مختار الاسدي
اشاره من عالم الغيب:
في اجواء تامّلات عميقة في ما يمكن ان يُكتب اليوم عن سيّدالشهداء(ع)، وفي استغراق اكثر عمقاً لعصرٍ يمكن ان يُسمّي' عصرالاستشهاد من جهة، وعصر اُفول القيم من جهة اُخري'، وضمن اءحساسٍملحّ بضرورة استحضار رائد القيم وابي الاحرار الاءمام الحسين واءعادةقراءته من جديد، استوقفتني اءشارة مهمة كانت اسستوقفت الدكتور احمدراسم النفيس في كتابه (علي خطي الحسين) كما استوقفت كثيرين قبله،ورحتُ استظهر ما سعي' ويسعي لاستظهاره الطبيب المصري المذكور،وحرصه علي المزاوجة بين التاريخ والواقع، والماضي والحاضر، وعالمالغيب وعالم الشهود.
هذه الاءشارة، هي التفسير المعروف للرؤيا المعبّرة التي را´هاالنبي(ص) والتي اوردها القرا´ن الكريم في قوله تعالي: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِيأَرَيْنَاكَ اءِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ)، والتي خلاصتها انه(ص) راي بني فلان ينزون عليمنبره الشريف نِزو القِردة، وكيف انه(ص) لم يُرَ ضاحكاً بعد تلك الرؤياحتي توفّاه الله عزّ وجلّ.
نعم، كيف يبتسم رسول الله(ص) وهو يري' ان اطهر منبرٍ علي وجهالارض يعتليه اقذر اءنسان من ابناء الطُلقاء، تعاضده اُمّة شايعتْ وبايعتْوتنكّبتْ لقتال اطهر اءنسانٍ علي وجهها ايضاً، ومع العمد وسبق الاءصرار.
هذه هي الرؤيا ومجمل تفسيرها باختصار شديد، اما فلسفتها، فقداوضحها جلّ وعلا في محكم كتابه:
(وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الاَرْضُ وَل'كِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَيالْعَالَمِينَ). و(وَتِلْكَ الاَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) و(فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَصَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).
ومن هذه الرؤيا وهذه الفكرة الفلسفية، نقرا ماضي الحسين(ع)وواقعنا المرّ، ونحاول ان نتبيّن كيف يبتلي الله سبحانه وتعالي عباده ليميّزالخبيث من الطيّب، فيختار للدنيا من تكالب او تهالك عليها، ويختارللا´خرة من تسامي علي حطام الاُولي' ووحْلها وطينها وبكامل الحريةوالاختيار:
(فَمَنْ كَانَ يُريدُ حرثَ الدُّنيا نُؤتِه مِنْها) ولكن(ومالَهُ في الا´خرةِ مِننَصيب) و( مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاْ´خِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ).
والدنيا، باختصار ايضاً، دار فتنة، فمن ارادها اغْرته ومن ترفّع عليهانكبته، وهذه هي سنّته سبحانه: (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِاللَّهِ تَبْدِيلاً).
هذه اءشارة عابرة من عالم الغيب، واءشارة عابرة علي واقع لابدّ اننحياه، رضينا ام ابينا، اما دورنا في التمهيد للفتنة ـ والعياذ بالله ـ وتحاشيالانزلاق في اختباراتها الصعبة، فمع اءشارة اُخري' وضعها السيّد الشهيدالصدر الاوّل (رضوان الله عليه) تحت عنوان:
تراكم التقصيرات:
يقول السيّد الشهيد الصدر1 في محاضرته الشهيرة حول (المحنة):«هذه التقصيرات التي قد لا يُحسّ بكل واحد منها علي حِدة، لكنها حين تتراكمتتحول الي فتنة تاكل الاخضر واليابس، تاكل مَن ساهم ومَن لم يُساهم، تاكل من قصّرومَن لم يقصّر، تاكل الحسين(ع)...».
ويضيف:
«الم تكن الفتنة التي تمخّضت عن تلك التقصيرات هي التي اكلتالحسين(ع)؟نعم، حتي الحسين اكلته الفتنة بالغرم من انه كان انصف الناس وابعدالناس عن التقصير في قولٍ او عمل».
وهنا يريد، او اراد السيّد الشهيد ان يتحدّث عن سبب مهمّ من اسبابالفتنة واختصره بكلمة (التقصير) او (تراكم التقصيرات)، اذْ اضاف1:
«اليست تلك التقصيرات المتراكمة التي عاشها المسلمون منذ ان سقط الاءمامعلي(ع) صريعاً في المحراب، التقصيرات المتراكمة التي عاشتها الكثرة الكاثرة منالمسلمين هي التي قتلت الاءمام الحسين(ع)؟!».
