وهكذا كانت حكومة أمير المؤمنين عليّ (عليه الصلاة والسلام) حيث طبق منهاج الإسلام الصحيح الذي أنزله الله تعالى إلى الأرض، لأجل راحة العباد وعمران البلاد..
فترى في هذا الحكم النموذجي أشياء لعلّ البشر يستغربها في عصرنا الحاضر، ومن هنا يعلم السر في قول سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام): (وطاعتنا نظاماً للملة).
توفير المسكن والرزق لكل الناس
فقد وفر الإمام أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) في حكومته لجميع شعبه: المسكن والرزق والماء، وقال في كلمة له مضمونها: إني وفرت المسكن والرزق والماء لجميع شعبي.
مع العلم بأن حكومة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كانت واسعة جداً، تشمل ما يقارب خمسين دولة حسب خارطة اليوم، منها مصر والحجاز واليمن وإيران والخليج والعراق وغيرها، فهي أكبر دولة في عالم ذلك اليوم، ومع ذلك وفر الإمام (عليه السلام) بسياسته الحكيمة كل ذلك لكل شعبه.
فكيف أعطاهم (عليه السلام) المسكن؟
من الطبيعي أن الإمام (عليه السلام) طبق قانون الإسلام بكامله، فالقانون الشرعي يقول: (الأرض لله ولمن عمّرها)(1) فكان (عليه السلام) يعطي الأرض للناس مجاناً، ثم يساعدهم من بيت المال لأجل إحياء الأراضي وعمرانها.
مضافاً إلى أن التجارة والزراعة والصناعة وغيرها كانت في حكومته (عليه السلام) حرة، وكان الناس ينتفعون بمختلف المكاسب ويحصلون على الأرزاق المحللة، بالإضافة إلى ما كان يقسم عليهم الإمام (عليه السلام) من بيت المال.
وكان الناس يحصلون على الماء بحفر الأنهر والآبار، وذلك بملأ حرّيتهم، ومن دون أية ضريبة أو إجازة أو ما أشبه.
وبذلك كله تمكن الإمام (عليه السلام) أن يهيأ لعموم شعبه المسكن والرزق والماء، وهذا ما لم تتمكن منه حتى البلاد الغربية التي تدعي أنها وصلت إلى قمة الحضارة في يومنا هذا.
لا فقير في بلاد الإمام (عليه السلام)
وقد انتفت البطالة أيضاً في ظل حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) لوجود الكسب الحلال لكل إنسان.
ولم يكن يوجد في بلاد الإمام (عليه السلام) الواسعة حتى فقير واحد، فقد قال (عليه السلام) في كلمة له: (لعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع)(2) فان في استعماله (عليه السلام) كلمة (لعل) إشارة إلى نفي الفقر عن البلاد بحيث لم يكن القائد متيقناً بوجود فقير واحد.
قصة النصراني المكفوف
وقصة الإمام (عليه السلام) مع النصراني المكفوف مما يؤيد هذا المطلب أيضاً: حيث كان الإمام (عليه السلام) في شوارع الكوفة.. فمر بشخص يتكفف وهو شيخ كبير السن، فوقف (عليه السلام) متعجباً وقال (عليه الصلاة والسلام): ما هذا؟ ولم يقل من هذا، و(ما) لما لا يعقل، و(من) لمن يعقل، أي انه (عليه السلام) رأى شيئاً عجيباً يستحق أن يتعجب منه، فقال أي شيء هذا؟
قالوا: يا أمير المؤمنين إنه نصراني قد كبر وعجز ويتكفّف.
فقال الإمام (عليه السلام): ما أنصفتموه.. استعملتموه حتى إذا كبر وعجز تركتموه، اجروا له من بيت المال راتباً (3).
