• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 276 الي 300


[ 276 ]
أقول: ورواه في الدر المنثور عن ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن ميمون بن مهران ولفظه كان بالمدينة إذا أذن المؤذن من يوم الجمعة ينادون في الاسواق: حرم البيع حرم البيع. وتفسير القمي وقوله: " فاسعوا إلى ذكر الله " قال: الاسراع في المشي، وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في الآية يقال: فاسعوا أي امضوا، ويقال: اسعوا اعملوا لها وهو قص الشارب ونتف الابط وتقليم الاظفار والغسل ولبس أنظف الثياب والتطيب للجمعة فهو السعي يقول الله: " ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن ". أقول: يريد أن السعي ليس هو الاسراع في المشي فحسب. وفي المجمع وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في قوله: " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض الآية ليس بطلب الدنيا ولكن عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله. أقول: ورواه في الدر المنثور عن ابن جرير عن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن ابن مردويه عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه وروي عن أبي عبد الله عليه السلام: أنه قال: الصلاة يوم الجمعة والانتشار يوم السبت. أقول: وفي هذا المعنى روايات أخر. وفيه وروى عمر بن يزيد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إني لاركب في الحاجة التي كفاها الله ما أركب فيها إلا التماس أن يراني الله اضحي في طلب الحلال أما تسمع قول الله عز اسمه: " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الارض وابتغوا من فضل الله " ؟ أرأيت لو أن رجلا دخل بيتا وطين عليه بابه ثم قال: رزقي ينزل علي أكان يكون هذا ؟ أما إنه أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم. قال: قلت من هؤلاء ؟ قال: رجل يكون عنده المرأة فيدعو عليها فلا يستجاب له لان عصمتها في يده لو شاء أن يخلي سبيلها، والرجل يكون له الحق على الرجل فلا يشهد عليه فيجحده حقه فيدعو عليه فلا يستجاب له لانه ترك ما أمر به، والرجل يكون عنده الشئ فيجلس في بيته ولا ينتشر ولا يطلب ولا يلتمس حتى يأكله ثم يدعو فلا يستجاب له. وفيه قال جابر بن عبد الله: أقبل عير ونحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانفض الناس إليها فما بقي غير اثنى عشر رجلا أنا فيهم فنزلت الآية " وإذا رأوا تجارة أو لهوا ".
________________________________________
[ 277 ]
وعن عوالي اللئالي روى مقاتل بن سليمان قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية الكلبي من الشام بتجارة، وكان إذا قدم لم يبق في المدينة عاتق (1) إلا أتته، وكان يقدم - إذا قدم - بكل ما يحتاج إليه الناس من دقيق وبر وغيره ثم ضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه - فيخرج الناس فيبتاعون منه. فقدم ذات جمعة، وكان قبل أن يسلم، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب على المنبر فخرج الناس فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لولا هؤلاء لسومت عليهم الحجارة من السماء وأنزل الله الآية في سورة الجمعة. أقول: والقصة مروية بطرق كثيرة من طرق الشيعة وأهل السنة واختلفت الاخبار في عدد من بقي منهم في المسجد بين سبعة إلى أربعين. وفيه " انفضوا " أي تفرقوا، وروي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: انصرفوا إليها وتركوك قائما تخطب على المنبر. قال جابر بن سمرة: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب إلا وهو قائم فمن حدثك أنه خطب وهو جالس فكذبه. أقول: وهو مروي أيضا في روايات اخرى. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة عن طاوس قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما وأبو بكر وعمر وعثمان، وإن أول من جلس على المنبر معاوية بن أبي سفيان. (سورة المنافقون مدنية، وهي إحدى عشرة آية) بسم الله الرحمن الرحيم. إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون - 1. إتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم
________________________________________
(1) العاتق: الجاري أوائل ما أدركت.
________________________________________
[ 278 ]
ساء ما كانوا يعملون - 2. ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون - 3. وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون - 4. وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون - 5. سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إن الله لا يهدي القوم الفاسقين - 6. هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السموات والارض ولكن المنافقين لا يفقهون - 7. يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون - 8. (بيان) تصف السورة المنافقين وتسمهم بشدة العداوة وتأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحذرهم وتعظ المؤمنين أن يتحرزوا من خصائص النفاق فلا يقعوا في مهلكته ولا يجرهم إلى النار، والسورة مدنية. قوله تعالى: " إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " المنافق اسم فاعل من النفاق وهو في عرف القرآن إظهار الايمان وإبطان الكفر.
________________________________________
[ 279 ]
والكذب خلاف الصدق وهو عدم مطابقة الخبر للخارج فهو وصف الخبر كالصدق وربما اعتبرت مطابقة الخبر ولا مطابقته بالنسبة إلى اعتقاد المخبر فيكون مطابقته لاعتقاد المخبر صدقا منه وعدم مطابقته له كذبا فيقال: فلان كاذب إذا لم يطابق خبره الخارج وفلان كاذب إذا أخبر بما يخالف اعتقاده ويسمى النوع الاول صدقا وكذبا خبريين، والثاني صدقا وكذبا مخبريين. فقوله: " إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله " حكاية لاظهارهم الايمان بالشهادة على الرسالة فإن في الشهادة على الرسالة إيمانا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويتضمن الايمان بوحد انيته تعالى وبالمعاد، وهو الايمان الكامل. وقوله: " والله يعلم إنك لرسوله " تثبيت منه تعالى لرسالته صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما أورده مع أن وحي القرآن ومخاطبته صلى الله عليه وآله وسلم كان كافيا في تثبيت رسالته، ليكون قرينة مصرحة بأنهم كاذبون من حيث عدم اعتقادهم بما يقولون وإن كان قولهم في نفسه صادقا فهم كاذبون في قولهم كذبا مخبريا لا خبريا فقوله: " والله يشهد إن المنافقين لكاذبون " أريد به الكذب المخبري لا الخبري. قوله تعالى: " اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله " الخ، الايمان جمع يمين بمعنى القسم، والجنة الترس والمراد بها ما يتقى به من باب الاستعارة، والصد يجئ بمعنى الاعراض وعليه فالمراد إعراضهم أنفسهم عن سبيل الله وهو الدين وبمعنى الصرف وعليه فالمراد صرفهم العامة من الناس عن الدين وهم في وقاية من أيمانهم الكاذبة. والمعنى: اتخذوا أيمانهم الكاذبة التي يحلفون وقاية لانفسهم فأعرضوا عن سبيل الله ودينه - أو فصرفوا العامة من الناس عن دين الله بما يستطيعونه من الصرف بتقليب الامور وإفساد العزائم. وقوله: " إنهم ساء ما كانوا يعملون " تقبيح لاعمالهم التي استمروا عليها منذ نافقوا إلى حين نزول السورة. قوله تعالى: " ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون " الظاهر أن الاشارة بذلك إلى سوء ما عملوا كما قيل، وقيل: الاشارة إلى جميع ما تقدم من كذبهم واستجنانهم بالايمان الفاجرة وصدهم عن سبيل الله ومساءة أعمالهم. والمراد بأيمانهم - على ما قيل - أيمانهم بألسنتهم ظاهرا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن
