• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الجزء الأول سورة البقرة آیات 38الی48


مجمع البيان ج : 1 ص : 202
قُلْنَا اهْبِطوا مِنهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَاى فَلا خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَ لا هُمْ يحْزَنُونَ(38)
القراءة
قرأ يعقوب فلا خوف بنصب الفاء في جميع القرآن و قرأ الباقون بالرفع و التنوين و أجمعوا على إثبات الألف في « هداي » و تحريك الياء و روي عن الأعرج بسكون الياء و هو غلط إلا أن يكون نوى الوقف و روى بعضهم هدي و هي لغة هذيل يقلبون الألف إلى الياء للياء التي بعدها لأن شأن ياء الإضافة أن يكسر ما قبلها فجعل قلب الألف ياء بدل كسرها إذ الألف لا يتحرك فهو مثل علي ولدي و قالوا هوي قال أبو ذؤيب :
سبقوا هوي و أعنقوا لسبيلهم
فتخرموا و لكل جنب مضجع .

اللغة
الهبوط النزول من موضع عال إلى استفال و قد يستعمل في هبوط المنزلة قال لبيد :
كل بني حرة مصيرهم
قل و إن أكثروا من العدد
إن يغبطوا يهبطوا و إن أمروا
يوما فهم للفناء و الفند و الإتيان و المجيء و الإقبال نظائر و نقيضه الذهاب و الانصراف و الاتباع و الاقتداء و الاحتذاء نظائر و التابع التالي و في الحديث القادة و الأتباع فالقادة السادة و الأتباع الذين يتبعونهم و التبيع ولد البقرة و ثلاثة أتبعة و الجمع أتابيع و التبع الظل و الخوف و الجزع و الفزع نظائر و نقيض الخوف الأمن و طريق مخوف يخافه الناس و مخيف يخيف الناس و الحزن و الغم و الهم نظائر و نقيضه السرور يقال حزن حزنا و حزنه حزنا و يقال حزنه و أحزنه و هو محزون و محزن و قال قوم لا يقولون حزنه الأمر و يقولون يحزنه فإذا صاروا إلى الماضي قالوا أحزنه و هذا شاذ نادر لأنه استعمل أحزن و أهمل يحزن و استعمل يحزن و أهمل حزن و أصل الباب غلظ الهم مأخوذ من الحزن و هو ما غلظ من الأرض .

الإعراب
إما هو أن الجزاء دخلت عليها ما ليصح دخول نون التأكيد في الفعل و لو أسقطت لم يجز دخول النون لأنها لا تدخل في الخبر الواجب إلا في القسم أو ما أشبه
مجمع البيان ج : 1 ص : 203
القسم كقولك زيد ليأتينك و لو قلت بغير لام لم يجز و كذلك تقول بعين ما أرينك و بجهد ما تبلغن و في عضة ما ينبتن شكيرها و لو قلت بعين أرينك بغير ما لم يجز فدخول ما هاهنا كدخول اللام في أنها تؤكد أول الكلام و تؤكد النون آخره و الأمر و النهي و الاستفهام تدخل النون فيه و إن لم يكن معه ما إذ كان الأمر و النهي مما يشتد الحاجة إلى التوكيد فيه و الاستفهام مشبه به إذ كان معناه أخبرني و النون إنما تلحق للتوكيد فلذلك كان من مواضعها قال الله تعالى « لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا » قال الزجاج و إنما فتح ما قبل النون في قوله « يأتينكم » لسكون الياء و سكون النون الأولى قال أبو علي و لو كان كذلك لما حرك في نحو هل تضربن و نحوه من الصحيح لأن الساكنين لا يلتقيان في هذا النحو و في هذا ما يدل على أن هذه الحركة للبناء دون ما ذكره من التقاء الساكنين و جواب الشرط في الفاء مع الشرط الثاني و جزائه لأن الشرط و جوابه بمنزلة المبتدأ و الخبر فكما أن المبتدأ لا يتم إلا بخبره فكذلك الشرط لا يتم إلا بجزائه و لك أن تجعل خبر المبتدأ جملة هي مبتدأ و خبر كقولك زيد أبوه منطلق فكذلك أن التي للجزاء إذا كان جوابه بالفاء و وقع بعد الفاء الكلام مستأنفا صلح أن يكون جزاء و غير جزاء تقول إن تأتني فأنت مكرم و لك أن تقول أن تأتني فمن يكرمك أكرمه فقوله « إما يأتينكم » شرط و يأتينكم في موضع الجزم بإن و جزاؤه الفاء و ما بعده من قوله « فمن تبع هداي » الآية و من في موضع الرفع بالابتداء و تبع في موضع الجزم بالشرط و جزاؤه الفاء و ما بعده و هو قوله « فلا خوف عليهم » و لا خوف عليهم جملة اسمية « و لا هم يحزنون » جملة اسمية معطوفة على الجملة التي قبلها و الفاء مع ما بعده في موضع جزم بالجزاء لقوله « من تبع هداي » و الشرط و الجزاء مع معنى حرف الشرط الذي تضمنته من في موضع رفع بأنها خبر المبتدأ الذي هو من ثم الفاء و ما بعده من قوله « فمن تبع هداي » الآية في موضع جزم بأنه جزاء لقوله « إما يأتينكم » و هذا في المقدمات القياسية يسمى الشرطية المركبة و ذلك أن المقدم فيها إذا وجب وجب التالي المركب عليه .

المعنى
ثم بين تعالى إهباطهم إلى الأرض فقال « اهبطوا » أي انزلوا و الخطاب لآدم و حواء على ما ذكرناه من الاختلاف فيه فيما تقدم و اختلف في تكرار الهبوط فقيل الهبوط الأول من الجنة إلى السماء و هذا الهبوط من السماء إلى الأرض عن أبي علي و قيل إنما كرر للتأكيد و قيل إنما كرر لاختلاف الحالين فقد بين بقوله « و قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو » إن الإهباط إنما كان في حال عداوة بعضهم لبعض و بين بقوله « قلنا اهبطوا
مجمع البيان ج : 1 ص : 204
منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى » أن الإهباط إنما كان للابتلاء و التكليف كما يقال اذهب سالما معافى اذهب مصاحبا و إن كان الذهاب واحدا لاختلاف الحالين « فإما يأتينكم مني هدى » أي بيان و دلالة و قيل أنبياء و رسل و على هذا القول الأخير يكون الخطاب في قوله اهبطوا لآدم و حواء و ذريتهما كقوله تعالى « فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين » أي أتينا بما فينا من الخلق طائعين « فمن تبع هداي » أي اقتدى برسلي و احتذى أدلتي فلا يلحقهم خوف من أهوال يوم القيامة من العقاب و لا هم يحزنون على فوات الثواب فأما الخوف و الحزن في الدنيا فإنه يجوز أن يلحقهم لأن من المعلوم أن المؤمنين لا ينفكون منه و في هذه الآية دلالة على أن الهدى قد يثبت و لا اهتداء و أن الاهتداء إنما يقع بالإتباع و القبول .
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِئَايَتِنَا أُولَئك أَصحَب النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ(39)
اللغة
الكفر و التكذيب قد مضى معناهما فيما تقدم ذكره و الآيات جمع آية و معنى الآية في اللغة العلامة و منه قوله تعالى « عيدا لأولنا و آخرنا و آية منك » أي علامة لإجابتك دعاءنا و كل آية من كتاب الله علامة و دلالة على المضمون فيها و قال أبو عبيدة معنى الآية أنها علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها و انقطاعه من الذي بعدها و قيل إن الآية القصة و الرسالة قال كعب بن زهير :
أ لا أبلغا هذا المعرض آية
أ يقظان قال القول إذ قال أم حلم أي رسالة فعلى هذا يكون معنى الآيات القصص أي قصة تتلو قصة و قال ابن السكيت خرج القوم بأيتهم أي بجماعتهم لم يدعوا وراءهم شيئا و على هذا يكون معنى الآية من كتاب الله جماعة حروف دالة على معنى مخصوص و الأصحاب جمع الصاحب و هو القرين و أصل الصحبة المقارنة فالصاحب هو الحاصل مع آخر مدة لأنه إذا اجتمع معه وقتا واحدا لم يكن صاحبا له لكن يقال صحبه وقتا من الزمان ثم فارقه .

