• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 1 الي 25

تفسير الميزان
السيد الطباطبائي ج 7
________________________________________
[ 1 ]
الميزان في تفسير القرآن 7
________________________________________
[ 3 ]
تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره
________________________________________
[ 4 ]
الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره المجلد السابع منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة
________________________________________
[ 5 ]
سورة الانعام - مكية وهي مائة وخمس وستون آية) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذى خلق السموات والارض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون (1) - هو الذى خلقكم من طين ثم قضى أجلا أجل مسمى عنده ثم انتم تمترون (2) - وهو الله في السموات وفي الارض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون (3) بيان غرض السوره هو توحيده تعالى بمعناه الاعم أعنى أن للانسان ربا هو رب العالمين جميعا منه يبدا كل شئ وإليه ينتهى ويعود كل شئ، أرسل رسلا مبشرين ومنذرين يهدى بهم عباده المربوبين إلى دينه الحق، ولذلك نزلت معظم آياتها في صورة الحجاج على المشركين في التوحيد والمعاد والنبوة، واشتملت على إجمال الوظائف الشرعية والمحرمات الدينية. وسياقها - على ما يعطيه التدبر - سياق واحد متصل لا دليل فيه على فصل يؤدى إلى نزولها نجوما. وهذا يدل على نزولها جملة واحدة، وأنها مكية فإن ذلك ظاهر سياقها الذى وجه الكلام في جلها أو كلها إلى المشركين. وقد اتفق المفسرون والرواة على كونها مكية إلا في ست آيات روى عن بعضهم أنها مدنية. وهى قوله تعالى: (أتل ما قدروا الله حق قدره) (آيه 91) إلى تمام ثلاث آيات، وقوله تعالى: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم) (آيه 151) إلى تمام ثلاث آيات.
________________________________________
[ 6 ]
وقيل: إنها كلها مكية إلا آيتان منها نزلتا بالمدينة، وهما قوله تعالى: (قل تعالوأتل) والتى بعدها. وقيل: نزلت سورة الانعام كلها بمكة إلا آيتين نزلتا بالمدينة، في رجل من اليهود، وهو الذى قال: (ما أنزل الله على بشر من شئ) الايه. وقيل. (إنهاكلها مكية إلا آية واحدة نزلت بالمدينة، وهو قوله تعالى: (ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة: الاية. وهذه الاقوال لا دليل على شئ منها من جهة سياق اللفظ على ما تقدم من وحدة السياق واتصال آيات السورة، وسنبينها بما نستطيعه، وقد ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وكذا عن أبى وعكرمة وقتادة: أنها نزلت جملة واحدة بمكة. قوله تعالى: (الحمد لله الذى خلق السماوات والارض وجعل الظلمات والنور) افتتح بالثناء على الله وهو كالمقدمة لما يراد بيانه من معنى التوحيد، وذلك بتضمين الثناء ما هو محصل غرض السورة ليتوسل بذلك إلى الاحتجاج عليه تفصيلا، وتضمينه العجب منهم ولومهم على أن عدلوا به غيره والامتراء في وحدته ليكون كالتمهيد على ما سيورد من جمل الوعظ والانذار والتخويف. وقد أشارفى هذاالثناء الموضوع في الايات الثلاث إلى جمل ما تعتمد عليه الدعوة الدينية في المعارف الحقيقية التى هي بمنزلة المادة للشريعة، وتنحل إلى نظامات ثلاث: نظام الكون العام وهو الذى تشير إليه الاية الاولى، ونظام الانسان بحسب وجوده، وهو الذى تشتمل عليه الايد الثانية، ونظام العمل الانساني وهو الذى تومئ إليه الاية الثالثة. فالمتحصل من مجموع الايات الثلاث هو الثناء عليه تعالى بما خلق العالم الكبير الذى يعيش فيه الانسان، وبما خلق يكسب. وما في الاية الثالثة: (وهو الله في السماوات وفي الارض، بمنزله الايضاح لمضمون
________________________________________
[ 7 ]
الايتين السابقتين، والتمهيد لبيان علمه بسر الانسان وجهره وما تكسبه نفسه. فقوله: (خلق السماوات والارض وجعل الظلمات والنور) إشارة إلى نظام الكون العام الذى عليه تدبر الاشياء على كثرتها وتفرقها في عالمنا في نظامه الجارى المحكم إلا عالم الارض الذى يحيط به عالم السماوات على سعتها ثم يتصرف بها بالنور والظلمات الذين عليهما يدور رحى العالم المشهود في تحوله وتكامله فلا يزال يتولد شئ من شئ، ويتقلب شئ إلى شئ، ويظهر واحد ويخفى اخر، ويتكون جديد ويفسد قديم، وينتظم من تلاقى هذه الحركات المتنوعة على شتاتها الحركه العالميه الكبرى التى تحمل اثقال الاشياء، وتسير بها إلى مستقرها. والجعل في قوله: (وجعل الظلمات) الخ بمعنى الخلق غير أن الخلق لما كان مأخوذا في الاصل من خلق الثوب كان التركيب من أجزاء شتى مأخوذا في معناه بخلاف الجعل، ولعل هذا هو السبب في تخصيص الخلق بالسماوات والارض لما فيها من التركيب بخلاف الظلمة والنور، ولذا خصا باستعمال الجعل. والله أعلم. وقد أتى بالظلمات بصيغة الجمع دون النور، ولعله لكون الظلمة متحققة بالقياس إلى النور فانها عدم النور فيما من شانه أن يتنور فتتكثر بحسب مراتب قربه من النور وبعده بخلاف النور فانه أمر وجودي لا يتحقق بمقايسته إلى الظلمة التى هي عدمية، وتكثيره تصورا بحسب قياسه التصورى إلى الظلمة لا يوجب تعدده وتكثره حقيقة. قوله تعالى: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) مسوق للتعجب المشوب بلوم أي إن الله سبحانه بخلقه السماوات والارض وجعله الظلمات والنور متوحد بالالوهية متفرد بالربوبية لا يماثله شئ ولا يشاركه، ومن العجب أن الذين كفروا مع اعترافهم بان الخلق والتدبير لله بحقيقة معنى الملك دون الاصنام التى اتخذوها آلهة يعدلون بالله غيره من أصنامهم ويسوون به اوثانهم فيجعلون له أندادا تعادله بزعمهم فهم ملومون على ذلك. وبذلك يظهر وجه الاتيان بثم الدال على التاخير والتراخى فكان المتكلم لما وصف تفرده بالصنع والايجاد وتوحده بالالوهية والربوبية ذكرمزعمة المشركين وأصحاب الاوثان أن هذه الحجارة والاخشاب المعمولة أصناما يعدلون بها رب العالمين فشغله التعجب
