• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

القرآن وعذاب القبر ، أو البرزخ

* ( ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون ) * ( 1 )
اعلم أن الكلام في مسألة عذاب القبر ، أو البرزخ ، يقع في مراحل :
المرحلة الأولى : في إثباته .
قد نقول : إنه اتفقت الأمة على ذلك قبل ظهور المخالفين ، والمخالفون في ذلك شذاذ قليلون ، لشبهة واهية سيأتيك ما فيها في العاجل القريب .
احتج المثبتون لذلك بأنه أمر ممكن أخبر بوقوعه المخبر الصادق فيجب الاعتقاد به ، أما إمكانه فظاهر ، وذلك أنه لا استبعاد في أن يعمل العقاب في دار التكليف على وجه لا يمتنع منه التكليف ، كما في قطع يد السارق ، كما قال تعالى :
* ( فاقطعوا أيديهما ) * ( 2 ) ، وقال تعالى : * ( ذلك لهم خزي في الدنيا ) * ( 3 ) إلى غير ذلك من الأنواع ، وليس هو بأشد وأكثر مؤنة من عذاب يوم القيامة .
وأما إخبار الصادق به ، فقد وقع ذلك في آيات وروايات :
أما الآيات : فمنها : قوله تعالى : * ( النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) * ( 4 ) .
ووجه الاستدلال بهذه الآية : أنه تعالى عطف في هذه الآية عذاب القيامة على العذاب الذي هو عرض النار صباحا ومساءا ، فعلم أنه غيره ، لأن مقتضى العطف مغايرة المتعاطفين ، فيكون هذا العذاب المذكور قبل قيام الساعة ، فهو في القبر .
ومنها : قوله تعالى : * ( أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ) * ( 5 ) ووجه الاستدلال بهذه الآية : أنه تعالى ذكر موتتين : إحداهما في الدنيا ، والأخرى في القبر ، وذكر إحياءين :
أحدهما في الدنيا ، والآخر في القبر ، ولم يذكر الثالث ، لأنه معلوم .
وأصرح وأوضح من هذه الآية دلالة هو قوله تعالى : * ( كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون ) * ( 6 ) حيث ذكر تعالى
الرجوع - وهو المعاد يوم القيامة - بعد إحياءين وإنما يكون بإحياء ثالث .
احتج المنكرون بقوله تعالى : * ( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ) * ( 7 ) ووجه استدلالهم بهذه الآية هو أن الأموات لو أحيوا في القبر لذاقوا موتتين .
وأجاب المثبتون عن هذه الآية : أن ذلك وصف أهل الجنة وضمير فيها للجنة ، يعني : لا يذوق أهل الجنة في الجنة الموت ، فلا ينقطع نعيمهم كما انقطع نعيم أهل الدنيا بالموت ، فلا دلالة في الآية على انتفاء موتة أخرى بعد المسألة وقبل دخول الجنة .
وأجاب المنكرون بأن هذه ظواهر لفظية لا تضاد المعقول ، وحيث إنها مخالفة للمعقول فلا بد من التأويل ، ووجه مخالفتها للمعقول : هو أننا نرى شخصا يصلب
ويبقى مصلوبا إلى أن تذهب أجزاؤه ، ولا نشاهد فيه إحياءا ولا مسألة ، وأبلغ منه من أكلته السباع والطيور وتفرقت أجزاؤه في بطونها وحواصلها ، وأبلغ منه من احرق وصار رمادا وذري في الرياح العاصفة شمالا وجنوبا وقبولا ودبورا . فإننا نعلم عدم إحيائه وعذابه ومساءلته بالضرورة .
وأجاب المثبتون عن أمر المصلوب : بأنه لا بعد في الإحياء والمسألة مع عدم المشاهدة ، ولذلك في خوارق الإعجاز الكونية شواهد وشواهد ، وأما الصورتان
الاخريان فأجيب عنهما : بأن التمسك بهما مبني على اشتراط البنية في الحياة ، وهو ممنوع ، فلا بد في أن تعاد الحياة إلى الأجزاء المتفرقة أو بعضها وإن كان مخالفا للعادة ، وما أكثر خوارق العادة في مقدوره سبحانه ، وسيأتي نوع توضيح لذلك في الروايات .