نعم، الكثرة الكاثرة من المقصّرين، الاغلبية الصامتة، المتفرّجون،المتقاعسون، المتخاذلون، سمّهم ما شئت، هم الذين ساهموا فيمصرعالحسين، اعترفوا بذلك ام لم يعترفوا.
( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَتُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ شَدِيدُالْعِقَابِ).
فماهي معالم تلك الفتنة؟ وماهي اهمّ تلك التقصيرات؟ وماهيعلاقتنا بها؟ ومَن المسؤول؟ او هل نحن مسؤولون؟
التاريخ يتحدّث، والقرا´ن يتحدّث، والنبي يتحدّث، والواقعيتحدّث، وخلاصة كلّ الحديث، مصرع سيّد الشهداء ومقتل حفيدالمصطفي' واشرف اءنسان انجبته الارض. وهنا وبلا مقدمات نستنطقالتاريخ لنري اين نحن منه الا´ن، وماهو موقفنا تجاه التقصيرات في العصرالحديث؟
تقصير مع الامام الحسن(ع):
ومعالمه معروفة، والتاريخ واضح، صريح في هذه القضية.
ففيما يحقن الاءمام الحسن(ع) دماء المسلمين، ويتحمّل ما يتحمّلهمن اتّهام الناس في توقيعه لوثيقةٍ تاريخية، يعلم تماماً ان معاويةسينقضها،تري معاويه يقول وبلا حياء:
«الا اءن كل شيء اعطيته الحسن بن علي تحت قدميّ هاتين.. وانّيوالله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا.. اءنّما قاتلتكملاتامّر عليكم».
فلم يكن هدف معاوية من قتاله الاقتصاص من قتلة عثمان، كما كانيزعم، واءنّما للاستحواذ علي السلطة واءذلال المؤمنين، ولكنّ بايّةوسائل؟! نستطيع ان نعدّد ونضع عناوين:
الرشوة وشراء الضمائر والذمم، الاغتيال السياسي والتصفياتالجسدية «اءنّ لله جنوداً من عسل»، المكر والخداع واختلاق كتّاب،يُنسب لقيس بن سعد لتضليل الناس والتمويه عليهم، النوح او التباكيعلي الاءسلام والرسالة وميراث النبوّة، الصوم والصلاة نعم، حتّي الصوموالصّلاة، كانتا من وسائل التضليل والضحك علي ذقون الناس.
امّا الناس، فاءنّهم حول الطاغية ادوات قمع وازلام سلطة وكلابهراش، لا يفرّقون بين الناقة والبعير، حتي صاروا مع وريثه الفاسق:«همج رعاع ينعقون مع كلّ ناعق ويمليون مع كل ريح» «الدين لعق علي السنتهميحوطونه ما درّت معايشهم فاءذا مُحِّصوا بالبلاء قلّ الديّانون».
هكذا، اءذن كان الناس، متفرّج صامت، او خائف مذعور، او نفعيمرتزق، او عابد متنسّك، ومنهم ( وَمِنْهُم مَن يَقُولُ ائْذَن لِي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِيالْفِتْنَةِ سَقَطُوا).
نعم، لقد اختار بعضهم شعار: (لا تفتنّي) الا اءنّهم في الفتنة سقطوا.وهذا هو التقصير ولكن لا يشعرون.
وتقصير اخر مع الامام علي(ع):
ولا نريد ان ندخل في جزئيات ومفردات قضية التحكيم وتفاصيلهالتي يذكرها التاريخ بوضوح ايضاً، والذي كان اقّل تقصير فيه الازدواجيةوالنفاق، وكيف يخرج احد الناس الي علي(ع) ويقول له:
«ترجع الي عراقك ونرجع نحن الي شامنا، فنُخلّي بينك وبين العراق،وتخلّي بيننا وبين الشام». وكيف ردّ (ع) قائلاً:
«اءنّ الله تعالي لم يرضَ من اوليائه ان يُعصي في الارض وهم سكوت مُذعنون،لا يامرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، فوجدتُ القتال اهون عليَّ من معالجةالاغلال في جهنم».
