد تصيبه جنابة في المسجد ويولد فيه إلاّ النبي (ص) وأبي تكرمة من اللـه لنا وتفضيلاً منه لنا ، وقد رأيتم مكان منزلتنا من رسول اللـه (ص) .
وأمر بسدِّ الأبواب فسدَّها وترك بابنا ، فقيل له في ذلك فقال : أَمَا إنّي لم أسدَّها وأفتح بابه ، ولكنَّ اللـه عزَّ وجلَّ أمرني أن أسدَّها وأفتح بابه .
وإنَّ معاوية زعم لكم أنّي رأيته للخلافة أهلاً ، ولم أرَ نفسي لها أهلاً فكذب معاوية ، نحن أولى بالناس في كتاب اللـه عزَّ وجلَّ وعلى لسان نبيه (ص) ، ولم نزل أهل البيت مظلومين ، منذ قبض اللـه نبيه (ص) ، فاللـه بيننا وبين من ظلمنا حقّنا ، وتوثّب على رقابنا ، وحمل الناس علينا ، ومنعنا سهمنا من الفيء ومنع أُمَّنا ما جعل لها رسول اللـه (ص) .
وأُقسم باللـه لو أنَّ الناس بايعوا أبي حين فارقهم رسول اللـه (ص) لأعطتهم السماء قطرها ، والأرض بركتهـــا ، وما طمِعتَ فيها يا معاوية . فلمّا خرجتْ من معدنها تنازعتها قريش بينها ، فطمعتْ فيها الطُّلَقـاء ، وأبناء الطُّلَقاء - أنت وأصحابك - وقد قال رسول اللـه (ص) : ما ولّت أُمّة أمرها رجلاً وفيهم من هو أعلم منه إلاّ لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتّى يرجعوا إلى ما تركوا ، فقد تركت بنو إسرائيل هارون وهم يعلمون أنّه خليفة موسى فيهم واتّبعوا السامريَّ ، وقد تركت هذه الأُمّة أبي وبايعوا غيره ، وقد سمعوا رسول اللـه (ص) يقول : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ النبوَّة ، وقد رأَوا رسول اللـه (ص) نصب أبي يوم غدير خم وأمرهم أن يبلّغ الشاهد منهم الغائب .
وقد هرب رسول اللـه (ص) من قومه ، وهو يدعوهم إلى اللـه تعالى حتّى دخل الغار ، ولو وجد أعواناً ما هرب ، وقد كفَّ أبي يده حين ناشدهم ، واستغاث فلم يُغَثْ فجعل اللـه هارون في سعة حين استضعفوه وكادوا يقتلونه ، وجعل اللـه النبيَّ (ص) في سعة حين دخل الغار ولم يجد أعواناً . وكذلك أبي وأنا في سعة من اللـه حين خذلتنا هذه الأمة ، وبايعوك يا معاوية . وإنما هي السنن والأمثال يتبع بعضها بعضاً .
أيها الناس : إنكم لو التمستم فيما بين المشرق والمغرب ، أن تجدوا رجلاً ولده نبيّ غيري وأخي لم تجدوا ، وإنّي قد بايعت هذا وإن أدري لعلّه فتنة لكم ومتاع إلى حين [31] .
ب - ومرة أخرى صعد معاوية المنبر ونال من أمير المؤمنين فتحداه الإمام الحسن (ع) بما فضحه أمام الملأ . تقول الرواية :
بعد أن تمت المصالحة سار معاوية حتّى دخل الكوفة فأقام بها أيّاماً فلمّا استتمّت البيعة له من أهلها صعد المنبر ، فخطب الناس وذكر أمير المؤمنين (ع) ونال منه ، ونال من الحسن (ع) ما نال ، وكان الحسن والحسين (ع) حاضرَين ، فقام الحسين (ع) ليردَّ عليه ، فأخذ بيده الحسن (ع) فأجلسه ، ثمَّ قام فقال :
ايّها الذاكر عليّاً ، أنا الحسن وأبي عليٌّ ، وأنت معاوية وأبوك صخر ، وأُمي فاطمة وأُمّك هند ، وجدّي رسول اللـه (ص) وجدُّك حرب ، وجدَّتي خديجة وجدَّتك قتيلة ، فلعن اللـه أخملنا ذكراً وألأَمنا حَسَباً ، وَشرنا قَدماً ، وأقدمنا كفراً ونفاقاً . فقالت طوائف من أهل المسجد : آمين آمين [32] .