أما الروايات فهي كثيرة وافرة ، والنبويات المتواترة بين العامة والخاصة كثيرة ، ويكفي قليلها من كثيرها .
منها : ما اتفق الفريقان عليه ، وهو قوله ( صلى الله عليه وآله ) : " القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النيران " ( 8 ) .
وكما روي أنه ( صلى الله عليه وآله ) مر بقبرين فقال : " إنهما يعذبان وما يعذبان عن كبيرة ، بل لأن أحدهما كان لا يستنزه عن البول ، وأما الثاني فكان يمشي بالنميمة " ( 9 ) .
وكقوله ( صلى الله عليه وآله ) : " واستنزهوا عن البول فإن عامة عذاب القبر منه " ( 10 ) .
وكقوله ( صلى الله عليه وآله ) في حق سعد بن معاذ : " لقد ضغطته الأرض ضغطة اختلفت بها ضلوعه " ( 11 ) .
إلى غير ذلك من الأحاديث التي هي عند الكل صحاح .
المرحلة الثانية : في بيان من أو ما هو المعذب في البرزخ ، هل هو الروح في بدنها أو الروح في بدن آخر ، أو الروح مستقلة ؟ وعلى التقدير الأول : فما هي كيفيته ؟
وعلى الثاني : فما هي كيفيته ؟ وعلى التقدير الثالث : فما هي كيفيته ؟
ذهب فريق إلى أن المعذب هو الروح في بدنها على اختلاف في ذلك ، فقول بأن الروح تعود إلى الميت عند القبر إلى حقويه ، وقول بأن الروح كلها تعود له ،
ودليلهم في ذلك : أن الأدلة دلت على أن الميت يسأل في قبره عن أشياء ولا يسأل إلا الحي ، فلا بد من عود الروح ، وبأن الروح لم تفارقه ولكنها لا تستتبع الحركة فهو كالحي في كثير من الشؤون .
ودليلهم على هذا ما ورد عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) من طريق الفريقين من أنه ( صلى الله عليه وآله ) وقف على قليب بدر مخاطبا للمشركين المقتولين في ذلك اليوم : بئس الجيران كنتم لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، أخرجتموه وطردتموه ، ثم اجتمعتم عليه وحاربتموه ، فقد وجدت ما وعدني ربي حقا ، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ؟
فقال له عمر : وما خطابك يا رسول الله لهام قد صدئت ؟
فقال له ( صلى الله عليه وآله ) : يا بن الخطاب ، فوالله ما أنت بأسمع منهم ، وما بينك وبين أن تأخذهم الملائكة بمقامع من حديد إلا أن أعرض بوجهي عنهم هكذا ( 12 ) .
وعن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) يوم البصرة ، أنه ركب بعد انفصال الحرب فصار يتخلل الصفوف حتى مر على كعب بن سور - وكان قاضي البصرة ، ولاه إياها عمر بن الخطاب ، فأقام بها قاضيا زمن عمر وعثمان ، فلما وقعت الفتنة في البصرة علق في عنقه مصحفا وخرج بأهله وولده يقاتل أمير المؤمنين ( عليه السلام ) فقتلوا بأجمعهم ، فوقف أمير المؤمنين ( عليه السلام ) عليه وهو صريع بين القتلى - ، فقال : أجلسوا كعب بن سور ، فاجلس بين نفسين ، فقال ( عليه السلام ) : يا كعب بن سور ، قد وجدت ما وعدني ربي حقا فهل وجدت ما وعدك ربك حقا ؟ ثم قال ( عليه السلام ) : أضجعوا كعبا .
وسار قليلا فمر بطلحة بن عبد الله صريعا ، فقال ( عليه السلام ) : أجلسوا طلحة ، فأجلسوه ، فقال ( عليه السلام ) : يا طلحة ، وقال ما قاله لكعب ، ثم قال ( عليه السلام ) : أضجعوا طلحة .
فقال له رجل من أصحابه : يا أمير المؤمنين ، ما كلامك لقتيلين لا يسمعان منك ؟
فقال للرجل : والله لقد سمعوا كلامي كما سمع أهل القليب كلام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ( 13 ) .
هذا مذهب من يقول بتعذيب الروح في بدنها ، وأما من يقول بأن المعذب هو الروح في بدن آخر وذلك المعبر عنه بالبدن الثاني - ومعناه صورة أخرى شفافة لطيفة