________________________________________
[ 8 ]
زمانا وكفه عن التكلم ثم جرى في كلامه وأشار إلى وجه سكوته، وأن حيرة التعجب كان هو المانع عن جريه في كلامه فقال: الذين كفروا بربهم يعدلون. قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا) يشير إلى خلقة العالم الانساني الصغير بعد الاشارة إلى خلق العالم الكبير فيبين أن الله سبحانه هو الذى خلق الانسان ودبر أمره بضرب الاجل لبقائه الدنيوي ظاهرا فهو محدود الوجود بين الطين الذى بدأ منه خلق نوعه وإن كان بقاء نسله جاريا على سنه الازدواج والوقاع كما قال تعالى: (وبدأخلق الانسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين) (السجدة: 8). وبين الاجل المقضى الذى يقارن الموت كما قال تعالى، (كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا يرجعون) (العنكبوت: 57) ومن الممكن أن يراد بالاجل ما يقارن الرجوع إلى الله سبحانه بالبعث فان القرآن الكريم كانه يعد الحياة البرزخية من الدنيا كما يفيده ظاهر قوله تعالى: (قال كم لبثتم في الارض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسال العادين، قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون) (المؤمنون: 114)، وقال ايضا: و (يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون، ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون، وقال الذين أوتوا العلم وإلايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون) (الروم: 56). وقد أبهم أمرالاجل بإتيانه منكرا في قوله: (ثم قضى أجلا) للدلالة على كونه مجهولا للانسان لا سبيل له إلى المعرفة به بالتوسل إلى العلوم العادية. قوله تعالى: (وأجل مسمى عنده) تسمية الاجل تعيينه فإن العادة جرت في العهود والديون ونحو ذلك بذكرالاجل وهو المدة المضروبة أو آخر المدة باسمه، وهو الاجل المسمى، قال تعالى: (إذا تداينتم بدين إلى اجل مسمى فاكتبوه) (البقره: 282) وهو الاجل بمعنى آخر المدة المضروبة، وكذا قوله تعالى: (من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لات) (العنكبوت: 5) وقال تعالى في قصة موسى وشعيب: (قال إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتى هاتين على أن تأجرني ثمانى حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك - إلى أن قال - قال ذلك بينى وبينك أيما الاجلين قضيت فلا عدوان على) (القصص: 28) وهو الاجل بمعنى تمام المدة المضروبة.
________________________________________
[ 9 ]
والظاهر أن الاجل بمعنى آخرالمدة فرع الاجل بمعنى بمعنى تمام المدة استعمالا أي إنه استعمل كثيرا (الاجل المقضى) ثم حذف الوصف واكتفى بالموصوف فأفاد األاجل معنى الاجل المقضى، قال الراغب في مفرداته: يقال للمدة المضروبة لحياة الانسان (اجل) فيقال: دنا أجله عبارة عن دنو الموت، وأصله استيفاء الاجل، انتهى. وكيف كان فظاهر كلامه تعالى أن المراد بالاجل والاجل المسمى هو آخر مدة الحياة لاتمام المدة كما يفيده قوله: (فإن إجل الله لات) الاية. فتبين بذلك أن الاجل اجلان: الاجل على إبهامه، والاجل المسمى عند الله تعالى. وهذا هو الذى لا يقع فيه تغير لمكان تقييده بقوله (عنده) وقد قال تعالى: (وما عند الله باق) (النحل: 96) وهو الاجل المحتوم الذى لا يتغير ولا يتبدل قال تعالى: (إذا جاء اجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) (يونس 49).. فنسبة الاجل المسمى إلى الاجل غير المسمى نسبة المطلق المنجز إلى المشروط المعلق فمن الممكن أن يتخلف المشروط المعلق عن التحقق لعدم تحقق شرطه الذى علق عليه بخلاف المطلق المنجز فإنه لا سبيل إلى عدم تحققه البته. والتدبر في الايات السابقة منضمة إلى قوله تعالى: (لكل أجل كتاب، يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) (الرعد: 39) يفيد أن الاجل المسمى هو الذى وضع في أم الكتاب، وغير المسمى من الاجل هو المكتوب فيما نسميه بلوح المحو وإلاثبات، وسيأتى إن شاء الله تعالى أن أم الكتاب قابل الانطباق على الحوادث الثابتة في العين أي الحوادث من جهة استنادها إلى الاسباب العامة التى لا تتخلف عن تأثيرها، ولوح المحو والاثبات قابل الانطباق على الحوادث من جهة استنادها إلى الاسباب الناقصة التى ربما نسميها بالمقتضيات التى يمكن اقترانها بموانع تمنع من تأثيرها. واعتبر ما ذكر من أمر السبب التام والناقص بمثال إضاءة الشمس فإنا نعلم أن هذه الليلة ستنقضي بعد ساعات وتطلع علينا الشمس فتضئ وجه الارض لكن يمكن أن يقارن ذلك بحيلولة سحابة أو حيلولة القمرأو أي مانع آخر فتمنع من الاضاءة وأما إذا كانت الشمس فوق الافق ولم يتحقق أي مانع مفروض بين الارض وبينها فإنها تضئ وجه الارض لا محاله.