الإمام (عليه السلام) مع يهودي أمام القاضي
وتتجلّى العدالة الإسلامية بما لا مثيل لها في جميع المبادئ والأديان في قصة أخرى، وهي (قصة الدرع) حيث نازع الإمام (عليه السلام) في درعه الخاص يهودي، فاستعد الإمام للتحاكم إلى القاضي، وفي بعض التواريخ: ان القاضي حكم ضد الإمام، فطلب من الإمام البيّنة، حيث ان الإمام (عليه السلام) كان حسب الموازين القضائية (مدعياً) واليهودي (منكراً) إذ اليهودي كان ذا يد على الدرع، وحيث لم يكن للإمام بينة، حكم القاضي بأن الدرع لليهودي، والقصة مذكورة في كتب الحديث والفقه.
دلالات قصة المحاكمة
وهناك دلالات كبيرة جداً في هذه القصة القصيرة: فأصل تحاكم الإمام (عليه السلام) وكان هو الحاكم على أكبر دولة في العالم مع يهودي من رعيته في درع مرتبطة ببيت المال، وحكم القاضي على الإمام (عليه السلام) بنفع اليهودي كم لها من دلالة؟
وهذا يدل على أن الإمام (عليه السلام) كان لا يفرط حتى بدرع واحد مرتبطة ببيت المال، وان الإمام يستعد أن يترافع إلى القاضي وإن كان طرفه يهودياً، مع أنه (عليه السلام) هو الخليفة والرئيس لأكبر دولة، ويدل أيضا على أن القضاء مستقلة، والقاضي في أمن حتى إذا حكم ضد الحاكم الأعلى للبلاد، إذا لم تكن له البيّنة.
وهكذا في سائر قصص الإمام (عليه الصلاة والسلام) القضائية وما أشبه.
قلة القتلى في حكومة الإمام (عليه السلام)
ويظهر من بعض التواريخ والكتب إن الإمام (عليه السلام) في مدة حكمه، وهو ما يقارب خمس سنوات، وفي جميع بلاده التي كان يحكمها، حيث كانت تحت نفوذ الإمام (عليه السلام) مملكة كبيرة واسعة جداً وهي أكبر الدول في عالم ذلك اليوم، من أواسط أفريقيا إلى أواسط آسيا، وقد سبق أنها كانت تشتمل على ما يقارب خمسين دولة حسب خارطة اليوم، ولكنه (عليه السلام) بسياسته الحكيمة لم يُقتل في بلاده قتل صبر، أي لم يصدر فتوى بالقتل، على أكثر من مائة شخص في كل تلك الدولة الطويلة العريضة الواسعة الأرجاء.
نعم، بعض التواريخ زادوا على ذلك، لكن التاريخ الصحيح لا يدل عليه.
وهؤلاء المقتولين كان بين من أجرم فحق عليه القتل، وبين من اعتقد في الإمام بالألوهية، إما تخطيطاً ومكراً، وإما اعتقاداً وحقيقة، ولو لم يكن الإمام (عليه السلام) يأمر بقتل مثل هؤلاء كان يتهم بالتواطؤ معهم.
الإمام (عليه السلام) لا يريد القتل حتى آخر لحظة
وقد قتلهم الإمام (عليه السلام) بقتل رؤوف إلى أبعد حد، فقد ورد أن الإمام (عليه السلام) حفر حفيرتين، حفيرة ملأها بالتبن وما أشبه، وحفيرة جعل فيها هؤلاء الذين قالوا بأن (علياً هو الله).. ثم أمر بأن يشعل في الحفيرة التي فيها التبن النار بحيث لا يحترق التبن، وإنما يبث الدخان، وجعل بين الحفيرتين ثقبة، وأدخل هؤلاء المعتقدين كذبا بألوهية الإمام في الحفيرة الثانية، ثم قال لهم: إذا تبتم فاخرجوا من الحفيرة، والا تموتون خنقاً بالدخان، لكن هؤلاء من جهلهم أو من تخطيطهم بقوا في الحفيرة وماتوا تدريجاً بسبب الدخان، وكان الإمام (عليه السلام) واقفاً على رأسهم ويقول لهم: توبوا واخرجوا من الحفيرة.. توبوا واخرجوا، فلم يتوبوا ولم يخرجوا.