مشابهة لصورة البدن - فدليله في ذلك رواية ، بل روايات ، منها : ما روي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) في خبر ورد فيه أنه ( عليه السلام ) سأل بعض
أصحابه عما يقول الناس في أرواح المؤمنين بعد موتهم ، فقال : يقولون في حواصل طيور خضر .
فقال : " سبحان الله ، المؤمن أكرم على الله من ذلك ، إلى أن قال ( عليه السلام ) : فإذا قبضه الله إليه صير تلك الروح إلى الجنة في صورة كصورته " الخبر ( 14 ) .
وأما قول من قال : إن المعذب هو الروح المستقلة فقد ينحل قوله إلى قولين :
قول بأن الروح نفسها تتجسد فيقع عليها مباشرة الثواب والعقاب ، ودليل هذا القول رواية أبي بصير ، عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : " إن الأرواح في صفة الأجساد في شجر الجنة تتعارف وتسأل ، فإذا قدمت الروح على الأرواح تقول : دعوها فإنها أقبلت من هول عظيم ، ثم يسألونها : ما فعل فلان وفلان ؟ فإن قالت لهم : تركته ، ارتجوه ، وإن قالت لهم : قد هلك ، قالوا : قد هوى ، قد هوى " ( 15 ) .
والقول الآخر : إن الروح وهي في بدنها تعذب أو تثاب ويكون مثالها في الحس الرؤيا المنامية ، فإن المعذب والمنعم هو الروح لكن في ظرف البدن ، وقد جاءت رواية في الكافي : أن الرؤيا المنامية لم تكن موجودة وإنما حدثت لأجل قصة في واقعة مضمونها : أن نبيا من الأنبياء كذبه قومه حيث بشرهم بالثواب وأنذرهم
بالعقاب ، وهزأوا منه ، وسخروا به ، واستبعدوا ذلك عند الموت ، فخلق الله تعالى الرؤيا تنبيها لهم على تنعم الأرواح أو عذابها ليصدقوه .
المرحلة الثالثة : في أن عذاب القبر عام لكل ميت أم هو مخصوص ببعض الأموات ؟
الذي يظهر من كثير من الأخبار أن هذا العذاب مخصوص بمن محض الإيمان محضا أو محض الكفر محضا ، أما من عدا ذلك فمرفوع عنه .
قال شيخنا المفيد ( رضي الله عنه ) - حسبما نقل عنه في جواب المسائل السروية ( 16 ) - حيث سئل : ما قولكم أدام الله تأييدكم في عذاب القبر وكيفيته ؟ ومتى يكون ؟ وهل ترد الأرواح إلى الأجساد عند التعذيب أم لا ؟ وهل يكون العذاب في القبر أو يكون بين النفختين ؟
قال أعلى الله مقامه في الجواب : الكلام في عذاب القبر طريقه السمع دون العقل ، وقد ورد عن أئمة الهدى ( عليهم السلام ) أنه ليس يعذب في القبر كل ميت ، وإنما يعذب من جملتهم من محض الكفر محضا ، ولا ينعم كل ماض لسبيله ، وإنما ينعم منهم من محض الإيمان محضا ، فأما من سوى هذين الصنفين فإنه يلهى عنهم .
وكذلك روي أنه لا يسأل في قبره إلا هذان الصنفان خاصة ، فعلى ما جاء به الأثر من ذلك يكون الحكم ما ذكرناه ، وأما عذاب الكافر في قبره ونعيم المؤمن فيه
فإن الخبر أيضا قد ورد بأن الله تعالى يجعل روح المؤمن في قالب مثل قالبه في الدنيا في جنة من جنانه ينعم فيها إلى يوم الساعة ، فإذا نفخ في الصور أنشأ جسده الذي بلي في التراب وتمزق ثم أعاده إليه ، وحشره إلى الموقف ، وأمر به إلى جنة الخلد ، فلا يزال منعما ببقاء الله عز وجل غير أن جسده الذي يعاد فيه لا يكون على تركيبه في الدنيا ، بل تعدل طباعه وتحسن صورته ، فلا يهرم مع تعديل الطباع ، ولا يمسه نصب في الجنة ولا لغوب .
والكافر يجعل في قالب كقالبه في الدنيا في محل عذاب يعاقب به ، ونار يعذب بها حتى الساعة ، ثم أنشأ جسده الذي فارقه في القبر ويعاد إليه ، ثم يعذب به
في الآخرة عذاب الأبد ، ويركب أيضا جسده تركيبا لا يفنى معه ، وقد قال الله عز اسمه : * ( النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون
أشد العذاب ) * ( 17 ) .
وقال تعالى في قصة الشهداء : * ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) * ( 18 ) فدل على أن العذاب والثواب يكون قبل القيامة وبعدها ، والخبر وارد بأنه يكون مع فراق الروح الجسد من الدنيا ، والروح هاهنا عبارة عن الجوهر الفعال البسيط وليس بعبارة عن الحياة التي يصح معها العلم والقدرة ، لأن هذه الحياة عرض لا تبقى ، ولا يصح الإعادة ، فهذا ما عول عليه النقل ، وجاء به الخبر .
وقال شيخنا المجلسي قدس الله روحه في البحار ( 19 ) :
اعلم أن الذي ظهر من الآيات الكثيرة ، والأخبار المستفيضة ، والبراهين القاطعة ، هو أن النفس باقية بعد الموت ، إما معذبة إن كان ممن محض الكفر ، أو منعمة إن كان ممن محض الإيمان ، ويلهى عنه إن كان من المستضعفين ، ويرد إليه الحياة في القبر إما كاملا أو إلى بعض بدنه ، كما مر في بعض الأخبار ، ويسأل بعضهم عن بعض العقائد وبعض الأعمال ، ويثاب ويعاقب بحسب ذلك ، وتضغط أجساد بعضهم ، وإنما السؤال والضغطة في الأجزاء الأصلية ، وقد يرتفعان عن بعض
المؤمنين كمن لقن أو مات ليلة الجمعة ، أو يومها ، أو غير ذلك مما مر . ثم تتعلق الروح بالأجساد المثالية اللطيفة ، الشبيهة بأجسام الجن والملائكة المضاهية في الصورة للأبدان الأصلية بسبب تعلقها بها ، وبذلك يستقيم جميع ما ورد في ثواب القبر وعذابه ، واتساع القبر وضيقه ، وحركة الروح وطيرانه في الهواء وزيارته لأهله ورؤية الأئمة ( عليهم السلام ) بأشكالهم ، ومشاهدة أعدائهم معذبين ، وسائر ما ورد في أمثال ذلك ، فالمراد بالقبر في أكثر الأخبار ما تكون الروح فيه في عالم البرزخ ، وهذا يتم على تجسم الروح وتجرده مع ورود الأجساد المثالية في الأخبار المعتبرة المؤيدة بالأخبار المستفيضة التي لا محيص عن القول بها ، وليس هذا من التناسخ الباطل في شئ ، إذ أن التناسخ لم يتم دليل عقلي على امتناعه ، إذ أكثرها عليلة مدخولة ، ولو تمت ، لا يجري أكثرها فيما نحن فيه ، كما لا يخفى على من تدبر فيها ، والعمدة في نفيه ضرورة الدين وإجماع المسلمين ، وظاهر أن هذا غير داخل فيما عقد الاجماع والضرورة على نفيه ، كيف وقد قال به كثير من المسلمين ، كشيخنا المفيد ( رحمه الله ) وغيره من علماء المتكلمين والمحدثين ، بل لا يبعد القول بتعلق الأرواح بالأجساد المثالية عند النوم أيضا ، كما يشهد به ما يرى في المنام ، وقد وقع في الأخبار تشبيه حال البرزخ وما يجري فيها بحال الرؤيا وما يشاهد فيها كما مر ، بل يمكن أن يكون للنفوس القوية العالية أجساد مثالية كثيرة كأئمتنا ( عليهم السلام ) حتى لا يحتاج إلى بعض التأويلات والتوجيهات كثيرا في حضورهم عند كل ميت ، وسائر ما يأتي في كتاب الإمامة في غرائب أحوالهم من عروجهم إلى السماوات كل ليلة جمعة ، وغير ذلك .
المرحلة الرابعة : هو أن المستفاد من الآيات والروايات - مما مر سابقا - هو أن العذاب في القبر والثواب فيه متصل إلى يوم القيامة ، في حين أن ثقة الاسلام الكليني طيب الله مرقده روى في الكافي ( 20 ) - بسند حسن كالصحيح - عن زرارة ، قال : قلت لأبي جعفر ( عليه السلام ) : أرأيت الميت إذا مات ، لم تجعل له الجريدتان ؟ قال : " يتجافى عنه العذاب والحساب ما دام العود رطبا " ، قال : " والعذاب كله في يوم واحد في ساعة واحدة ، قدر ما يدخل القبر ويرجع القوم وإنما جعلت السعفتان لذلك فلا يصيبهما عذاب ولا حساب بعد حقوقهما إن شاء الله " .