الإعراب
موضع أولئك يحتمل ثلاثة أوجه ( أحدها ) أن يكون بدلا من الذين أو عطف بيان و أصحاب النار بيان عن أولئك مجراه مجرى الوصف و الخبر هم فيها خالدون و الثاني أن يكون ابتداء و خبرا في موضع الخبر الأول و الثالث أن يكون على خبرين بمنزلة خبر واحد كقولك هذا حلو حامض فإن قيل فلم دخلت الفاء في موضع آخر مثل قوله
مجمع البيان ج : 1 ص : 205
« فأولئك لهم عذاب مهين » و لم يدخل هاهنا قلنا لأن ما دخل فيه الفاء من خبر الذي و أخواته مشبه بالجزاء و ما لم يكن فيه فاء فهو على أصل الخبر و إذا قلت ما لي فهو لك أن أردت ما بمعنى الذي جاز و إن أردت به المال لم يجز .

المعنى
« الذين كفروا » أي جحدوا « و كذبوا ب آياتنا » أي دلالاتنا و ما أنزلناه على الأنبياء ف « أولئك أصحاب النار » أي الملازمون للنار « هم فيها خالدون » أي دائمون و في هذه الآية دلالة على أن من مات مصرا على كفره غير تائب منه و كذب ب آيات ربه فهو مخلد في نار جهنم و آيات الله دلائله و كتبه المنزلة على رسله و الآية مثل الحجة و الدلالة و إن كان بينهما فرق في الأصل يقال دلالة هذا الكلام كذا و لا يقال آيته و من استدل بهذه الآية على أن عمل الجوارح قد يكون من الكفر بقوله « و كذبوا ب آياتنا » فقوله يفسد بأن التكذيب نفسه و إن لم يكن كفرا فهو دلالة على الكفر لأنه لا يقع إلا من كافر كالسجود للشمس و غيره .
يَبَنى إِسرءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتىَ الَّتى أَنْعَمْت عَلَيْكمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيَّىَ فَارْهَبُونِ(40)
القراءة
القراءة المشهورة « إسرائيل » مهموز ممدود مشبع و هو الفصيح و روي في الشواذ عن الحسن و الزهري إسرايل بلا همز و لا مد و عن الأعمش و عيسى بن عمر كذلك و حكي عن الأخفش إسرائل بكسر الهمزة من غير ياء و حكى قطرب إسرال من غير همز و لا ياء و إسرئين بالنون قال أبو علي العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه و أنشد :
هل تعرف الدار لأم الخزرج
منها فظلت اليوم كالمزرج يريد المزرجن و هو الخمر من الزرجون قال و النون في زرجون أصل كالسين في قربوس فإذا جاز للعرب أن تخلط فيما هو لغتها فكيف فيما ليس من لغتها و اختير تحريك الياء في قوله « نعمتي التي أنعمت » لأنه لقيها ألف الوصل و اللام فلم يكن بد من إسقاطها أو تحريكها فكان التحريك أولى لأنه أدل على الأصل و أشكل بما يلحق اللام في الاستئناف من فتح ألف الوصل و إسكان الياء من قوله « يا عبادي الذين أسرفوا » أي الإسقاط هاهنا أجود لأن من حق ياء الإضافة ألا تثبت في النداء و إذا لم تثبت فلا طريق إلى تحريكها و الاختيار
مجمع البيان ج : 1 ص : 206
في قوله « فبشر عباد الذين يستمعون القول » حذف الياء لأنه رأس آية و رءوس الآي لا تثبت فيها الياء لأنها فواصل ينوى فيها الوقف كما يفعل ذلك في القوافي و أجمعوا على إسقاط الياء من قوله « فارهبون » إلا ابن كثير فإنه أثبتها في الوصل دون الوقف و الوجه حذفها لكراهية الوقف على الياء و في كسر النون دلالة على ذهاب الياء .

اللغة
الابن و الولد و النسل و الذرية متقاربة المعاني إلا أن الابن للذكر و الولد يقع على الذكر و الأنثى و النسل و الذرية يقع على جميع ذلك و أصله من البناء و هو وضع الشيء على الشيء فالابن مبني على الأب لأن الأب أصل و الابن فرع و البنوة مصدر الابن و إن كان من الياء كالفتوة مصدر الفتى و تثنيته فتيان و إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم و قيل أصله مضاف لأن إسر معناه عبد وايل هو الله بالعبرانية فصار مثل عبد الله و كذلك جبرائيل و ميكائيل و الذكر الحفظ للشيء بذكره و ضده النسيان و الذكر جري الشيء على لسانك و الذكر الشرف في قوله « و إنه لذكر لك و لقومك » و الذكر الكتاب الذي فيه تفصيل الدين و كل كتاب من كتب الأنبياء ذكر و الذكر الصلاة و الدعاء و في الأثر كانت الأنبياء إذا أحزنهم أمر فزعوا إلى الذكر أي إلى الصلاة و أصل الباب التنبيه على الشيء قال صاحب العين تقول وفيت بعهدك وفاء و أوفيت لغة تهامة قال الشاعر في الجمع بين اللغتين :
أما ابن عوف فقد أوفى بذمته
كما وفى بقلاص النجر حاديها يعني به الدبران و هو التالي و العهد الوصية و الرهبة الخوف و ضدها الرغبة و في المثل رهبوت خير من رحموت أي لأن ترهب خير من أن ترحم .

الإعراب
يا حرف النداء و هي في موضع نصب لأنه منادى مضاف و إسرائيل في موضع جر لأنه مضاف إليه و فتح لأنه غير منصرف و فيه سببان العجمة و التعريف و قوله « و إياي » ضمير منصوب و لا يجوز أن يكون منصوبا بقوله « فارهبون » لأنه مشغول كما لا يجوز أن يقول إن زيدا في قولك زيدا فاضربه منصوب باضربه و لكنه يكون منصوبا بفعل يدل عليه ما هو مذكور في اللفظ و تقديره و إياي ارهبوا فارهبون و لا يظهر ذلك لأنه استغنى عنه بما يفسره و إن صح تقديره و لا يجوز في مثل ذلك الرفع على أن يكون الخبر فارهبون إلا
مجمع البيان ج : 1 ص : 207
على تقدير محذوف كما أنشد سيبويه :
و قائلة خولان فانكح فتاتهم
و أكرومة الحيين خلو كما هيأ تقديره هؤلاء خولان فانكح فتاتهم و على ذلك حمل قوله تعالى « و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما » و « الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة » و تقديره و فيما يتلى عليكم السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما و فيما فرض عليكم الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما .

المعنى
لما عم الله تعالى جميع الخلق بالحجج الواضحة على توحيده و ذكرهم ما أنعم به عليهم في أبيهم آدم (عليه السلام) خص بني إسرائيل بالحجج و ذكرهم ما أسدى إليهم و إلى آبائهم من النعم فقال « يا بني إسرائيل » يعني يا بني يعقوب نسبهم إلى الأب الأعلى كما قال يا بني آدم و الخطاب لليهود و النصارى و قيل هو خطاب لليهود الذين كانوا بالمدينة و ما حولها عن ابن عباس « اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم » أراد بذلك النعم التي أنعم بها على أسلافهم من كثرة الأنبياء فيهم و الكتب و إنجائهم من فرعون و من الغرق على أعجب الوجوه و إنزال المن و السلوى عليهم و كون الملك فيهم في زمن سليمان (عليه السلام) و غير ذلك و عد النعمة على آبائهم نعمة عليهم لأن الأولاد يتشرفون بفضيلة الآباء و هذا كما يقال في المفاخرة قتلناكم يوم الفخار و هزمناكم يوم ذي قار و غلبناكم يوم النسار و ذكر النعمة بلفظ الواحد و المراد بها الجنس كقوله تعالى « و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها » و الواحد لا يمكن عده و قيل المراد بها النعم الواصلة إليهم مما اختصوا به دون آبائهم و اشتركوا فيه مع آبائهم فكان نعمة على الجميع فمن ذلك تبقية آبائهم حتى تناسلوا فصاروا من أولادهم و من ذلك خلقه إياهم على وجه يمكنهم معه الاستدلال على توحيده و الوصول إلى معرفته فيشكروا نعمه و يستحقوا ثوابه و من ذلك ما يوصل إليهم حالا بعد حال من الرزق و يدفع عنهم من المكاره و الأسواء و ما يسبغ عليهم من نعم الدين و الدنيا فعلى القول الأول تكون الآية تذكيرا بالنعم عليهم في أسلافهم و على القول الثاني تكون تذكيرا بالمنعم عليهم ، و من النعم على أسلافهم ما ذكره في قوله « و إذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء و جعلكم ملوكا و آتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين » و قال ابن الأنباري أراد اذكروا ما أنعمت به عليكم فيما استودعتكم من علم التوراة و بينت لكم من صفة محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و ألزمتكم من تصديقه و اتباعه فلما بعث و لم يتبعوه كانوا كالناسين لهذه النعمة و قوله « و أوفوا بعهدي أوف بعهدكم » قيل فيه
مجمع البيان ج : 1 ص : 208
وجوه ( أحدها ) أن هذا العهد هو أن الله تعالى عهد إليهم في التوراة أنه باعث نبيا يقال له محمد فمن تبعه كان له أجران اثنان أجر باتباعه موسى و إيمانه بالتوراة و أجر باتباعه محمدا و إيمانه بالقرآن من كفر به تكاملت أوزاره و كانت النار جزاءه فقال « أوفوا بعهدي » في محمد « أوف بعهدكم » أدخلكم الجنة عن ابن عباس فسمى ذلك عهدا لأنه تقدم به إليهم في الكتاب السابق و قيل إنما جعله عهدا لتأكيده بمنزلة العهد الذي هو اليمين كما قال سبحانه « و إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس و لا تكتمونه » ( و ثانيها ) أنه العهد الذي عاهدهم عليه حيث قال « خذوا ما آتيناكم بقوة » أي بجد « و اذكروا ما فيه » أي ما في الكتاب عن الحسن ( و ثالثها ) أنه ما عهد إليهم في سورة المائدة حيث قال « و لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل و بعثنا منهم اثني عشر نقيبا و قال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة و آتيتم الزكاة و آمنتم برسلي » الآية عن قتادة ( و رابعها ) أنه أراد جميع الأوامر و النواهي ( و خامسها ) أنه جعل تعريفه إياهم نعمة عهدا عليهم و ميثاقا لأنه يلزمهم القيام بما يأمرهم به من شكر هذه النعم كما يلزمهم الوفاء بالعهد و الميثاق الذي يؤخذ عليهم و الأول أقوى لأن عليه أكثر المفسرين و به يشهد القرآن و قوله « و إياي فارهبون » أي خافوني في نقض العهد و في هذه الآية دلالة على وجوب شكر النعمة و في الحديث التحدث بالنعم شكر و فيها دلالة على عظم المعصية في جحود النعم و كفرانها و لحوق الوعيد الشديد بكتمانها و يدل أيضا على ثبوت أفعال العباد إذ لو لم تكن لهم أفعال لما صح العهد و الأمر و النهي و الوعد و الوعيد و لأدى إلى بطلان الرسل و الكتب .
وَ ءَامِنُوا بِمَا أَنزَلْت مُصدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرِ بِهِ وَ لا تَشترُوا بِئَايَتى ثَمَناً قَلِيلاً وَ إِيَّىَ فَاتَّقُونِ(41)
اللغة
قوله « أول كافر » قال الزجاج يعني أول الكافرين و فيه قولان قال الأخفش معناه أول من كفر به و قال غيره من البصريين معناه أول فريق كافر به أي بالنبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و قال و كلا القولين صواب حسن و نظير قوله « أول كافر به » قال الشاعر :
و إذا هم طعموا فالأم طاعم
و إذا هم جاعوا فشر جياع و الثمن و العوض و البدل نظائر و بينها فروق فالثمن هو البدل في البيع من العين أو الورق و إذا استعمل في غيرهما كان مشبها بهما و مجازا و العوض هو البدل الذي ينتفع به
مجمع البيان ج : 1 ص : 209
كائنا ما كان و البدل هو الشيء الذي يجعل مكان غيره و ثوب ثمين كثير الثمن و الثمين الثمن و الفرق بين الثمن و القيمة أن الثمن قد يكون وفقا و قد يكون بخسا و قد يكون زائدا و القيمة لا تكون إلا مساوية المقدار للثمن من غير نقصان و لا زيادة .

الإعراب
مصدقا نصب لأنه حال من الهاء المحذوفة من أنزلت كأنه قال أنزلته مصدقا و يصلح أن ينتصب ب آمنوا كأنه قال آمنوا بالقرآن مصدقا و معكم صلة لما و العامل فيه الاستقرار أي الذي استقر معكم و الهاء في به عائد إلى ما في قوله « بما أنزلت » إلى ما في قوله « لما معكم » و نصب « أول كافر » لأنه خبر كان .

المعنى
ثم قال مخاطبا لليهود « و آمنوا » أي صدقوا « بما أنزلت » على محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) من القرآن لأنه منزل من السماء إلى الأرض « مصدقا لما معكم » من التوراة أمرهم بالتصديق بالقرآن و أخبرهم أن في تصديقهم بالقرآن تصديقا منهم للتوراة لأن الذي في القرآن من الأمر بالإقرار بالنبوة لمحمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و تصديقه نظير الذي في التوراة و الإنجيل فإن فيهما البشارة بمحمد و بيان صفته فالقرآن مصدق لهما و قيل معناه أنه يصدق بالتوراة و الإنجيل فإن فيهما البشارة بمحمد و بيان صفته فالقرآن مصدق لهما و قيل معناه أنه يصدق بالتوراة لأن فيه الدلالة على أنه حق و أنه من عند الله و الأول أوجه لأنه يكون حجة عليهم بأن جاء القرآن بالصفة التي تقدمت بها بشارة موسى و عيسى (عليهماالسلام) و قوله « و لا تكونوا أول كافر به » أي بالقرآن من أهل الكتاب لأن قريشا قد كانت قد كفرت به بمكة قبل اليهود و قيل المعنى و لا تكونوا السابقين إلى الكفر به فيتبعكم الناس أي لا تكونوا أئمة في الكفر به عن أبي العالية و قيل المعنى و لا تكونوا أول جاحدين صفة النبي في كتابكم فعلى هذا تعود الهاء في به إلى النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) عن ابن جريج و قيل المعنى و لا تكونوا أول كافر بما معكم من كتابكم لأنكم إذا جحدتم ما فيه من صفة النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) فقد كفرتم به قال الزجاج و قواه بأن الخطاب وقع على علماء أهل الكتاب فإذا كفروا كفر معهم الأتباع فلذلك قيل لهم « و لا تكونوا أول كافر به » قال و لو كان الهاء في به للقرآن فلا فائدة فيه لأنهم كانوا يظهرون أنهم كافرون بالقرآن و قال علي بن عيسى يحتمل أن يكون أول كافر بالقرآن أنه حق في كتابكم و إنما عظم أول الكفر لأنهم إذا كانوا أئمة لهم و قدوة في الضلالة كانت ضلالتهم أعظم نحو ما روي عن النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) من سن سنة حسنة فله أجرها و أجر من عمل بها إلى يوم القيامة و من سن سنة سيئة كان عليه وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة و ليس في نهيه عن أن يكونوا أول كافر به دلالة على أنه
مجمع البيان ج : 1 ص : 210
يجوز أن يكونوا آخر كافر لأن المقصود النهي عن الكفر على كل حال و خص أولا بالذكر لما ذكرناه من عظم موقعه كما قال الشاعر
من أناس ليس في أخلاقهم
عاجل الفحش و لا سوء الجزع و ليس يريد أن فيهم فحشا آجلا و قوله « و لا تشتروا ب آياتي ثمنا قليلا » روي عن أبي جعفر (عليه السلام) في هذه الآية قال كان حيي بن أخطب و كعب بن الأشرف و آخرون من اليهود لهم مأكلة على اليهود في كل سنة فكرهوا بطلانها بأمر النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) فحرفوا لذلك آيات من التوراة فيها صفته و ذكره فذلك الثمن الذي أريد في الآية قال الفراء إنما أدخل الباء في الآيات دون الثمن في سورة يوسف أدخله في الثمن في قوله « و شروه بثمن بخس دراهم معدودة » لأن العروض كلها أنت مخير فيها إن شئت قلت اشتريت الثوب بكساء و إن شئت قلت اشتريت بالثوب كساء أيهما جعلت ثمنا لصاحبه جاز فإذا جئت إلى الدراهم و الدنانير وضعت الباء في الثمن كقوله « و شروه بثمن بخس دراهم » لأن الدراهم ثمن أبدا و المعنى لا تستبدلوا ب آياتي أي بما في التوراة من بيان صفة محمد و نعته ثمنا قليلا أي عرضا يسيرا من الدنيا « و إياي فاتقون » فاخشوني في أمر محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) لا ما يفوتكم من المأكل و الرئاسة و تقييده الثمن بالقلة لا يدل على أنه إذا كان كثيرا يجوز شراؤه به لأن المقصود أن أي شيء باعوا به آيات الله كان قليلا و أنه لا يجوز أن يكون ثمن يساويه كقوله « و من يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به » و إنما أراد بذلك نفي البرهان عنه على كل حال و أنه لا يجوز أن يكون عليه برهان و مثله قوله « و يقتلون النبيين بغير حق » و إنما أراد أن قتلهم لا يكون إلا بغير حق و نظائر ذلك كثيرة و منه قول امرىء القيس :
على لأحب لا يهتدى بمنارة
إذا سافه العود الديافي جرجرا و إنما أراد أنه لا منار هناك فيهتدي به و في هذه الآية دلالة على تحريم أخذ الرشى في الدين لأنه لا يخلو إما أن يكون أمرا يجب إظهاره أو يحرم إظهاره فالأخذ على مخالفة كلا الوجهين حرام و هذا الخطاب يتوجه أيضا على علماء السوء من هذه الأمة إذا اختاروا الدنيا على الدين فتدخل فيه الشهادات و القضايا و الفتاوى و غير ذلك .
وَ لا تَلْبِسوا الْحَقَّ بِالْبَطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنتُمْ تَعْلَمُونَ(42)



