• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) والمفوّضة

والمفوّضة جماعة ، قالت : إنّ الله خلق محمّداً وفوّض إليه خلق الدُّنيا ، فهو الخلاّق لما فيها ، وقيل : فوّض ذلك إلى الإمام علي (عليه السلام)[1] والأئمة(عليهم السلام) من بعده . وعن ادريس بن زياد الكفرتوثائي قال : كنت أقول فيهم قولاً عظيماً فخرجتُ إلى العسكر للقاء أبي محمّد (عليه السلام) ، فقدمت وعليَّ أثر السفر وعناؤه ، فألقيتُ نفسي على دكّان حمّام ، فذهب بي النوم ، فما انتبهت إلاّ بمقرعة أبي محمّد (عليه السلام) ، قد قرعني بها حتّى استيقظت ، فعرفته سلام الله عليه فقمتُ قائماً أقبّل قدمه وفخذه ، وهو راكب ، والغلمان من حوله فكان أوّل ما تلقّاني به أن قال : ياإدريس ( بل عبادٌ مكرمون* لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون )[2] .
فقلت : حسبي يامولاي وإنّما جئت أسألك عن هذا ، قال : تركني ومضى[3].
وإنّ قوماً من المفوّضة قد وجّهوا كامل بن إبراهيم المدني إلى أبي محمد(عليه السلام) قال كامل : قلت في نفسي أسأله: لا يدخل الجنّة إلاّ من عرف معرفتي؟ وكنت جلستُ إلى باب عليه ستر مرخىً ، فجاءت الريح فكشفت طرفه فإذا أنا بفتى كأنّه فِلقة قمر من أبناء أربع سنين أو مثلها ، فقال لي : ياكامل بن إبراهيم; فاقشعررت من ذلك واُلهمت أن قلت : لبّيك ياسيّدي .
فقال : جئت إلى وليّ الله تسأله : «لا يدخل الجنة إلاّ من عرف معرفتك وقال بمقالتك» ؟
قلت : إي والله .
قال : إذن والله يقلّ داخلها والله إنه ليدخلها قوم يقال لهم الحقيّة .
قلت : ومن هم ؟
قال : «قوم من حبهم لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) يحلفون بحقّه وما يدرون ما حقه وفضله» . (أي قوم يعرفون ما يجب عليهم معرفته جملة لا تفصيلاً من معرفة الله ورسوله والأئمة (عليهم السلام) ) .
ثم قال : جئت تسأله عن مقالة المفوّضة ؟ كذبوا ، بل قلوبنا أوعية لمشيئة الله، فإذا شاء شئنا ، والله يقول : ( وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله )[4] . فقال لي أبو محمّد(عليه السلام) : ما جلوسك وقد أنبأك بحاجتك الحجة من بعدي فقمت وخرجت ولم أعاينه بعد ذلك[5].
وقد كان الإمام العسكري(عليه السلام) حريصاً على هداية أتباع أهل البيت(عليهم السلام) وإرشادهم الى الحق بإزالة الشكوك التي كانت تعترضهم في الطريق .
فعن محمّد بن عياش أنه قال: تذاكرنا آيات الإمام فقال ناصبيّ: إن أجاب عن كتاب بلا مداد علمت انّه حقّ، فكتبنا مسائل وكتب الرّجل بلا مداد على ورق وجعل في الكتب، وبعثنا إليه فأجاب عن مسائلنا وكتب على ورقة اسمه واسم أبويه، فدهش الرّجل، فلمّا أفاق اعتقد الحق[6].
وروي عن عمر بن أبي مسلم أنه قال: كان سميع المسمعيّ يؤذيني كثيراً ويبلغني عنه ما أكره، وكان ملاصقاً لداري، فكتبت الى أبي محمد(عليه السلام) أسأله الدّعاء بالفرج منه، فرجع الجواب: أبشر بالفرج سريعاً، ويقدم عليك مال من ناحية فارس. وكان لي بفارس ابن عمّ تاجر لم يكن له وارث غيري فجاءني ماله بعدما مات بأيّام يسيرة.