وقد جمع بين هذه المختلفات بوجوه ثلاثة :
أحدها : أن يجعل اتصال العذاب مختصا بالكافر كما تضمنه بعض الأخبار ، والانقطاع بالنسبة إلى المؤمن العاصي .
ثانيها : أن يكون المراد أن عذاب الروح في بدنه الأصلي يوم يرجع إليه يكون في ساعة واحدة .
ثالثها : أن يكون المراد أن ابتداء جميع أنواع العذاب وأقسامه في الساعة الأولى ، فإذا لم يبتدأ فيها يرتفع العذاب رأسا .
المرحلة الخامسة : في أن الاعتقاد في مثل هذه الأمور واجب ، لكن يكفي فيه الاجمال ، ولا يشترط التفصيل ، بمعنى أنه يجب أن يعتقد المكلف أن في القبر
عذابا ، لكن ما هو ؟ وكيف هو ؟ فإن هذا ليس واجب الاعتقاد ، فإن الاجماع إنما حصل على الصورة الإجمالية ، وفي التفاصيل خلاف كثير ، والآيات مجملة البيان ،
والروايات مختلفة المتون مختلفة الأسانيد ، ثم هي بعد ذلك عرضة للآراء واستنباط المستنبطين وفهم السامعين ، إذ الكثير منها ليس من النصوص إنما هي الظواهر ، ومحتملات الظواهر كثيرة .
لذلك نرى الغزالي قال في الإحياء ( 21 ) : اعلم أن لك ثلاث مقامات في التصديق بأمثال هذا :
أحدها : وهو الأظهر والأصح ، أن نصدق بأن الحية موجودة تلدغ الميت ولكنا لا نشاهد ذلك ، فإن تلك العين لا تصلح لمشاهدة الأمور الملكوتية في كل ما يتعلق
بعالم الآخرة ، فهو من عالم الملكوت ، أما ترى أن الصحابة كيف كانوا يؤمنون بنزول جبرئيل وما كانوا يشاهدونه ويؤمنون أنه يشاهده ؟ فإن كنت لا تؤمن بهذا ، فتصحيح الإيمان بالملائكة والوحي عليك أوجب ، وإن آمنت به وجوزت أن يشاهد النبي ما لا تشاهده الأمة ، فكيف لا يجوز هذا في الميت ؟
المقام الثاني : أن تتذكر أمر النائم فإنه يرى في منامه حية تلدغه وهو يتألم بذلك حتى يرى في نومه أنه يصيح ويعرق جبينه ، وقد ينزعج من مكانه ، كل ذلك
يدركه من نفسه ويتأذى به كما يتأذى اليقظان ، وأنت ترى ظاهره ساكنا ولا ترى في حواليه حية والحية موجودة في حقه والعذاب حاصل ، ولكنه في حقك غير
مشاهد ، وإن كان العذاب ألم اللدغ ، فلا فرق بين حية تتخيل أو حية تشاهد .
المقام الثالث : إن الحية بنفسها لا تؤلم ، بل الذي يلقاك منها هو السم ، ثم السم ليس الألم ، بل عذابك في الأثر الذي يحصل فيك من السم ، فلو حصل ذلك من غير سم فكان ذلك العذاب قد توفر ، وقد لا يمكن تعريف ذلك العذاب إلا بأن يضاف إلى السبب الذي يفضي إليه في العادة ، والصفات المهلكات تنقلب مؤذيات
ومؤلمات في النفس عند الموت فتكون آلامها كآلام لدغ الحيات من غير وجود الحيات .
فإن قلت : ما الصحيح من هذه المقامات الثلاثة ؟
فاعلم أن من الناس من لم يثبت إلا الثالث ، وإنما الحق الذي انكشف لنا من طريق الاستبصار أن كل ذلك في حيز الإمكان ، وأن من ينكر بعض ذلك لضيق حوصلته وجهله باتساع قدرة الله تعالى وعجائب تدبيره ، منكر من أفعال الله تعالى ما لم يأنس به وما لم يألفه ، وذلك جهل وقصور ، بل هذه الطرق الثلاثة في التعذيب ممكنة والتصديق بها واجب ، ورب عبد يعاقب بنوع واحد من هذه الأنواع الثلاثة ، هذا هو الحق فصدق به .
