اتّفق الواعون من المسلمين على أنّه لا مؤثر مستقل في الوجود غيره سبحانه، وأنّ غيره مفتقر في الوجود والتأثير إليه سبحانه، ولأجل ذلك صار شعار القرآن في حق الإنسان وفي حق غيره قوله: {يا أيّها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد * إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد * وما ذلك على الله بعزيز} (فاطر/15 ـ 17) وقوله سبحانه: {والله الغني وأنتم الفقراء} (محمد/38) وقال سبحانه على لسان نبيّه الكريم: {ربّ إنّي لما أنزلت إليّ من خير فقير} (القصص/24).
فبما أنّ عالم الكون عالم إمكاني لا يملك من لدن ذاته وجوداً ولا كمالا، بل كلّ ما يملك من وجود وكمال فقد أُفيض إليه من جانبه سبحانه فهو بحكم الإمكان موجود مفتقر في عامة شؤونه وتأثيره وعلّيته.
ونظراً لتوقف تأثير كل ظاهرة كونيّة على إذنه سبحانه كما جاء في قوله تعالى: {إنّ ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبّر الأمر ما من شفيع إلاّ من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون} (يونس/3) فانّ الآية بعدما تصف اللهَ سبحانه بأنّه خالق السماوات والأرض في ستة أيام وأنّه استوى بعد ذلك على العرش، وأنّه يدبر أمر الخلق، تُعلِن بأنّ كل ما في الكون من العلل الطبيعية والظواهر المادية يؤثر بعضه في البعض بإذنه سبحانه، وأنّه ليست هناك علّة مستقلة في التأثير، بل كل ما في الكون من العلل، ذاته وتأثيره، قائمان به سبحانه وبإذنه، فالمراد من الشفيع في الآية هو الأسباب والعلل المادية وغيرها، الواقعة في طريق وجود الأشياء وتحقّقها وإنّما سمِّيت العلة شفيعاً، لأنّ تأثيرها يتوقف على إذنه سبحانه، فهي (مشفوعةً إلى إذنه سبحانه) تؤثر وتعطي ما تعطي.
وعلى ذلك تخرج الآية عن الدلالة على الشفاعة المصطلحة بين المفسّرين وعلماء الكلام، وإنّما اخترنا هذا المعنى لوجود قرائن في نفس الآية، فانّها تبحث في صدرها عن خلق السماوات والأرض وتحديد مدّة الخلق والإيجاد بستة أيام، ثم ترجع الآية، وتنص على سعة قدرته على جميع ما خلق وإحاطته بهم، وانّه بعدما خلق السماوات والأرض، استوى على عرش القدرة وأخذ يدبّر العالم. وعند ذلك يتساءل القارئ: إذا كان هو المدبر والمؤثر فما حال سائر المدبرات والمؤثرات التي يلمسها البشر في حياته؟ فللإجابة على هذا السؤال قال سبحانه: {ما من شفيع إلاّ من بعد إذنه} مصرِّحاً بأنّ كل تأثير وتدبير في سبب من الأسباب إنّما هو بإذنه ومشيئته ولولا إذنه ومشيئته لما قام السبب بالسببية، ولا العلة بالعلية، وهذه القرائن توجب حمل هذه الجملة على ما يجري في عالم الكون والوجود من التأثير والعلية، وتفسيرها بالشفاعة التكوينية، وأنّ كل ظاهرة مؤثرة كالشمس والقمر والنار والماء لا تؤثر إلاّ بالاستمداد من قدرته سبحانه والاعتماد على إذنه ومشيئته حتى يتم بذلك التوحيد في الخالقية والتدبير.
حقيقة الشفاعة : أ ـ الشفاعة التكوينية
- الزيارات: 3986