مجمع البيان ج : 1 ص : 211
اللغة
اللبس و التغطية و التعمية نظائر و الفرق بين التغطية و التعمية أن التغطية تكون بالزيادة و التعمية قد تكون بالنقصان و الزيادة و ضد اللبس الإيضاح و اللباس ما واريت به جسدك و لباس التقوى الحياء و اللبس خلط الأمور بعضها ببعض و الفعل لبس الأمر يلبس لبسا و لبس الثوب يلبسه لبسا و الفرق بين اللبس و الإخفاء أن الإخفاء يمكن أن يدرك معه المعنى و لا يمكن مع اللبس إدراك المعنى و الإشكال قد يدرك معه المعنى إلا أنه بصعوبة لأجل التعقيد و قال أمير المؤمنين (عليه السلام) للحرث بن حوط يا حار إنه ملبوس عليك أن الحق لا يعرف بالرجال اعرف الحق تعرف أهله و الباطل و البطل واحد و هو ضد الحق و البطلان و الفساد و الكذب و الزور و البهتان نظائر و أبطلت الشيء جعلته باطلا و أبطل الرجل جاء بباطل .

الإعراب
قوله « و تكتموا الحق » يحتمل وجهين من الإعراب أحدهما الجزم على النهي كأنه قال لا تلبسوا الحق و لا تكتموا فيكون عطف جملة على جملة و الآخر النصب على الظرف بإضمار أن فيكون عطف الاسم على مصدر الفعل الذي قبله و تقديره لا يكن منكم لبس الحق و كتمانه و دل تلبسوا على لبس كما يقال من كذب كان شرا له فكذب يدل على الكذب فكأنه قال من كذب كان الكذب شرا قال الشاعر في مثله
لا تنه عن خلق و تأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم أي لا تجمع بين النهي عن خلق و الإتيان بمثله .

المعنى
« لا تلبسوا » أي لا و تخلطوا « الحق بالباطل » و معنى لبسهم الحق بالباطل أنهم آمنوا ببعض الكتاب و كفروا ببعض لأنهم جحدوا صفة النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) فذلك الباطل و أقروا بغيره مما في الكتاب و قيل معناه لا تحرفوا الكلم عن مواضعه فالتحريف هو الباطل و تركهم ما في الكتاب على ما هو به هو الحق و قال ابن عباس لا تخلطوا الصدق بالكذب و قيل الحق التوراة التي أنزلها الله على موسى و الباطل ما كتبوه بأيديهم و قيل الحق إقرارهم أن محمدا مبعوث إلى غيرهم و الباطل إنكارهم أن يكون بعث إليهم و قوله « و تكتموا الحق و أنتم تعلمون » أي لا تكتموا صفة النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) في التوراة و أنتم تعلمون أنه حق و الخطاب متوجه إلى رؤساء أهل الكتاب كما وصفهم بأنهم يحرفون الكلم عن مواضعه للتلبيس على أتباعهم و هذا تقبيح لما يفعلونه أي يجحدون ما يعلمون و جحد العالم أعظم من جحد الجاهل و قيل معناه و أنتم تعلمون البعث و الجزاء و قيل معناه و أنتم تعلمون ما أنزل ببني إسرائيل و ما سينزل بمن كذب على الله تعالى و قيل معناه و أنتم
مجمع البيان ج : 1 ص : 212
تعلمون ما نزل ببني إسرائيل من المسخ و غيره فإن قيل كيف يجوز أن يكون هؤلاء عارفين بنبوة محمد و ذلك مبني على معرفة الله و عندكم أن من عرف الله لا يجوز أن يكفر و هؤلاء صاروا كفارا و ماتوا على كفرهم قلنا لا يمتنع أن يكونوا عرفوا الله على وجه لا يستحقون به الثواب لأن الثواب إنما يستحق بأن ينظروا من الوجه الذي يستحق به الثواب فإذا نظروا على غير ذلك الوجه لا يستحقون الثواب فعلى هذا يجوز أن يكونوا عارفين بالله و التوراة و بصفات النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و إن لم يستحقوا الثواب فلا يمتنع أن يكفروا و قال بعض أصحابنا استحقاقهم الثواب على إيمانهم مشروط بالموافاة فإذا لم يوافوا بالإيمان لم يستحقوا الثواب فعلى هذا يجوز أن يكونوا عارفين و إن لم يكونوا مستحقين لثواب يبطل بالكفر و المعتمد الأول .
وَ أَقِيمُوا الصلَوةَ وَ ءَاتُوا الزَّكَوةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّكِعِينَ(43)
اللغة
أصل الصلاة عند أكثر أهل اللغة الدعاء على ما ذكرناه قبل و منه قول الأعشى :
تقول بنتي و قد قربت مرتحلا
يا رب جنب أبي الأوصاب و الوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي
نوما فإن لجنب المرء مضطجعا أي دعوت و قيل أصلها اللزوم من قول الشاعر
لم أكن من جناتها علم الله
و إني لحرها اليوم صال أي ملازم لحرها فكان معنى الصلاة ملازمة العبادة على الحد الذي أمر الله تعالى به و قيل أصلها من الصلا و هو عظم العجز لرفعه في الركوع و السجود و منه قول النابغة :
ف آب مصلوه بعين جلية
و غودر بالجولان حزم و نائل أي الذين جاءوا في صلا السابق و على القول الأول أكثر العلماء و قد بينا معنى إقامة الصلاة فيما مضى و الزكاة و النماء و الزيادة نظائر في اللغة و قال صاحب العين الزكاة زكاة المال و هو تطهيره و زكا الزرع و غيره يزكو زكاء ممدودا أي نما و ازداد و هذا لا يزكو بفلان أي لا يليق به و الزكا الشفع و الخسا الوتر و أصله تثمير المال بالبركة التي يجعلها الله فيه
مجمع البيان ج : 1 ص : 213
و الركوع و الانحناء و الانخفاض نظائر في اللغة قال ابن دريد الراكع الذي يكبو على وجهه و منه الركوع في الصلاة قال الشاعر :
و أفلت حاجب فوق العوالي
على شقاء تركع في الظراب و قال صاحب العين كل شيء ينكب لوجهه فتمس ركبته الأرض أو لا تمس بعد أن يطأطىء رأسه فهو راكع قال الشاعر :
و لكني أنص العيس تدمى
أياطلها و تركع بالحزون و قال لبيد :
أخبر أخبار القرون التي مضت
أدب كأني كلما قمت راكع و قيل أنه مأخوذ من الخضوع قال الشاعر :
لا تهين الفقير علك أن
تركع يوما و الدهر قد رفعه و الأول أقوى و إنما يستعمل في الخضوع مجازا و توسعا .