________________________________________
[ 280 ]
محمدا رسوله ثم كفرهم بخلو باطنهم عن الايمان كما قال تعالى فيهم: " وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن " البقرة: 14. ولا يبعد أن يكون فيهم من آمن حقيقة ثم ارتد وكتم ارتداده فلحق بالمنافقين يتربص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالمؤمنين الدوائر كما يظهر من بعض آيات سورة التوبة كقوله: " فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه " التوبة: 77، وقد عبر تعالى عمن لم يدخل الايمان في قلبه منهم بمثل قوله: " وكفروا بعد إسلامهم " التوبة: 74. فالظاهر أن المراد بقوله: " آمنوا ثم كفروا " إظهارهم للشهادتين أعم من أن يكون عن ظهر القلب أو بظاهر من القول ثم كفرهم بإتيان أعمال تستصحب الكفر كالاستهزاء بالدين ورد بعض الاحكام. وقوله: " فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون " تفريع عدم الفقه على طبع القلوب دليل على أن الطبع ختم على القلب يستتبع عدم قبوله لورود كلمة الحق فيه فهو آئس من الايمان محروم من الحق. والطبع على القلب جعله بحيث لا يقبل الحق ولا يتبعه فلا محالة يتبع الهوى كما قال تعالى: " طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم " سورة محمد: 16، فلا يفقه ولا يسمع ولا يعلم كما قال تعالى: " وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون " التوبة: 87، وقال: " ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون " الاعراف: 100، وقال: " وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون " التوبة: 93، والطبع على أي حال لا يكون منه تعالى إلا مجازاة لانه إضلال والذي ينسب إليه تعالى من الاضلال إنما هو الاضلال على سبيل المجازاة دون الاضلال الابتدائي وقد مر مرارا. قوله تعالى: " وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم " الخ، الظاهر أن الخطاب في " رأيتهم " و " تسمع " خطاب عام يشمل كل من رآهم وسمع كلامهم لكونهم في أزياء حسنة وبلاغة من الكلام، وليس خطابا خاصا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد أنهم على صباحة من المنظر وتناسب من الاعضاء إذا رآهم الرائي أعجبته أجسامهم، وفصاحة وبلاغة من القول إذا سمع السامع كلامهم مال إلى الاصغاء إلى قولهم لحلاوة ظاهره وحسن نظمه. وقوله: " كأنهم خشب مسندة " ذم لهم بحسب باطنهم والخشب بضمتين جمع خشبة،
________________________________________
[ 281 ]
والتسنيد نصب الشئ معتمدا على شئ آخر كحائط ونحوه. والجملة مسوقه لذمهم وهي متممة لسابقتها، والمراد أن لهم أجساما حسنة معجبة وقولا رائعا ذا حلاوة لكنهم كالخشب المسندة أشباح بلا أرواح لا خير فيها ولا فائدة تعتريها لكونهم لا يفقهون. وقوله: " يحسبون كل صيحة عليهم " ذم آخر لهم أي إنهم لابطانهم الكفر وكتمانهم ذلك من المؤمنين يعيشون على خوف ووجل ووحشة يخافون ظهور أمرهم واطلاع الناس على باطنهم ويظنون أن كل صيحة سمعوها فهي كائنة عليهم وأنهم المقصودون بها. وقوله: " هم العدو فاحذرهم " أي هم كاملون في العداوة بالغون فيها فإن أعدى أعدائك من يعاديك وأنت تحسبه صديقك. وقوله: " قاتلهم الله أنى يؤفكون " دعاء عليهم بالقتل وهو أشد شدائد الدنيا وكأن استعمال المقاتلة دون القتل للدلالة على الشدة. وقيل: " المراد به الطرد والابعاد من الرحمة، وقيل: المراد به الاخبار دون الدعاء، والمعنى: أن شمول اللعن والطرد لهم مقرر ثابت، وقيل: الكلمة مفيدة للتعجب كما يقال: قاتله الله ما أشعره، والظاهر من السياق ما تقدم من الوجه. وقوله: " أنى يؤفكون " مسوق للتعجب أي كيف يصرفون عن الحق ؟ وقيل: هو توبيخ وتقريع وليس باستفهام. قوله تعالى: " وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤسهم " الخ، التلوية تفعيل من لوى يلوي ليا بمعنى مال. والمعنى: وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله - وذلك عندما ظهر منهم بعض خياناتهم وفسوقهم - أمالوا رؤسهم إعراضا واستكبارا ورآهم الرائي يعرضون عن القائل وهم مستكبرون عن إجابة قوله. قوله تعالى: " سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم " الخ، أي يتساوى الاستغفار وعدمه في حقهم وتساوي الشئ وعدمه كناية عن أنه لا يفيد الفائدة المطلوبة منه، فالمعنى: لا يفيدهم استغفارك ولا ينفعهم. وقوله: " لن يغفر الله لهم " دفع دخل كأن سائلا يسأل: لماذا يتساوى الاستغفار لهم وعدمه ؟ فاجيب: لن يغفر الله لهم.
________________________________________
[ 282 ]
وقوله: " إن الله لا يهدي القوم الفاسقين " تعليل لقوله: " لن يغفر الله لهم "، والمعنى: لن يغفر الله لهم لان مغفرته لهم هداية لهم إلى السعادة والجنة وهم فاسقون خارجون عن زي العبودية لابطانهم الكفر والطبع على قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين. قوله تعالى: " هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا " الخ، الانفضاض التفرق، والمعنى: المنافقون هم الذين يقولون: لا تنفقوا أموالكم على المؤمنين الفقراء الذين لازموا رسول الله واجتمعوا عنده لنصرته وإنفاذ أمره وإجراء مقاصده حتى يتفرقوا عنه فلا يتحكم علينا. وقوله: " ولله خزائن السماوات والارض " جواب عن قولهم: لا تنفقوا الخ، أي إن الدين دين الله ولا حاجة له إلى إنفاقهم فله خزائن السماوات والارض ينفق منها ويرزق من يشاء كيف يشاء فلو شاء لاغنى الفقراء من المؤمنين لكنه تعالى يختار ما هو الاصلح فيمتحنهم بالفقر ويتعبدهم بالصبر ليوجرهم أجرا كريما ويهديهم صراطا مستقيما والمنافقون في جهل من ذلك. وهذا معنى قوله: " ولكن المنافقين لا يفقهون " أي لا يفقهون وجه الحكمة في ذلك واحتمل أن يكون المعنى أن المنافقين لا يفقهون أن خزائن العالم بيد الله وهو الرازق لا رازق غيره فلو شاء لاغناهم لكنهم يحسبون أن الغنى والفقر بيد الاسباب فلولم ينفقوا على اولئك الفقراء من المؤمنين لم يجدوا رازقا يرزقهم. قوله تعالى: " يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون " القائل هو عبد الله بن أبي بن سلول، وكذا قائل الجملة السابقة: لا تنفقوا الخ، وإنما عبر بصيغة الجمع تشريكا لاصحابه الراضين بقوله معه. ومرادة بالاعز نفسه وبالاذل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويريد بهذا القول تهديد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإخراجه من المدينة بعد المراجعة إليها وقد رد الله عليه وعلى من يشاركه في نفاقه بقوله: " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون " فقصر العزة في نفسه ورسوله والمؤمنين فلا يبقى لغيرهم إلا الذلة ونفى عن المنافقين العلم فلم يبق لهم إلا الذلة والجهالة.