ووقّع في الكتاب: استغفر الله وتب إليه ممّا تكلّمت به، وذلك أنّي كنت يوماً مع جماعة من النّصاب فذكروا أبا طالب حتّى ذكروا مولاي، فخضت معهم لتضعيفهم أمره، فتركت الجلوس مع القوم، وعلمت أنه أراد ذلك[7].
قال محمّد بن هارون بن موسى التلعكبريّ : حدثنا محمد بن هارون فقال: أنفذني والدي مع أصحاب أبي القلا صاعد النصراني لأسمع منه ماروى عن أبيه من حديث مولانا أبي محمد الحسن بن عليّ العسكري(عليه السلام) فأوصلني إليه فرأيت رجلاً معظماً وأعلمته السبب في قصدي فأدناني وقال:
حدّثني أبي أنه خرج وإخوته وجماعة من أهله من البصرة الى سرّ من رأى للظلامة من العامل، فإذا ]كنّا[ بسرّ من رأى في بعض الأيام إذا بمولانا أبي محمد(عليه السلام) على بغلة، وعلى رأسه شاشة، وعلى كتفه طيلسان، فقلت في نفسي: هذا الرجل يدّعي بعض المسلمين أنه يعلم الغيب، وقلت: إن كان الأمر على هذا فيحوّل مقدّم الشاشة الى مؤخرها، ففعل ذلك.
فقلت: هذا اتّفاق ولكنه سيحوّل طيلسانه الأيمن الى الأيسر والأيسر الى الأيمن ففعل ذلك وهو يسير، وقد وصل إليّ فقال: يا صاعد لم لا تشغل بأكل حيدانك عمّا لا أنت منه ولا إليه، وكنّا نأكل سمكاً.
وهكذا أسلم صاعد بن مخلّد وكان وزيراً للمعتمد[8].
وعن محمد بن عبيدالله قال: كنت يوماً كتبت إليه أخبره باختلاف الموالي واسأله إظهار دليل، فكتب: إنّما خاطب الله تعالى ذوي الألباب وليس أحد يأتي بآية أو يظهر دليلاً أكثر ممّا جاء به خاتم النبيين وسيّد المرسلين فقالوا: كاهن وساحر كذاب، فهدى الله من اهتدى غير أن الأدلة يسكن إليها كثير من الناس. وذلك أن الله جلّ جلاله يأذن لنا فنتكلم ويمنع فنصمت، ولو أحب الله ألا يظهر حقاً لنا بعث النبيين مبشرين ومنذرين يصدعون بالحق في حال الضعف والقوة في أوقات وينطقون في أوقات ليقضي الله أمره وينفذ الناس حكمه في طبقات شتى، فالمستبصر على سبيل نجاة متمسك بالحق، متعلق بفرع اصيل، غير شاك ولا مرتاب لا يجد عنه ملجأ.
وطبقة لم تأخذ الحق من أهله، فهم كراكب البحر يموج عند موجه ويسكن عند سكونه. وطبقة استحوذ عليهم الشيطان شأنهم الرد على أهل الحق ودفعه بالباطل والهوى كفّاراً حسداً من عند أنفسهم فدع من ذهب يميناً وشمالاً فإن الراعي إذا أراد أن يجمع غنمه جمعها في أهون سعي. ذكرت اختلاف والينا، فإذا كانت الوصيّة والكتب فلا ريب من جلس مجلس الحكم فهو أولى بالحكم، أحسن رعاية من استرعيت.
وإيّاك والاذاعة وطلب الرياسة فإنّهما يدعوان الى الهلكة. ثم قال: ذكرت شخوصك الى فارس فاشخص خار الله لك وتدخل مصر إن شاء الله آمناً واقرأ من تثق به من موالينا السلام ومرهم بتقوى الله العظيم وأداء الأمانة وأعلمهم أن المذيع علينا حرب لنا. قال: فلما قرأت خار الله لك في دخولك مصر إن شاء الله آمناً لم أعرف المعنى فيه فقدمت بغداد عازماً على الخروج الى فارس فلم يقيض لي وخرجت الى مصر.