وينشطر جيش الاءمام شطرين عندما رُفعت المصاحف، لا لضبابيةالحق وعدم تمييزه او عدم وضوحه ـ كما يقول البعض ـ واءنّما لانالنفوس زاغت (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)، او كما يقول الدكتور ط'هحسين:
«اءنّهم كانوا اصحاب دنيا لا اصحاب دين، وكانوا في دخائل نفوسهمنادمين علي تلك الايام الهيّنة الليّنة التي قضوها ايّام عثمان، ينعمونبالهبات والجوائز والاءقطاع».
هكذا كان التقصير او التقصيرات وهكذا سارت اُمور الفتنة في اُمّةضيّعت حقّ نبيّها بمن اوصي به، وضيّعت حق وليّها حين فرّطتوتهاونت في اخذه، وضيّعت حقّ نجله حين ساومت عدوّه عليه، واخيراًوليس اخراً غدرت بالحسين وسلّمته الي اكثر خلق الله شرّاً وهبوطاًوانحطاطاً في تاريخ المسلمين.
المقصّرون، في الدعة السنتهم كالمخارق وفي الجهاد روّاغون كالثعالب
نقول، ولكي نبقي' في اطار البحث، اءنّه بعد استشهاد الامام علي(ع)وبيعة الامام الحسن، ثم الصلح مع معاوية، وسحق الاخير للعهودوالمواثيق، زاغت ابصار بعض الناس وتزلزلت قلوبهم، ولم يُعد للقومصبر ولا رغبة في قتال المارقين او القاسطين؛ لانهم احبّوا الدنيا ورغبوافيها، وحين تساوي' لديهم معاوية وعليّ، بل فضّل بعضهم معاوية عليعليّ لانه اصلح لدنياهم التي رغبوا فيها، لم يبقَ امام الامام الحسين الاّ انيقف قائلاً:
«فانّ الله كتب الجهاد علي خلقه وسمّاه كُرهاً (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌلَكُمْ) فلستم ايها الناس نائلين ما تحبّون اءلاّ بالصبر علي ما تكرهون، اخرجوارحمكم الله الي معسكركم بالنخيلة...» اي مكان التحشيد للقتال ـ كما يقال فيالمصطلح العسكري الحديث ـ ولكنهم صمتوا وما تكلّم منهم احدمتخاذلين خائفين مذعورين، الامر الذي دفع عديّ بن حاتم الي القول:
«سبحان الله.. ما اقبح هذا المقام! الا تجيبون امامكم وابن بنتنبيّكم»؟ ويضيف:
«اين خُطباء مضر الذين السنتهم في الدّعة كالمخاريق؟ فاءذا جدّ الجدّفروّاغون كالثعالب؟ اما تخافون مقتَ الله وعيب النار وعارها،»؟
وهنا نريد ان نعلّق كما علّق الدكتور احمد راسم النفيس في كتابهالمار الذكر مع تصرّف بسيط:
«انّ الهزيمة النفسية قد اصابت القوم ولم تعُد بهم او لديهم رغبة فيجهاد، ولا همّة لبذلٍ او تضحية او عطاء؛ فقد جربوا الدّنيا واستمراواحلاوتها وباتوا يريدونها، وخاصة حين فُتحت امام بعضهم كنوز كسري'وجواهر قيصر، فسال لعابهم علي الدنانير الصفر والدراهم البيض التي قالعنها عمر بن الخطاب يوماً؛ اءنّها مهلكتكم كما اهلكت من كان قبلكم».
وهم اليوم لا يجدون ذلك في ظل العدل اي عدل علي(ع)، واءنّمااشرابت نفوسهم الي بني اُميّة، اهل الدرهم والدينار واصحاب الوجاهةوالجاه، فكان نكوصهم الي منظّري تلك المرحلة، لعلهم يجدون فيهم مايبررونه لانفسهم من متاع الدنيا وزخرفها، مع احتفاظهم طبعاً بصلاةبائسة لا تنهي عن فحشاء او منكر، وصيام خجول لا يحصل منه صاحبهاءلاّ الجوع والعطش، مع حجٍّ غير مبرور كَثُر ضجيجه وقّل حجيجه.
وتستمر هذه الهزيمة، وتستمر التداعيات والانهياراتوالتقصيرات، بل الجنايات في صفوف الاُمّة، حتّي ينبري احد الناسفيتجاسر علي الاءمام الحسن(ع) وياخذ بلجام فرسه ويقول:
«الله اكبر يا حسن، اشركَ ابوك، واشركتَ انتَ! وطعنه بالمعول،فوقعتْ في فخذه فشقّه حتّي بلغتْ اربيته.. وحُمل الحسن(ع) علي سريرالي المدائن».