________________________________________
[ 283 ]
(بحث روائي) في المجمع نزلت الآيات في عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فتزاحف الناس واقتتلوا فهزم الله بني المصطلق وقتل منهم من قتل ونفل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم. فبينا الناس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جهجاه بن سعيد يقود له فرسه فازدحم جهجاه وسنان الجهني من بني عوف بن خزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني يا معشر الانصار وصرخ الغفاري يا معشر المهاجرين فأعان الغفاري رجل من المهاجرين يقال له: جعال وكان فقيرا فقال عبد الله بن أبي لجعال: إنك لهتاك فقال: وما يمنعني أن أفعل ذلك ؟ واشتد لسان جعال على عبد الله. فقال عبد الله: والذي يحلف به لازرنك ويهمك غير هذا. وغضب ابن أبي وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم حديث السن فقال ابن أبي قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما مثلنا ومثلهم إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل يعني بالاعز نفسه وبالاذل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما جعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ولاوشكوا أن يتحولوا من بلادكم ويلحقوا بعشائرهم ومواليهم. فقال زيد بن أرقم: أنت والله الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم في عز من الرحمن ومودة من المسلمين والله لا أحبك بعد كلامك هذا فقال عبد الله: اسكت فإنما كنت ألعب. فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك بعد فراغه من الغزو فأخبره الخبر فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرحيل وأرسل إلى عبد الله فأتاه فقال: ما هذا الذي بلغني عنك ؟ فقال عبد الله والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك قط وإن زيدا
________________________________________
[ 284 ]
لكاذب، وقال من حضر من الانصار: يا رسول الله شيخنا وكبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام من غلمان الانصار عسى أن يكون هذا الغلام وهم في حديثه. فعذره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفشت الملامة من الانصار لزيد. ولما استقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسار لقيه أسيد بن الحضير فحياه بتحية النبوة ثم قال: يارسول الله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أوما بلغك ما قال صاحبكم ؟ زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الاعز منها الاذل. فقال أسيد: فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت. هو والله الذليل وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله أرفق به فوالله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه وإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا. وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يارسول الله إنه قد بلغني أنك تريد قتل أبي فإن كنت لا بد فاعلا فمرني به فأنا أحمل اليك رأسه فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي أن يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: بل ترفق به وتحسن صحبته ما بقي معنا. قالوا: وسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى وليلتهم حتى أصبح وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ثم نزل بالناس فلم يكن إلا أن وجدوا مس الارض وقعوا نياما، إنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي خرج من عبد الله بن أبي. ثم راح بالناس حتى نزل على ماء بالحجاز فويق البقيع يقال له: بقعاء فهاجت ريح شديدة آذتهم وتخوفوها - وضلت ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك ليلا فقال: مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة قيل: من هو ؟ قال: رفاعة. فقال رجل من المنافقين: كيف يزعم أنه يعلم الغيب ولا يعلم مكان ناقته ؟ ألا يخبره الذي يأتيه بالوحي ؟ فأتاه جبريل فأخبره بقول المنافق وبمكان الناقة، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك أصحابه وقال: ما أزعم أني أعلم الغيب وما أعلمه ولكن الله تعالى أخبرني بقول المنافق وبمكان ناقتي. هي في الشعب فإذا هي كما قال فجاؤا بها وآمن ذلك المنافق. فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد في التابوت أحد بني قينقاع وكان من عظماء اليهود مات ذلك اليوم.
________________________________________
[ 285 ]
قال زيد بن أرقم: فلما وافى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة جلست في البيت لمابي من الهم والحياء فنزلت سورة المنافقون في تصديق زيد وتكذيب عبد الله بن أبي. ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باذن زيد فرفعه عن الرحل ثم قال: يا غلام صدق فوك ووعت أذناك، ووعي قلبك، وقد أنزل الله فيما قلت قرآنا. وكان عبد الله بن أبي بقرب المدينة فلما أراد أن يدخلها جاء ابنه عبد الله بن عبد الله بن ابي حتى أناخ على مجامع طرق المدينة فقال: مالك ويلك ؟ فقال والله لا تدخلها إلا بإذن رسول الله ولتعلمن اليوم من الاعز ؟ ومن الاذل ؟ فشكا عبد الله ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأرسل إليه أن خل عنه يدخل فقال: أما إذا جاء أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنعم فدخل فلم يلبث إلا أياما قلائل حتى اشتكى ومات. فلما نزلت هذه الآيات وبان كذب عبد الله قيل له: نزل فيك آي شداد فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستغفر لك فلوى رأسه ثم قال: أمرتموني أن اؤمن فقد آمنت وأمرتموني أن اعطي زكاة مالي فقد أعطيت فما بقى إلا أن أسجد لمحمد فنزل: " وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤسهم - إلى قوله - لا يعلمون ". أقول: ما أوردة من القصة مأخوذ من روايات مختلفة مروية عن زيد بن أرقم وابن عباس وعكرمة ومحمد بن سيرين وابن إسحاق وغيرهم دخل حديث بعضهم في بعض. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " إذا جاءك المنافقون " الآية قال: قال: نزلت في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق في سنة خمس من الهجرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج إليها - فلما رجع منها نزل على بئر وكان الماء قليلا فيها. وكان أنس بن سيار حليف الانصار، وكان جهجاه بن سعيد الغفاري أجيرا لعمر بن الخطاب فاجتمعوا على البئر فتعلق دلو سيار بدلو جهجاه فقال سيار: دلوي وقال جهجاه: دلوي فضرب جهجاه على وجه سيار فسال منه الدم فنادى سيار بالخزرج ونادى جهجاه بقريش وأخذ الناس السلاح وكاد أن تقع الفتنة. فسمع عبد الله بن ابي النداء فقال: ما هذا ؟ فأخبروه بالخبر فغضب غضبا شديدا ثم قال: قد كنت كارها لهذا المسير إني لاذل العرب ما ظننت أني أبقى إلى أن أسمع مثل هذا فلا يكن عندي تغيير. ثم أقبل على أصحابه فقال: هذا عملكم أنزلتموهم منازلكم وواسيتموهم بأموالكم