المعنى
« و أقيموا الصلاة » أي أدوها بأركانها و حدودها و شرائطها كما بينها النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) « و آتوا الزكاة » أي أعطوا ما فرض الله عليكم في أموالكم على ما بينه الرسول لكم و هذا حكم جميع ما ورد في القرآن مجملا فإن بيانه يكون موكولا إلى النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) كما قال سبحانه و تعالى : « و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا » فلذلك أمرهم بالصلاة و الزكاة على طريق الإجمال و أحال في التفصيل على بيانه و قوله « و اركعوا مع الراكعين » إنما خص الركوع بالذكر و هو من أفعال الصلاة بعد قوله « و أقيموا الصلاة » لأحد وجوه .
( أحدها ) أن الخطاب لليهود و لم يكن في صلاتهم ركوع و كان الأحسن ذكر المختص دون المشترك لأنه أبعد من اللبس ( و ثانيها ) أنه عبر بالركوع عن الصلاة يقول القائل فرغت من ركوعي أي صلاتي و إنما قيل ذلك لأن الركوع أول ما يشاهد من الأفعال التي يستدل بها على أن الإنسان يصلي فكأنه كرر ذكر الصلاة تأكيدا عن أبي مسلم و يمكن أن يكون فيه فائدة تزيد على التأكيد و هو أن قوله « أقيموا الصلاة » إنما يفيد وجوب إقامتها
مجمع البيان ج : 1 ص : 214
و يحتمل أن يكون إشارة إلى صلاتهم التي يعرفونها و أن يكون الصلاة إشارة إلى الصلاة الشرعية و قوله « و اركعوا مع الراكعين » يكون معناه صلوا مع هؤلاء المسلمين الراكعين فيكون متخصصا بالصلاة المتقررة في الشرع فلا يكون تكرارا بل يكون بيانا ( و ثالثها ) أنه حث على صلاة الجماعة لتقدم ذكر الصلاة في أول الآية .
* أَ تَأْمُرُونَ النَّاس بِالْبرِّ وَ تَنسوْنَ أَنفُسكُمْ وَ أَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَب أَ فَلا تَعْقِلُونَ(44)
اللغة
البر في اللغة و الإحسان و الصلة نظائر يقال فلان بار وصول محسن و ضد البر العقوق و رجل بر و بار و بر صدقت و بر حجه و بر لغتان و قولهم فلان لا يعرف الهر من البر قال الأخفش معناه لا يعرف من يهر عليه ممن يبره و قال المازني الهر السنور و البر الفأرة أو دويبة تشبهها و الفرق بين البر و الخير أن البر يدل على قصد و الخير قد يقع على وجه السهو و النسيان و السهو و الغفلة نظائر و ضد النسيان الذكر و حقيقته غروب الشيء عن النفس بعد حضوره و هو عدم علم ضروري من فعل الله تعالى و السهو قد يقع عما كان الإنسان عالما به و عما لم يكن عالما به و قد يكون النسيان بمعنى الترك نحو قوله « نسوا الله فنسيهم » أي تركوا ذكر الله فخذلهم و التلاوة القراءة تلا يتلو تلاوة أي قرأ و تلا يتلو تلوا أي تبع و أصل التلاوة منه لاتباع بعض الحروف فيها بعضا و الفرق بين التلاوة و القراءة أن أصل القراءة جمع الحروف و أصل التلاوة اتباع الحروف و العقل و الفهم و المعرفة و اللب نظائر و رجل عاقل فهم لبيب ذو معرفة و ضد العقل الحمق يقال عقل الشيء عقلا و أعقله غيره و قيل لابن عباس أنى لك هذا العلم قال قلب عقول و لسان سؤول و قال صاحب كتاب العين العقل ضد الجهل يقال عقل الجاهل إذا علم و عقل المريض بعد أن أهجر و عقل المعتوه و نحوه و العقال الرباط يقال عقلت البعير أعقله عقلا إذا شددت يده بالعقال و العقل مجموع علوم لأجلها يمتنع الحي من كثير من المقبحات و يفعل كثيرا من الواجبات و إنما سميت تلك العلوم عقلا لأنها تعقل عن القبيح و قيل لأنها تعقل العلوم المكتسبة و لا يوصف القديم تعالى بأنه عاقل لأنه لا يعقله شيء عن فعل القبيح و إنما لا يختاره لعلمه بقبحه و بأنه غني عنه و لأنه لا يكتسب علما بشيء فيثبت بعض علومه ببعض و قال علي بن عيسى العقل هو العلم الذي يزجر عن قبيح الفعل و من كان زاجرة أقوى فهو أعقل و قيل العقل معرفة يفصل بها بين القبيح و الحسن في الجملة و قيل هو التمييز الذي له فارق الإنسان جميع الحيوان و هذه العبارات قريبة معاني بعضها من بعض و الفرق بين العقل
مجمع البيان ج : 1 ص : 215
و العلم أن العقل قد يكمل لمن فقد بعض العلوم و لا يكمل العلم لمن فقد بعض عقله فإن قيل إذا كان العقل مختلفا فيه فكيف يجوز أن يستشهد به قلنا أن الاختلاف في ماهية العقل لا يوجب الاختلاف في قضاياه أ لا ترى أن الاختلاف في ماهية العقل حتى أن بعضهم قال معرفة و بعضهم قال قوة لا توجب الاختلاف في أن المائة أكثر من واحد و أن الكل أعظم من الجزء و غير ذلك من قضايا العقول .

المعنى
هذه الآية خطاب لعلماء اليهود و كانوا يقولون لأقربائهم من المسلمين أثبتوا على ما أنتم عليه و لا يؤمنون هم و الألف للاستفهام و معناه التوبيخ و المراد بالبر الإيمان بمحمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) وبخهم الله تعالى على ما كانوا يفعلون من أمر الناس بالإيمان بمحمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و ترك أنفسهم عن ذلك قال أبو مسلم كانوا يأمرون العرب بالإيمان بمحمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) إذا بعث فلما بعث كفروا به و روي عن ابن عباس أن المراد أنهم كانوا يأمرون أتباعهم بالتمسك بالتوراة و تركوا هم التمسك به لأن جحدهم النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و صفته فيه ترك للتمسك به و عن قتادة كانوا يأمرون الناس بطاعة الله و هم يخالفونه و روى أنس بن مالك قال قال رسول الله (صلى الله عليهوآلهوسلّم) مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت من هؤلاء يا جبرائيل فقال هؤلاء خطباء من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر و ينسون أنفسهم و قال بعضهم أ تأمرون الناس بالصدقة و تتركونها أنتم و إذا أتتكم الضعفاء بالصدقة لتفرقوها على المساكين خنتم فيها و قوله « و أنتم تتلون الكتاب » معناه و أنتم تقرأون التوراة و فيها صفته و نعته عن ابن عباس و قوله « أ فلا تعقلون » أ فلا تفقهون أن ما تفعلونه قبيح في العقول و عن أبي مسلم أن معناه هذا ليس بفعل من يعقل و قيل معناه أ فلا تعلمون أن الله يعذبكم و يعاقبكم على ذلك و قيل أ فلا تعلمون أن ما في التوراة حق فتصدقوا محمدا و تتبعوه فإن قيل إن كان فعل البر واجبا و الأمر به واجبا فلما ذا وبخهم الله تعالى على الأمر بالبر قلنا لم يوبخهم الله على الأمر بالبر و إنما وبخهم على ترك فعل البر المضموم إلى الأمر بالبر لأن ترك البر ممن يأمر به أقبح من تركه ممن لا يأمر به فهو كقول الشاعر :
لا تنه عن خلق و تأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم و معلوم أنه لم يرد به النهي عن الخلق المذموم و إنما أراد النهي عن إتيان مثله .
وَ استَعِينُوا بِالصبرِ وَ الصلَوةِ وَ إِنهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلى الخَْشِعِينَ(45)