وتسلّط ارباب السوء:
وهكذا تحقّقت رؤيا النبي(ص)، وقام مُلك ارباب السوء، وتوالي' ابناءالطُلقاء واحفاد (الشجرة الملعونة في القرا´ن) في حكم الناس وفتنتهموالتحكّم بدينهم ودنياهم.
وحيث اجاد اوّلهم استخدام سياسة (فرّق تسد)، ونشر القصاصينفي المساجد، واستُبدلت قيم الحق والعدل بقيم الترف والثراء والتزلّفلاصحاب المال والقرار، وحين احسّ ان رجال المدينة يمتنعون عنبيعة ولده يزيد، راسلهم اوّلاً، ثم ذهب اءليهم بنفسه عام خمسين للهجرة،مستخدماً سياسة المراوغة والخداع، عازفاً علي اوتار النفوس المحبّةللمال والجاه، مدغدغاً كوامن الاهواء، عالماً ان الاُمّة التي اسلمت عليّاًوالحسن لن تجتمع علي الحسين(ع)، وبالتالي فالمطلوب هو كسب الوقتوتفتيت المعارضة وضرب الناس بعضهم ببعض حتّي يصل المُلك الييزيد القرود غنيمةً باردة، لا ينافسه عليه احد، ولا تجرؤ عليه اُمّة، هانعليها دينها فذلّت وهانت واستكانت.
وتستمر هذه السياسة، ويستمر معها طبعاً العزف علي عود الدين،ولكن اي دين؟! دين الانبياء، ام دين الفقهاء؟! حسب تعبير احدالمعاصرين ـ وليكن دين السلاطين ودين وعّاظ السلاطين. هذا الدينالذي هو سبب كلّ الكوارث والرزايا في تاريخ المسلمين، والذي وصفهاحد المعاصرين ايضاً بان مصيبته في فئتين:
«فئة اساءت استخدامه، وفئةٌ اتقنت استغلاله، فالتي اساءتاستخدامه ضلّلت المؤمنين به، والتي اتقنت استغلاله، اعطت الجاحدينحجّة عليه».
وجاءت نهضة الحسين لتكشف الزيف والمزيّفين:
وجاءت نهضة الاءمام الحسين(ع) بمهمة التوفّر علي حفظ الدين نبعاًصافياً اصيلاً، وجاءت ثورته الكبري لكشف المزيّفين الذين ارتدوارداء الدين وتلفّعوا با´يات الكتاب المبين.
فالحياة عندهم متاع وخداع وملذّات، يرافقها قتل ومكر وغدروسفك دماء. هدف هابط لا يمكن الوصول اءليه اءلاّ بشعارات دينية وذكرٍوصلواتٍ وقراءة قرا´ن. نعم، لا مانع ان يرتقي المنبر من يحدّث الناسعن الزهد والدين والا´خرة والعقاب والثواب والحورالعين، ويفاخربصحبته لرسول الله(ص) طالما انه يُنهي خطبته بلعن ابيتراب والاءجهازعلي تراثه وعظمته ومناقبه.
ولا مانع ان ياتي زمانٌ بعد حين يلعن اُولئك الذين يحدّثون الناسعن الزهد ولا يزهدون، ويرغّبونهم في الا´خرة ولا يرغبون، مادام الدينلعقاً علي السن السلاطين والوعّاظ، يصْعدون به علي اعناق الناس،ويمررون ما يريدون بتوظيف نصوصه، وبيع صكوك الغفران، وعليخطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
وتاتي كلمات الامام الحسين(ع) تدوّي مرة اُخري: اءنّ اشدّ الناسعذاباً يوم القيامة هم اُولئك الذين يشترون با´يات الله ثمناً قليلاً،فيستنهض ويذكّر (فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِا´يَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً).ولا يتردّد ان يقول ببلاغ عربي فصيح في خطبة خلّدها التاريخ:
«ثم انتم ايّها العصابة، بالعلم مشهورة، وبالخير مذكورة، وبالنصيحة معروفة،وبالله في انفس الناس مهابة، يهابكم الشريف ويكرمكم الضعيف ويؤثركم مَن لافضل لكم عليه ولا يد لكم عنده، تُشفّعون في الحوائج اءذا امتنعت من طلاّبها،وتمشون في الطريق بهيئة الملوك وكرامة الاكابر، اليس كل ذلك اءنّما نلتموه، بما يُرجيعندكم من القيام بحقّ الله؟ واءنْ كنتم عن اكثر حقّه تقصّرون فاستخففتم بحقّ الائمة،فامّا حقّ الضعفاء فضيّعتم، واما حقّكم بزعمكم فطلبتم، فلا مالاً بذلتموه، ولا نفساًخاطرتم بها للّذي خلقها، ولا عشيرة عاديتموها في ذات الله، انتم تتمنون علي الله جنّتهومجاورة رسله واماناً من عذابه».