ج - وفي الشام حيث رَكَّز معاوية سلطته خلال عشرات السنين . ولفقَ أكاذيب على الإسلام حتى كاد يخلق للناس ديناً جديداً . وقف الإمام الحسن المجتبى (ع) يعارض نظامه الفاسد ، ويبيِّن أنه وخطه الأولى بالقيادة . يقصّ علينا التاريخ الحادثة التالية :
رُوي أنَّ عمرو بن العاص قال لمعاوية : إنَّ الحسن بن علي رجل عَيِيٌّ ، وإنه إذا صعد المنبر ورمقوه بأبصارهم خجل وانقطع ، لو أذنت له . فقال معاوية : يا أبا محمّد لو صعدت المنبر ووعظتنا !. فقام فحمد اللـه وأثنى عليه ، ثمَّ قال :
مَن عرفني فقد عرفني ، ومَن لم يعرفني فأنا الحسن بن عليّ ، وابن سيدّة النّساء فاطمة بنت رسول اللـه (ص) . أنا ابن رسول اللـه ، أنا ابن نبيِّ اللـه ، أنا ابن السراج المنير ، أنا ابن البشير النّذير ، أنا ابن من بُعث رحمة للعالمين ، أنا ابن من بُعث إلى الجنِّ والإنس ، أنا ابن خير خلق اللـه بعد رسول اللـه ، أنا ابن صاحب الفضائل ، أنا ابن صاحب المعجزات والدّلائل ، أنا ابن أمير المؤمنيـن ، أنا المدفوع عن حقّي، أنا واحدُ سَيِّدَي شباب أهل الجنّة ، أنا ابن الُّركن والمقام ، أنا ابن مكّة ومنى ، أنا ابن المشعر وعرفات .
فاغتاظ معاوية وقال : خذ في نعت الرُّطب ودعْ ذا ، فقال : الرِّيح تنفخه والحرُّ ينضجه ، وبرد اللّيل يطيّبه ، ثمَّ عاد فقال :
أنا ابن الشفيع المطاع ، أنا ابن من قاتل معه الملائكة ، أنا ابن من خضعت له قريش ، أنا ابن إمام الخلق وابن محمّد رسول اللـه (ص) .
فخشي معاوية أن يفتتن به النّاس ، فقال : يا أبا محمّد انزل فقد كفى ما جرى . فنزل فقال له معاوية : ظننتَ أن ستكون خليفة ، وما أنت وذاك ، فقال الحسن (ع) :
إنّما الخليفة ممن سار بكتاب اللـه ، وسنّة رسول اللـه ، ليس الخليفة من سار بالجور وعطّل السنّة ، واتّخذ الدُّنيا أباً وأُمّاً ، ملك ملكاً مُتّع به قليلاً ، ثمَّ تنقطع لذَّته ، وتبقى تَبِعَتُه .
وحضر المحفل رجل من بني أُمية وكان شاباً فأغلظ للحسن كلامه ، وتجاوز الحدَّ في السبِّ والشتم له ولأبيه . فقال الحسن (ع) : اللـهمَّ غيّر ما به من النّعمة واجعله أُنثى ليُعتبر به ، فنظر الأمويُّ في نفسه وقد صار امرأة قد بدَّل اللـه له فرجه بفرج النّساء وسقطت لحيته ، فقال الحسن (ع) : أُعْزُبي ! مالكِ ومحفل الرِّجال ؟ فإنّكِ امرأة .
ثمَّ إنَّ الحسن (ع) سكت ساعة ، ثمَّ نفض ثوبه ونهض ليخرج ، فقال ابن العاص : اجلس فانّي أسألك مسائل . قال (ع) : سل عمّا بدا لك ، قال عمرو : أخبرني عن الكرم والنجدة والمروءة ، فقال (ع) :
أمّا الكرم فالتبرُّع بالمعروف والإعطاء قبل السؤال . وأما النجدة فالذَّبُّ عن المحارم ، والصّبر في المواطن عند المكاره . وأما المروءة فحفظ الرجل دينه ، وإحرازه نفسه من الدنس ، وقيامه بأداء الحقوق وإفشاء السلام .
فخرج ( الإمام الحسن عليه السلام ) فعذل معاوية عمراً . فقال : أفسدت أهل الشام . فقال عمرو : إليك عنّي . إن أهل الشام لم يحبوك محبة إيمان ودين . إنّما أحبوك للدنيا ينالونها منك ، والسيف والمال بيدك ، فما يغني عن الحسن كلامه .