قال: ولما همّ المستعين في أمر أبي محمد بما همّ وأمر سعيد الحاجب بحمله الى الكوفة وأن يحدث في الطريق حادثة انتشر الخبر بذلك في الشيعة فأقلقهم وكان بعد مضي أبي الحسن بأقلّ منw خمس سنين.
فكتب إليه محمد بن عبدالله والهيثم بن سبابة: قد بلغنا جعلنا الله فداك خبر أقلقنا وغمّنا وبلغ منا، فوقّع(عليه السلام): بعد ثلاثة أيام يأتيكم الفرج. قال: فخلع المستعين في اليوم الثالث وقعد المعتز وكان كما قال[9].
وعن علي بن محمد بن الحسن قال: خرج السلطان يريد البصرة وخرج أبومحمد بشيعته فنظرنا إليه ماضياً وكنّا جماعة من شيعته فجلسنا ما بين الحائطين ننتظر رجوعه فلمّا رجع وحاذانا وقف علينا، ثم مدّ يده الى قلنسوته فأخذها من رأسه وأمسكها بيده.
ثم مرّ يده الاُخرى على رأسه وضحك فيوجه رجل منا، فقال الرجل مبادراً: أشهد أنك حجة الله وخيرته. فسألناه ما شأنك؟ فقال: كنت شاكاً فيه فقلت في نفسي: إنْ رجع وأخذ قلنسوته من رأسه قلت بإمامته[10].
وروى جماعة من الصيمريين من ولد اسماعيل بن صالح: أنّ الحسن ابن اسماعيل بن صالح كان في أوّل خروجه الى سرّ من رأى للقاء أبي محمد ومعه رجلان من الشيعة وافق قدومه ركوب أبي محمد، قال الحسن بن اسماعيل: فتفرقنا في ثلاث طرق وقلنا: ان رجع في احدهما رآه رجل منا فانتظرناه، فعاد(عليه السلام) في الطريق الذي فيه الحسن بن اسماعيل.
فلمّا طلع وحاذاه قال: قلت في نفسي: اللهمّ إن كانت حجتك حقّاً وإمامنا فليمسّ قلنسوته، فلم استتم ذلك حتى مسّها وحرّكها على رأسه، فقلت: يا رب ان كان حجتك فليمسّها ثانياً، فضرب بيده فأخذها عن رأسه ثم ردّها، وكثر عليه الناس بالسلام عليه والوقوف على بعضهم فتقدمه ال ى درب آخر.
فلقيت صاحبَيّ وعرّفتهما ما سألت الله في نفسي وما فعل، فقالا: فتسأل ونسأل wالثالثة، فطلع(عليه السلام) وقربنا منه فنظر إلينا ووقف علينا ثمّ مدّه يده الى قلنسوته فرفعها عن رأسه وأمسكها بيده وأمرّ يده الاُخرى على رأسه وتبسّم في وجوهنا وقال: كم هذا الشك؟قال الحسن: فقلت: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنك حجة الله وخيرته، قال: ثم لقيناه بعد ذلك في داره وأوصلنا إليه ما معنا من الكتب وغيرها[11].
كما أنّا نجد الإمام (عليه السلام) يستغل هذا الظرف ويُلقي الحجة على شابّ قد أتى من المدينة لاختلاف وقع بين أصحابه في إمامة الحسن العسكري (عليه السلام) ، فيبادره الإمام (عليه السلام) بالسؤال : أغفّاري أنت ؟ فقال الشاب : نعم ، ثم يسأله الإمام (عليه السلام) عن والدته ويسمّيها له قائلاً : ما فعلت اُمّك حمدويه؟ فقال الشاب صالحة[12] . وكان الشاب من ولد الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري . وعاد إلى أصحابه وهو مطمئن القلب بإمامة الحسن العسكري (عليه السلام) .