أفضل الحروب
أما حروبه (عليه السلام) في صفين والنهروان والجمل، فكانت كلها دفاعية ولم يبتدأ الإمام فيها بالحرب، وكانت أفضل حروب عرفها العالم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فان الإمام (عليه السلام) كان يقتصر على أقل قدر ممكن من القتل، وبمقدار الضرورة فقط، علماً بأن أولئك القوم هم الذين أشعلوا نار الحرب ضد الإمام (عليه السلام) سواء في الجمل، أو صفّين، أو النهروان، ومع ذلك نصحهم الإمام (عليه السلام) ووعظهم، وميدانياً أيضاً لم يبدأ الإمام (عليه السلام) بالحرب، بل هم بدؤوا والإمام انتظر قليلاً ثم أذن لأصحابه بالدفاع، والتفاصيل مذكورة في كتب التاريخ(4).
عفو الإمام (عليه السلام) عن مشعلي الحرب
ولما انتهت حرب الجمل أصدر الإمام (عليه السلام) العفو عن جميع الذين اشتركوا في الحرب حتى رؤوس المؤامرة كعائشة وعبد الله بن الزبير وموسى بن طلحة ومروان ومن أشبه، فعفى عنهم بأجمعهم.
بل فوق ذلك، أرجع (عليه السلام) عائشة إلى بيتها في المدينة المنورة مع جماعة من النساء في قصة معروفة(5)، وكذلك أمر بإرجاع كل ما أخذه عسكره من عسكر أهل الجمل(6).
وفي صفين والنهروان
وكذلك في حرب صفين.. حيث ورد إن الإمام (عليه السلام) إذا ظفر على بعض الذين حاربوه كان يحلّفهم أن لا يساعدوا معاوية بعد ذلك، ثم يطلق سراحهم(7).
وفي النهروان لما انتهت الحرب بانتصار الإمام (عليه السلام)، وانهزام الخوارج، ترك الخوارج وشأنهم، بل وصىّ بهم، وقال: (لا تقتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطئه كمن طلب الباطل فأدركه ـ يعني معاوية وأصحابه ـ )(8).
العفو عن الساب ونحوه
وهكذا كان الإمام (عليه السلام) يعفو ويصفح، وقد عفى (عليه السلام) عن ساب له، كما في نهج البلاغة، حيث سبه رجل من الخوارج في محضره لما تكلم الإمام (عليه السلام) بكلمة حكيمة، فقال الخارجي مشيراً إلى الإمام(عليه السلام): (قاتله الله من كافر ما أفقهه).
فهمّ أصحاب الإمام بالانتقام من ذلك الخارجي، فمنعهم الإمام وقال لهم: (انه سبّ بسب أو عفو عن ذنب)(9) يعني انه يحق لي أن أسبه في مقابل سبه، أو أعفو عن ذنبه، وأنا أولى بالعفو، فعفى عنه.
العفو عن المنافق
وكان أشعث ابن قيس وهو رئيس المنافقين في عسكر الإمام(عليه السلام)، وكان الإمام يعامله أحسن معاملة، مع علمه بنفاقه، وكان أحياناً يسب الإمام (كما ورد في قصة)(10) ومع ذلك لم يتعرض له الإمام بسوء (وقصة نفاقه مشهورة وفي نهج البلاغة مذكورة)(11).
فكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يعفو عن هؤلاء المنافقين .. اقتداءً برسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث عفى عن أكبر منافق، وهو:(عبد الله بن أبيّ) الذي نزلت في شأنه سورة المنافقين كما جاء ذلك في التفاسير والتواريخ(12)، فان النبي (صلى الله عليه وآله) عفى عنه ولم يمسه بسوء، ولما أراد ابن عبد الله بن أبيّ أن يقتل أباه، قال له الرسول (صلى الله عليه وآله): لا تقتله(13)، ولما مات عبد الله بن أبيّ المنافق حضر النبي (صلى الله عليه وآله) على جنازته وأهدى ثوبه المبارك كفناً له(14).
