تعتبر الجماعة الصالحة المحور الأهمّ الذي كان يشغل بال واهتمام أهل البيت(عليهم السلام) لأنها الاداة الوحيدة الصالحة لتحقيق الأهداف الرسالية الكبرى، وهي الوسط الحقيقي الذي يفهم ثقافة أهل البيت(عليهم السلام) ورسالتهم ويستطيع التعاطي الإيجابي معهم وينقاد الى أوامرهم وتوجيهاتهم الرسالية.
من هنا نجد أن الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) يكثّف جهوده لفترة الانتقال من عصر الحضور الى عصر الغيبة; لخطورة المرحلة من شتى النواحي ولقصر الفترة الزمينة التي يعيشها الإمام(عليه السلام) وهو يرى سرعة التقلّبات السياسية على مستوى الحكّام والخلفاء، كما يرى سوء تعاملهم جميعاً مع أهل البيت(عليهم السلام) وشيعتهم من جهة، ورصدهم للإمام(عليه السلام) وكل تحركاته من جهة اُخرى، وسعيهم الحثيث للبحث عن المهدي الموعود والمنتظر الذي بشّر الرسول(صلى الله عليه وآله) بأنه القائم بالقسط والعدل، والمقارع لكل رموز الظلم والعدوان.
فمهمّة الإمام الحسن العسكري خطيرة جدّاً تجاه ولده المهدي كما هي خطيرة تجاه شيعته الذين سيُصابون بهذه الأزمة والمصيبة الجديدة التي لم يألفوها مع أئمتهم وهم يعيشون معهم وبين ظهرانيهم خلال قرنين ونصف قرن ويتلقّون التعاليم والتربية المباشرة منهم.
إنّ الشعور بوجود إمام وقائد حي يرتبطون به ويرتبط بهم ـ رغم صعوبة الظروف ـ له آثاره النفسية الايجابية، بينما يكون الشعور بوجود إمام لا يستطيعون الارتباط به ولا يدرون متى سيظهر لهم وينفّس عنهم كرباتهم ويجيبهم على اسئلتهم يحمل معه آثاراً نفسية سلبية إلاّ إذا كانت الغيبة عندهم كالحضور، ويكون البديل قادراً على تلبية حوائجهم وسدّ خللهم.
إنّ هذه المهمة قد اشترك في انجازها أهل البيت(عليهم السلام) جميعاً غير أن دور الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) خطير للغاية وصعب جدّاً لشدّة المراقبة وشمولها بحيث كان الإمام(عليه السلام) يتعمّد الاحتجاب والانقطاع عن كثير من شيعته، ويشهد لذلك أن أغلب ما روي عنه كان بواسطة المكاتبة دون المشافهة بالرغم من أن الإمام(عليه السلام) طيلة ست سنوات كان يخرج الى البلاط كل اثنين وخميس، ولكنه لم يكن ليتكلم أو ليرتبط حتى بمن كان يقصده من مكان بعيد، إلاّ في حالات نادرة وبشكل خاص وهو يتحفّظ في ذلك من كثير ممّا يحيط به.
على هذا الأساس نصنّف البحث عن متطلبات الجماعة الصالحة في عصر الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) الى ما يلي:
1 ـ الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) والتمهيد لقضية الإمام المهدي(عليه السلام).
2 ـ اعداد الجماعة الصالحة لعصر الغيبة.
3 ـ نظام الوكلاء في عصر الإمام الحسن العسكري(عليه السلام).
4 ـ مدرسة الفقهاء والتمهيد لعصر الغيبة.
5 ـ قيادة العلماء بالله الاُمناء على حلاله حرامه.
6 ـ الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) والفرق الضالّة.
7 ـ من وصايا الإمام العسكري(عليه السلام) وارشاداته لشيعته.
8 ـ الإمام العسكري(عليه السلام) والتحصين الأمني.
البحث الأول: الإمام الحسن العسكري والتمهيد لقضية الإمام المهدي(عليهما السلام)
إنّ أهم انجاز للإمام العسكري(عليه السلام) هو التخطيط الحاذق لصيانة ولده المهدي(عليه السلام) من أيدي العتاة العابثين الذين كانوا يتربصون به الدوائر منذ عقود قبل ولادته، ومن هنا كانت التمهيدات التي اتّخذها الإمام(عليه السلام) بفضل جهود آبائه السابقين (عليهم السلام) وتحذيراتهم تنصب أوّلاً على إخفاء ولادته عن أعدائه وعملائهم من النساء والرجال الذين زرعتهم السلطة داخل بيت الإمام(عليه السلام)، الى جانب إتمام الحجة به على شيعته ومحبّيه وأوليائه.
