إنّ تشريع الشفاعة، والاعتراف بها في النظام الإسلامي إنّما هو لأجل غايات تربوية تترتب على ذلك التشريع والاعتقاد به، ذلك لأنّ الاعتقاد بالشفاعة المقيّدة بشروط معقولة، من شأنه بعث الأمل في نفوس العصاة وأفئدة المذنبين، يدفعهم إلى العودة عن سلوكهم الإجراميّ، وإعادة النظر في منهج حياتهم.
ولكن هناك من يعترض ويقول: إنّ الشفاعة توجب الجرأة وتحيي روح التمرّد في العصاة والمجرمين. إلاّ أنّ الواقع يفصح أنّ الشفاعة سبب في إصلاح سلوك المجرم ووسيلة لتخلّيه عمّا يرتكبه من آثام وما يقترفه من ذنوب.
وتظهر حقيقة الحال إذا لاحظنا مسألة التوبة، وهي التي اتفقت عليها الأُمة ونصّ عليها الكتاب المجيد والحديث الشريف، فإنّه لو كان باب التوبة مُوصداً، في وجه العصاة والمذنبين، واعتقد المجرم بأنّ عصيانه مرّة واحدة أو مرّات سيخلده في عذاب الله، ولا مناص له منه، فلا شك أنّ هذا الاعتقاد يوجب التمادي في اقتراف السيّئات وارتكاب الذنوب، لأنّه يعتقد بأنّه لو غيّر وضعه وسلوكه في مستقبل أمره لا يقع ذلك مؤثراً في مصيره وخلوده في عذاب الله. فلا وجه لأن يترك المعاصي ويغادر اللذة المحرّمة، ويتحمّل عناء العبادة والطاعة، بل يستمر في وضعه السابق حتى يوافيه الأجل.
وهذا بخلاف ما إذا وجد الطريق مفتوحاً، والنوافذ مشرعة واعتقد بأنّه سبحانه سيقبل توبته إذا كانت نصوحاً، وأنّ رجوعه هذا سيغيّر مصيره في الآخرة، ويُنقِذه من تبعات أعماله، وأليم العذاب، فعند ذاك سيترك العصيان ويرجع إلى الطاعة ويستغفر لذنوبه ويطلب الإغضاء عن سيئاته.
فهذا الاعتقاد له الأثر البنّاء في تهذيب الناس والشباب خاصة، وكم من شباب اقترفوا السيئات وأمضوا الليالي في اللذة المحرّمة، ثم عادوا إلى خلاف ما كانوا عليه في ظل التَّوبة والاعتقاد بأنّها تجدي المذنبين، وبأنّ أبواب الرحمة والفلاح مفتوحةٌ لم تغلق بعد، فعادوا يسهرون الليالي في العبادة، ويحيونها بالطاعة.
وليس هذا إلاّ أثر ذلك الاعتقاد، وذاك التشريع. ومثل ذاك، الاعتقاد بالشفاعة المحدودة، فإنّه إذا اعتقد العاصي بأنّ أولياء الله سبحانه قد يشفعون في حقه في شرائط خاصة إذا لم يهتك الستر، ولم يبلغ حداً لا تنفع معه شفاعة الشافعين، فعند ذاك سوف يعيدُ النظر في سيرته الشخصيّة، ويحاول تطبيق سلوكه على شرائط الشفاعة حتى يستحقّها، ولا يحرمها.
نعم، إنّ الاعتقاد بالشفاعة المطلقة، المحرّرة من كلّ قيد، من جانب الشفيع والمشفوع له، هو الذي يوجب التجرّي والتمادي في العصيان. وهذه الشفاعة مرفوضة في منطق العقل و القرآن، وكأنّ المعترض قد خلط بين الشفاعة المحدودة والشفاعة المطلقة من كل قيد، ولم يُميز بينهما وبين آثارهما.
فالشفاعة الموجبة للتجرّي ومواصلة العناد والتمرّد، هي الاعتقاد بأنّ الأنبياء والأولياء سيشفعون في حقّه يوم القيامة على كلّ حال وفي جميع الشرائط وإن فعل ما فعل، وارتكب ما ارتكب. وعند ذلك سيستمر في عمله الإجرامي إلى آخر حياته رجاءَ تلك الشفاعة التي لا تخضع لضابط ولا قانون، ولا تقيّد بقيد ولا شرط.
وأمّا الشفاعة التي نطق بها الكتاب وأقرّت بها الأحاديث واعترف بها العقل فهي الشفاعة المحدودة بشرائط في المشفوع له والشافع. ومجمل تلك الشرائط هو أن لا يقطع جميع علاقات العبودية مع الله، ولا يفصم وشائجه الروحية مع الشافعين، ولا يصل تمرّده إلى حدّ القطيعة ونسف الجسور. فالاعتقاد بهذا النوع من الشفاعة مثل الاعتقاد بتأثير التوبة في الغفران ماهية وأثراً.
مبرّرات الشفاعة : د ـ الآثار البنّاءة والتربويّة للشفاعة
- الزيارات: 3806