• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

فقهاء نظريات الاعتذار

فقهاء نظريات الاعتذار

 ولم تَحدّ مضايقات فقهاء البلاط من نشاط محمد بن علي الجواد عليه السلام، فقد شمخ في عطائه شموخ الأوائل، دون أن تراوده فكرة الإحباط رغم ما يعانيه من مؤامرات اُولئك المتوجّسين‏پ؛ خيفة من منافسة «محمد» لمقاماتهم الرسمية التي زعزعتها الرياح العاتية لحركة المأمون، فتقتلع معها الثوابت التي دعا إليها «محمد» ونافح من أجلها آباؤه من قبل.

 كان البلاط يترصّد تحرّكات الإمام، وفقهاء البلاط يتربّصون به ليوقعوه في قضية ساخنة تجرّه إلى مواجهاتٍ غير محمودةٍ، وهم يسعون لإذكاء روح العداء بين الإمام الجواد عليه السلام وبين الاُمّة التي ما فتأت تتحدّث في قابلياته ولياقته، وهي لا تخفي إعجابها به، فإنّه امتداد لسلالة النبوة، ومستودع العلوم، وكان إعجاب الاُمّة بحفيد النبي صلى الله عليه وآله يُؤَصِّل نظرية السماء في خلافة اللَّه على الأرض، وليس الفقهاء بغافلين عن ذلك الذي تستشعره الاُمّة في حفيد محمد صلى الله عليه وآله، ولا تخفى عليها مناورات التآمر حينما تريد أن توقع ما يثير الاُمّة ويستفزّها من مطارحات عقائدية تُؤجِّج شحناء العامة وتُقدّمها مادةً للفرقة والاحتراب.

 ولم يَغِب عن الجواد محمد أ نّه عليه السلام صاحب رسالة ورثها عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله، فهو اليوم يؤسِّس لنظرية أسلافه، كما هو يُؤصِّل ويُقنّن، فخلاف الخلافة بات يؤرِّق الاُمّة حيثما لم تهتدِ في ظِلّ رؤى النظام والتأريخ المسَّيس وقنذاك، ولابد ليحيى بن أكثم المنهزم بالأمس أن يوقع بمحمد بن علي الذي كشف عَواره وأظهر للناس سذاجة ما يحمله يحيى من علم أغدق عليه النظام لقب «قاضي القضاة»، فهو اليوم يثأر لكرامته المهدورة وشخصيته الممتهنة بالأمس، فبادر في اليوم الثاني أن يسأل يحيى هذا السؤال للإمام محمدعليه السلام:

 قال يحيى بن أكثم: ما تقول يا بن رسول اللَّه في الخبر الذي روي: أ نّه نزل جبريل عليه السلام على رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وقال: يا محمد، إنّ اللَّه عزّ وجلّ يقرؤك السلام ويقول لك: سَل أبا بكر هل هو عنّي راضٍ فإنّي عنه راضٍ؟![1]

 فقال أبو جعفر عليه السلام: «لست بمنكر فضل أبي بكر، ولكن يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في حجة الوداع: قد كثرت عليَّ الكذّابة وستكثر بعدي، فمن كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث عنِّي فأعرِضوه على كتاب اللَّه وسنّتي، فما وافق كتاب اللَّه وسنّتي فخذوا به، وما خالف كتاب اللَّه وسنّتي فلا تأخذوا به، وليس يوافق هذا الخبر كتاب اللَّه، قال اللَّه تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْربُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ»[2]. فاللَّه عزّ وجلّ خفي عليه رضا أبي بكر من سخطه حتى سأل عن مكنون سرِّه؟! هذا مستحيل في العقول!».

 ثم قال يحيى بن أكثم: وقد روي: «أنّ مَثَلَ أبي بكرٍ وعمرَ في الأرض كَمَثَلِ جبرائيل وميكائيل في السماء».

 فقال عليه السلام: «وهذا أيضاً يجب أن ينظر فيه؛ لأنّ جِبرائيل وميكائيل ملكان للَّه مقرّبان لم يعصيا اللَّه قطّ، ولم يفارقا طاعته لحظة واحدة، وهما قد أشركا باللَّه عزّ وجلّ وإن أسلما بعد الشرك، فكان أكثر أيّامهما الشرك باللَّه، فمحال أن يُشبِّههما بهما».

 قال يحيى: وقد روي أيضاً «أ نّهما سيّدا كهول أهل الجنة». فما تقول فيه؟

 فقال عليه السلام: «وهذا الخبر محال أيضاً؛ لأنّ أهل الجنّة كلّهم يكونون شباباً ولايكون فيهم كهل، وهذا الخبر وضعه بنو اُمية؛ لمضادّة الخبر الذي قاله رسول اللَّه صلى الله عليه وآله في الحسن والحسين عليهما السلام بأ نّهما سيِّدا شبابِ أهلِ الجنّة».

 فقال يحيى بن أكثم: وروي: «أنّ عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة».

 فقال عليه السلام: «وهذا أيضاً محال؛ لأنّ في الجنة ملائكة اللَّه المقرّبين، وآدم ومحمد، وجميع الأنبياء والمرسلين لا تضي‏ء الجنة بأنوارهم حتى تضي‏ء بنور عمر؟!».