ثم قال : وسؤال منكر ونكير حق لقوله ( صلى الله عليه وآله ) : " إذا قبر الميت أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما : منكر ، وللآخر : نكير ، يقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل - يعني النبي محمد - ؟ فإن كان مؤمنا قال : هو عبد الله ورسوله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) " ( 22 ) ، إلى أن قال : والأحاديث الظاهرة الدالة على عذاب القبر ونعيمه ، وسؤال الملكين أكثر من أن يحصر بحيث يبلغ قدره المشترك حد التواتر وإن كان كل منهما أخبار آحاد ، واتفق عليه السلف الصالح قبل ظهور المخالفين ، وأنكره مطلقا ضرار بن عمر ، وأكثر متأخري المعتزلة وبعض الروافض متمسكين بأن الميت جماد فلا يعذب ، وما سبق حجة عليهم ، ومن تأمل عجائب الملك والملكوت وغرائب صنعه تعالى لم يستنكف عن قبول أمثال هذا ، فإن للنفس نشآت ، وفي كل نشأة تشاهد صورا تقتضيها تلك النشأة ، فكما أنها تشاهد في المنام أمورا لم تكن تشاهد في اليقظة فكذا تشاهد في حال انخلاع البدن أمورا لم تكن تشاهد في الحياة ، وإلى هذا يشير قول من قال : " الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا " انتهى .
أقول : لا أدري - وليتني دريت - من الذي أراده بقوله : بعض الروافض ؟ فهل أراد بهم الشيعة الإمامية المتمسكين بأهل بيت نبيهم ، وهم سفن النجاة ؟ فهذا افتراء بلا مراء ، وليس عدلا ، ولا يسوغ في شرع المروة والإنصاف أن ينسب إليهم ما هم منه براء ، وهذه كتبهم ماثلة للعيون والآذان في كل زمان ومكان ، فقبيح بمن يحاول أن ينقل الحقائق - كما هي حقائق - أن يشوه النقل بأغراض العصبية ، ولكنها شنشنة أعرفها من أخزم ، وكم لها أمثالها في عصرنا الحديث ، فحدث ولا حرج ، ولكن الحقيقة تأبى إلا أن تظهر جلية بيضاء ، لا تسترها حجب العصبية والأهواء ، والله تعالى من وراء ذلك ، ولي الحساب يوم الحساب .
هذا وقد بقيت هناك أشياء لعله ليس في التعرض لها كبير اهتمام :
منها : أن سؤال القبر هل يتناول الصبيان ؟ قال قائل بذلك ، ولكن الحق خلافه ، إذ السؤال في القبر إنما يتبع المسؤولية ، ووضع قلم التكليف حيث لا مسؤولية ولا
تكليف ، فلا سؤال ، وإدخال أطفال المؤمنين في الجنة - بناء على القول به - تفضل منه سبحانه ، لا استحقاق .
ومنها : هل أن الأنبياء يسألون أو لا يسألون ؟ قال قائل بالنفي ، وقال قائل بالإثبات ، وهذا - كما تراه - كلام لا ثمرة فيه ، في الاعتقاد ولا في العمل .
ومنها : أنه كيف يعذب المصلوب عذاب القبر وهو شئ مر الإشكال فيه والجواب عنه في بدء هذه البحوث ، ويضاف إلى ذلك : أن كثيرا من الأخبار وردت بأنه يضغطه الهواء ، فالجو قبره ، وعذابه جنس ما قبر فيه .
__________________
( 1 ) سورة المؤمنون : 100 .
( 2 ) سورة المائدة : 38 .
( 3 ) سورة المائدة : 33 .
( 4 ) سورة غافر : 46 .
( 5 ) سورة غافر : 11 .
( 6 ) سورة البقرة : 28 .
( 7 ) سورة الدخان : 56 .
( 8 ) الخرائج والجرائح : 1 / 172 ذيل ح 2 ، دعوات الراوندي : 244 .
( 9 ) سنن الدارمي : 1 / 188 ، عوالي اللئالئ : 1 / 208 ح 43 .
( 10 ) أصول السرخسي : 1 / 133 ، الناصريات : 89 .
( 11 ) فيض القدير - شرح الجامع الصغير - : 5 / 424 .
( 12 ) من لا يحضره الخطيب : 1 / 180 ح 536 .
( 13 ) إرشاد المفيد : 1 / 256 ، تصحيح اعتقادات الامامية : 93 .
( 14 ) أمالي الطوسي : 419 ذيل ح 942 ، بحار الأنوار : 6 / 229 ح 32 .
( 15 ) تفسير الميزان : 5 / 75 .
( 16 ) ص 62 - 63 .
( 17 ) سورة غافر : 46 .
( 18 ) سورة آل عمران : 169 .
( 19 ) بحار الأنوار : 6 / 270 ح 128 .
( 20 ) ج 3 / 152 ح 4 .
( 21 ) إحياء علوم الدين : 4 / 500 - 503 ، بحار الأنوار : 6 / 275 .
( 22 ) سنن الترمذي : 2 / 267 ح 1077 ، بحار الأنوار : 6 / 276 .