________________________________________
[ 286 ]
ووقيتموهم بأنفسكم وأبرزتم نحوركم للقتل فأرمل نساؤكم وأيتم صبيانكم ولو أخرجتموهم لكانوا عيالا على غيركم. ثم قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل. وكان في القوم زيد بن أرقم وكان غلاما قد راهق، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ظل شجرة في وقت الهاجرة وعنده قوم من أصحابه من المهاجرين والانصار فجاء زيد فأخبره بما قال عبد الله بن أبي فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لعلك وهمت يا غلام، قال: لا والله ما وهمت. قال: فلعلك غضبت عليه ؟ قال: لا والله ما غضبت عليه، قال: فلعله سفه عليك، فقال: لا والله. فقال رسول الله لشقران مولاه: أحدج فأحدج راحلته وركب وتسامع الناس بذلك فقالوا: ما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليرحل في مثل هذا الوقت، فرحل الناس ولحقه سعد ابن عبادة فقال: السلام عليك يارسول الله ورحمة الله وبركاته، فقال: وعليك السلام، فقال: ما كنت لترحل في مثل هذا الوقت، فقال: أوما سمعت قولا قال صاحبكم ؟ قال: وأي صاحب لنا غيرك يا رسول الله ؟ قال: عبد الله بن أبي زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الاعز منها الاذل، فقال: يا رسول الله فإنك وأصحابك الاعز وهو وأصحابه الاذل. فسار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومه كله لا يكلمه أحد فأقبلت الخزرج على عبد الله بن أبي يعذلونه فحلف عبد الله أنه لم يقل شيئا من ذلك فقالوا: فقم بنا إلى رسول الله حتى نعتذر إليه فلوى عنقه. فلما جن الليل سار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليله كله فلم ينزلوا إلا للصلاة فلما كان من الغد نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونزل أصحابه وقد أمهدهم (1) الارض من السفر الذي أصابهم فجاء عبد الله بن أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحلف عبد الله له أنه لم يقل ذلك وأنه يشهد أن لا إله إلا الله وأنك لرسول الله وإن زيدا قد كذب علي، فقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منه وأقبلت الخزرج على زيد بن أرقم يشتمونه ويقولون له: كذبت علي عبد الله سيدنا. فلما رحل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان زيد معه يقول: اللهم إنك لتعلم أني لم أكذب على عبد الله بن أبي فما سار إلا قليلا حتى اخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كان يأخذه من البرحاء (2)
________________________________________
(1) أمدهم الارض: أي صارت اهم مهادا فناموا. (2) البرحاء: حالة شبه الاغماء كانت تأخذ النبي صلى الله عليه وآله عند نزول الوحي.
________________________________________
[ 287 ]
عند نزول الوحي فثقل حتى كادت ناقته أن تبرك من ثقل الوحي فسري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يسكب العرق عن جبهته ثم أخذ باذن زيد بن أرقم فرفعه من الرحل ثم قال: يا غلام صدق قولك ووعى قلبك وأنزل الله فيما قلت قرآنا. فلما نزل جمع أصحابه وقرأ عليهم سورة المنافقين: " بسم الله الرحمن الرحيم إذا جاءك المنافقون - إلى قوله - ولكن المنافقين لا يعلمون " ففضح الله عبد الله بن أبي. وفي تفسير القمي أيضا في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " كأنهم خشب مسندة " يقول: لا يسمعون ولا يعقلون " يحسبون كل صيحة عليهم " يعني كل صوت " هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أني يؤفكون ". فلما أنبأ الله رسوله خبرهم مشى إليهم عشائرهم وقالوا افتضحتم ويلكم فأتوا رسول الله يستغفر لكم فلووا رؤسهم وزهدوا في الاستغفار، يقول الله: " وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون ". وفي الكافي بإسناده إلى سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى فوض إلى المؤمن أموره كلها، ولم يفوض إليه أن يذل نفسه ألم ترقول الله سبحانه وتعالى ههنا " لله العزة ولرسوله وللمؤمنين " والمؤمن ينبغي أن يكون عزيزا ولايكون ذليلا. أقول: وروى هذا المعنى بإسناده عن داود الرقي والحسن الاحمسي وبطريق آخر عن سماعة. وفيه بإسناده عن مفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه. قلت: بما يذل نفسه ؟ قال: يدخل فيما يعتذر منه. (كلام حول النفاق في صدر الاسلام) يهتم القرآن بأمر المنافقين اهتماما بالغا ويكر عليهم كرة عنيفة بذكر مساوي أخلاقهم وأكاذيبهم وخدائعهم ودسائسهم والفتن التي أقاموها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المسلمين، وقد تكرر ذكرهم في السور القرآنية كسورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والانفال والتوبة والعنكبوت والاحزاب والفتح والحديد والحشر والمنافقون والتحريم. وقد أوعدهم الله في كلامه أشد الوعيد ففي الدنيا بالطبع على قلوبهم وجعل الغشاوة
________________________________________
[ 288 ]
على سمعهم وعلى أبصارهم وإذهاب نورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون وفي الآخرة بجعلهم في الدرك الاسفل من النار. وليس ذلك إلا لشدة المصائب التي أصابت الاسلام والمسلمين من كيدهم ومكرهم وأنواع دسائسهم فلم ينل المشركون واليهود والنصارى من دين الله ما نالوه، وناهيك فيهم قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم يشير إليهم: " هم العدو فاحذرهم " المنافقون: 4. وقد ظهر آثار دسائسهم ومكائدهم أوائل ما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فورد ذكرهم في سورة البقرة وقد نزلت - على ما قيل - على رأس ستة أشهر من الهجرة ثم في السور الاخرى النازلة بعد بالاشارة إلى أمور من دسائسهم وفنون من مكائدهم كانسلالهم من الجند الاسلامي يوم أحد وهم ثلثهم تقريبا، وعقدهم الحلف مع اليهود واستنهاضهم على المسلمين وبنائهم مسجد الضرار وإشاعتهم حديث الافك، وإثارهم الفتنة في قصة السقاية وقصة العقبة إلى غير ذلك مما تشير إليه الآيات حتى بلغ أمرهم في الافساد وتقليب الامور على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى حيث هددهم الله بمثل قوله: " لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا " الاحزاب: 61. وقد استفاضت الاخبار وتكاثرت في أن عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه من المنافقين وهم الذين كانوا يقلبون الامور على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتربصون به الدوائر وكانوا معروفين عند المؤمنين يقربون من ثلث القوم وهم الذين خذلوا المؤمنين يوم أحد فانمازوا منهم ورجعوا إلى المدينة قائلين لو نعلم قتالا لاتبعناكم وهم عبد الله بن أبي وأصحابه. ومن هنا ذكر بعضهم أن حركة النفاق بدأت بدخول الاسلام المدينة واستمرت إلى قرب وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. هذا ما ذكرة جمع منهم لكن التدبر في حوادث زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والامعان في الفتن الواقعة بعد الرحلة والاعتناء بطبيعة الاجتماع الفعالة يقضي عليه بالنظر: أما أولا: فلا دليل مقنعا على عدم تسرب النفاق في متبعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين بمكة قبل الهجرة، وقول القائل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بمكة قبل الهجرة لم يكونوا من القوة ونفوذ الامر وسعة الطول بحيث يهابهم الناس ويتقوهم أو يرجوا منهم خيرا حتى يظهروا لهم الايمان ظاهرا ويتقربوا منهم بالاسلام، وهم مضطهدون مفتنون معذبون