وظهرت بعد ذلك الحكمة في عمل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما يحدثنا التاريخ.
فلم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) أو علي أمير المؤمنين (عليه السلام) يقتل المنافقين، ولم يحدثنا التاريخ بذلك.
التهديد فقط
وانما الوارد في القرآن الحكيم بالنسبة للمنافقين صرف التهديد، كما يفسّره عمل الرسول (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) حيث قال الله تعالى: (هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ)(15).
نعم هذا وعيد بالنار في يوم القيامة، لا في الدنيا. ومن حكمة التهديد: حتى يلتفت المسلمون إلى شرّهم ومكيدتهم، وإلا فان الرسول (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) عاملا المنافقين معاملة حسنة.
لماذا هذه المعاملة الحسنة؟
وبهذه المعاملة الحسنة الحكيمة، التي قام بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) تجاه المنافقين والمناوئين تمكّنا من جلب عدد كبير منهم إلى الإسلام ورفض النفاق، وذلك في قصص عديدة مذكورة في التاريخ.
وقد ورد في بعض الأحاديث ان أمير المؤمنين عليّاً (عليه الصلاة والسلام) قبل أن يحاربه الخوارج ويفسدوا في الأرض كان يعطيهم رواتبهم من بيت المال ولم يقطعها على رغم عدائهم له (عليه السلام).
الإمام (عليه السلام) حبذ عدم قتل ابن ملجم
وأعجب من كل ذلك، ان الإمام (عليه السلام) لما ضربه ابن ملجم، حبذ أولاده على العفو عنه وخيرّهم في ذلك، وقال: ان أردتم القصاص فضربة بضربة ولا تمثلوا بالرجل(16)، وقال كما في (نهج البلاغة) محرضاً لهم على العفو: (إن أبق فأنا ولي دمي، وإن أفن فالفناء ميعادي، وإن أعفو فالعفو لي قربة ولكم حسنة، فاعفوا واصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم)(17).
وقصة الإمام (عليه السلام) في إجازة العفو عن ابن ملجم أعجب قصة في مجالها، فان الإمام (عليه السلام) لم يقتنع بذلك وانما حرّض العفو عنه كما تقدم، فجعل العفو سبباً لمغفرة الله سبحانه وتعالى..
ولكن المسلمين بعد شهادة الإمام (عليه السلام) ضغطوا وأصروا حتى يقتل ابن ملجم، حيث كان جزاؤه القتل، والإمام قد عفى عن حقه الشخصي.
المنافقون و الحريات الاسلامية
وقد ورد إن بعض المنافقين كانوا يأتون إلى مسجد الكوفة ولم يصلوا مع الإمام (عليه السلام) الجماعة، بل كانوا يصلّون فرادى في وقت صلاة الإمام (عليه السلام) تعرضاً بالإمام، فقيل للإمام أن يمنع هؤلاء عن هذا العمل.
وكان الإمام (عليه السلام) رئيس أكبر دولة وزعيم أكبر حكومة في عالم ذلك اليوم، وكان بيده كل شيء وله الحق في نهيهم، لكن مع ذلك قال الإمام: اتركوهم وشأنهم، ثم تلا هذه الآية المباركة: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى* عَبْداً إِذَا صَلَّى)(18).
نعم الإمام (عليه السلام) طبق هذه الآية المباركة حتى على صلاة المنافق، لأنه كان يريد إعطاء الحرية للناس، وهذا هو الأسلوب الصحيح في التعامل حتى مع المناوئين.
حكومة الحرية والاستشارة
وقد كان من سياسة الإمام (عليه السلام) في الحكم أن جعل من الحكومة الإسلامية حكومة استشارية تحترم آراء الشعب، وقد ورد في (نهج البلاغة) ان الإمام (عليه السلام) قال: ان من حقكم علي ــ يعني حق الناس على الإمام ــ أن تعطوني المشورة.