الي ان يقول(ع):
«لقد خشيتُ عليكم ايّها المتمنّون علي الله ان تحلّ بكم نقمة من نقماته؛ لانّكمبلغتم من كرامة الله منزلة فُضّلتم بها، ومن يعرف بالله لا يُكرم، وانتم في عبادهتُكرمون، وقد ترون عهود الله منقوضة فلا تفزعون، وانتم لبعض ذمم ا´بائكم تفزعون،ولو صبرتم علي الاذي وتحمّلتم المؤونة في ذات الله؛ كانت اُمور الله عليكم ترِد،وعنكم تصدُر، واءليكم ترجع، ولكنّكم مكّنتم الظلمة من منزلتكم واستسلمتم،وتركتم اُمور الله في ايديهم، يعملون بالشبهات ويسيرون في الشهوات، سلّطهم عليذلك فراركم من الموت واءعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم، فاسلمتم الضعفاء فيايديهم وهم ما بين مستعبد مقهور، او مستضعف علي عيشه مغلوب».
حتي ينتهي سلام الله عليه، في هذه الخطبة الخالدة، الي قوله:
«اللهمّ اءنّك تعلم انّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً في فضولالحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك ونظهر الاءصلاح في بلادك، ويامن المظلومونمن عبادك، ويُعمل بفرائضك وسننك في بلادك».
وبعد ان وضع الاءمام الحسين(ع) اهمّ نقطة علي اهم حرفٍ في نهضته،وهي طلب الاصلاح في اُمّة جدّه وخاصّة بعد ان تنصّل عن تحمّلالمسؤولية مَنْ يوهمون غيرهم انهم اولي' بحملها من تلك العصابة التيهي بالعلم مشهورة وبالخير مذكورة، ممّن لم يخاطروا بنفسٍ ولم يضحّوابمنزلةٍ، وتركوا اُمور الله بايدي الظلمة، جاءت النقطة الاُخري عليحرف ا´خر حين خاطب محمّد بن الحنفية اخاه الحسين قائلاً:
«يا اخي انت احبّ الناس اءليّ واعزّهم عليّ، ولستُ ادّخر النصيحةلاحد من الخلق احقّ بها منك، تنحّ بتبعتك عن يزيد بن معاوية وعنالامصار ما استطعت، ثم ابعث رُسُلك الي الناس فادعهم الي نفسك، فاءنبايعوا لك حمدت الله علي ذلك، واءن اجمع الناس علي غيرك لم ينقصالله بذلك دينك ولا عقلك، ولا تذهب به مروؤتك ولا فضلك».
وهنا جاءت نقطة الحسين علي حرف كبير ا´خر في قوله(ع):
«لو لم يكن في الدنيا لي ملجا ولا ماوي' لما بايعتُ يزيد بن معاوية، واءني لماخرج اشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، واءنّما خرجتُ لطلب الاءصلاح في اُمّة جديكي ا´مر بالمعروف وانهي' عن المنكر، فمَن قبلني بقبول الحقّ فالله اولي' بالحق، ومن ردّعليّ هذا اصبر حتي يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين».
ثم اختتم ذلك بقوله:
سامضي وما بالموت عار علي الفتي'اءذا ما نوي' حقّاً وجاهد مسلما وواسي' الرجال الصالحين بنفسهوفارقَ مذموماً وخالفَ مجرماوجاءت شعارات المثبّطين مقابل الرفض الحسيني العظيم.