البحث السابع : من وصايا الإمام العسكري (عليه السلام) وارشاداته لشيعته
وتضمّنت وصايا الإمام ورسائله ، بيان الأحكام الشرعية ومسائل الحلال والحرام كما اشتملت على خطوط للتعامل مع الآخرين وكان ذلك بمثابة منهاج سلوكي ليسير عليه شيعته ويقيموا علائقهم وفقاً له فيما بينهم وبين أبناء المجتمع الذي يعيشون فيه وإن اختلفوا معهم في المذهب والمعتقد ، ومن هذه الوصايا :
1 ـ قوله (عليه السلام) : «اُوصيكم بتقوى الله والورع في دينكم ، والاجتهاد لله ، وصدق الحديث وأداء الأمانة الى من ائتمنكم من بر أو فاجر ، وطول السجود ، وحسن الجوار ، فبهذا جاء محمد (صلى الله عليه وآله) ، صَلّوا في عشائركم ، واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم ، وأدّوا حقوقهم ، فإنّ الرجل منكم اذا ورع في دينه ، وصدق في حديثه ، وأدّى الأمانة ، وحسَّن خلقه مع الناس قيل : هذا شيعي فيسرّني ذلك ، اتّقوا الله وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً ، جُرّوا إلينا كلّ مودّة ، وادفعوا عنّا كلّ قبيح فإنّه ما قيل فينا من حُسْن فنحن أهله وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك . لنا حقٌّ في كتاب الله وقرابة من رسول الله وتطهيرٌ من الله لا يدّعيه أحد غيرنا إلاّ كذّاب . أكثروا ذكر الله وذكر الموت وتلاوة القرآن والصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله) ، فإنّ الصلاة على رسول الله عشر حسنات ، احفظوا ما وصّيتكم به واستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام» . [13]
2 ـ وقال (عليه السلام) : «أمرناكم بالتختّم في اليمين ونحن بين ظهرانيكم والآن نأمركم بالتختم في الشمال لغيبتنا عنكم إلى أن يظهر الله أمرنا وأمركم فإنه أول دليل عليكم في ولايتنا أهل البيت» .
وقال (عليه السلام) لهم : «حدثوا بهذا شيعتنا»[14] .
3 ـ وكتب الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) وصيّته الى أحد أعلام أصحابه ، هو علي بن الحسين بن بابويه القمي جاء فيها:
«أوصيك... بتقوى الله وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة فإنّه لا تقبل الصلاة من مانع الزكاة ، واُوصيك بمغفرة الذنب وكظم الغيظ ، وصلة الرحم ، ومواساة الإخوان ، والسعي في حوائجهم في العسر واليسر والحلم عند الجهل ، والتفقّه في الدين ، والتثبت في الأمور ، والتعاهد للقرآن ، وحسن الخلق ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال الله تعالى : ( لا خير في كثير من نجواهم إلاّ من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس )واجتناب الفواحش كلها ، وعليك بصلاة الليل فإنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أوصى علياً(عليه السلام) فقال : ياعلي عليك بصلاة الليل ، عليك بصلاة الليل، عليك بصلاة الليل، ومن استخفّ بصلاة الليل فليس منّا ، فاعمل بوصيتي وأمر جميع شيعتي بما أمرتك به حتى يعملوا به ، وعليك بالصبر وانتظار الفرج فإنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال : أفضل أعمال اُمّتي انتظار الفرج...»[15] .
وبذلك رسم الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) منهجاً واضحاً لشيعته للسير عليه وهو يتضمن مبادئ وأحكام الشريعة الاسلامية وما تدعو إليه من خلق رفيع ، وحسن تعامل مع الناس سواءاً كانوا موافقين لشيعته في المبدأ أو مخالفين لهم ، وتلك هي أخلاق الإسلام التي دعى إليها رسول الانسانية محمد بن عبدالله(صلى الله عليه وآله) .
4 ـ وصوّر الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) الواقع الذي كان يعيشه وما كان يحتويه من اختلاف الناس ومواليه بتوقيع خرج عنه(عليه السلام) إلى بعض مواليه حيث طلب من الإمام(عليه السلام) إظهار الدليل، فكتب أبو محمد (عليه السلام) :
«وإنما خاطب الله عزوجل العاقل وليس أحد يأتي بآية ويظهر دليلاً أكثر مما جاء به خاتم النبيين وسيد المرسلين ، فقالوا : ساحر وكاهن وكذّاب ، وهدى الله من اهتدى ، غير أن الأدلة يسكن إليها كثير من الناس وذلك ان الله عزوجل يأذن لنا فنتكلم ، ويضع ويمنع فنصمت ، ولو أحب أن لا يظهر حقاً ما بعث النبيين مبشرين ومنذرين يصدعون بالحق في حال الضعف والقوة ، وينطقون في أوقات ليقضي الله أمره وينفذ حكمه .
الناس في طبقات شتى ، والمستبصر على سبيل نجاة متمسك بالحق ، متعلق بفرع أصيل غير شاك ولا مرتاب ، لا يجد عنه ملجأ ، وطبقة لم تأخذ الحق من أهله ، فهم كراكب البحر يموج عند موجه ، ويسكن عند سكونه ، وطبقة استحوذ عليهم الشيطان شأنهم الرد على أهل الحق ، ودفع الحق بالباطل ، حسداً من عند أنفسهم فدع من ذهب يذهب يميناً وشمالاً فالراعي اذا أراد أن يجمع غنمه جَمعها في أهون السعي ، ذكرت ما اختلف فيه موالي فإذا كانت الوصية والكبر فلا ريب ومن جلس مجالس الحكم فهو أولى بالحكم ، أحسن رعاية من استرعيت وإياك والاذاعة وطلب الرياسة فانهما يدعوان الى الهلكة[16].