مجمع البيان ج : 1 ص : 216
اللغة
الصبر منع النفس عن محابها و كفها عن هواها و منه الصبر على المصيبة لكف الصابر نفسه عن الجزع و منه جاء في الحديث و هو شهر الصبر لشهر رمضان لأن الصائم يصبر نفسه و يكفها عما يفسد الصيام و قتل فلان صبرا و هو أن ينصب للقتل و يحبس عليه حتى يقتل و كل من حبسته لقتل أو يمين يقال فيه قتل صبر و يمين صبر و صبرته أي حلفته بالله جهد القسم و في الحديث اقتلوا القاتل و اصبروا الصابر و ذلك فيمن أمسكه حتى قتله آخر فأمر بقتل القاتل و حبس الممسك و الخشوع و الخضوع و التذلل و الإخبات نظائر و ضد الخشوع الاستكبار و خشع الرجل إذا رمى ببصره إلى الأرض و اختشع إذا طأطأ رأسه كالمتواضع و الخشوع قريب المعنى من الخضوع إلا أن الخضوع في البدن و الإقرار بالاستخدام و الخشوع في الصوت و البصر قال سبحانه خاشعة أبصارهم و خشعت الأصوات أي سكنت و أصل الباء من اللين و السهولة و الخاشع و المتواضع و المتذلل و المستكين بمعنى قال الشاعر :
لما أتى خبر الزبير تواضعت
سور المدينة و الجبال الخشع .

الإعراب
قوله « و إنها لكبيرة » اللام تدخل في خبر إن و لا تدخل في خبر أخواتها لأنها لام التأكيد فهي شبيهة بأن في أنها تدخل على المبتدأ و خبره كما تدخل إن و تدخل بمعنى القسم كما تدخل إن تقول و الله لتخرجن كما تقول و الله إنك خارج فإذا كان بينهما هذه المجانسة فإذا دخلت على أن في نحو لأنها كبيرة كرهوا أن يجمعوا بين حرفين متشاكلين متفقين في المعنى فأخر اللام إلى الخبر ليفصل بين اللام و بين إن بالاسم نحو « إنها لكبيرة » فأما سائر أخوات إن فمتى تركب مع المبتدأ و خبره خرج المبتدأ من صورة المبتدأ و يصير قسما آخر فلا يدخل اللام عليه و إذا لم يدخل عليه كان بالحري أن لا يدخل على خبره .

النزول
قال الجبائي أنه خطاب للمسلمين دون أهل الكتاب و قال الرماني و غيره هو خطاب لأهل الكتاب و يتناول المؤمنين على وجه التأديب و الأولى أن يكون خطابا لجميع المكلفين لفقد الدلالة على التخصيص و يؤيد قول من قال أنه خطاب لأهل الكتاب إن ما قبل الآية و ما بعدها خطاب لهم .

المعنى
من قال أنه خطاب لليهود قال إن حب الرياسة كان يمنع علماء اليهود عن
مجمع البيان ج : 1 ص : 217
اتباع النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) لأنهم خافوا زوال الرياسة إذا اتبعوه فأمرهم الله تعالى فقال : « و استعينوا » على الوفاء بعهدي الذي عاهدتكم في كتابكم عليه من طاعتي و اتباع أمري و ترك ما نهيتكم عنه و التسليم لأمري و اتباع رسولي محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) بالصبر على ما أنتم فيه من ضيق المعاش الذي تأخذون الأموال من عوامكم بسببه و روي عن أئمتنا (عليهم السلام) أن المراد بالصبر الصوم فيكون فائدة الاستعانة به أنه يذهب بالشره و هوى النفس كما قال (صلى الله عليهوآلهوسلّم) : الصوم وجاء و فائدة الاستعانة بالصلاة أنه يتلى فيها ما يرغب فيما عند الله تعالى و بزهد في الدنيا و حب الرياسة كما قال سبحانه « إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر » و لأنها تتضمن التواضع لله تعالى فيدفع حب الرياسة و كان النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) إذا حزنه أمر استعان بالصلاة و الصوم و من قال أنه خطاب للمسلمين قال المراد به استعينوا على تنجز ما وعدته لمن اتبع النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) أو على مشقة التكليف بالصبر أي بحبس النفس على الطاعات و حبسها عن المعاصي و الشهوات و بالصلاة لما فيها من تلاوة القرآن و التدبر لمعانيه و الاتعاظ بمواعظه و الائتمار بأوامره و الانزجار عن نواهيه و وجه آخر أنه ليس في أفعال القلوب أعظم من الصبر و لا في أفعال الجوارح أعظم من الصلاة فأمر بالاستعانة بهما و روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غم من غموم الدنيا أن يتوضأ ثم يدخل المسجد فيركع ركعتين يدعو الله فيها أ ما سمعت الله تعالى يقول : « و استعينوا بالصبر و الصلاة » و قوله تعالى : « و إنها لكبيرة » قيل في الضمير في و إنها وجوه ( أحدهما ) أنها عائد إلى الصلاة لأنها الأغلب و الأفضل و هو قول أكثر المفسرين و على هذا ففي عود الضمير إلى واحد و قد تقدم ذكر اثنين قولان .
( أحدهما ) أن المراد به الصلاة دون غيرها و خصها بالذكر لقربها منه و لأنها الأهم و الأفضل و لتأكيد حالها و تفخيم شأنها و عموم فرضها ( و الآخر ) أن المراد الاثنان و إن كان اللفظ واحدا و يشهد لذلك قوله تعالى : « و الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله » « و إذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها » « و الله و رسوله أحق أن يرضوه » و قول الشاعر :
إن شرخ الشباب و الشعر الأسود
ما لم يعاص كان جنونا و لم يقل يعاصيا و قول الآخر :
مجمع البيان ج : 1 ص : 218