________________________________________
[ 289 ]
بأيدي صناديد قريش ومشركي مكة المعادين لهم المعاندين للحق بخلاف حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة بعد الهجرة فإنه صلى الله عليه وآله وسلم هاجر إليها وقد كسب انصارا من الاوس والخزرج واستوثق من أقوياء رجالهم أن يدفعوا عنه كما يدفعون عن أنفسهم وأهليهم، وقد دخل الاسلام في بيوت عامتهم فكان مستظهرا بهم على العدة القليلة الذين لم يؤمنوا به وبقوا على شركهم ولم يكن يسعهم أن يعلنوا مخالفتهم ويظهروا شركهم فتوقوا الشر بإظهار الاسلام فآمنوا به ظاهرا وهم على كفرهم باطنا فدسوا الدسائس ومكروا ما مكروا. غير تام، فما القدرة والقوة المخالفة المهيبة ورجاء الخير بالفعل والاستدرار المعجل علة منحصرة للنفاق حتى يحكم بانتفاء النفاق لانتفائها فكثيرا ما نجد في المجتمعات رجالا يتبعون كل داع ويتجمعون إلى كل ناعق ولا يعبؤن بمخالفة القوى المخالفة القاهرة الطاحنة، ويعيشون على خطر مصرين على ذلك رجاء أن يوفقوا يوما لاجراء مرامهم ويتحكموا على الناس باستقلالهم بإدارة رحى المجتمع والعلو في الارض وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يذكر في دعوته لقومه أن لو آمنوا به واتبعوه كانوا ملوك الارض. فمن الجائز عقلا أن يكون بعض من آمن به يتبعه في ظاهر دينه طمعا في البلوغ بذلك إلى أمنيته وهي التقدم والرئاسة والاستعلاء، والاثر المترتب على هذا النوع من النفاق ليس هو تقليب الامور وتربص الدوائر على الاسلام والمسلمين وإفساد المجتمع الديني بل تقويته بما أمكن وتفديته بالمال والجاه لينتظم بذلك الامور ويتهيأ لاستفادته منه واستدراره لنفع شخصه. نعم يمكر مثل هذا المنافق بالمخالفه والمضادة فيما إذا لاح من الدين مثلا ما يخالف أمنية تقدمه وتسلطه إرجاعا للامر إلى سبيل ينتهي إلى غرضه الفاسد. وأيضا من الممكن أن يكون بعض المسلمين يرتاب في دينه فيرتد ويكتم ارتداده كما مرت الاشارة إليه في قوله تعالى: " ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا " الآية، وكما يظهر من لحن مثل قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم " المائدة: 54. وأيضا الذين آمنوا من مشركي مكة يوم الفتح لا يؤمن اكثرهم أن لا يؤمنوا إيمان صدق وإخلاص ومن البديهي عند من تدبر في حوادث سني الدعوة أن كفار مكة وما والاها وخاصه صناديد قريش ما كانوا ليؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لولا سواد جنود غشيتهم وبريق
________________________________________
[ 290 ]
سيوف مسلطة فوق رؤسهم يوم الفتح وكيف يمكن مع ذلك القضاء بأنه حدث في قلوبهم والظرف هذا الظرف نور الايمان وفي نفوسهم الاخلاص واليقين فآمنوا بالله طوعا عن آخرهم ولم يدب فيهم دبيب النفاق أصلا. وأما ثانيا: فلان استمرار النفاق إلى قرب رحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانقطاعه عند ذلك ممنوع نعم انقطع الخبر عن المنافقين بالرحلة وانعقاد الخلافة وانمحى أثرهم فلم يظهر منهم ما كان يظهر من الآثار المضادة والمكائد والدسائس المشؤمة. فهل كان ذلك لان المنافقين وفقوا للاسلام وأخلصوا الايمان عن آخرهم برحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتأثرت قلوبهم من موته ما لم يتأثر بحياته ؟ أو أنهم صالحوا أولياء الحكومة الاسلامية على ترك المزاحمة بأن يسمح لهم ما فيه امنيتهم مصالحة سرية بعد الرحلة أو قبلها ؟ أو أنه وقع هناك تصالح اتفاقي بينهم وبين المسلمين فوردوا جميعا في مشرعة سواء فارتفع التصاك والتصادم ؟ ولعل التدبر الكافي في حوادث آخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والفتن الواقعة بعد رحلته يهدي إلى الحصول على جواب شاف لهذه الاسئلة. والذي أوردناه في هذا الفصل إشارة إچمالية إلى سبيل البحث. يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون - 9. وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين - 10. ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون - 11.
________________________________________
[ 291 ]
(بيان) تنبيه للمؤمنين أن يتجنبوا عن بعض الصفات التي تورث النفاق وهو التلهي بالمال والاولاد والبخل. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لاتلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله " الخ، الالهاء الاشغال، والمراد بإلهاء الاموال والاولاد عن ذكر الله إشغالها القلب بالتعلق بها بحيث يوجب الاعراض عن التوجه إلى الله بما أنها زينة الحياة الدنيا، قال تعالى: " المال والبنون زينة الحياة الدنيا " الكهف: 46، والاشتغال بها يوجب خلو القلب عن ذكر الله ونسيانه تعالى فلا يبقى له إلا القول من غير عمل وتصديق قلبي ونسيان العبد لربه يستعقب نسيانه تعالى له قال تعالى: " نسوا الله فنسيهم " التوبه: 67 وهو الخسران المبين، قال تعالى في صفة المنافقين: " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم " البقرة: 16. وإليه الاشارة بما في ذيل الآية من قوله: " ومن يفعل ذلك فاولئك هم الخاسرون ". والاصل هو نهي المؤمنين عن التلهي بالاموال والاولاد وتبديله من نهي الاموال والاولاد عن إلهائهم للتلويح إلى أن من طبعها الالهاء فلا ينبغي لهم أن يتعلقوا بها فتلهيهم عن ذكر الله سبحانه فهو نهي كنائي آكد من التصريح. قوله تعالى: " وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت " الخ، أمر بالانفاق في البر أعم من الانفاق الواجب كالزكاة والكفارات أو المندوب، وتقييده بقوله: " مما رزقناكم " للاشعار بأن أمره هذا ليس سؤالا لما يملكونه دونه، وإنما هو شئ هو معطيه لهم ورزق هو رازقه وملك هو ملكهم إياه من غير أن يخرج عن ملكه يأمرهم بإنفاق شئ منه فيما يريد فله المنة عليهم في كل حال. وقوله: " من قبل أن يأتي أحدكم الموت " أي فينقطع أمد استطاعته من التصرف في ماله بالانفاق في سبيل الله. وقوله: " فيقول رب لو لا أخرتني إلى أجل قريب " عطف على قوله: " أن يأتي " الخ، وتقييد الاجل بالقريب للاشعار بأنه قانع بقليل من التمديد - وهو مقدار ما يسع
________________________________________
[ 292 ]