ثم شاع أمر الشاب الأموي ، وأتت زوجته إلى الحسن فجعلت تبكي . وتتضرع فرقَّ لها ودعا فجعله اللـه كما كان [33] .
إلى المدينة :
وهكذا ظل الإمام في الكوفة شهوراً ، ثم ارتحل عنها وارتحل معه كلّ الخير . ففي نفس الأيام التي خرج الإمام عنها ، حلّ بها طاعون فمات الكثير من أهلها ، حتى أن واليها ( المغيرة بن شعبة ) أُصيب به فمات .
فلما بلغ المدينة ، خف أهلها يستقبلونه أحرّ الإستقبال . وظل هناك يقود حرباً باردة ضد معاوية ومؤامراته على المسلمين ، حتى كانت السنة حيث وفد إلى الشام عاصمة الخلافة الإسلامية ، فراح يبلّغ عن دعوته التي خُلق لها وخرج بها ، وعاش معها ، تلك دعوة الحق ، ومحق الباطل . ولقد أظهر الإمام في تلك الرحلة الرسالية ، لأهل الشام ، أن معاوية ليس بالذي يصلح للقيادة ، على ما موَّه عليهم بدعاياته المضللة ، فهو يرجع بهم إلى الجاهلية حيث كان أبوه يستعبد الناس ويستنزف جهودَهم وطاقاتهم ، ولا يهمه بعد ذلك أَسَعِدُوا أم شقوا .
وليس من العجب أن نرى كلّ من التفَّ حول معاوية ودافع عن أفكاره ونصب نفسه لدعوته ، كان من قبل قد التف هو أو أسرته حول ابي سفيان ودافع عن أفكاره . فلا زال معاوية يقود الحزب الأموي الذي قاده من قبل والده أبو سفيان ، بذات المفاهيم والعادات والسلوكيات . كما أنه لا يثير العجب إذا رأينا في صف الإمام الحسن (ع) ثلة صالحة ممن كان قبل أيام يناضل أبا سفيان وحزبه دفاعاً عن قيم الرسالة .
والواقع أن حركة معاوية كانت ردّ فعل جاهلي ضد انتشار رسالة الإسلام وكانت على صلة تامة بالروم .
وكان يعتمد معاوية على أشخاص مثل عمرو بن العاص ، وزياد بن أبيه ، وعتبة بن أبي سفيان ، والمغيرة بن شعبة ، ونظائرهم ممن لاتزال صورهم أو صور أسرهم تتراءى لنا ، في ميادين بدر والخندق، كما كان يعتمد على النصارى الذين أصبحت لهم قوة لا يُستهان بها داخل الدولة الأموية . وإن معاوية كان يجتمع كلّ مساء بمن يقرأ عليه أخبار الحروب السابقة وخصوصاً تجارب الروم في الحروب السياسية فيستفيد منها .
من هنا نعرف أن الحرب بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، أو نجله الإمام الحسن (ع) وبين معاوية ، لم تكن صراعاً مجرداً على السلطة ولا صراعاً بين حزبين داخل الإطار الإسلامي ، بل كان صراعاً بين الكفر المبطن والإسلام الحق . ولذلك اتبع الإمام الحسن (ع) نهجاً خاصاً في مواجهة الصراع ، وهو نهج الدعوة الصريحة ، حيث سافر إلى الشام ، عاصمة الخلافة ، كي يُقر حقّاً نذر له نفسه ، ومن الطبيعي أن أهل الشام سوف يلتفتون إليه بعد أن كان رئيس الحركة المناوئة لدولتهم ، وقائد الحرب المعارض لسياستهم . ولابد أن يفد منهم خلق كثير ، فهنالك يستطيع أن يبلِّغ دعوته وينشر من علومه ما يدكّ صرح معاوية السياسي وينسف أحلامه الجاهلية .
وإن صفحات التاريخ تطالعنا بكثير من خطبه التي ألقاها على أهل الشام ، فأثر في نفوسهم أبلغ تأثير ، ولـــم يزل كذلك حتى اشتكــــاه أنصار معاوية قائلين له إن الحســــن قد أحيا أباه وَذِكْره ، وقال فصُدِّق ، وأمــــر
فأُطيع ، وخفقت له النعال ، وإن ذلك لرافعة إلى ما هو أعظم منه ولا يزال يبلغنا عنه ما يسوؤنا .
_______________________________________
([31]) المصدر : ( ص 62 - 64 ) .
([32]) المصدر : ( ص 49 ) .
([33]) المصدر : ( ص 88 - 90 ) .