ففي مجال كتمان أمر الإمام المهدي(عليه السلام) عن عيون أعدائه فقد أشارت نصوص أهل البيت(عليهم السلام) الى أنه ابن سيدة الإماء[1] وأنه الذي تخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه. وفي هذه النصوص ثلاث إرشادات أساسية تحقق هذا الكتمان، أوّلها أنّ اُمّه أمة وهي سيدة الإماء وقد مهّد الإمام الهادي(عليه السلام) لهذه المهمة باختيار زوجة من سبايا الروم للإمام الحسن العسكري(عليه السلام) ولم تكن للزواج أية مراسم ولا أية علامة بل كل ما تحقق قد تحقق بعيداً عن أعين كثير من المقرّبين.
وقد خفيت الولادة حتى على أقرب القريبين من الإمام، فإنّ عمّة الإمام(عليه السلام) لم تتعرّف على حمل اُم الإمام المهدي(عليه السلام) فضلاً عن غيرها، ومن هنا كانت الولادة في ظروف سرّية جداً وبعد منتصف الليل، وعند طلوع الفجر وهو وقت لا يستيقظ فيه إلاّ الخواص من المؤمنين فضلاً عن غيرهم.
وقد خطّط الإمام العسكري(عليه السلام) ليبقى الإمام المهدي(عليه السلام) بعيداً عن الأنظار كما ولد خفية ولم يطلع عليه إلاّ الخواص أو أخصّ الخواص من شيعته.
وأما كيفية إتمام الحجّة في هذه الظروف الاستثنائية على شيعته فقد تحقّقت ضمن خطوات ومراحل دقيقة.
الخطوة الاُولى: النصوص التي جاءت عن الإمام العسكري(عليه السلام) قبل ولادة المهدي(عليه السلام) تبشيراً بولادته.
الخطوة الثانية: الإشهاد على الولادة .
الخطوة الثالثة: الاخبار بالولادة ومداولة الخبر بين الشيعة بشكل خاص من دون رؤية الإمام(عليه السلام).
الخطوة الرابعة: الإشهاد الخاص والعام بعد الولادة ورؤية شخص المهدي(عليه السلام) .
الخطوة الخامسة: التمهيد لرؤية الإمام المهدي(عليه السلام) خلال خمس سنوات من قبل بعض خواصّ الشيعة والارتباط به عن كثب وتكليفه مسؤولية الإجابة على اسئلة شيعته المختلفة وإخباره عمّا في ضميرهم وهو في المهد أو في دور الصبا من دون أن يتلكّأ في ذلك. وهذا خير دليل على إمامته وانه حجة الله الموعود والمنتظر.
الخطوة السادسة: التخطيط للارتباط بالإمام المهدي(عليه السلام) بواسطة وكلاء الإمام العسكري(عليه السلام) الذين أصبحوا فيما بعد وكلاء للإمام المهدي(عليه السلام) بنفس الاُسلوب الذي كان معلوماً لدى الشيعة حيث كانوا قد اعتادوا عليه في حياة الإمام الحسن العسكري(عليه السلام).
الخطوة السابعة: البيانات والأحاديث التي أفصحت للشيعة عمّا سيجري لهم ولإمامهم الغائب في المستقبل وما ينبغي لهم أن يقوموا به.
ومن هنا نفهم السرّ في كثرة هذه النصوص وتنوّع موضوعاتها إذا ما قسناها الى نصوص الإمام الهادي(عليه السلام) حول حفيده المهدي(عليه السلام) ولاحظنا قصر الفترة الزمنية التي كانت باختيار الإمام العسكري وهي لا تتجاوز الست سنوات بينما كانت إمامة الهادي(عليه السلام) تناهز الـ (34) سنة ممّا يعني أنها كانت ستة أضعاف مدة امامة ابنه العسكري(عليه السلام).
الخطوة الاُولى:
لقد جاءت النصوص المبشّرة بولادة المهدي(عليه السلام) عن أبيه الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) تالية لنصوص الإمام الهادي(عليه السلام) التي ركّزت على أنه حفيد الهادي(عليه السلام) وأنّه ابن الحسن العسكري(عليه السلام) وانّ الناس سوف لا يرون شخصه ولا يحلّ لهم ذكره باسمه، وأنه الذي يقول الناس عنه أنه لم يولد بعد، وأنّه الذي يغيب عنهم ويرفع من بين أظهرهم وأنه الذي ستختلف شيعته الى أن يقوم، وعلى الشيعة أن تلتفّ حول العلماء الذين ينوبون عنه وينتظرون قيامه ودولته ويتمسّكون بأهل البيت(عليهم السلام) ويظهرون لهم الولاء بالدعاء والزيارة وانه الذي سيكون إماماً وهو ابن خمس سنين[2].