وفيما جاءت هكذا نهضة الحسين وشعاراتها المدوّية الثائرة، جاءتمعها شعارات المثبّطين والخانعين والمتخاذلين، فبعضهم يخاطبه(ع):«اتّق الله ولا تُفرّق جماعة المسلمين!» وبعضهم يصفه بالبغي والعدوانوالخروج علي (خليفة المسلمين!) وبعضهم لا يفقه قصة راس يحيي'بنزكريا الذي اُهدي الي بغي من بغايا بني اءسرائيل؛ فيلوم الحسين لو قُدّمراسه الشريف الي يزيد، وبعضهم ا´ثر الاعتزال والتفرّج؛ فلم ينصر حقاًولم يخذل باطلاً، وبعضهم اكتفي بالدعاء، ولم يزِد علي ان يدعو الله تعاليبان يقضي لهذه الاُمّة بالخير والاءحسان؛ فيولّي امرها خيارها وابرارهاويُهلك فجّارها واشرارها، ولكنّهم لا يحدّدون مَن هم اخيارها ومَن همفجّارها، فيتركون الناس في حيرةٍ وبلبلة وسبُل متفرّقة. لا يهتدي فيهاالضالّ، ولا يستيقن المهتدي.
وهنا لابدّ من الاشارة الي هؤلاء المتفذلكين الذين يختفون وراءالنصوص ويتحالفون مع اللصوص، والتنديد بهم والاستخفاف بفذلكتهموفضحها، وكيف انّهم يتوهمون ويوهمون ثم يزعمون انهم علي هدي،ويموّهون علي العوام والبسطاء ببعض توابل العبادات مثل: طول الصلاةوطول القيام والتشدّق بالصيام والتلفع بالنسّك والتمتمات، فيما العقولكعقول البهائم والقلوب كقلوب الذئاب، كما وصفهم الاءمام علي(ع)حينقال:
«يطلبون الدنيا بعمل الا´خرة، يلبسون جلد الضان وتحتها قلوب الذئابوالنمور، ليظنّ الناس انهم من الزاهدين في الدنيا، يراءون الناس باعمالهم ويُسخطونالله بسرائرهم».
ولو كان الاءمام الحسين(ع) استمع الي اي واحد من هؤلاء، وفعل كمافعل عبدالله بن عمر في بيعته الاضطرارية ليزيد؛ لاضاف اءسماً او لائحةاُخري الي لوائح الروايات التبريرية التي تسوّغ الطاعة (لامير المؤمنين)،ولاستدلّ بها البخاري ومسلم وامثالهما وقالوا: هاهو ابن بنت النبييوجب السمع والطاعة ليزيد او لحكم يزيد، وهاهو يدعو لوحدةالجماعة، (رغم نقض الشريعة)، ولاستشهد بذلك الافّاكون والمنافقونوالمتقاعسون والمخادعون واستخدموها راية وشعاراً في كل موقف،يرون فيه ضرورةً لاءسناد حزب الشياطين ومسايرتهم ومماشاتهم،تمشيةً لاُمورهم وحفاظاً علي ذلك الحزب من الانهيار ومصلحتهم منالتدمير. اي لماتت هذه الاُمّة الي نهاية الدهر، ولما نهض احدٌ لرفضالظلم والقهر والاستبداد.
نعم... ندّد الامام الحسين(ع) بكلّ ذلك وقرّر ان يقوم بالمهمّةالرسالية التي عجز عن حملها الصحابة والتابعون فيقول:
«خطّ الموت علي ولد ا´دم مخطّ القلادة علي جيد الفتاة، وما اولهني الي اسلافياشتياق يعقوب الي يوسف، وخير لي مصرعٌ انا لاقيه، كانّي باوصالي هذه تقطّعهاعسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملانّ منّي اكراشاً جوفاً واجربةً سغباً».
الي ان يقول ـ سلام الله عليه ـ وبضرس قاطع، وبلا تردّد او تهيّب،وبكلّ صراحة ووضوح:
«من كان باذلاً فينا مهجته وموطّناً علي لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فاءنّني راحلمصبحاً ان شاء الله».
نعم، لقد علّمنا الحسين(ع) درساً في الاءدراك الواعي للهدف الذينسعي' لتحقيقه مهما كانت التضحيات، وهكذا سقطت مرّة واحدة واليالابد كلّ اقنعة الاءسلام الكهنوتي الذي يريد لدين الله ان يبقي' محاريبوعبادة ودعاء، ويسقط معها كل المتفرجين الذين يؤثرون الدعة والعافيةويتمسّحون باعتاب النصوص الدينية، تاركين فريضة الجهاد وفريضةالامر بالمعروف والنهي عن المنكر. فكان لنا فيكلّ عصر حسين فيمواجهة يزيد، كما كان لكلّ فرعون موسي' ولكلّ طاغية بطل، ولكلّنمرود اءبراهيم.