________________________________________
[ 10 ]
بيان فطلوع الشمس وحده بالنسبه إلى الاضاءة بمنزلة لوح المحو والاثبات، وطلوعها مع حلول وقته وعدم أي حائل مفروض بينها وبين الارض بالنسبة إلى الاضاءة بمنزلة أم الكتاب المسمى باللوح المحفوظ. فالتركيب الخاص الذى لبنية هذا الشخص الانساني مع ما في أركانه من الاقتضاء المحدود يقتضى أن يعمر العمر الطبيعي الذى ربما حددوه بمائة أو بمائة وعشرين سنة وهذا هو المكتوب في لوح المحو وإلاثبات مثلا غير أان لجميع أجزاء الكون ارتباطا وتاثيرا في الوجود الانساني فربما تفاعلت الاسباب والموانع التى لا نحصيها تفاعلا لا نحيط به فأدى إلى حلول أجله قبل أن ينقضى الامد الطبيعي، وهو المسمى بالموت الاخترامى. وبهذا يسهل تصور وقوع الحاجة بحسب ما نظم الله الوجود إلى الاجل المسمى وغير المسمى جميعا، وأن الابهام الذى بحسب الاجل غير المسمى لا ينافى التعين بحسب الاجل المسمى، وأن الاجل غير المسمى والمسمى ربما توافقا وربما تخالفا والواقع حينئذ هو الاجل المسمى البته. هذا ما يعطيه التدبر في قوله: (ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده) وللمفسرين تفسيرات غريبه للاجلين الواقعين في الاية: منها: أن المراد بالاجل الاول ما بين الخلق والموت والثانى ما بين الموت والبعث، ذكره عدة من الاقدمين وربما روى عن ابن عباس. ومنها: أن الاجل الأول أجل أهل الدنيا حتى يموتوا، والثانى أجل الاخرة الذى لا آخر له، ونسب إلى المجاهد والجبائي وغيرهما. ومنها: أن الاجل الاول أجل من مضى، والثانى أجل من بقى من سيأتي ونسب إلى أبى مسلم. ومنها: أن الاجل الاول النوم، والثانى الموت. ومنها: أن المراد بالاجلين واحد، وتقدير الاية الشريفة ثم قضى أجلا وهذا أجل مسمى عنده. ولا أرى الاشتغال بالبحث عن صحة هذه الوجوه وأشباهها وسقمها يسوغه
________________________________________
[ 11 ]
الوقت على ضيقه، ولا يسمح بإباحته العمر على قصره. قوله تعالى: (ثم أنتم تمترون) من المرية بمعنى الشك والريب، وقد وقع في الاية التفات من الغيبة إلى الحضور، وكأن الوجه فيه أن الاية الاولى تذكر خلقا وتدبيرا عاما ينتج من ذلك أن الكفار ما كان ينبغى لهم أن يعدلوا بالله سبحانه غيره، وكان يكفى في ذلك ذكرهم بنحو الغيبة لكن الايه الثانيه تذكر الخلق والتدبير الواقعين في الانسان خاصة فكان من الحرى الذى يهيج المتكلم المتعجب اللائم أن يواجههم بالخطاب ويلومهم بالتجبيه كأنه يقول: هذا خلق السماوات والارض وجعل الظلمات والنور عذرناكم في الغفلة عن حكمه لكون ذلك امرا عاما ربما أمكن الذهول عما يقتضيه فما عذركم أنتم في امترائكم فيه وهو الذى خلقكم وقضى فيكم أجلا وأجل مسمى عنده ؟. قوله تعالى: (وهو الله في السماوات وفي الارض) الايتان السابقتان تذكران الخلق والتدبير في العوالم عامة وفي الانسان خاصة، ويكفى ذلك في التنبه على أن الله سبحانه هو الاله الواحد الذى لا شريك له في خلقه وتدبيره. لكنهم مع ذلك أثبتوا آلهه أخرى وشفعاء مختلفه لوجوه التدبير المختلفة كإله الحياة وإله الرزق وإله البر وإله البحر وغير ذلك، وكذا للانواع والاقوام والامم المتشتته كإله السماء وإله هذه الطائفة وإله تلك الطائفة فنفى ذالك بقوله: (وهو الله في اسماوات وفى الارض). فالاية نظيرة، قوله: (وهو الذى في السماء إله وفي الارض إله وهو الحكيم العليم) (الزخرف: 84) مفادها انبساط حكم ألوهيته تعالى في السماوات وفي الارض من غير تفاوت أو تحديد، وهى إيضاح لما تقدم وتمهيد لما يتلوها من الكلام. قوله تعالى: (يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) السر والجهر متقابلان وهما وصفان للاعمال، فسرهم ما عملوه سرا وجهرهم ما عملوه جهرا من غير ستر. وأما ما يكسبون فهو الحال النفساني الذى يكسبه الانسان بعمله السرى والجهرى من حسنة أو سيئه فالسر والجهر المذكوران - كما عرفت - وصفان صوريان لمتون الاعمال الخارجية، وما يكسبونه حال روحي معنوى قائم بالنفوس فهما مختلفان بالصورية
________________________________________
[ 12 ]
والمعنوية، ولعل اختلاف المعلومين من حيث نفسهما هو الموجب لتكرار ذكرالعلم في قوله: (يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون. والاية كالتمهيد لما ستتعرض له من أمر الرسالة والمعاد فإن الله سبحانه لما كان عالما بما يأتي به الانسان من عمل سرا أو جهرا، وكان عالما بما يكسبه لنفسه بعمله من خير أو شر، وكان إليه زمام التربية والتدبير كان له أن يرسل رسولا بدين يشرعه لهداية الناس على الرغم مما يصر عليه الوثنيون من الاستغناء عن النبوة كما قال تعالى: (إن علينا للهدى) الليل: 12). وكذا هو تعالى لما كان عالما بالاعمال وبتبعاتها في نفس الانسان كان عليه أن يحاسبهم في يوم لا يغادر منهم أحدا كما قال تعالى: (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار) (ص: 28). (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن الحسن بن على بن أبى حمزة قال قال أبو عبد الله عليه السلام: إن سورة الانعام نزلت جملة، شيعها سبعون ألف ملك حتى أنزلت على محمد صلى الله عليه وآله فعظموها وبجلوها فإن اسم الله عز وجل فيها في سبعين موضعا، ولو يعلم الناس ما في قراءتها ما تركوها. أقول: ورواه العياشي عنه عليه السلام مرسلا. وفي تفسير القمى قال حدثنى أبى عن الحسين بن خالد عن الرضا عليه السلام قال: نزلت الانعام جملة واحدة، يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتهليل والتكبير فمن قرأها استغفروا له إلى يوم القيامة. أقول: ورواه في المجمع أيضا عن الحسين بن خالد عنه عليه السلام إلا أنه قال: سبحوا له إلى يوم القيامة. وفي تفسير العياشي عن أبى بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن سورة
