(ما ينبغي للمؤمن في الطهارة)
ينبغي لكل مؤمن أن يستحضر عند اشتغاله بالطهارة عن الحدث: أن تكليفه بها للدخول في العبادات والمناجاة مع خالق البريات إنما هو لكون اعضائه التي أمر بغسلها مباشرة للامور الدنيوية، منهمكة في الكدورات الطبيعية، فخرجت عن أهلية القيام بين يدي الله ـ سبحانه ـ، والاشتغال بعبادته. فالأمر بغسلها، لتتطهر عن هذه الكدورات، فيتأهل للمناجاة. ولا ريب في ان مجرد غسلها لا يطهرها عن الادناس الدنيوية والكدورات الجسمانية، ما لم يطهر قلبه عن الأخلاق الذميمة، والعلائق الدنيوية، وما لم يعزم على الرجوع إلى الله، والانقطاع عن الدنيا وشهواتها. فينبغي أن يكون قلبه عند الطهارة مطهراً عن ذمائم الصفات وخبائث الشهوات، جازما على فطام الاعضاء التي هي اتباعه وخدامه عن شهوات الدنيا، لتسرى نوريته وطهارته إلى تلك الاعضاء، ثم أمر في الوضوء اولا: بغسل الوجه، الذي هو مجمع أكثر الحواس الظاهرة، التي هي أعظم الأسباب الباعثة على مطالب الدنيا، ليتوجه ويقبل بوجه القلب على الله،وهو خال من تلك الادناس، وثانياً بغسل اليدين، لمباشرتهما أكثر الأمور الدنيوية والمشتهيات الطبيعية المانعة من الاقبال على الآخرة، وثالثاً: بمسح الرجلين، للتوصل بهما إلى اكثر المطالب الدنيوية والمقاصد الطبيعية. فأمر بتطهير جميعها ليسوغ له الدخول بها في العبادات والاقبال عليها. وأمر في الغسل بغسل جميع البشرة، لأن ادنى حالات الإنسان وأشدها تعلقاً بالملكات الشهوية حالة الوقاع، ولجميع بدنه مدخل في تلك الحالة. ولذا قال رسول الله (ص): " تحت كل شعرة جنابة ". فحيث كان جميع بدنه بعيداً عن المرتبة العلية، منغمساً في اللذات الدنية، كان غسله أجمع من أهم المطالب الشرعية، ليتأهل لمقابلة الجهة الشريفة، والدخول في العبادة المنيفة. وأمر في التيمم بمسح الاعضاء بالتراب، عند تعذر غسلها بالماء، وضعاً لتلك الاعضاء الرئيسة، وهضماً لها بملاقاتها أثر التربة الخسيسة.
ثم لما كان القلب هو الرئيس الأعظم لهذه الجوارح والاعضاء، والمستخدم لها في تلك الأمور المبعدة عن جنابه ـ تعالى ـ، وهو الموضع لنظر الله ـ سبحانه ـ، كما قال (ص): " إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم "، فله من ذلك الحظ الاوفر والنصيب الاكمل. فيكون الاشتغال بتطهيره من الرذائل والتوجهات المانعة من درك الفضائل أولى من تطهير الاعضاء الظاهرة عند اللبيب العاقل. وإذا لم يمكن تطهيره من الأخلاق الرذيلة، وتحليته بالاوصاف الجميلة، لرسوخه على حب الدنيا الدنية، فليقمه في مقام الهضم والازراء، ويسقه بسياط الذل والاغضاء. كما أنه عند تعذر غسل الاغضاء بالماء يهضمها ويذللها بالوضع على التراب، عسى أن يرحم ربه تواضعه وانكساره، فيهبه نفحة من نفحات نوره اللامع، فانه عند المنكسرة قلوبهم، كما ورد في الأثر، فترق من هذه الاشارات ونحوها إلى ما يوجب لك الاقبال، ويتدارك سالف الاهمال.
ثم ما ذكر من السر في الطهارة، يمكن استنباطه ـ مع الزيادة ـ من كلام مولانا الصادق (ع) في (مصباح الشريعة)، حيث قال: " إذا أردت الطهارة والوضوء، فتقدم إلى الماء تقدمك إلى رحمة الله، فان الله ـ تعالى ـ قد جعل الماء مفتاح قربته ومناجاته، ودليلا إلى بساط خدمته، وكما ان رحمة الله تطهر ذنوب العباد كذلك النجاسات الظاهرة يطهرها الماء لا غيره، قال الله ـ تعالى ـ :
" وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً "[1]. وقال الله ـ تعالى ـ: " وجعلنا من الماء كل شيء حيٍ أفلا يؤمنون "[2].
فكما احيى به كل شيء من نعيم الدنيا، كذلك برحمته وفضله جعل حياة القلوب بالطاعات. وتفكر في صفاء الماء ورقته، وطهره وبركته، ولطيف امتزاجه بكل شيء. واستعمله في تطهير الاعضاء التي امرك الله بتطهيرها، وتعبدك بآدابها في فرائضه وسننه. فان تحت كل واحد منها فوائد كثيرة، فإذا استعملتها بالحرمة انفجرت لك عيون فوائد عن قريب. ثم عاشر خلق الله ـ تعالى ـ كامتزاج الماء بالاشياء، يؤدي كل شيء حقه، ولا يتغير عن معناه، معتبرا لقول الرسول (ص): " مثل المؤمن الخالص كمثل الماء ". ولتكن صفوتك مع الله ـ تعالى ـ في جميع طاعتك كصفوة الماء حين انزله من السماء وسماه طهوراً، وطهر قلبك بالتقوى واليقين عند طهارة جوارحك بالماء "[3].
ومن الاسرار الواردة في الطهارة وتخصيص بعض الاعضاء بالتطهير في الوضوء، ما اشار إليه مولانا الرضا (ع) بقوله: " إنما أمر بالوضوء ليكون العبد طاهراً إذا قام بين يدي الجبار عند مناجاته إياه، مطيعاً له فيما أمره، نقياً من الادناس والنجاسة، مع ما فيه من ذهاب الكسل، وطرد النعاس، وتزكية الفؤاد للقيام بين يدي الجبار. وإنما وجب ذلك على الوجه واليدين والرأس والرجلين، لان العبد إذا قام بين يدي الجبار، فانما ينكشف من جوارحه ويظهر ما يجب فيه الوضوء، وذلك انه بوجهه يسجد ويخضع، وبيده يسأل ويرغب ويرهب ويتبتل، وبرأسه يستقبل في ركوعه وسجوده. وبرجليه يقوم ويقعد. وأمر بالغسل من الجنابة دون الخلاء، لان الجنابة من نفس الإنسان، وهو شيء يخرج من جميع جسده، والخلاء ليس هو من نفس الإنسان، إنما هو غذاء يدخل من باب ويخرج من باب "[4].
ما ينبغي للمؤمن في الطهارة
- الزيارات: 3984