البحث الثامن: الإمام العسكري(عليه السلام) والتحصين الأمني
انتهج الإمام الحسن العسكري نهج آبائه للمحافظة على شيعته وأتباعه الذين يمثّلون الجماعة الصالحة في المجتمع الاسلامي ، وقد شدّد الإمام العسكري دعوته إلى الكتمان وعدم الإذاعة والحذر في التعامل مع الآخرين ، والتشدد في نقل الأخبار والوصايا عنه ونقل أوامره الى أصحابه ونقل أخبارهم إليه ، فإنّ أتباعه قد انتشروا في أقطار الدولة الاسلامية في عصره(عليه السلام) بعد أن أخذ التشيع طابع المعارضة واتسعت دائرته تحت راية أهل البيت(عليهم السلام) وكثيراً ما كانت تصدر عنه (عليه السلام) التحذيرات المهمة لهم تجاه الفتن والابتلاءات المستقبلية تجنيباً لهم من الوقوع في شرك السلطة وحفظاً لهم من مكائدها .
فعن محمد بن عبد العزيز البلخي قال : أصبحت يوماً فجلست في شارع الغنم فإذا بأبي محمّد أقبل من منزله يريد دار العامّة ، فقلت في نفسي : ترى إن صحتُ: أيّها الناس هذا حجة الله عليكم فاعرفوه ، يقتلوني ؟ فلمّا دنا منّي أومأ بإصبعه السبّابة على فيه: أن اسكت ، ورأيته تلك الليلة يقول : «إنما هو الكتمان أو القتل ، فاتّق الله على نفسك»[17] .