فمن يك أمسى بالمدينة رحله
فإني و قيارا بها لغريب و يروى و قيار و قول آخر :
نحن بما عندنا و أنت بما عندك
راض و الرأي مختلف و قول الآخر :
أما الوسامة أو حسن النساء فقد
أتيت منه أو أن العقل محتنك و نحو ذا كثير في الكلام ( و ثانيها ) أنه عائد إلى الاستعانة يعني أن الاستعانة بهما لكبيرة و قوله « استعينوا » يدل على الاستعانة و مثله قول الشاعر :
إذا نهي السفيه جرى إليه
و خالف و السفيه إلى خلاف أي جرى إلى السفه و دل السفيه على السفه ( و ثالثها ) أن الضمير عائد إلى محذوف و هو الإجابة للنبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) عن الأصم أو مؤاخذة النفس بهما أو تأدية ما تقدم أو تأدية الصلاة و ضروب الصبر عن المعاصي أو هذه الخطيئة عن أبي مسلم و هذه الوجوه الأخيرة كلها ضعيفة لأنها لم يجر لها ذكر و قوله « لكبيرة » أي لثقيلة عن الحسن و غيره و الأصل فيه أن كل ما يكبر يثقل على الإنسان حمله فيقال لكل ما يصعب على النفس و إن لم يكن من جهة الحمل يكبر عليها تشبيها بذلك و قوله : « إلا على الخاشعين » أي على المتواضعين لله تعالى فإنهم قد وطنوا أنفسهم على فعلها و عودوها إياها فلا يثقل عليهم و أيضا فإن المتواضع لا يبالي بزوال الرياسة إذا حصل له الإيمان و قال مجاهد أراد بالخاشعين المؤمنين فإنهم إذا علموا ما يحصل لهم من الثواب بفعلها لم يثقل عليهم ذلك كما أن الإنسان يتجرع مرارة الدواء لما يرجو به من نيل الشفاء و قال الحسن أراد بالخاشعين الخائفين .
الَّذِينَ يَظنُّونَ أَنهُم مُّلَقُوا رَبهِمْ وَ أَنهُمْ إِلَيْهِ رَجِعُونَ(46)
اللغة
الظن المذكور في الآية بمعنى العلم و اليقين كما قال دريد بن الصمة :
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج
سراتهم في الفارسي المسرد
مجمع البيان ج : 1 ص : 219
و قال أبو داود :
رب هم فرجعته بعزيم
و غيوب كشفتها بظنون و قال المبرد ليس من كلام العرب أظن عند زيد مالا بمعنى أعلم لأن العلم المشاهد لا يناسب باب الظن و قد أفصح عن ذلك أوس بن حجر في قوله :
الألمعي الذي يظن بك الظن
كان قد رأى و قد سمعا و قال آخر :
فإلا يأتكم خبر يقين
فإن الظن ينقص أو يزيد و قال بعض المحققين أصل الظن ما يجول في النفس من الخاطر الذي يغلب على القلب كأنه حديث النفس بالشيء و يؤول جميع ما في القرآن من الظن بمعنى العلم على هذا و الظن و الشك و التجويز نظائر إلا أن الظن فيه قوة على أحد الأمرين دون الآخر و حده ما قوي عند الظان كون المظنون على ما ظنه مع تجويزه أن يكون على خلافه فبالتجويز ينفصل من العلم و بالقوة ينفصل من الشك و التقليد و غير ذلك و هو من جنس الاعتقاد عند أبي هاشم و جنس برأسه سوى الاعتقاد عند أبي علي و القاضي و إليه ذهب المرتضى قدس الله روحه و ضد الظن اليقين و الظنين المتهم و مصدره الظنة و الظنون الرجل السيء الظن بكل أحد و الظنون البئر التي يظن أن بها ماء و لا يكون و مظنة الرجل حيث يألفه و يكون فيه و أصل الملاقاة الملاصقة من قولك التقى الخطان إذا تلاصقا ثم كثر حتى قيل التقى الفارسان إذا تحاذيا و لم يتلاصقا و يقال رجع الرجل و رجعته أنا لازم و متعد و أصل الرجوع العود إلى الحال الأولى .

الأعراب

« الذين يظنون » في موضع الجر صفة للخاشعين و أنهم بفتح الألف لا يجوز غيره لأن الظن فعل واقع على معنى أنه متعد يتعلق بالغير فما يليه يكون مفعولا له و أن المفتوحة الهمزة يكون مع الاسم و الخبر في تأويل اسم مفرد و هاهنا قد سد مسد مفعولي يظن و يكون المفعول الثاني مستغنى عنه مختزلا من الكلام غير مضمر كما أن الفاعل في أ قائم الزيدان سد مسد الخبر لطول الكلام و الاستغناء به عنه و هذا القول هو المختار عند أبي علي و فيه قول آخر و هو أن مع الاسم و الخبر في موضع المفعول الأول
مجمع البيان ج : 1 ص : 220
و المفعول الثاني مضمر محذوف لعلم المخاطب به فكأنه قال الذين يظنون ملاقاة ربهم واقعة و حذفت النون من ملاقوا ربهم تخفيفا عند البصريين و المعنى على إثباتها فإن المضاف إليه هنا و إن كان مجرورا في اللفظ فهو منصوب في المعنى فهي إضافة لفظية غير حقيقية و مثله قوله « إنا مرسلوا الناقة » و « كل نفس ذائقة الموت » و قال الشاعر :
هل أنت باعث دينار لحاجتنا
أو عبد رب أخا عون بن مخراق و لو أردت معنى الماضي لتعرف الاسم بالإضافة لم يجز فيه إظهار النون البتة و قوله « و أنهم إليه راجعون » في موضع النصب عطفا على الأول .

المعنى
لما تقدم ذكر الخاشعين بين صفتهم فقال « الذين يظنون » أي يوقنون « أنهم ملاقوا » ما وعدهم « ربهم » عن الحسن و مجاهد و غيرهما و نظيره قوله « إني ظننت أني ملاق حسابيه » و قيل أنه بمعنى الظن غير اليقين و المعنى أنهم يظنون أنهم ملاقوا ربهم بذنوبهم لشدة إشفاقهم من الإقامة على معصية الله قال الرماني و فيه بعد لكثرة الحذف و قيل الذين يظنون انقضاء آجالهم و سرعة موتهم فيكونون أبدا على حذر و وجل و لا يركنون إلى الدنيا كما يقال لمن مات لقي الله و يدل على أن المراد بقوله « ملاقوا ربهم » ملاقون جزاء ربهم قوله تعالى في صفة المنافقين « فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه » و لا خلاف في أن المنافق لا يجوز أن يرى ربه و كذلك قوله « و لو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أ ليس هذا بالحق قالوا بلى و ربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون » و جاء في الحديث من حلف على مال امرىء مسلم كاذبا لقي الله و هو عليه غضبان و ليس اللقاء من الرؤية في شيء يقال لقاك الله محابك و لا يراد به أن يرى أشخاصا و إنما يراد به لقاء ما يسره و قوله « و أنهم إليه راجعون » يسأل هنا فيقال ما معنى الرجوع في الآية و هم ما كانوا قط في الآخرة فيعودوا إليها و جوابه من وجوه .
( أحدها ) أنهم راجعون بالإعادة في الآخرة عن أبي العالية ( و ثانيها ) أنهم يرجعون بالموت كما كانوا في الحال المتقدمة لأنهم كانوا أمواتا فأحيوا ثم يموتون فيرجعون أمواتا كما كانوا ( و ثالثها ) أنهم يرجعون إلى موضع لا يملك أحد لهم ضرا و لا نفعا غيره تعالى كما كانوا في بدء الخلق لأنهم في أيام حياتهم قد يملك غيرهم الحكم عليهم و التدبير لنفعهم و ضرهم يبين ذلك قوله « مالك يوم الدين » و تحقيق معنى الآية أنه يقرون بالنشأة الثانية فجعل رجوعهم بعد الموت إلى المحشر رجوعا إليه .

مجمع البيان ج : 1 ص : 221
يَبَنى إِسرءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتىَ الَّتى أَنْعَمْت عَلَيْكمْ وَ أَنى فَضلْتُكُمْ عَلى الْعَلَمِينَ(47)
المعنى
قد مضى تفسير أول الآية فيما تقدم و قوله : « و أني فضلتكم على العالمين » قال ابن عباس أراد به عالمي أهل زمانهم لأن أمتنا أفضل الأمم بالإجماع كما أن نبينا عليه أفضل الصلاة و السلام أفضل الأنبياء و بدليل قوله « كنتم خير أمة أخرجت للناس » و قيل المراد به تفضيلهم في أشياء مخصوصة و هي إنزال المن و السلوى و ما أرسل الله فيهم من الرسل و أنزل عليهم من الكتب إلى غير ذلك من النعم العظيمة من تغريق فرعون و الآيات الكثيرة التي يخف معها الاستدلال و يسهل بها الميثاق و تفضيل الله إياهم في أشياء مخصوصة لا يوجب أن يكونوا أفضل الناس على الإطلاق كما يقال حاتم أفضل الناس في السخاء و نظير هذه الآية قوله « و إذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب » إلى قوله « و أنتم تنظرون » فإن قيل فما الفائدة في تكرار قوله « يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم » قلنا لأنه لما كانت نعم الله هي الأصل فيما يجب شكره احتيج إلى تأكيدها كما يقول القائل اذهب اذهب عجل عجل و قيل أيضا أن التذكير الأول ورد مجملا و الثاني ورد مفصلا و قيل أنه في الأول ذكرهم نعمة على أنفسهم و في الثاني ذكرهم نعمة على آبائهم .
وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْس شيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنهَا شفَعَةٌ وَ لا يُؤْخَذُ مِنهَا عَدْلٌ وَ لا هُمْ يُنصرُونَ(48)
القراءة
قرأ أهل مكة و البصرة لا تقبل بالتاء و الباقون بالياء .