ابن كوا وطعنه بالإمام (عليه السلام)
وفي قصة أخرى، نرى (ابن كوا) وهو من المنافقين، قرأ ـ والإمام (عليه السلام) يصلّي أو يخطب ـ هذه الآية المباركة تعريضاً بالامام: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ )(19) وكرّر هذه الآية.
فلم يرد عليه الإمام (عليه السلام)، إلا ان أجابه بآية أخرى وهي قوله سبحانه وتعالى: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لايُوقِنُونَ)(20) واكتفى (عليه السلام) بهذا الجواب(21).
وعلى هذا النمط كان الإمام (عليه الصلاة والسلام) في حكومته كالرسول (صلى الله عليه وآله) في حكومته (وقد عرفت سعة حكومتيهما) فكانا يعاملان الناس أفضل معاملة عرفتها البشرية.
حياته في عهد الرسول (ص) (ويوم حنين)
عهد امامته عليه السلام (الإمام (ع) يجاهد أعداء الدين)
عهد امامته (عليه السلام) (الأيام الأخيرة لعهد الإمام (ع))
فضائلــه ومناقبــه (حُبُّ اللـه تعالى فــوق كل وشيجــة)
فضائلــه ومناقبــه (مكرمات الإمام (ع) على لسان النبيِّ (ص))
______________________
1ـ الكافي: ج5 ص279 ح2.
2ـ ارشاد القلوب: ص214.
3ـ راجع وسائل الشيعة: ج11 ص49 باب19 ح1.
4ـ راجع كتاب الجمل: ص336، وفيه: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) رحل بالناس إلى القوم غداة الخميس لعشر مضين من جمادى الأولى وعلى ميمنته الأشتر وعلى ميسرته عمار بن ياسر وأعطى الراية محمد بن الحنفية ابنه، وسار حتى وقف موقفاً ثم نادى في الناس: لاتعجلوا حتى أعذر إلى القوم.. ودعا عبد الله بن العباس (رض) فأعطاه المصحف وقال: امض بهذا المصحف إلى طلحة والزبير وعائشة وادعهم إلى ما فيه، وقل لطلحة والزبير: ألم تبايعاني مختارين فما الذي دعاكما إلى نكث بيعتي وهذا كتاب الله بيني وبينكما.
قال عبد الله بن العباس: فبدأت بالزبير وكان عندي أبقاهما علينا وكلّمته في الرجوع وقلت له: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول لك: ألم تبايعني طائعاً فلم تستحل قتالي وهذا المصحف وما فيه بيني وبينك فان شئت تحاكما اليه، فقال: ارجع إلى صاحبك فانا بايعنا كارهين ومالي حاجة في محاكمته.
فانصرفت عنه إلى طلحة والناس يشتدون والمصحف في يدي... فقلت له: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول لك: ما حملك على الخروج وبما استحللت نقض بيعتي والعهد عليك؟ فقال: خرجت أطلب بدم عثمان...
قال (ابن عباس) فانصرفت إلى عائشة وهي في هودج مدفف على جملها عسكر وكعب ابن سور القاضي آخذ بخطامه وحولها الازد وحنبة، فلما رأتني قالت: ما الذي جاء بك يا بن عباس والله لا سمعت منك شيئاً، ارجع إلى صاحبك وقل له: ما بيننا وبينك الا السيف، وصاح من حولها: ارجع يا بن عباس لا يسفك دمك.
فرجعت إلى أمير المؤمنين (عليه السلام).. وقلت ما تنتظر، والله ما يعطيك القوم إلا السيف، فاحمل عليهم قبل أن يحملوا عليك.
فقال (عليه السلام): نستظهر بالله عليهم.
قال ابن عباس: فوالله ما رمت من مكاني حتى طلع عليّ نشابهم كأنه جراد منتشر فقلت: أما ترى يا أمير المؤمنين مرنا ندفعهم.