وإليك جملة من هذه النصوص المبشّرة بولادته:
1 ـ روى الصدوق عن الكليني انّ جارية أبي محمد(عليه السلام) لمّا حملت قال لها: ستحملين ذكراً واسمه محمّد وهو القائم من بعدي[3].
2 ـ روى في اثبات الهداة عن الفضل بن شاذان أن محمد بن عبدالجبار سأل الإمام الحسن عن الإمام والحجة من بعده فأجابه: «إنّ الإمام وحجة الله من بعدي ابني سميُّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) وكنيّه، الذي هو خاتم حجج الله وآخر خلفائه. فسأله ممّن هو؟ فقال: من ابنة ابن قيصر ملك الروم، إلاّ أنّه سيولد ويغيب عن الناس غيبة طويلة ثم يظهر[4].
3 ـ روى الطوسي أن جماعة من شيعة الإمام الحسن العسكري وفدوا عليه بسرّ من رأى فعرّفهم على وكيله وثقته عثمان بن سعيد العمري ثم قال لهم: واشهدوا عليّ أن عثمان بن سعيد العمري وكيلي وانّ ابنه محمّداً وكيل ابني مهديّكم[5].
4 ـ وعن عيسى بن صبيح أنه حين كان في الحبس دخل عليه الإمام الحسن العسكري فقال له:لك خمس وستون سنة وشهر ويومان، وكان معه كتاب دعاء فيه تاريخ مولده ففتحه ونظر فيه واكتشف صدق الإمام ودقة خبره، ثم قال له الإمام(عليه السلام): هل رزقت ولداً؟ فأجابه بالنفي فدعا له الإمام(عليه السلام) قائلاً: اللهمّ ارزقه ولداً يكون له عضداً فنعم
العضد الولد ثم تمثل(عليه السلام): منكان ذا عضد يُدرك ظلامته
منكان ذا عضد يُدرك ظلامته منكان ذا عضد يُدرك ظلامته
إن الذليلالذي ليست له عضد
ثم سأل الإمام عمّا إذا كان له ولد فأجابه الإمام(عليه السلام) قائلاً: إي والله سيكون لي ولد يملأ الأرض قسطاً وعدلاً فأمّا الآن فلا[6].
الخطوة الثانية:
لقد قام الإمام الحسن(عليه السلام) بالإشهاد على الولادة فضلاً عن إخباره وإقراره بولادته وذلك إتماماً للحجّة بالرغم من حراجة الظروف وضرورة الكتمان التام عن أعين الجواسيس الذين كانوا يرصدون دار الإمام وجواريه قبل الولادة وبعدها.
إن السيدة العلوية الطاهرة حكيمة بنت الإمام الجواد واُخت الإمام الهادي وعمّة الإمام الحسن العسكري(عليهم السلام) قد تولّت أمر نرجس اُم الإمام المهدي(عليه السلام) في ساعة الولادة[7].
وصرّحت بمشاهدة الإمام المهدي بعد مولده[8] وصرّح الإمام العسكري(عليه السلام) بأنها قد غسّلته[9]. وساعدتها بعض النسوة مثل جارية أبي علي الخيزراني التي أهداها الى الإمام العسكري(عليه السلام) ومارية ونسيم خادمة الإمام العسكري[10].
الخطوة الثالثة:
وتمثّلت هذه الخطوة بإخبار الإمام(عليه السلام) شيعته بأنّ المهدي المنتظر(عليه السلام) قد وُلد، وحاول نشر هذا الخبر بين شيعته بكلّ تحفّظ.
ولدينا ثمانية عشر حديثاً يتضمّن كلّ منها سعي الإمام(عليه السلام) لنشر خبر الولادة بين شيعته وأوليائه، وهي ما بين صريح وغير صريح قد اكتفى فيه الإمام(عليه السلام) بالتلميح حسب ما يقتضيه الحال.
فمنها الخبر الذي صرّح فيه الإمام الحسن(عليه السلام) بعلّتين لوضع بني العباس سيوفهم على أهل البيت(عليهم السلام) واغتيالهم من دون أن يكونوا قد تصدّوا للثورة العلنية عليهم حيث جاء فيه:
فسعوا في قتل أهل بيت رسول الله(صلى الله عليه وآله) وإبادة نسله طمعاً منهم في الوصول الى منع تولّد القائم أو قتله، فأبى الله أن يكشف أمره لواحد منهم إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون»[11].
