جاء ذكر الوصية في العديد من آيات القرآن الكريم ، منها قوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ ) (١).
وقوله : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم ) (٢).
وقوله : ( فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا ) (٣).
وقوله : ( شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ) (٤) وغيرها.
والمشهور بين العلماء أنّ الآية الاُولىٰ تدلّ علىٰ وجوب الوصية ، وأنّ لسان الآية لسان الوجوب ، ثم قالوا : انها منسوخة بآية المواريث ، وهي قوله تعالى :
( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ) (٥) فانّ الأخيرة نزلت بعد الأولىٰ ، وبالسُّنّة فقد ورد في الحديث : « لا وصية لوارث » (٦).
وذكر بعضهم أنها لو كانت منسوخة فالمنسوخ إنّما هوالفرض دون الندب وأصل المحبوبية (7). وذكر بعض آخر أن الوجوب المذكور في الآية الشريفة كان في بدء الأمر وأوائل تغيير الشريعة لمواريث الجاهلية ، فالحكمة اقتضت أن يكون التغيير تدريجياً بنحو الوصية أولاً ثم بأحكام المواريث.
قال السيد السبزواري رحمهالله : والحق أن الوصية غير منسوخة بشيء ، لا بآية المواريث ولا بالسنة الشريفة ، وآية الوصية تدلّ علىٰ محبوبيتها ، والكتابة يُراد بها هنا مطلق الثبوت الأعمّ من الوجوب والندب ، فقد تكون الوصية واجبة كما في الوصية بالحقوق الواجبة ، وقد تكون مندوبة كما في الوصية بالتبرعات ، وفي الأخيرة يشترط أن لا تكون أكثر من ثلث المال ، وفي الاُولىٰ لا يشترط فيها ذلك ، بل لابدّ وأن تخرج من جميع المال ، ولا ربط لآية الإرث بآية الوصية ، وهما موضوعان مختلفان ، فأين يتحقّق النسخ ؟ مع أن الإرث متأخّر عن الدين والوصية.
وأمّا الاستدلال بالسنّة علىٰ نسخ آية الوصية ، ففيه أولاً : عدم ثبوته كما ذكر جمع من علماء الفريقين ، وثانياً : أن حديث « لا وصية لوارث » يمكن حمله على أنه لا وصية لوارث إذا كان أكثر من الثلث ... (8).
أما فيما يتعلّق بخصوص الوصية بالخلافة فانّ الآيات المتقدمة وغيرها التي تحثّ على الوصية وتأمر بها وتحذّر من إهمالها في اُمور الدنيا وحطامها الزائل ، تدلّ علي أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يمكن أن يترك اُمته بلا وصي يبيّن لهم أحكام الدين ويقتفي أثر سيد المرسلين ، وهو السبّاق إلى التعبّد بأوامر الوحي ونواهيه وجميع ما فيه ، فكيف يترك الوصية وقد اُوحي بها إليه وجعلها الله حقّاً على المتقين ؟
ثمّ أنه نزل في القرآن الكريم ما يجري مجري الوصية بالخلافة الإسلامية في آية البلاغ ؛ قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ) (9) ، فكان تبليغ هذا الأمر بحجم تبليغ الرسالة ، فأيّ أمر خطير هذا الذي أشارت إليه الآية ؟
روى الواحدي من طريق الأعمش باسناده إلى أبي سعيد الخدري رضياللهعنه قال : نزلت هذه الآية : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) يوم غدير خمّ في علي بن أبي طالب رضياللهعنه (10).
واستقصى الحاكم الحسكاني طرق حدث أبي سعيد الخدري بأسانيد متصلة ، ثمّ قال : وطرق هذا الحديث مستقصاة في كتاب ( دعاء الهداة إلى أداء حق الموالاة ) من تصنيفي في عشرة أجزاء (11).
وعن ابن مسعود ، قال : كنّا نقرأ على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآله : ( يا أيُّها الرَّسولُ بلِّغ ما أُنزِل إليك من ربِّك أن عليّاً مولى المؤمنين وإن لم تفعل فما بلَّغتَ رسالته ) (12).
إذن فإن تنصيب علي عليهالسلام للخلافة في جانب وتبليغ الرسالة في جانب آخر متوازنان ، فإذا لم ينصب علياً عليهالسلام فلم يبلغ الرسالة ، باعتبار أنه ترك الكيان
الإسلامي في مهبّ الريح ، ولم يخلّف أحداً ليرعاه أو يقويه من بعده.
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ١٨٠.
(٢) سورة البقرة : ٢ / ٢٤٠.
(٣) سورة النساء : ٤ / ١١.
(٤) سورة المائدة : ٥ / ١٠٦.
(٥) سورة النساء : ٤ / ١١.
(٦) راجع : تفسير القرطبي ٢ : ٢٥٤ ـ ٢٦٢ ـ دار الكتاب العربي ـ ١٤٢٢ ه ، تفسير الرازي ٥ : ٦٤ ـ دار الفكر ـ بيروت ـ ١٤١٥ ه ، تفسير ابن كثير ١ : ٢٢٣ ـ دار إحياء التراث العربي ـ ١٤٢٠ ه.
(7) الميزان في تفسير القرآن / العلاّمة الطباطبائي ١ : ٤٣٩ ـ مؤسسة الأعلمي ـ بيروت.
(8) مواهب الرحمٰن / السبزواري ٢ : ٣٨٠ ـ ٣٨١ ـ مؤسسة المنار ـ قم.
(9) سورة المائدة : ٥ / ٦٧.
(10) أسباب النزول / الواحدي : ١١٥ ـ عالم الكتب ـ بيروت ، فتح القدير / الشوكاني ٢ : ٦٠ ـ دار إحياء التراث العربي ، المنار / محمد رشيد رضا ٦ : ٤٦٣ ـ دار المعرفة ـ بيروت.
(11) شواهد التنزيل / الحسكاني : ١٨١ ـ ١٩٣ ـ مؤسسة الأعلمي ـ بيروت ـ ١٣٩٣ ه.
(12) الدرّ المنثور / السيوطي ٣ : ١١٧ ـ دار الفكر ـ ١٤٠٣ ه ، فتح القدير ٢ : ٦٠.
١ ـ القرآن الكريم
- الزيارات: 1085