فقال (عليه السلام): حتى أعذر إليهم ثانية.
ثم قال: من يأخذ هذا المصحف فيدعوهم إليه وهو مقتول وأنا ضامن له على الله الجنة.
فلم يقم أحذ إلا غلام عليه قباء أبيض.. ونادى ثالثة فلم يقم غير الفتى فدفع إليه المصحف وقال: امض إليهم وأعرضه عليهم وادعوهم إلى ما فيه، فأقبل الغلام حتى وقف بازاء الصفوف ونشر المصحف..
فقالت عائشة: اشجروه بالرماح قبحه الله، فتبادروا إليه بالرماح فطعنوه من كل جانب، وكانت أمه حاضرة فصاحت وطرحت نفسها عليه وجرته من موضعه...
وراجع أيضاً بحار الأنوار: ج32 ص447 ب12 ح394.
5ـ راجع كتاب الجمل: ص415، إرسال عائشة إلى المدينة، وشرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ج1 ص23.
6ـ راجع الجمل: ص 405 فصل في سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) في أهل البصرة، وشرح النهج لابن ابي الحديد: ج1 ص23.
7ـ راجع كتاب وقعة صفين: ص518.
8ـ بحار الأنوار: ج33 ص434 ب26 ح642.
9ـ بحار الأنوار: ج33 ص434 ب26 ح643.
10ـ بحار الأنوار: ج33 ص431 ب26 ح640.
11ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج1 ص297 ب19 الأشعث بن قيس ونسبه، وفيه: من كلام له (عليه السلام)، قال للأشعث بن قيس وهو على منبر الكوفة يخطب فمضى في بعض كلامه شيء اعترضه الأشعث فقال: يا أمير المؤمنين هذا عليك لا لك فخفض إليه بصره، ثم قال له (عليه السلام): وما يدريك ما علي مما لي، عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين حائك بن حائك منافق بن كافر والله لقد أسرك الكفر مرة والإسلام أخرى فما فداك من واحدة منهما مالك ولا حبك، وإذا إمرأ دلَّ على قومه السيف وساق إليهم الحتف لحري أن يمقته الأقرب ولا يأمنه الأبعد. وللعلامة المجلسي توضيح مفصل لهذا الحديث مع ترجمة الأشعث فراجع.
12ـ راجع تفسير القمي: ج1 ص157 سورة النساء، وج2 ص368 وص370 سورة المنافقين، وفيه:
وهذه السورة نزلت في غزوة بني المصطلق في سنة خمس من الهجرة، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرج إليها فلما رجع منها نزل على بئر وكان الماء قليلاً فيها وكان أنس بن سيار حليف الأنصار وكان جهجاه بن سعيد الغفاري أجيرا لعمر بن الخطاب فاجتمعوا على البئر فتعلق دلو ابن سيار بدلو جهجاه، فقال سيار: دلوي، وقال جهجاه: دلوي، فضرب جهجاه يده على وجه ابن سيار فسال منه الدم، فنادى سيار بالخزرج، ونادى جهجاه بقريش، وأخذ الناس السلاح وكاد أن تقع الفتنة فسمع عبد الله بن أبي النداء، فقال: ما هذا، فاخبروه بالخبر فغضب غضباً شديداً ثم قال: قد كنت كارهاً لهذا المسير إني لأذل العرب ما ظننت أني أبقى إلى أن أسمع مثل هذا فلا يكن عندي تعبير، ثم أقبل على أصحابه فقال: هذا عملكم أنزلتموهم منازلكم وواسيتموهم بأموالكم ووقيتموهم بأنفسكم وأبرزتم نحوركم للقتل فأرمل نساءكم وأيتم صبيانكم ولو أخرجتموهم لكانوا عيالا على غيركم، ثم قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل..