________________________________________
[ 13 ]
الانعام نزلت جملة واحدة وشيعها سبعون ألف ملك حين أنزلت على رسول الله صلى الله عليه واله فعظموها وبجلوها فإن اسم الله عزوجل فيها سبعين موضعا، ولو يعلم الناس ما في قراءتها من الفضل ما تركوها، الحديث. وفي جوامع الجامع للطبرسي قال: في حديث أبى بن كعب عن النبي صلى الله عليه واله قال: أنزلت على الانعام جملة واحدة - يشيعها سبعون ألف ملك لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأها صلى عليه اولئك السبعون ألف ملك - بعدد كل آية من الانعام يوما وليلة، أقول: ورواه في الدر المنثور عنه بعدة طرق. وفي الكافي بإسناده عن ابن محبوب عن أبى جعفر الاحول عن سلام بن المستنير عن أبى جعفر عليه السلام قال: إن الله خلق الجنة قبل أن يخلق النار، وخلق الطاعة قبل أن يخلق المعصية، وخلق الرحمة قبل الغضب، وخلق الخير قبل الشر وخلق الارض قبل السماء، وخلق الحياة قبل الموت، وخلق الشمس قبل القمر، وخلق النورقبل الظلمة. أقول: خلق النور قبل الظلمة بالنظر إلى كون الظلمة عدميا مضافا إلى النور ظاهر المعنى، وأما نسبة الخلق إلى الطاعة والمعصية فليس يلزم منها بطلان الاختيار فإن بطلانه يستلزم بطلان نفس الطاعة والمعصية فلا تبقى لنسبتهما إلى الخلق وجه صحة بل المراد كونه تعالى يملكهما كما يملك كل ما وقع في ملكه، وكيف يمكن أن يقع في ملكه ما هو خارج عن إحاطته وسلطانه ومنعزل عن مشيته وإذنه ؟. ولا دليل على انحصار الخلق في الايجاد والصنع الذى لا واسطه فيه حتى يكون تعالى مستقلا بايجاد كل ما نسب خلقه إليه فيكون إذا قيل: إن الله خلق العدل أو القتل مثلا إنه أبطل إرادة الانسان العادل أو القاتل، واستقل هو بالعدل والقتل بإذهاب الواسطة من البين فافهم ذلك، وقد تقدم استيفاء البحث عن هذا المعنى في الجزء الاول من الكتاب. وبنظير البيان يتبين معنى نسبة الخلق إلى الخير والشر إيضا، سواء كانا خيرا وشرا في الامور التكوينية أو في الافعال. وأما كون الطاعة مخلوق قبل المعصية، وكذا الخير قبل الشر فيجرى ايضا في
________________________________________
[ 14 ]
بيانه نظير ما تقدم من بيان كون النور قبل الظلمة من أن النسبة بينهما نسبة العدم والملكة والعدم يتوقف في تحققه على الملكة ويظهربه أن خلق الحياة قبل الموت. وبذلك يتبين أن خلق الرحمة قبل الغضب فإن الرحمة متعلقة بالطاعة والخير والغضب متعلق بالمعصية والشر، والطاعة والخير قبل المعصية والشر. وأما خلق الارض قبل السماء فيدل عليه قوله تعالى: (خلق الارض في يومين - ألى أن قال - ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللارض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين، فقضاهن سبع سماوات في يومين) (حم السجدة: 12). وأما كون خلق الشمس قبل القمر فليس كل البعيد أن يستفاد من قوله تعالى: و (الشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها) (الشمس: 2) وقد رجحت الابحاث الطبيعية اليوم أن الارض مشتقة من الشمس والقمر مشتق من الارض. وفي تفسير العياشي عن جعفر بن أحمد عن العمركى بن على عن العبيدي عن يونس بن عبد الرحمن عن على بن جعفر عن أبى إبراهيم عليه السلام قال: لكل صلاة وقتان، ووقت يوم الجمعة زوال الشمس ثم تلا هذه الاية: (الحمد لله الذى خلق السماوات والارض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) قال: يعدلون بين الظلمات والنور وبين الجور والعدل. أقول: وهذا معنى آخر للاية وبناؤه على جعل قوله: (بربهم) متعلقا بقوله (كفروا) دون (يعدلون). وفي الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن فضال عن ابن بكير عن زرارة عن حمران عن أبى جعفر عليه السلام قال: سألت عن قول الله عزوجل (قضى أجلا وأجل مسمى عنده) قال: هما أجلان أجل محتوم وأجل موقوف. وفي تفسير العياشي عن حمران قالت سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله: (قضى أجلا وأجل مسمى) قال: فقال: هما أجلان، أجل موقوف يصنع الله ما يشاء، وأجل محتوم. وفي تفسير العياشي عن مسعدة بن صدة عن أبى عبد الله عليه السلام: في قوله: (ثم
________________________________________
[ 15 ]
قضى أجلا وأجل مسمى عنده) قال: الاجل الذى غير مسمى موقوف يقدم منه ما شاء، وأما ا لاجل المسمى فهو الذى ينزل مما يريد أن يكون من ليلة القدر إلى مثلها. قال: فذلك قول الله: (إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون). وفيه عن حمران عن أبى عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله: (أجلا وأجل مسمى عنده) قال: المسمى ما سمى لملك الموت في تلك الليلة، وهو قال الله (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) وهو الذى سمى لملك الموت في ليلة القدر، والاخر له فيه المشية إن شاء قدمه، وإن شاء أخره. أقول: وفي هذا المعنى غيرها من الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، والذى يدل عليه من معنى الاجل المسمى وغيره هو الذى تقدمت استفادته من الايات الكريمه. وفي تفسير على بن إبراهيم قال: حدثنى أبى عن النضر بن سويد عن الحلبي عن عبد الله بن مسكان عن أبى عبد الله عليه السلام قال: الاجل المقضى هو المحتوم الذى قضاه الله وحتمه، والمسمى هو الذى فيه البداء يقدم ما يشاء ويؤخر