حمى الوطيس واحتدم الصراع، إذ دارت رحى حرب ضروس، جالت خلالها الخيل واشتد اشتباك الأسنة، واختلاف السيوف، فما انجلت الغبرة إلا عن جمع من القتلى.. كانت تلك هي الحملة الأولي في صبيحة عاشوراء، التي اشترك فيها الجميع وتمخضت عن قتل عشرات ومئات الأمويين، كما أسفرت عن خمسين قتيلاً شهيداً من رجالات الإسلام الحسينيين (عليهم سلام الله ورضوانه)..
ثم آب كل إلى موقعه.. وبدأت عصبة الأنصار - أي ممن تبقى منهم - يستأذنون الإمام الحسين للجهاد مثنى وفرادى وهو يأذن لهم - وكان عاشوراء يوماً مشهوداً حيث صعدوا مسرح الجهاد والاستشهاد وهم لا يلوون على شيء، ولا يفكرون بشيء سوى الفداء والفناء من أجل مجد الإسلام والبقاء الرسالي.
ظل علي يرمق ببصره البعيد أطراف الميدان..
مكبراً تفاني الأنصار البواسل الشجعان..
فقد كان قوي العزيمة، لا تخونه إرادته ولا تلين عزيمته أو تضعف شكيمته، قوي البأس ثابت الجنان. صلب صامد على مصارع عصبة الأنصار، حتى أنه شهد مصارعهم وكان يرثيهم ويؤبنهم مشتاقاً لما آلوا إليه - كما وقف على جسد أحدهم وهو يرثيه بأبيات نفيسة.
إذ أشرف علي الأكبر على جسد البطل المجاهد الحر بن يزيد الرياحي، وقد سبقه والده الحسين الذي ابنه بقوله:
((بخ بخ لك يا حر، أنت الحر كما سمتك أمك وأنت الحر في الدنيا والآخرة)). أو ((سعيد في الآخرة)).
فعقب علي الأكبر قائلاً:
لنعم الحر حـر بني ريـاح صـبور عند مشتبك الرماح
ونعم الحر إذ نادى حسيناً فجاد بنفسه عند الصباح (1)
انه يقرر بأبياته أن للحر صبراً، فيقرر أن له إيماناً قوياً بحيث أنه تحمل المخاطر، وصبر - لكي ينجز مهمته - رغم اشتداد اشتباك الأسنة والسيوف وكل الأسلحة.. ((صبور عند مشتبك الرماح)).
كما ويقرر أنه قدم أغلى ما لديه، وسخا بما عنده وجاد بما يملك من ثمين ونفيس وهل أثمن من النفس والحياة: ((فجاد بنفسه عند الصباح)) والحق أن (( الجود بالنفس أقصى غاية الجود)).
فضلاً عما نلمسه من إكبار وافتخار بمن هو نعم الرجل، نعم الشخصية الفاضلة، ونعم الحر، بحيث أبى التقيد بالذل والارتهان بالعبودية، ورنا إلى نعماء العز والحرية، دونما خوف من دفع الضريبة الباهضة لتلك النعمة.. وهي ضريبة الدم والروح.. وكذا تكون سجية الأبطال.
وبقي علي الأكبر يرقب الميدان عن كثب، معرباً عن روعة صمود الصابرين المجاهدين، ومكبراً جهادهم.. متشوقاً إلى دوره ونزوله للساحة... بعد أن مضى من مضى وبقي من بقي..
(رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) القرآن الكريم
صدق الله العلي العظيم
____________________________
1- مقتل الحسين ـ للخوارزمي ج2 ، ص 11 ، ومقتل العوالم ص 85 ورويت الأبيات مع إضافات ،كما وقيل أنها للإمام الحسين ..
لنعم الحـر حـر بنـي ريـاح صبور عند مشتبك الرماح
ونعم الحـر في وهــج المنيا إذ الأبطال تخطر بالصفاح
ونعـم الحر إذ واسـى حسـينا وجاد بنفسه عند الصباح
فيا ربـى أضـفه فـي جنـان وزوجه من الحور الملاح
لقد فاز الأولى نصروا حسـيناً وفازوا بالكرامة والفلاح
مصرع الحر الرياحي
- الزيارات: 7861