وكان في القوم زيد ابن أرقم وكان غلاماً قد راهق وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ظل شجرة في وقت المهاجرة وعنده قوم من أصحابه من المهاجرين والأنصار فجاء زيد فأخبره بما قال عبد الله بن أبي..
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لعلك وهمت يا غلام؟ فقال: لا والله ما وهمت، فقال: لعلك غضبت عليه؟ قال: لا ما غضبت عليه، قال: فلعله سفه عليك؟ فقال: لا والله، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لشقران مولاه: أخرج فأخرج احدج فاحدج راحلته وركب وتسامع الناس بذلك فقالوا: ما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليرحل في مثل هذا الوقت فرحل الناس ولحقه سعد بن عبادة، فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليك السلام: .. فقال: ما كنت لترحل في هذا الوقت؟ إما قال، أو ما سمعت قولا قال صاحبكم؟ قالوا: وأي صاحب لنا غيرك يا رسول الله؟! قال: عبد الله بن أبي زعم انه إن رجع إلى المدينة يخرجن الأعز منها الأذل. فقال: يا رسول الله فانت وأصحابك الأعز وهو وأصحابه الأذل..
فسار رسول الله (صلى الله عليه وآله) يومه كله لا يكلمه أحد فأقبلت الخزرج على عبد الله بن أبي يعذلونه، فحلف عبد الله أنه لم يقل شيئاً من ذلك فقالوا: فقم بنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى نعتذر إليه فلوى عنقه، فلما جن الليل سار رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليله كله والنهار، فلم ينزلوا إلا للصلاة فلما كان من الغد نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونزل أصحابه وقد أمهدهم الأرض من السهر الذي أصابهم، فجاء عبد الله بن أبي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فحلف عبد الله أنه لم يقم ذلك وانه ليشهد انه لا إله إلا الله وأنك لرسول الله، وأن زيدا قد كذب عليّ، فقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) منه، وأقبلت الخزرج على زيد بن أرقم يشتمونه ويقولون له كذبت على سيدنا عبد الله، فلما رحل رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان زيد معه يقول: اللهم إنك لتعلم أني لم أكذب على عبد الله بن أبي، فما سار إلا قليلاً حتى أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما كان يأخذه من البرحاء عند نزول الوحي عليه، فثقل حتى كادت ناقته أن تبرك من ثقل الوحي، فسرى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يسكب العرق عن جبهته ثم أخذ بأذن زيد بن أرقم فرفعه من الرحل ثم قال: يا غلام صدق قولك ووعى قلبك وأنزل الله فيما قلت قرآنا ، فلما نزل جمع أصحابه وقرأ عليهم سورة المنافقين... انتهى.
13ـ راجع تفسير القمي: ج2 ص370 سورة المنافقين.
14ـ تفسير القمي: ج1 ص302 سورة التوبة.
15ـ سورة المنافقون: 4.
16ـ راجع المناقب: ج3 ص312 فصل في مقتله (عليه السلام)، وبحار الأنوار: ج42 ص206 ب127 ح10، وفيه عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام): أن علي بن أبي طالب(عليه السلام) خرج يوقظ الناس لصلاة الصبح فضربه عبد الرحمن بن ملجم بالسيف على أم رأسه فوقع على ركبتيه وأخذه فألزمه حتى أخذه الناس وحمل علي (عليه السلام) حتى أفاق، ثم قال للحسن والحسين (عليه السلام): احبسوا هذا الأسير وأطعموه واسقوه واحسنوا اساره فإن عشت فأنا أولى بما صنع فيّ إن شئت استقدت وإن شئت صالحت وإن مت فذلك إليكم فان بدا لكم أن تقتلوه فلا تمثلوا به.
17ـ بحار الأنوار: ج42 ص206 ب127 ج11، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج15 ص143.
18ـ سورة العلق: 9و 10.
19ـ سورة الزمر: 65.
20ـ سورة الروم: 60.
21ـ بحار الأنوار: ج33 ص343 ب23 ح587.