الانفاق من العمر - ليسهل إجابته، ولان الاجل أيا ما كان فهو قريب، ومن كلامه صلى الله عليه وآله وسلم: كل ما هو آت قريب. وقوله: " فأصدق وأكن من الصالحين " نصب " فاصدق " لكونه في جواب التمني، وجزم " أكن " لكونه في معنى جزاء الشرط، والتقدير إن أتصدق أكن من الصالحين. قوله تعالى: " ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها " إيآس لهم من استجابة دعاء من يسأل تأخير الاجل بعد حلوله والموت بعد نزوله وظهور آيات الآخرة، وقد تكرر في كلامه تعالى أن الاجل المسمى من مصاديق القضاء المحتوم كقوله: " وإذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " يونس: 49. وقوله: " والله خبير بما تعملون " حال من ضمير " أحدكم " أو عطف على أول الكلام ويفيد فائدة التعليل، والمعنى: لا تتلهوا وأنفقوا فإن الله عليم بأعمالكم يجازيكم بها. (بحث روائي) في الفقيه وسئل عن قول الله تعالى: " فأصدق وأكن من الصالحين " قال: " أصدق " من الصدقة، و " أكن من الصالحين " أحج. أقول: الظاهر أن ذيل الحديث من قبيل الاشارة إلى بعض المصاديق. وفي المجمع عن ابن عباس قال: ما من أحد يموت وكان له مال فلم يؤد زكاته وأطاق الحج فلم يحج إلا سأل الرجعة عند الموت. قالوا: يا ابن عباس اتق الله فإنما نرى هذا الكافر يسأل الرجعة فقال: أنا أقرأ به عليكم قرآنا ثم قرأ هذه الآية - يعني قوله: " يا أيها الذين آمنوا لاتلهكم - إلى قوله - من الصالحين " قال: الصلاح هنا الحج، وروي ذلك عن أبي عبد الله: عليه السلام. أقول: ورواه في الدر المنثور عن عدة من أرباب الجوامع عن ابن عباس. وفي تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام في قول الله: " ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها " قال: إن عند الله كتبا موقوفة يقدم منها ما يشاء ويؤخر ما يشاء فإذا كان ليلة القدر أنزل الله فيها كل شئ يكون إلى مثلها فذلك قوله: " ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها " إذا نزله الله وكتبه كتاب السماوات وهو الذي لا يؤخر.
________________________________________
[ 293 ]
(سورة التغابن مدنية، وهي ثماني عشرة آية) بسم الله الرحمن الرحيم. يسبح لله ما في السموات وما في الارض له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير - 1. هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير - 2. خلق السموات والارض بالحق وصور كم فأحسن صوركم وإليه المصير - 3. يعلم ما في السموات والارض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور - 4. ألم يأتكم نبؤا الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم - 5. ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا واستغنى الله والله غني حميد - 6. زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير - 7. فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير - 8. يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجرى من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم - 9.
________________________________________
[ 294 ]
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير - 10. (بيان) السورة شبيهة بسورة الحديد في سياق كسياقها ونظم كنظمها كأنها ملخصة منها وغرضها تحريض المؤمنين وترغيبهم في الانفاق في سبيل الله ورفع ما يهجس في قلوبهم ويدب في نفوسهم من الاسى والاسف على المصائب التي تهجم عليهم في تحمل مشاق الايمان بالله والجهاد في سبيل الله والانفاق فيها بأن ذلك كله بإذن الله. والآيات التي أوردناها من صدر السورة تقدمة وتمهيد لبيان الغرض المذكور تبين أن أسماءه تعالى الحسنى وصفاته العليا تقضي بالبعث ورجوع الكل إليه تعالى رجوعا يساق فيه أهل الايمان والعمل الصالح إلى جنة خالدة، وأهل الكفر والتكذيب إلى نار مؤبدة فهي تمهيد للامر بطاعة الله ورسوله والصبر على المصائب والانفاق في سبيل الله من غير تأثر من منع مانع ولا خوف من لومة لائم. والسورة مدنية بشهادة سياق آياتها. قوله تعالى: " يسبح لله ما في السماوات وما في الارض له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير " تقدم الكلام في معنى التسبيح والملك والحمد والقدرة، وأن المراد بما في السماوات والارض يشمل نفس السماوات والارض ومن فيها وما فيها. وقوله: " له الملك " مطلق يفيد إطلاق الملك وعدم محدوديته بحد ولا تقيده بقيد أو شرط فلا حكم نافذا إلا حكمه، ولا حكم له إلا نافذا على ما أراد. وكذا قوله: " وله الحمد " مطلق يفيد رجوع كل حمد من كل حامد - والحمد هو الثناء على الجميل الاختياري - إليه تعالى لان الخلق والامر إليه فلا ذات ولا صفة ولا فعل جميلا محمودا إلا منه واليه. وكذا قوله: " وهو على كل شئ قدير " بما يدل عليه من عموم متعلق القدرة غير محدودة ولا مقيدة بقيد أو شرط.
________________________________________
[ 295 ]
وإذ كانت الآيات - كما تقدمت الاشارة إليه - مسوقة لاثبات المعاد كانت الآية كالمقدمة الاولى لاثباته، وتفيد أن الله منزه عن كل نقص وشين في ذاته وصفاته وأفعاله يملك الحكم على كل شئ والتصرف فيه كيفما شاء وأراد، - ولا يتصرف إلا جميلا - وقدرته تسع كل شئ فله أن يتصرف في خلقه بالاعادة كما تصرف فيهم بالايذاء - الاحداث والابقاء - فله أن يبعثهم إن تعلقت به إرادته ولا تتعلق إلا بحكمه. قوله تعالى: " هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير " الفاء في " فمنكم " تدل على مجرد ترتب الكفر والايمان على الخلق فلا دلالة في التفريع على كون الكفر والايمان مخلوقين لله تعالى أو غير مخلوقين، وإنما المراد انشعابهم فرقتين: بعضهم كافر وبعضهم مؤمن، وقدم ذكر الكافر لكثرة الكفار وغلبتهم. و " من " في قوله: " فمنكم ومنكم " للتبعيض أي فبعضكم كافر وبعضكم مؤمن. وقد نبه بقوله: " والله بما تعملون بصير " على أن انقسامهم قسمين وتفرقهم فرقتين حق كما ذكر، وهم متميزون عنده لان الملاك في ذلك أعمالهم ظاهرها وباطنها والله بما يعملون بصير لا تخفى عليه ولا تشتبه. وتتضمن الآية مقدمة اخرى لاثبات المعاد وتنجزه وهي أن الناس مخلوقون له تعالى متميزون عنده بالكفر والايمان وصالح العمل وطالحه. قوله تعالى: " خلق السماوات والارض بالحق وصوركم فأحسن صوركم واليه المصير " المراد بالحق خلاف الباطل وهو خلقها من غير غاية ثابتة وغرض ثابت كما قال: " لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا " الانبياء: 17، وقال: " وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون " الدخان: 39. وقوله: " وصوركم فأحسن صوركم " المراد بالتصوير إعطاء الصورة وصورة الشئ قوامه ونحو وجوده كما قال: " لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم " التين: 4، وحسن الصورة تناسب تجهيزاتها بعضها لبعض والمجموع لغاية وجودها، وليس هو الحسن بمعنى صباحة المنظر وملاحته بل الحسن العام الساري في الاشياء كما قال تعالى: " الذي أحسن كل شئ خلقه " الم السجدة: 7. ولعل اختصاص حسن صورهم بالذكر للتنبيه على أنها ملائمة للغاية التي هي الرجوع إلى الله فتكون الجملة من جملة المقدمات المسوقة لاثبات المعاد على ما تقدمت الاشارة إليه.