ما شاء، والمحتوم ليس فيه تقديم ولا تأخير. أقول: وقد غلط بعض من في طريق الرواية فعكس المعنى وفسر كلا من المسمى وغيره بمعنى الاخر. على أن الرواية لا تتعرض لتفسير الاية فلا كثير ضير في قبولها. وفي تفسير العياشي عن الحصين عن أبى عبد الله عليه السلام في قوله: (قضى أجلا وأجل مسمى عنده) قال: ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: الاجل الاول هو ما نبذه إلى الملائكة والرسل والانبياء، والاجل المسمى عنده هو الذى ستره الله عن الخلائق. أقول: ومضمون الرواية ينافى ما تقدمت من الروايات ظاهرا، ولكن من الممكن أن يستفاد من قوله: (نبذه) أن المراد أنه تعالى أعطاهم الاصل الذى تستنبط منه الاجال غير المسماة وأما الاجل المسمى فلم يسلط احدا على علمه بمعنى أن ينبذ إليه نورا يكشف به كل أجل مسمى إذا أريد ذلك، وإن كان تعالى يسميه لملك الموت أو لانبيائه ورسله إذا شاء، وذلك كالغيب يختص علمه به تعالى، وهو مع ذلك يكشف عن شئ منه لمن ارتضاه من رسول إذا شاء ذلك.
________________________________________
[ 16 ]
وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه بإسناده عن مثنى الحناط عن أبى جعفر - أظنه محمد بن النعمان - قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل: (وهو الله في السماوات وفي الارض) قال: كذلك هو في كل مكان، قلت: بذاته ؟ قال: ويحك إن الاماكن أقدار فإذا قلت: في مكان بذاته لزمك أن تقول: في أقدار وغير ذلك ولكن هو بائن من خلقه محيط بما خلق علما وقدرة وإحاطة وسلطانا وليس علمه بما في الارض بأقل مما في السماء. ولا يبعد منه شئ، والاشياء له سواء علما وقدرة وسلطانا وملكا وإرادة. * * * وما تأتيهم من آيه من آيات ربهم الا كانوا عنها معرضين - 4. فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤون - 5. ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الارض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الانهار تجرى من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين - 6. ولو نزلنا عليك كتابافى قرطاس فلمسوه بايديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين - 7. وقالوا لو لا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر ثم لا ينظرون - 8. ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون - 9. ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤن - 10. قل سيروا في الارض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين - 11.
________________________________________
[ 17 ]
(بيان) الايات إشارة إلى تكذيبهم الحق الذي أرسل به الرسول وتماديهم في تكذيب الحق والاستهزاء بآيات الله سبحانه ثم موعظة لهم وتخويف وإنذار وجواب عن بعض ما لغوا به في إنكار الحق الصريح. قوله تعالى: (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين) إشارة إلى أن سجية الاستكبار رسخت في نفوسهم فأنتجت فيهم الاعراض عن الايات الدالة على الحق فلا يلتفتون إلى آية من الايات من غير تفاوت بين آية وآية لانهم كذبوا بالاصل المقصود الذى هو الحق، وهو قوله تعالى: (فقد كذبوا بالحق لما جاءهم). قوله تعالى: (فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن) تخويف وإنذار فإن الذى يستهزؤن به حق، والحق يأبى إلا أن يظهر يوما ويخرج من حد النبا إلى حد العيان قال تعالى: (ويمحوا الله الباطل ويحق الحق بكلماته) ا (لشورى: 24)، وقال: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون. هو الذى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (الصف: 9) وقال في مثل ضربه: (كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض) (الرعد: 17). ومن المعلوم أن الحق إذا ظهر لم يستوف مساسه المؤمن والكافر والخاضع والمستهزئ، قال تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون فتول عنهم حتى حين وإبصرهم فسوف يبصرون أفبعذابنا يستعجلون فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين) (الصافات: 177). قوله تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن) إلى آخر الايه، قال الراغب: القرن القوم المقترنون في زمن واحد وجمعه قرون انتهى. وقال أيضا: قال تعالى: (وأرسلنا السماء عليهم مدرارا) يرسل السماء عليكم مدرارا) وأصله من الدر - بالفتح - والدرة - بالكسر - أي اللبن، ويستعار ذلك للمطر استعارة أسماء البعير وأوصافه فقيل: لله دره ودر درك، ومنه استعير قولهم
________________________________________
[ 18 ]
غسوق درة أي نفاق - بالفتح - انتهى. وفى قوله تعالى: (مكناهم في الارض ما لم نمكن لكم) التفات من الغيبة إلى الحضور، والوجه فيه ظاهرا رفع اللبس من جهة مرجع الضمير فلو لا الالتفات إلى الحضور في قوله: (ما لم نمكن لكم) أوهم السياق رجوعه إلى ما يرجع إليه الضمير في قوله: (مكنالهم) وإلا فأصل السياق في مفتتح السورة للغيبة، وقد تقدم الكلام في الالتفات الواقع في قوله: (هو الذى خلقكم من طين). وفي قوله: (فأهلكناهم بذنوبهم) دلالة على أن للسيئات والذنوب دخلا في البلايا والمحن العامة، وفي هذا المعنى وكذا في معنى دخل الحسنات والطاعات في إفاضات النعم ونزول البركات آيات كثيره. قوله تعالى: (ولوأنزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم) إلى آخر الايه، إشارة إلى أن استكبارهم قد بلغ مبلغا لا ينفع معه حتى لو انزلنا كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم فناله حسهم بالبصر والسمع، وتأيد