وقد تضمّن هذا الحديث الإخبار بولادته خفيةً ليتم الله نوره.
ومنها ما حدّث به سعد بن عبدالله عن موسى بن جعفر بن وهب البغدادي أنه خرج توقيع من أبي محمد(عليه السلام) جاء فيه: «زعموا أنهم يريدون قتلي ليقطعوا هذا النسل، وقد كذّب الله عزّ وجل قولهم والحمدلله»[12].
وحين قتل الزبيري قال الإمام(عليه السلام) في توقيع خرج عنه: «هذا جزاء من اجترأ على الله في أوليائه، يزعم أنه يقتلني وليس لي عَقب، فكيف رأى قدرة الله فيه؟!»[13].
وعن أحمد بن إسحاق بن سعد أنه قال: سمعت أبا محمد الحسن بن علي العسكري(عليهما السلام) يقول: «الحمدلله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي، أشبه الناس برسول الله(صلى الله عليه وآله) خَلقاً وخُلقاً، يحفظه الله تبارك وتعالى في غيبته ثم يُظهره الله فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت جوراً وظُلماً»[14].
وعن أحمد بن الحسن بن اسحاق القمي قال: لمّا ولد الخلف الصالح(عليه السلام) ورد عن مولانا أبي محمد الحسن بن علي الى جديّ أحمد بن اسحاق كتاب فإذا فيه مكتوب بخط يده(عليه السلام) الذي كانت ترد به التوقيعات عليه وفيه: «ولد لنا مولود فليكن عندك مستوراً وعن جميع الناس مكتوماً فإنا لم نظهر عليه إلاّ الأقرب لقرابته والوليّ لولايته...»[15].
وفي سنة سبع وخمسين ومائتين خرج عيسى بن مهدي الجوهري مع جماعة الى سامراء بعد أن كانوا قد زاروا قبر الحسين(عليه السلام) بكربلاء وقبر أبي الحسن وأبي جعفر الجواد في بغداد وبشّرهم اخوانهم المجاورون لأبي الحسن وأبي محمد(عليهما السلام) في سرّ من رأى بولادة المهدي(عليه السلام)، فدخلوا على أبي محمد(عليه السلام) للتهنئة، وأجهروا بالبكاء بين يديه قبل التهنئة وهم نيّف وسبعون رجلاً من أهل السواد فقال لهم الإمام(عليه السلام) ـ من جملة ما قال:
«انّ البكاء من السرور من نعم الله مثل الشكر لها... ثم أراد عيسى بن مهدي الجوهري أن يتكلم فبادرهم الإمام(عليه السلام) قبل أن يتكلّموا، فقال: فيكم من أضمر مسألتي عن ولدي المهدي(عليه السلام) وأين هو؟ وقد استودعته الله كما استودعت اُم موسى موسى(عليه السلام)... فقالت طائفة: اي والله يا سيّدنا لقد كانت هذه المسألة في أنفسنا»[16].
وقد أمر الإمام(عليه السلام) بعض وكلائه بأن يعقّوا عن ولده المهدي(عليه السلام) ويطعموا شيعته، والعقيقة له إخبار ضمني بولادته(عليه السلام). بل جاء التصريح في بعضها بالولادة حيث كتب لبعضهم ما نصّه: «عقّ هذين الكبشين عن مولاك وكل هنّأك الله وأطعم إخوانك...»[17].
-----------------------------------------------------------------------------------------------------
[1] راجع معجم أحاديث الإمام المهدي: 4/196 ـ 200 .
[2] راجع معجم أحاديث الإمام المهدي(عليه السلام): 4/195 ـ 218 .
[3] كمال الدين: 2/408 .
[4] اثبات الهداة: 3/569 .
[5] غيبة الطوسي: 215 .
[6] الخرائج: 1/478.
[7] كمال الدين: 2/424 .
[8] الكافي: 1/330 .
[9] كمال الدين: 2/434 .
[10] كمال الدين: 2/430 و 431 .
[11] اثبات الهداة: 3/570 .
[12] كمال الدين: 2/407.
[13] الكافي: 1/329 .
[14] كمال الدين: 2/418 .
[15] كمال الدين: 2/433 .
[16] الهداية الكبرى: 68، واثبات الهداة: 3/572.
[17] اثبات الوصية: 221 .
الإمام العسكري(عليه السلام) ومتطلّبات الجماعة الصالحة
- الزيارات: 5900