________________________________________
[ 296 ]
وبهذه الآية تتم المقدمات المنتجة للزوم البعث ورجوع الخلق إليه تعالى فإنه تعالى لما كان ملكا قادرا على الاطلاق له أن يحكم بما شاء ويتصرف كيف أراد وهو منزه عن كل نقص وشين محمود في أفعاله، وكان الناس مختلفين بالكفر والايمان وهو بصير بأعمالهم، وكانت الخلقة لغاية من غير لغو وجزاف كان من الواجب أن يبعثوا بعد نشأتهم الدنيا لنشاة أخرى دائمة خالدة فيعيشوا فيها عيشة باقية على ما يقتضيه اختلافهم بالكفر والايمان وهو الجزاء الذي يسعد به مؤمنهم ويشقى به كافرهم. وإلى هذه النتيجة يشير بقوله: " واليه المصير ". قوله تعالى: " يعلم ما في السماوات والارض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور " دفع شبهة لمنكري المعاد مبنية على الاستبعاد وهي أنه كيف يمكن إعادة الموجودات وهي فانية بائدة وحوادث العالم لا تحصى والاعمال والصفات لا تعد، منها ظاهرة علنية ومنها باطنة سرية ومنها مشهودة ومنها مغيبة، فاجيب بأن الله يعلم ما في السماوات والارض ويعلم ما تسرون وما تعلنون. وقوله: " والله عليم بذات الصدور " قيل إنه اعتراض تذييلي مقرر لشمول علمه تعالى بما يسرون وما يعلنون والمعنى: إنه تعالى محيط علما بالمضرات المستكنة في صدور الناس مما لا يفارقها أصلا فكيف يخفى عليه شئ مما تسرونه وما تعلنونه. وفي قوله: " والله عليم " الخ، وضع الظاهر موضع الضمير والاصل " وهو عليم " الخ والنكتة فيه الاشارة إلى علة الحكم، وليكون ضابطا يجري مجري المثل. قوله تعالى: " ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم " وبال الامر تبعته السيئة والمراد بأمرهم كفرهم وما تفرع عليه من فسوقهم. لما كان مقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العليا المعدودة في الآيات السابقة وجوب معاد الناس ومصيرهم إلى ربهم للحساب والجزاء فمن الواجب إعلامهم بما يجب عليهم أن يأتوا به أو يجتنبوا عنه وهو الشرع، والطريق إلى ذلك الرسالة فمن الواجب إرسال رسول على أساس الانذار والتبشير بعقاب الآخرة وثوابها وسخطه تعالى ورضاه. ساق تعالى الكلام بالانذار بالاشارة إلى نبإ الذين كفروا من قبل وأنهم ذاقوا وبال أمرهم ولهم في الآخرة عذاب أليم ثم انتقل إلى بيان سبب كفرهم وهو تكذيب الرسالة ثم إلى سبب ذلك وهو إنكار البعث والمعاد.
________________________________________
[ 297 ]
ثم استنتج من ذلك كله وجوب إيمانهم بالله ورسوله والدين الذي أنزله عليه وختم التمهيد المذكور بالتبشير والانذار بالاشارة إلى ما هيئ للمؤمنين الصالحين من جنة خالدة ولغيرهم من الكفار المكذبين من نار مؤبدة. فقوله: " ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل " الخطاب للمشركين وفيه إشارة إلى قصص الامم السالفة الهالكة كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، ممن أهلكهم الله بذنوبهم، وقوله: " فذاقوا وبال أمرهم " إشارة إلى ما نزل عليهم من عذاب الاستئصال وقوله: " ولهم عذاب أليم " إشارة إلى عذابهم الاخروي. قوله تعالى: " ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا " الخ، بيان لسبب ما ذكر من تعذيبهم بعذاب الاستئصال وعذاب الآخرة، ولذلك جيئ بالفصل دون العطف كأنه جواب لسؤال مقدر كأن سائلا يسأل فيقول: لم أصابهم ما أصابهم من العذاب ؟ فقيل: " ذلك بأنه كانت " الخ، والاشارة بذلك إلى ما ذكر من العذاب. وفي التعبير عن إتيان الرسل ودعوتهم بقوله: " كانت تأتيهم " الدال على الاستمرار، وعن كفرهم وقولهم بقوله: " فقالوا وكفروا وتولوا " الدال بالمقابلة على المرة دلالة على أنهم قالوا ما قالوا كلمة واحدة قاطعة لا معدل عنها وثبتوا عليها وهو العناد واللجاج فتكون الآية في معنى قوله تعالى: " تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين " الاعراف: 101، وقوله: " ثم بعثنا من بعده " أي بعد نوح " رسلا إلى قومهم فجاؤهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل كذلك نطبع على قلوب المعتدين " يونس: 74. وقوله: " فقالوا أبشر يهدوننا " يطلق البشر على الواحد والجمع والمراد به الثاني بدليل قوله: " يهدوننا " والتنكير للتحقير، والاستفهام للانكار أي قالوا على سبيل الانكار: أآحاد من البشر لافضل لهم علينا يهدوننا ؟ وهذا القول منهم مبني على الاستكبار، على أن أكثر هؤلاء الامم الهالكة كانوا وثنيين وهم منكرون للنبوة وهو أساس تكذيبهم لدعوة الانبياء، ولذلك فرع تعالى على قولهم: " أبشر يهدوننا " قوله: " فكفروا وتولوا " أي بنوا عليه كفرهم وإعراضهم. وقوله: " واستغنى الله " الاستغناء طلب الغنى وهو من الله سبحانه - وهو غني بالذات - إظهار الغنى وذلك أنهم كانوا يرون أن لهم من العلم والقوة والاستطاعة ما يدفع عن جمعهم
________________________________________
[ 298 ]
الفناء ويضمن لهم البقاء كأنه لاغنى للوجود عنهم كما حكى الله سبحانه عن قائلهم: " قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا " الكهف: 35، وقال: " ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة " حم السجدة: 50. ومآل هذا الظن بالحقيقة إلى أن لله سبحانه حاجة إليهم وفيهم - وهو الغنى بالذات - فإهلاكه تعالى لهم وإفناؤهم إظهار منه لغناه عن وجودهم، وعلى هذا فالمراد بقوله: " واستغنى الله " استئصالهم المدلول عليه بقوله: " فذاقوا وبال أمرهم ". على أن الانسان معجب بنفسه بالطبع يرى أن له على الله كرامة كأن من الواجب عليه أن يحسن إليه أينما كان كأن لله سبحانه حاجة إلى إسعادة والاحسان إليه كما يشير إليه قوله تعالى: " وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى " حم السجدة: 50، وقوله: " وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لاجدن خيرا منها منقلبا " الكهف: 36. ومآل هذا الزعم بالحقيقة إلى أن من الواجب على الله سبحانه أن يسعدهم كيفما كان كأن له إليهم حاجة فإذاقته لهم وبال أمرهم وتعذيبهم في الآخرة إظهار منه تعالى لغناة عنهم، فالمراد باستغنائه تعالى عنهم مجموع ما أفيد بقوله: " فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم ". فهذان وجهان في معنى قوله تعالى: " واستغنى الله " والثاني منهما أشمل، وفي الكلمة على أي حال من سطوع العظمة والقدرة ما لا يخفى، وهو في معنى قوله: " ثم أرسلنا رسلنا تترا كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون " المؤمنون: 44. وقيل: المراد واستغنى الله بإقامه البرهان وإتمام الحجة عليهم عن الزيادة على ذلك بإرشادهم وهدايتهم إلى الايمان. وقيل: المراد واستغنى الله عن طاعتهم وعبادتهم أزلا وأبدا لانه غني بالذات، والوجهان كما ترى. وقوله: " والله غني حميد " في محل التعليل لمضمون الآية، والمعنى: والله غني في ذاته محمود فيما فعل، فما فعل بهم من إذاقتهم وبال أمرهم وتعذيبهم بعذاب أليم على كفرهم وتوليهم من غناه وعدله لانه مقتضى عملهم المردود إليهم.