بعض حسهم ببعض فإنهم قائلون حينئذ لا محالة: هذا سحر مبين، فلا ينبغى أن يعبأ باللغو من قولهم: (ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه) (الاسراء: 93). وقد نكر الكتاب في قوله: (كتابا في قرطاس) لان هذا الكتاب نزل نوع تنزيل لا يقبل إلا التنزيل نجوما وتدريجا، وقيده بكونه في قرطاس ليكون أقرب إلى ما اقترحوه، وأبعد مما يختلج في صدورهم أن الايات النازلة على النبي صلى الله عليه واله من منشآت نفسه من غير أن ينزل به الروح الامين على ما يذكره الله سبحانه. (نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين) (الشعراء: 195). قوله تعالى: (وقالوا لو لا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر ثم لا ينظرون) قولهم (لو لا أنزل عليه ملك) تحضيض للتعجيز، وقد أخبرهم النبي صلى الله عليه واله بما كان يتلو عليهم من آيات الله النازلة عليه أن الذى جاء به إليه ملك كريم نازل من عند الله كقوله تعالى: (إنه لقول رسول كريم، ذى قوة عند ذى العرش مكين، مطاع ثم أمين) (كورت: 21) إلى غيرها من الايات. فسؤالهم إنزال الملك إنما كان لاحد أمرين على ما يحكيه الله عنهم في كلامه:
________________________________________
[ 19 ]
أحدهما: أن يأتيهم بما يعدهم النبي من العذاب كما قال تعالى: (فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود) (حم السجدة: 13) وقال: (قل هو نبأ عظيم - إلى أن قال - إن يوحى إلى إإلا أنما أنا نذير مبين) (ص: 70). ولما كان نزول الملك انقلابا للغيب إلى الشهادة، ولا مرمى بعده استعقب إن لم يؤمنوا - ولن يؤمنوا بما استحكم فيهم من قريحة الاستكبار - القضاء بينهم بالقسط، ولا محيص حينئذ عن إهلاكهم كما قال تعالى: (ولو أنزلنا ملكا لقضى بينهم ثم لا ينظرون). على أن نفوس الناس المتوغلين في عالم المادة القاطنين في دار الطبيعة لا تطيق مشاهدة الملائكة لو نزلوا عليهم واختلطوا بهم لكون ظرفهم غير ظرفهم فلو وقع الناس في ظرفهم لم يكن ذلك إلا انتقالا منهم من حضيض المادة إلى ذروة ما وراها وهو الموت كما قال تعالى: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا، يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا) (الفرقان: 22) وهذا هو يوم الموت أو ما هوبعده بدليل قوله بعده (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) (الفرقان: 24). وقال تعالى بعده - وظاهر السياق أنه يوم آخر -: (ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا، الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا) (الفرقان: 26) ولعلهم إياه كانوا يعنون بقولهم: (أو تأتى بالله والملائكة قبيلا) (الاسراء: 92). وبالجملة فقوله تعالى: (ولو أنزلنا ملكا لقضى الامر) الخ، جواب عن اقتراحهم نزول الملك ليعذبهم، وعلى هذا ينبغى أن يضم إليه ما وعده الله هذه الامة أن يؤخر عنهم العذاب كما تشير إليه الايات من سورة يونس: (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون، ويقولون متى هذا الوعدإن كنتم صادقين، قل لا املك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله لكل إمة أجل - إلى أن قال - ويستنبئونك أحق هو قل إى وربى إنه لحق وما أنتم بمعجزين) (يونس: 53) وفي هذا المعنى آيات أخرى كثيرة سنستوفى البحث عنها في سورة اخرى إن شاء الله. وقال تعالى: (وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون)
________________________________________
[ 20 ]
(الانفال: 33). فالمتحصل من الاية أنهم يسألون نزول الملك، ولا نجيبهم إلى ما سألوه لانه لو نزل الملك لقضى بينهم ولم ينظروا وقد شاء الله أن ينظرهم إلى حين فليخوضوا فيما يخوضون حتى يلاقوا يومهم، وسيوافيهم ما سألوه فيقضى الله بينهم. ويمكن أن يقرر معنى الاية على نحو آخر وهو أن يكون مرادهم أن ينزل الملك ليكون آية لا ليأتيهم بالعذاب، ويكون المراد من الجواب أنه لو نزل عليهم لم يؤمنوا به لما تمكن فيهم من رذيلة العناد والاستكبار وحينئذ قضى بينهم وهم لا ينظرون، وهم لا يريدون ذلك. وثانيهما: أن ينزل عليهم الملك ليكون حاملا لاعباء الرسالة داعيا إلى الله مكان النبي صلى الله عليه وآله أو يكون معه رسولا مثله مصدقا لدعوته شاهدا على صدقه كما في قولهم فيما حكى الله: (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشى في الاسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) ال (فرقان: 7). فإنهم يريدون أن الذى هو رسول من جانب الله لا يناسب شأنه أن يشارك الناس في عادياتهم من أكل الطعام واكتساب الرزق بالمشى في الاسواق بل يجب أن يختص بحياة سماوية وعيشة ملكوتية لا يخالطه تعب السعي وشقاء الحياة المادية فيكون على أمر بارز من الدعوة أو ينزل معه ملك سماوي فيكون معه نذيرا فلا يك في حقية دعوته وواقعية رسالته. وهذا هو الذى تجيب عنه الاية التالية: (ولو جعلناه ملكا) الخ. قوله تعالى: (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون) اللبس بالفتح الستر بساتر لما يجب ستره لقبحه أو لحاجته إلى ذلك، واللبس بالضم التغطية على الحق، وكان المعنى استعارى والاصل واحد. قال الراغب في المفردات: لبس الثواب استتر به وألبسه غيره - إلى أن قال - وأصل اللبس (بضم اللام) ستر الشئ ويقال ذلك في المعاني يقال: لبست عليه أمره قال: وللبسنا عليهم ما يلبسون وقال: ولا تلبسوا الحق بالباطل، لم تلبسون الحق بالباطل، الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم، ويقال: في الامر لبسه أي التباس، انتهى.