وقد دلّ هذا النص على اُمور مهمّة هي :
1 ـ كشف الإمام (عليه السلام) عن نيّة أحد أصحابه لمعرفته بما في دخيلة نفسه ، ومنعه من التحدث بما عزم عليه من إظهار أمر الإمام (عليه السلام) .
2 ـ كشف عن حراجة الظروف التي كانت تحيط بالإمام (عليه السلام) وأصحابه ومحاولة السلطة للتعرف عليهم لتطويق عملهم .
3 ـ إن النص يظهر لنا استغلال الإمام (عليه السلام) للمناسبات المختلفة لتحذير أصحابه من الإفصاح عن أنفسهموإظهار علاقتهم بالإمام كماسيتضح لنا ذلك من النصوص الآتية .

ونلاحظ أنّ أحد أساليب الإمام (عليه السلام) في عمله المنظم والمحاط بالسرية التامة هو منعه أصحابه من أن يسلّموا عليه أو يشيروا له بيد .
روى علي بن جعفر عن أحد أصحاب الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) فقال : اجتمعنا بالعسكر ـ أي سامراء ـ وقد صرنا لأبي محمد (عليه السلام) يوم ركوبه فخرج توقيعه : «لا يسلمنّ عليَّ أحد ، ولا يشير إليّ بيده ، ولا يومئ ، فإنّكم لا تأمنون على أنفسكم»[18] .

كما نلاحظ مبادرة الإمام(عليه السلام) الى ابتكار أساليب جديدة في ايصال أوامره ووصاياه الى وكلائه وثقاته وإليك نموذجاً منها:
روى أبو هاشم الجعفري عن داود بن الأسود قال : دعاني سيدي أبومحمد ـ الحسن العسكري (عليه السلام) ـ فدفع لي خشبة ، كأنها رجل باب مدوّرة طويلة ملء الكف فقال (عليه السلام) : «صر بهذه الخشبة إلى العمري» فمضيت إلى بعض الطريق فعرض لي سقاء معه بغل ، فزاحمني البغل على الطريق ... فضربت البغل فانشقّت ـ الخشبة ـ فنظرت الى كسرها فاذا فيها كُتب ، فبادرت سريعاً فرددت الخشبة الى كمّي فجعل السقاء يناديني ويشتمني ، ويشتم صاحبي فلمّا دنوت من الدار راجعاً استقبلني عيسى الخادم عند الباب الثاني ، فقال: يقول لك مولاي : «لِمَ ضربتَ البغل وكسرت رجل الباب ؟» . فقلت : ياسيدي لم أعلم ما في رجل الباب ، فقال (عليه السلام) : «ولم احتجت أن تعمل عملاً تحتاج أن تعتذر منه . إيّاك بعدها أن تعود إلى مثلها ، وإذا سمعت لنا شأناً فامضِ لسبيلك التي أمرت بها ، وإياك أن تجاوب من يشتمنا ، أو تعرّفه من أنت ، فإننا في بلد سوء ، ومصر سوء وامضِ في طريقك فإنّ أخبارك وأحوالك ترد إلينا فاعلم ذلك»[19].