________________________________________
[ 299 ]
قوله تعالى: " زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير " ذكر ركن آخر من أركان كفر الوثنيين وهو إنكارهم الدين السماوي بإنكار المعاد إذ لا يبقى مع انتفاء المعاد أثر للدين المبني على الامر والنهي والحساب والجزاء ويصلح تعليلا لانكار الرسالة إذ لا معنى حينئذ للتبليغ والوعيد. والمراد بالذين كفروا عامة الوثنيين ومنهم من عاصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم كأهل مكة وما والاها، وقيل: المراد أهل مكة خاصة. وقوله: " قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم " أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيب عن زعمهم أن لن يبعثوا، بإثبات ما نفوه بما في الكلام من أصناف التأكيد بالقسم واللام والنون. و " ثم " في " ثم لتنبؤن " للتراخي بحسب رتبة الكلام، وفي الجملة إشارة إلى غاية البعث وهو الحساب وقوله: " وذلك على الله يسير " أي ما ذكر من البعث والانباء بالاعمال يسير عليه تعالى غير عسير، وفيه رد لاحالتهم أمر البعث على الله سبحانه استبعادا، وقد عبر عنه في موضع آخر من كلامه بمثل قوله: " وهو الذي يبدء الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه " الروم: 27. والدليل عليه ما عده في صدر الآيات من أسمائه تعالى وصفاته من الخلق والملك والعلم وأنه مسبح محمود، ويجمع الجميع أنه الله المستجمع لجميع صفات الكمال. ويظهر من هنا أن التصريح باسم الجلالة في الجملة أعني قوله: " وذلك على الله يسير " للايماء إلى التعليل، والمفاد أن ذلك يسير عليه تعالى لانه الله، والكلام حجة برهانية لا دعوى مجردة. وذكروا أن الآية ثالثة الآيات التي أمر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يقسم بربه على وقوع المعاد وهي ثلاث: إحداها قوله: " ويستنبؤنك أحق هو قل أي وربي " يونس: 53، والثانية قوله: " وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم " سبأ: 3، والثالثة الآية التي نحن فيها. قوله تعالى: " فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير " تفريع على مضمون الآية السابقة أي إذا كنتم مبعوثين لا محالة منبئين بما عملتم وجب عليكم أن تؤمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزله على رسوله وهو القرآن الذي يهدي بنوره الساطع إلى مستقيم الصراط، ويبين شرائع الدين.
________________________________________
[ 300 ]
وفي قوله: " والنور الذي أنزلنا " التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير ولعل النكتة فيه تتميم الحجة بالسلوك من طريق الشهادة وهي أقطع للعذر فكم فرق بين قولنا: والنور الذي أنزل وهو إخبار، وقوله: " والنور الذي أنزلنا " ففيه شهادة منه تعالى على أن القرآن كتاب سماوي نازل من عنده تعالى، والشهادة آكد من الاخبار المجرد. لا يقال: ماذا ينفع ذلك وهم ينكرون كون القرآن كلامه تعالى النازل من عنده ولو صدقوا ذلك كفاهم ما مر من الحجة على المعاد وأغنى عن التمسك بذيل الالتفات المذكور. لانه يقال: كفى في إبطال إنكارهم كونه كلام الله ما في القرآن من آيات التحدي المثبتة لكونه كلام الله، والشهادة على أي حال آكد وأقوى من الاخبار وإن كان مدللا. وقوله: " والله بما تعملون خبير " تذكرة بعلمه تعالى بدقائق أعمالهم ليتأكد به الامر في قوله: " فآمنوا " والمعنى: آمنوا وجدوا في إيمانكم فإنه عليم بدقائق أعمالكم لا يغفل عن شئ منها وهو مجازيكم بها لا محالة. قوله تعالى: " يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن " الخ، " يوم " ظرف لقوله السابق: " لتبعثن ثم لتنبؤن " الخ، والمراد بيوم الجمع يوم القيامة الذي يجمع فيه الناس لفصل القضاء بينهم قال تعالى: " ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا " الكهف: 99، وقد تكرر في القرآن الكريم حديث الجمع ليوم القيامة، ويفسره أمثال قوله تعالى: " إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " الجاثية: 17، وقوله: " فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " البقرة: 113، وقوله: " إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " السجدة: 25، فالآيات تشير إلى أن جمعهم للقضاء بينهم. وقوله: " ذلك يوم التغابن " قال الراغب: الغبن أن تبخس صاحبك في معاملة بينك وبينه بضرب من الاخفاء. قال: ويوم التغابن يوم القيامة لظهور الغبن في المعاملة المشار إليها بقوله: " ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله " وبقوله: " إن الله اشترى من المؤمنين " الآية، وبقوله: " الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " فعلموا أنهم غبنوا فيما تركوا من المبايعة وفيما تعاطوه من ذلك جميعا. وسئل بعضهم عن يوم التغابن فقال: تبدو الاشياء لهم بخلاف مقاديرهم في الدنيا. انتهى موضع الحاجة. وما ذكره أولا مبني على تفسير التغابن بسريان المغبونية بين الكفار بأخذهم لمعاملة


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page