وهذا يعني انّ الامتداد الطبيعي لرسالة الاءسلام الحقّ هو المنهجالحسيني، ونقيضه المنهج الاُموي، واءن تلفّع بالف ا´ية قرا´نية، وردّدادعياؤه الف حديثٍ شريف، وحين يُعرّف الاءنسان بانه موقف، ولا خيرفي اءنسانٍ ليس له موقف فاءنّ:
الموقف الحسيني هو المعيار:
نعم، يبقي' الموقف الحسيني هو معيار الثوّار، ويبقي رائده الامامالحسين(ع) هو القدوة والمثال، واءنّ الاُمّة بدون هذا الموقف وتمثّلهوتمثيله سوف يسوّغ للظلمة والطغاة كلّ اعمالهم و(اجتهاداتهم).وسياتي من يقول: انّ اجتهادات هؤلاء اءنّما هي (اجتهادات ائمة)،وللائمة ان يجتهدوا، فانْ اخطاوا فلهم اجرٌ، واءن اصابوا فلهم اجران، واءذالم ينجح التسويغ في الاءقناع، ياتي فقهاء السلاطين، او ارباب السوءفيقولون للناس: «عليكم ان تصبروا علي السلاطين وظلمهم اءلاّ انْ تروامنهم كفراً بواحاً»!! ومادام هؤلاء لا يجدون ضرورة لاءعلان (الكفرالبواح) فلا باس ان يلي الاُمّة حكّام طواغيت من امثال يزيد والحجّاجوالمتوكّل ونيرون.
وحين تستتبّ الاُمور لهؤلاء الجبابرة فاءنّهم عندها لن يجدوا ضيراًفي اعدام من يُبدي راياً مقابل ارائهم، كما فعلوا بسعيد بن جبير وحجربنعدي مثلاً، ويجعلوا ذلك سنّة متّبعة؛ اءذ يرسمون بذلك سياسة مبرمجةتبتدي باذلال الرعية وكسر اءرادتها، وبعدها ترويض ابناء الاُمّة عليارتكاب المحرّمات ومواجهة الشرفاء، وجنباً الي جنب مع التغاضي عنالبطانة في نيلها من الحرام وتحدّي حددو الله، حتي يصبح الكلّ في الذنبسواء.
وبين ربط التاريخ بالواقع او بالعكس قُدّر لنا ان ننتظر هذا الانتظارالطويل، وان نبقي نعيش الصراع المرير بين الحقّ والباطل داخل هذهالاُمّة، وان نري' كلّ هذه المصائب من سفك الدماء وهدر الطاقات، وفيصراعات داخلية تطير فيها رؤوس وتُملا بها السجون، اءضافة الي ماتتركه الغزوات الخارجية من تترية وصليبية وصهيونية، تعينهاحكومات مستبدّة من كافة الاشكال والالوان؛ ملكية وجمهوريةوقاجارية وبهلوية، جرّبت فينا كلّ شيء الاّ العدل والحرية.
وهكذا تحققت رؤيا البني(ص) في الفتنة التي طحنت البشريةومازالت تطحنها، وسبتقي' حتّي يرجع الناس الي سنّة الله في خلقه والتيخلاصتها:
(اءِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّي' يُغَيِّرُوا مَا بِاَنفُسِهِمْ) و «كيفما تكونوا يولّعليكم».
وستبقي الاُمم التي تقتل انبياها موضع ابتلاء وعقاب، ومثلها الاُمّةالتي تقتل ابن بنت نبيّها، واحفاده من بعده، ومَن يسير علي خطّه، هذهالاُمّة، وسوف تفقد صلابتها واصالتها لانّها، كما يقول السيّد الشهيدالصدر1:
«اُمّة متميّعة لا توجد لديها اي مناعة ضد الكفر، وبعدها سوف تندمج هذه الاُمّةاندماجاً كاملاً بالتجربة الكافرة؛ وبذلك يضيع الاءسلام والرسالة، وتضيع معها النظريةالاءسلامية للحياة، وتضيع حتّي الاُمّة نفسها».
وبغير هذا الفهم، ربّما تستعصي فكرة استيعاب (رؤيا الفتنة)والشجرة الملعونة في القرا´ن، وكذلك فكرة خلق اءبليس، وفلسفة القبحوالجمال، اذ:
فلولا القبح ما عُرف الجمالُولولا النقص ما عُرف الكمالُ
وهكذا وبغير الثورة الحسينية وفهم ابعادها وا´ثارها ونتائجهاوقدرتها علي فرز الحق عن الباطل، او قُل فضح الباطل المقنّع بقناعالحقّ او الشريعة، لما كانت هناك ثورات، ولما سطعت في سماء الاءسلامشمس، ولغاب الحقّ تحت شعارات المتاجرين بالدين وقيم الدين.