الحجة
فمن قرأ بالتاء ألحق علامة التأنيث لتؤذن بأن الاسم الذي أسند إليه الفعل و هو الشفاعة مؤنث و من قرأ بالياء فلأن التأنيث في الاسم ليس بحقيقي فحمل على المعنى فذكر لأن الشفاعة و التشفع بمنزلة كما أن الوعظ و الموعظة و الصيحة و الصوت كذلك و قد قال تعالى : « فمن جاءه موعظة » و « أخذ الذين ظلموا الصيحة » و يقوي التذكير
مجمع البيان ج : 1 ص : 222
أيضا أنه فصل بين الفعل و الفاعل بقوله « منها » و التذكير يحسن مع الفصل كما يقال في التأنيث الحقيقي حضر القاضي اليوم امرأة .

اللغة
الجزاء و المكافاة و المقابلة نظائر يقال جزى يجزي جزاء و جازاه مجازاة و فلان ذو جزاء أي ذو غناء فكان قوله « لا تجزي نفس عن نفس شيئا » أي لا تقابل مكروهها بشيء يدرؤه عنها و منه الحديث أنه (صلى الله عليهوآلهوسلّم) قال لأبي بردة في الجذعة التي أمره أن يضحي بها و لا تجزي عن أحد بعدك و قال البقرة تجزي عن سبعة أي تقضي و تكفي قال أبو عبيدة هو مأخوذ من قولك جزا عني هذا الأمر فأما قولهم أجزأني الشيء أي كفاني فمهموز و قبول الشيء هو تلقيه و الأخذ به خلاف الإعراض عنه و من ثم قيل لتجاه الشيء قبالته و قالوا أقبلت المكواة الداء أي جعلتها قبالته قال :
و أقبلت أفواه العروق المكاويا ) و القبول و الانقياد و الطاعة و الإجابة نظائر و نقيضه الامتناع و الشفاعة مأخوذة من الشفع فكأنه سؤال من الشفيع يشفع سؤال المشفوع له و الشفاعة و الوسيلة و القربة و الوصلة نظائر و الشفعة في الدار و غيرها معروفة و إنما سميت شفعة لأن صاحبها يشفع ماله بها و يضمها إلى ملكه و العدل و الحق و الإنصاف نظائر و نقيض العدل الجور و العدل المرضي من الناس الذكر و الأنثى و الجمع و الواحد فيه سواء و العدل الفدية في الآية و الفرق بين العدل و العدل إن العدل هو مثل الشيء من جنسه و العدل هو بدل الشيء و قد يكون من غير جنسه قال سبحانه « أو عدل ذلك صياما » و النصرة و المعونة و التقوية نظائر و في الحديث انصر أخاك ظالما أو مظلوما أي امنعه من الظلم إن كان ظالما و امنع عنه الظلم إن كان مظلوما و أنصار الرجل أعوانه و نصرت السماء إذا أمطرت .

الإعراب
يوما انتصابه انتصاب المفعول لا انتصاب الظروف لأن معناه اتقوا هذا اليوم و احذروه و ليس معناه اتقوا في هذا اليوم لأن ذلك اليوم لا يؤمر فيه بالاتقاء و إنما يؤمر في غيره من أجله و موضع لا تجزي نصب لأنه صفة يوم و العائد إلى الموصوف فيه اختلاف ذهب سيبويه إلى أن فيه محذوف من الكلام أي لا يجزي فيه و قال آخرون لا يجوز إضمار فيه لأنك لا تقول هذا رجل قصدت أو رغبت و أنت تريد إليه أو فيه فهو محمول على المفعول على السعة كأنه قيل و اتقوا يوما لا تجزيه ثم حذف الهاء كما يقال رأيت رجلا أحب أي أحبه و هو قول السراج قال أبو علي حذف الهاء من الصفة كما يحذف من الصلة لما بينهما من المشابهة فإن الصفة تخصص الموصوف كما أن الصلة
مجمع البيان ج : 1 ص : 223
تخصص الموصول و لا يعمل في الموصوف و لا يتسلط عليه كما لا يعمل الصلة في الموصول و مرتبتها أن تكون بعد الموصوف كما أن مرتبة الصلة أن تكون بعد الموصول و قد يلزم الصفة في أماكن كما يلزم الصلة و ذلك إذا لم يعرف الموصوف إلا بها و لا تعمل الصلة فيما قبل الموصول كما لا تعمل الصفة فيما قبل الموصوف فإذا كان كذلك حسن الحذف من الصفة كما يحسن من الصلة في نحو قوله « أ هذا الذي بعث الله رسولا » و قال الأخفش شيئا في موضع المصدر كأنه قال لا تجزي جزاء و لا تغني غناء و قال الرماني الأقرب أن يكون شيئا في موضع حقا كأنه قال لا يؤدي عنها حقا وجب عليها و قوله « و لا يقبل منها شفاعة » موضع هذه الجملة نصب بالعطف على الجملة التي هي وصف قبلها و من ذهب إلى أنه حذف الجار و أوصل الفعل إلى المفعول ثم حذف الراجع من الصفة كان مذهبه في لا يقبل أيضا مثله فمما حذف منه الراجع إلى الصفة قول الشاعر :
و ما شيء حميت بمستباح ) و الضمير في منها عائد إلى نفس على اللفظ و في قوله « و لا هم ينصرون » على المعنى لأنه ليس المراد به المفرد فلذلك جمع .

المعنى
لما بين سبحانه نعمه العظام عليهم أنذرهم في كفرانها بيوم القيامة فقال « و اتقوا » أي احذروا و اخشوا « يوما لا تجزي » أي لا تغني أو لا تقضي فيه « نفس عن نفس شيئا » و لا تدفع عنها مكروها و قيل لا يؤدي أحد عن أحد حقا وجب عليه لله أو لغيره و إنما نكر النفس ليبين أن كل نفس فهذا حكمها و هذا مثل قوله سبحانه « و اخشوا يوما لا يجزي والد عن ولده و لا مولود هو جاز عن والده شيئا » و قوله « و لا يقبل منها شفاعة » قال المفسرون حكم هذه الآية مختص باليهود لأنهم قالوا نحن أولاد الأنبياء و آباؤنا يشفعون لنا فأياسهم الله عن ذلك فخرج الكلام مخرج العموم و المراد به الخصوص و يدل على ذلك أن الأمة اجتمعت على أن للنبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) شفاعة مقبولة و إن اختلفوا في كيفيتها فعندنا هي مختصة بدفع المضار و إسقاط العقاب عن مستحقيه من مذنبي المؤمنين و قالت المعتزلة هي في زيادة المنافع للمطيعين و التائبين دون العاصين و هي ثابتة عندنا للنبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و لأصحابه المنتجبين و الأئمة من أهل بيته الطاهرين و الصالحي المؤمنين و ينجي الله تعالى بشفاعتهم كثيرا من الخاطئين و يؤيده الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول و هو قوله ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي و ما جاء في روايات أصحابنا رضي الله عنهم مرفوعا إلى النبي (صلى الله عليهوآلهوسلّم) أنه قال إني أشفع يوم القيامة فأشفع و يشفع علي فيشفع و يشفع أهل
مجمع البيان ج : 1 ص : 224
بيتي فيشفعون و إن أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع في أربعين من إخوانه كل قد استوجب النار و قوله تعالى مخبرا عن الكفار عند حسراتهم على الفائت لهم مما حصل لأهل الإيمان من الشفاعة فما لنا من شافعين و لا صديق حميم و قوله « و لا يؤخذ منها عدل » أي فدية و إنما سمي الفداء عدلا لأنه يعادل المفدي و يماثله و هو قول ابن عباس و معناه لا يؤخذ من أحد فداء يكفر عن ذنوبه و قيل لا يؤخذ منه بدل بذنوبه و أما ما جاء في الحديث لا يقبل الله منه صرفا و لا عدلا فاختلف في معناه قال الحسن الصرف العمل و العدل الفدية و قال الأصمعي الصرف التطوع و العدل الفريضة و قال أبو عبيدة الصرف الحيلة و العدل الفدية و قال الكلبي الصرف الفدية و العدل رجل مكانه و قوله « و لا هم ينصرون » أي لا يعاونون حتى ينجوا من العذاب و قيل ليس لهم ناصر ينتصر لهم من الله إذا عاقبهم .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page