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

telegram ersali arinsta ar

١ ذي الحجة

تبليغ سورة براءة «التوبة»

المزید...

٥ ذي الحجة

1) غزوة سويق. 2) شهادة الامام الجواد(ع).

المزید...

٦ ذي الحجة

1) زواج علي و فاطمة (عليهما السلام). 2) هلاك المنصور الدوانيقي

المزید...

٧ ذي الحجة

1) شهادت الامام الباقر(ع). 2) الامام الكاظم(ع)‌في سجن البصرة.

المزید...

٨ ذي الحجة

1) خروج الحسين(ع) من مكّة إلى العراق. 2) خروج مسلم بن عقيل نحو العراق. ...

المزید...

٩ ذي الحجة

1) يوم عرفة. 2) في مقتل مسلم بن عقيل و هاني بن عروة. 3) سدّ الابواب. ...

المزید...

١٠ ذي الحجة

1) عيد الاضحى المبارك. 2) استشهاد عبدالله المحض بن الحسن المثنى مع ثلّة من أبناء الحسن المجتبى. ...

المزید...

١١ ذي الحجة

افشاء سرّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل عائشة وحفصة

المزید...

١٣ ذي الحجة

1) معجزة انشقاق القمر. 2) بيعة العقبة الثانية.

المزید...

١٤ ذي الحجة

في اليوم (14) من ذي الحجّة وقعت « قصة فدك » فدك بين النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والزهراء (عليها السلام) ...

المزید...

١٥ ذي الحجة

ولادة الامام عليّ بن محمد الهادي

المزید...

١٨ ذي الحجة

1) غدير خم. 2) يوم الدار وقتل عثمان. 3) بيعة المسلمين للامام على(عليه السلام). ...

المزید...

٢٠ ذي الحجة

قتال ابراهيم بن مالك الاشتر وعبيد الله بن زياد

المزید...

٢٢ ذي الحجة

شهادة الصحابي الجليل لأميرالمؤمنين ميثم التمّار

المزید...

٢٤ ذي الحجة

1ـ مباهلة نصارى نجران. 2ـ تصدّق أميرالمؤمنين(عليه السلام) بخاتمه وهو في الصلاة. 3ـ موت الواثق بالله العباسي....

المزید...

٢٥ ذي الحجة

1ـ نزول سورة (هل أتى) ـ‌ (الانسان) ـ (الدهر) بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين(عليهم السلام) 2ـ بيعة اميرال...

المزید...

٢٦ ذي الحجة

مقتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب

المزید...

٢٧ ذي الحجة

1) مقتل مروان الحمار وانقراض الحكم الاموي. 2) وفاة السيد الجليل عليّ بن جعفر(عليهما السلام). ...

المزید...

٢٨ ذي الحجة

واقعة الحرَّة  

المزید...
012345678910111213141516171819
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page