نعم، بخروج الامام الحسين(ع) علي طاغية عصره، يُفسّر الخروجعلي الحاكم الظالم المتلفّع بالشرعية المزيّفة، حتي لو لم يكن كافراً، بل انخروجه ـ سلام الله عليه ـ صار مبداً اءسلامياً شرعياً لا شبهة فيه ولا اءشكال.وكما كان الخروج علي عثمان في عدم تسليمه مروان (فورة من روحالاسلام) كما يسمّيها المرحوم سيد قطب، فاءنّ خروج الحسين يعتبر ثورةمن عمق الاسلام لفضح الزيف، واعادة الاُمور الي نصابها الصحيح، او كمايقول ـ سلام الله عليه ـ عن رسول الله(ص): «من راي منكم سلطاناً جائراً مستحلاّلحُرم الله ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالاءثم والعدوان ولميغيّر ما عليه بفعلٍ ولا قولٍ كان حقّاً علي الله ان يُدخله مدخله. الا واءن هؤلاء قد لزمواطاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحم'ن، واظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستاثروابالفيء، واحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، وانا احقّ من غيّر».
وعلي منهج الحسين وخروجه المشرّف، خرج الامام زيد حفيدهعلي هشام بن عبدالملك، وعلي نفس النهج كان موقف ابيحنيفة الذياجاز الخروج علي الاُمويين، فعاضد زيداً وايّده سرّاً، بل كان يمثّلخروجه بخروج رسول الله(ص) علي المشركين يوم بدر، وكذلك خروجيحيي' علي الوليد، وخروج محمّد ذي النفس الزكية وخروج اخيه ابراهيمعلي الاُمويين في اواخر عهدهم، وعلي العباسيين في اوائل عهدهم،ومثله خروج يحيي' بن عبدالله علي هارون الرشيد، وخروج اءدريس بنعبدالله علي الهادي في العراق، وخروج محمّد بن اءبراهيم المعروف بابنطباطبا، ومحمّد بن جعفر الصادق وابراهيم بن موسي' بن جعفر عليالمامون، وخروج محمّد بن القاسم بن عمر علي المعتصم؛ حتي صارشعار الجميع: انّ الخروج علي الحاكم الظالم، انّما هو خروج شرعي، يقرّهالدين وترضاه الشريعة، بل هو من صلب العقيدة والشريعة والدين.
امّا تعريف الظالم الذي تجب الثورة عليه، فقد اوجزه الاءمام زيد بنعلي(ع) قائلاً:
«كلّ من استاثر بالمال او الراي فهو ظالم». وما اكثر المستاثرين بالاموالوالا´راء! وما احوجنا في كلّ زمان الي زيدٍ جديد ويحيي' جديد وحسينجديد!
ولولا هذه الثورات، وهذا الخروج، وهذه الروح الحسينية؛ لاستمرالتعسف في تفسير مفاهيم الدين، ولاستمر وعّاظ السلاطين يوظّفوننصوص الدين لصالح ملوكهم وسلاطينهم، يبرّرون لهم الحكم والتحكّمباعتبارهم (لم يرتكبوا كفراً بواحاً)، او لم يتركوا صلاةً او صياماً، ولصارالحديث عن الدين والتشدّق به بديلاً عن العمل به، ولاختلط الحقّبالباطل والتقيّة بالجبن، والشجاعة بالتهور، وتلك هي الفتنة الكبري'فعلاً.
اذن، جاء خروج الحسين(ع) عبرة لنا للخروج علي كلّ ظالمٍ متجبّرحتي لو تلفّع بالدين، ولقّب نفسه ـ (امير المؤمنين)، وجاء مصرعهالشريف عبرة تستلّ دموع الطهر والفضيلة علي الجرح الكبير، ليبقيـسلام الله عليه ـ نشيداً خالداً لكلّ اجيال المسلمين، بل لكلّ الاحراروالشرفاء في شرق الارض وغربها:
سيظلّ ذكرك يا حسينيهزّ منّا القلبَ هزّا
وكذا ندانا يا حسينيزيدنا شرفاً وعزّا
المجمع العالمي لاهل البيت: قم المقدسة
شرعية الثورة علي الشرعيّة المزيّفة
- الزيارات: 9821