وفي هذا النص دلالات كثيرة ومهمّة في مجال العwل المنظم ، كما أنّه يعكس السرية التامة في العمل من جهة الإمام وأصحابه المقرّبين من أجل تجاوز ما يثيره الظرف من إشكالات تجاه العاملين ، لذا نجد الإمام (عليه السلام) يمنع رسوله من التعرّض لأيّ أمر يمكن من خلاله أن تكشف هويته وشخصيته وصلته بالإمام (عليه السلام) حتى لو شتمه أحد أو رُبما يُسبّ الإمام (عليه السلام) أمامه ، فعليه أن يغضّ الطرف وكأنه ليس هو المقصود ، ويذهب في مهمّته ، حتى لا يُكشف ولا يتعرّف أحد جلاوزة السلطان على ما يخرج من الإمام (عليه السلام) لوكلائه وثقاته .
وتفيد هذه النصوص وغيرها ان الظروف الصعبة والقاهرة التي عاشها الإمام (عليه السلام) وأصحابه هي التي ألجأته إلى إتخاذ السرية والكتمان الشديد في تعامله مع قواعده الشعبية ، وبالتالي فهي الطريق الأصوب إلى تربية شيعته ومواليه وتهيئة قواعده لعصر الغيبة الصغرى والتي سوف يتم اتصال الشيعة خلالها بالإمام المهديّ (عليه السلام) عن طريق وكيل له ، حيث لا يتيسّر الاتّصال المباشر به ولا يكون الالتقاء به ممكناً وعمليّاً وذلك لما كانت السلطة العباسية قد فرضته من رقابة شديدة على الشيعة لمعرفة محلّ اختفاء الإمام المهديّ(عليه السلام) .
هذه هي أهم المحاور التي سنحت الفرصة للبحث عنها بالنسبة لمتطلّبات الجماعة الصالحة في عصر الإمام الحسن العسكري(عليه السلام).
وسنقف في الفصل الأخير من الكتاب على أهم ما صدر من الإمام(عليه السلام) في مجال التحصين العلمي والعقائدي والتربوي والأخلاقي بالإضافة الى ما قد عرفناه من التحصين السياسي والأمني والاقتصادي فيما مرّ من خلال المهام التي جعلت على عاتق الوكلاء وثقاة أصحابه.
-------------------------------------------------------------------------------------------------------------
[1] يُراجع معجم الفرق الاسلامية : 235 .
[2] الأنبياء (21): 26 ـ 27 .
[3] المناقب : 4 /461 .
[4] الإنسان (76): 30 .
[5] الغيبة : 247، بحار الأنوار: 25 / 336 و 337 .
[6] المناقب: 2/470 .
[7] بحار الأنوار: 50/273 .
[8] بحار الأنوار: 50/281.
[9] اثبات الوصية: 239 .
[10] اثبات الوصية: 245 .
[11] اثبات الوصية: 246.
[12] الخرائج والجرائح: 1/439 ح 20 وعنه في بحار الأنوار: 50/269 .
[13] تحف العقول : 487 ـ 488 .
[14] تحف العقول : 487 ـ 488 .
[15] شعب الايمان: 2/43 ح 1124 وعنه في الأنوار البهية ، القمي : 319 .
[16] الخرائج والجرائح: 449 ح35 وعن الدلائل في كشف الغمّة: 3/206، 207 .
[17] الخرائج والجرائح: 1/447 ح 32 وعنه في كشف الغمة: 3/212، 213 .
[18] الخرائج والجرائح للراوندي: 1/439 ح 20 وعنه في بحار الأنوار: 50/269 .
[19] مناقب آل أبي طالب: 4 / 460، 461 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
اللطميات
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

5 جمادي الأوّل

ولادة عقيلة بني هاشم زينب الكبرى (عليها السلام) في 5 جمادي الأوّل سنة (5 هـ) كانت ولادة العقيلة زينب بنت الإم...

المزید...

6 جمادي الأوّل

معركة مؤتة حدثت هذه المعركة في 6 جمادي الأوّل سنة (8 هـ ).عزم النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على بسط الأمن في...

المزید...

10 جمادي الأوّل

حرب الجمل وقعت حرب الجمل في 10 جمادي الأوّل سنة (36 هـ ).تجسدت جبهة الحق بأميرالمؤمنين علي بن ابي طالب (عليه ...

المزید...

13 جمادي الأوّل

 شهادة الصديقة السيدة الزهراء(عليها السلام)لا شك أنّ وفاة الزهراء كانت في سنة (11 هـ)، وعلى الرواية القائله (7...

المزید...

15 جمادي الأوّل

1) ولادة علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام). 2) وفاة الوليد بن عبد الملك. ...

المزید...

29 جمادى الأوّل

وفاة النائب الثاني من النواب الأربعة للحجة (عج) أبو جعفر محمد بن عثمان العمري توفي محمد بن عثمان بن سعيد العَ...

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page