وحقيقة هذه الشفاعة لا تعني إلاّ أن تصل رحمتهُ سبحانه ومغفرته وفيضه إلى عباده عن طريق أوليائه وصفوةَ عباده، وليس هذا بأمر غريب. فكما أنّ الهداية الإلهية التي هي من فيوضه سبحانه، تصل إلى عباده في هذه الدنيا عن طريق أنبيائه وكتبه، فهكذا تصل مغفرته سبحانه وتعالى إلى المذنبين والعصاة يوم القيامة من عباده عن ذلك الطريق.
ولا يبعد في أن يصل غفرانه سبحانه إلى عباده يوم القيامة عن طريق خِيرة عباده، فإنّ الله سبحانه قد جعل دعاءهم في الحياة الدنيوية سبباً، ونصّ بذلك في بعض آياته. فنرى أنّ أبناء يعقوب لمّا عادوا خاضعين، رجعوا إلى أبيهم، وقالوا له: {يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنّا كنّا خاطئين} (يوسف/97) فأجابهم يعقوب بقوله: {سوف أستغفر لكم ربّي إنّه هو الغفور الرحيم} (يوسف/98).
ولم يقتصر الأمر على يعقوب فحسب، بل كان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)ممّن يستجاب دعاؤه أيضاً في حق العصاة، قال سبحانه: {ولو أنّهم إذ ظلموا أنفسهم جاءُوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توّاباً رحيماً} (النساء/64). وهذه الآيات ونظائرها ممّا لم نذكرها مثل قوله: {وصلّ عليهم إنّ صلاتك سكن لهم} (التوبة/103) تدل على أنّ مغفرته سبحانه قد تصل إلى عباده بتوسيط واسطة كالأنبياء، وقد تصل بلا توسيط واسطة، كما يفصح عنه سبحانه بقوله: {يا أيّها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبةً نصوحاً} (التحريم/8) وقوله: {واستغفروا ربّكم ثم توبوا إليه إنّ ربّي رحيم ودود} (هود/90). إلى غير ذلك من الآيات التي تكشف عن أنّ توبة العبد تجلب المغفرة بلا واسطة أحد وقد تصل بتوسيط واسطة هي من أعز عباده وأفضل خليقته وبريته.
وتتضح هذه الحقيقة إذا وقفنا على أنّ الدعاء بقول مطلق ـ وبخاصة دعاء الصالحين ـ من المؤثرات الواقعة في سلسلة نظام العلة والمعلول، ولا تنحصر العلة في العلل الواقعة في إطار الحس فإنّ في الكون مؤثرات خارجة عن إحساسنا وحواسنا، بل قد تكون بعيدة حتى عن تفكيرنا، يقول سبحانه: {والنازعات غرقاً * والناشطات نشطاً * والسابحات سبحاً * فالسّابقات سبقاً * فالمدبرات أمراً} (النازعات/1 ـ 5).
فما المراد من هذه {المدبّرات أمراً} أهي مختصة بالمدبرات الطبيعية المادية، أو المراد هو الأعم منها؟ فقد روي عن علي (عليه السلام)تفسيرها بالملائكة الأقوياء، الذين عهد الله إليهم تدبير الكون والحياة بإذنه سبحانه، فكما أنّ هذه المدبرات يجب الإيمان بها وإن لم تعلم كيفية تدبيرها وحقيقة تأثيرها، فكذلك الدعاء يجب الإيمان بتأثيره في جلب المغفرة، ودفع العذاب وإن لم تعلم كيفية تأثيره.
حقيقة الشفاعة : ج ـ الشفاعة المصطلحة
- الزيارات: 3117