________________________________________
[ 21 ]
ومعمول يلبسون محذوف، وربما استفيد من ذلك العموم والتقدير يلبس الكفار على أنفسهم أعم من لبس البعض على نفسه، ولبس البعض على البعض الاخر. أما لبسهم على غيرهم فكما يلبس علماء السوء الحق بالباطل لجهلة مقلديهم وكما يلبس الطواغيت المتبعون لضعفة أتباعهم الحق بالباطل كقول فرعون فيما حكى الله لقومه: (يا قوم أ ليس لى ملك مصر وهذه الانهار تجرى من تحتي افلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذى هو مهين ولا يكاد يبين، فلو لا ألقى عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين، فاستخف قومه فأطاعوه) (الزخرف: 54) وقوله: (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد) (المؤمن: 29). وأما لبسهم على أنفسهم فهو بتخييلهم إلى أنفسهم إن الحق باطل وأن الباطل حق ثم تماديهم على الباطل فإن الانسان وإن كان يميز الحق من الباطل فطرة الله التى فطر الناس عليها، وكان تلهم نفسه فجورها وتقواها غير أن تقويته جانب الهوى وتأييده روح الشهوة والغضب من نفسه تولد في نفسه ملكة الاستكبار عن الحق، والاستعلاء على الحقيقة فتنجذب نفسه إليه، وتغتر بعمله، ولا تدعه يلتفت إلى الحق ويسمع دعوته، وعند ذاك يزين له عمله، ويلبس الحق بالباطل وهو يعلم كما قال تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة) (الجاثيه: 23) وقال: (قل هل ننبئكم بالاخسرين اعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) (الكهف: 104). وهذا هو المصحح لتصوير ضلال الانسان في أمر مع علمه به فلا يرد عليه أن لبس الانسان على نفسه الحق بالباطل إقدام منه على الضرر ا لمقطوع وهو غير معقول. على أنا لو تعمقنا في أحوال أنفسنا ثم أخذنا بالنصفه عثرنا على عادات سوء نقضى بمساءتها لكنا لسنا نتركها لرسوخ العادة وليس ذلك إلا من الضلال على علم، ولبس الحق بالباطل على النفس والتلهى باللذة الخيالية والتوله إليها عن التثبت على الحق والعمل به، أعاننا الله تعالى على مرضاته. وعلى أي حال فقوله تعالى: (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) الخ، الجواب عن
________________________________________
[ 22 ]
مسألتهم نزول الملك ليكون نذيرا فيؤمنوا به. ومحصله أن الدار دار اختيار لا تتم فيها للانسان سعادته الحقيقية إلا بسلوكه مسلك الاختيار، واكتسابه لنفسه أو على نفسه ما ينفعه في سعادته أو يضره، وسلوك أي الطريقين رضى لنفسه أمضى الله سبحانه له ذلك. قال تعالى: (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) الدهر: 3) فإنما هي هداية وإراءة للطريق ليختار ما يختاره لنفسه من التطرق والتمرد من غير أن يضطر إلى شئ من الطريقين ويلجإ إلى سلوكه بل يحرث لنفسه ثم يحصد ما حرث، قال تعالى: (وأن ليس للانسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الاوفى) (النجم: 41) فليس للانسان إلا مقتضى سعيه فإن كان خيرا أراه الله ذلك وإن كان شرا أمضاه له، قال تعالى: (من كان يريد حرث الاخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الاخرة من نصيب) (الشورى: 20). وبالجملة هذة الدعوة الالهيه لا يستقيم أمرها إلا أن توضع على الاختيار الانساني من غير اضطرار والجاء، فلا محيص عن أن يكون الرسول الحامل لرسالات الله أحدا من الناس يكلمهم بلسانهم فيختاروا لانفسهم قبول الدعوة باية سماوية يلجئهم إليه وإن قدر على ذلك كما قال: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين، إن نشأ ننزل عليهم من السماء آيه فظلت أعناقهم لها خاضعين) (الشعراء: 4).. فلو أنزل الله إليهم ملكا رسولا لكان من واجب الحكمة أن يجعله رجلا مثلهم فيربح الرابحون باكتسابهم ويخسر الخاسرون فيلبسوا الحق بالباطل على أنفسهم وعلى أتباعهم كما يلبسون مع الرسول البشرى فيمضى الله ذلك ويلبس عليهم كمالبسوا، قال تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) (الصف: 5). فإنزال الملك رسولا لا يترتب عليه من النفع والاثر أكثر مما يترتب على إرسال الرسول البشرى، ويكون حينئذ لغوا فقول الذين كفروا: لو لا أنزل إليه ملك ليس إلا سؤالا لامر لغو لا يترتب عليه بخصوصه أثر خاص جديد كما رجوا، فهذا معنى قوله:
________________________________________
[ 23 ]
(ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون). فظهر مما تقدم من التوجيه أولا أن الملازمة بين جعل الرسول ملكا وجعله رجلا إنما هي من جهة إيجاب الحكمة حفظ الاختيار الانساني في الدعوة الدينية الالهية إذ لو أنزل الملك على صورته السماوية وبدل الغيب شهادة كان من الالجاء الذى لا تستقيم معه الدعوة الاختيارية. وثانيا: أن الذى تدل عليه الاية هو صيرورة الملك رجلا مع السكوت عن كون ذلك هل هو بقلب ماهية الملكية إلى الماهية الانسانية - الذى ربما يحيله عدة من الباحثين - أو بتمثيله مثالا إنسانيا كتمثل الروح لمريم بشرا سويا، وتمثل الملائكة الكرام لابراهيم ولوط في صورة الضيفان من الادميين. وجل الايات الواردة في مورد الملائكة وإن كان يؤيد الثاني من الوجهين لكن قوله تعالى: (ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكه في الارض يخلفون) (الزخرف: 60) لا يخلو عن دلالة ما على الوجه الاول، وللبحث ذيل ينبغى أن يطلب من محل آخر. وثالثا: أن قوله تعالى: (وللبسنا عليهم ما يلبسون) من قبيل قوله تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) (الصف: 5) فهو إضلال إلهى لهم بعد ما استحبوا الضلال لانفسهم من غير أن يكون إضلالا ابتدائيا غير لائق بساحة قدسه سبحانه. ورابعا: أن متعلق يلبسون المحذوف أعم يشمل لبسهم على أنفسهم ولبس بعضهم على بعض. وخامسا: أن محصل الاية احتجاج عليهم بإنه لو أنزل عليهم ملك بالرسالة لم ينفعهم ذلك في رفع حيرتهم فأن الله جاعل الملك عندئذ رجلا يماثل الرسول البشرى وهم لابسون على أنفسهم معه متشككون فإنهم لا يريدون بهذه المسالة إلا أن يتخلصوا من الرسول البشرى الذى هو في صورة رجل ليبدلوا بذلك شكهم يقينا وإذا صار الملك على هذا النعت - ولا محالة - فهم لا ينتفعون بذلك شيئا. وسادسا: أن في التعبير: (لجعلناه رجلا) ولم يقل: لجعلناه بشرا ليشمل الرجل والمرأة جميعا إشعارا - كما قيل - بأن الرسول لا يكون إلا رجلا كما أن التعبير لا يخلو
________________________________________
[ 24 ]
من إشعار بأن هذا الجعل إنما هو بتمثل الملك في صورة الانسان دون انقلاب هويته إلى هوية الانسان كما قيل. وغالب المفسرين وجهوا الاية بأن المراد: أنهم لما كانوا لا يطيقون رؤيه الملك في صورته الاصلية لتوغلهم في عالم المادة فلو ارسل إليهم ملك لم يكن بد من تمثله لهم بشرا سويا، وحينئذ كان يبدو لهم من اللبس والشبهة ما يبدو مع الرسول من البشر ولم ينتفعوا به شيئا. وهذا التوجيه لا يفى باستقامة الجواب، وإن سلمنا أن الانسان العادى لا تسعه مشاهدة الملائكة في صورهم الاصلية بالاستناد إلى أمثال قوله تعالى: (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين) (الفرقان: 22). وذلك أن شهود الملك في صورته الاصلية لو كان محالا على الانسان لم يختلف فيه حال الافراد الانسانية بالجواز والامتناع، وقد ورد في روايات الفريقين أن النبي صلى الله عليه واله راى جبرئيل في صورته الاصلية مرتين، ومن المقدور لله أن يقوى سائر الناس على ما قوى عليه نبيه فيعاينوهم ويؤمنوا بهم، ولا محذور فيه بحسب الحكمة إلا محذور الالجاء فهو المحذور الذى يجب أن يدفع بالاية كما تقدم. وكذا مشاهدة الملك في صورة الادميين لا تلازم جواز ا لشك واللبس فإن الله سبحانه يخبر عن إبراهيم ولوط عليهم السلام أنهما عاينا الملائكة في صورة الادميين ثم عرفهم ولم يشكا في أمرهم، وكذا أخبر عن مريم انها شاهدت الروح ثم عرفته ولم تشك فيه ولا التبس عليها أمره فلم لم يكن من الجائز أن يكون حال سائر الناس حالهم عليهم السلام في معاينة الملك في صورة الانسان ثم معرفته واليقين بأمره ؟ لولا أن جعل نفوس الناس جمعيا كنفس أبراهيم ولوط ومريم يستلزم إمحاء غرائزهم وفطرهم، وتبديلها نفوسا طاهرة قادسة، وفيه محذور الالجاء، فالالجاء هو المحذور الذى لا يبقى معه موضوع الامتحان، وهو الذى يجب دفعه بالاية كما تقدم. قوله تعالى: (ولقد استهزئ برسل من قبلك) إلى آخر الايتين، الحيق الحلول وإلاصابة، وفي مفردات: الراغب: قيل وأصله حق فقلب نحو زل وزال، وقد قرئ: (فأزلهما الشيطان) فازالهما، وعلى هذا ذمه وذامه، انتهى.
________________________________________
[ 25 ]
وقد كان استهزاؤهم بالرسل بالاستهزاء بالعذاب الذى كانوا ينذرونهم بنزوله وحلوله فحاق بهم عين ما استهزؤا، به وفي الاية الاولى تطييب لنفس النبي صلى الله عليه واله، وإنذار للمشركين، وفي الاية الثانية أمر بالاعتبار وعظة. * * * قل لمن ما في السموات والارض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون - 12. وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم - 13. قل أ غير الله اتخذ وليا فاطر السماوات والارض وهو يطعم ولا يطعم قل إنى أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين - 14. قل إنى أخاف إن عصيت ربى عذاب يوم عظيم - 15. من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين - 16. وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شئ قدير - 17. وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير - 18. (بيان) فريق من الايات تحتج على المشركين في أمر التوحيد والمعاد فالايتان الاوليان تتضمنان البرهان على المعاد، وبقية الايات وهى خمس مسوقة للتوحيد تقيم البرهان على ذلك من وجهين على ما سيأتي. قوله تعالى: (قل لمن ما في السماوات والارض قل لله) شروع في البرهنة على المعاد، ومحصله أن الله تعالى مالك ما في السماوات والارض جميعا له أن يتصرف فيها كيف


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page