 فقال يحيى: روي: «أنّ السكينة تنطق على لسان عمر».

 فقال عليه السلام: «لست بمنكرٍ فضل عمر، ولكنّ أبا بكر أفضل من عمر، فقال على‏ رأس المنبر: إنّ لي شيطاناً يعترينى، فإذا مِلتُ فسدِّدوني».

 فقال يحيى: قد روي: أنّ النبي صلى الله عليه وآله قال: «لو لم اُبعث لبُعِث عمر».

 فقال عليه السلام: «كتاب اللَّه أصدق من هذا الحديث، يقول اللَّه في كتابه: «وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ»[3] فقد أخذ اللَّه ميثاق النبيين فكيف يمكن أن يبدّل ميثاقه؟! وكل الأنبياء عليهم السلام لم يُشرِكوا باللَّه طرفة عين فكيف يبعث بالنبوة من أشرك وكان أكثر أيامه مع الشرك باللَّه؟! وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله: نُبِّئتُ وآدم بين الرُوح والجسد».

 فقال يحيى بن أكثم: «وقد روي أيضاً: أنّ النبي صلى الله عليه وآله قال: «ما احتبس عنّي الوحي قطّ إلّا ظَنَنتُه قد نزل على‏ آل الخطّاب».

 فقال عليه السلام: « وهذا محال أيضاً؛ لأ نّه لا يجوز أن يشكّ النبي صلى الله عليه وآله في نبوته، قال اللَّه تعالى: «اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً وَمِن النَّاسِ»[4]، فكيف يمكن أن تنتقل النبوة ممن اصطفاه اللَّه تعالى إلى من أشرك به؟!».

 قال يحيى: روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله قال: «لو نزل العذاب لَما نَجا منه إلّا عمر».

 فقال عليه السلام: «وهذا محال أيضاً؛ لأنّ اللَّه تعالى يقول: «وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ»[5]. فأخبر سبحانه أنّه لا يعذّب أحداً ما دام فيهم رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وما داموا يستغفرون[6].

 ولم يكن يحيى قد ألقى على الإمام الجواد عليه السلام هذه الأسئلة لمجرد كونها أسئلةً نقلها يحيى عن الرواة ليقف على الصحيح منها، بقدر ما هي محاولات استدراج استفزّ بها أبا جعفر أمام المأمون، وأهل الحلِّ والعقد من أصحاب القرار في الدولة العباسية يحضرون هذا الحوار... ولم يكن بوسع الإمام السكوت عن كلّ ما طرحه يحيى، فالإمام في طور التأسيس لمبتنيات أفقدتها السياسة حضورها، وهمّشت توجّهاتها في خضمّ صراعٍ سياسيٍّ تقليديٍّ ألغى‏ معها جميع الثوابت عند ذاك، وكان يحيى في موقع التنظير لنظرية الخلافة والتأصيل لتداعيات السقيفة حينما قدمت رجالاتها، دون أن يجد المسلمون ايَّ فُضلٍ لأصحابها، وكأنّ نظرية السقيفة حوصرت من قبل معارضة أهل البيت الصامتة، إلّا أ نّها كانت ناطقةً بفضل أصحابها ومقامات أهلها، وكانت تُدين اُولئك الذين تدافعوا على‏ مقام الخلافة بمحاولات الغلبة السياسية ومناوراتها.. ولم يجد أتباعها بعد ذلك مندوحة من السكوت أو الغضّ عن كلّ ما يلمزه المتسائلون عن حقيقة الاستحقاق الذي دعا أهل السقيفة إلى‏ ترشيح أنفسهم، ودفع الآخرين بقوة السيف عن كلّ معارضة تُطيح بمشروعهم هذا.

 ووجد هؤلاء الأتباع أ نّهم تحت طائلة التساؤل الحثيث في تقديم رؤية عن قابليات أصحاب السقيفة، الذين أغلقوا الطريق على كلّ أحدٍ للوصول إلى منصب الخلافة .. فهم الآن مطالبون بوضع ملامح الصورة الجديدة لأصحاب السقيفة، ووضع رتوش التجميل حتى على حساب المبادئ.. وهم اليوم أحوج إلى ذلك من أي وقت كان بعد أن صار للمعارضة العلوية حضورها..

 إذن فليكن يحيى وغير يحيى من أصحاب نظرية السقيفة أن يبرمجوا نظريتهم حديثياً، أي محاولة استيعاب الحديث النبوي لنظرية السقيفة على أساس لون من ألوان الفضائل؛ وليجدوا الحديث الآن حاضراً في قولبة نظرية السقيفة وحضورها ضمن مخطّطات رواة الحديث، وقصارى‏ ما تجيب المعارضة العلوية في نظر هؤلاء: أنّ هذه الأحاديث موضوعة، وأقصر الطرق لردّ المنكرين لهذه الأحاديث بأنّ هؤلاء لم يستطيعوا استيعاب هذه الفضائل حسداً منهم لأهل الشأن من السقيفيين الأوائل، وأهل السلف من الأصحاب، وبذلك فستكون في نظر يحيى وفريقه أجوبة المعارضة واهية لا تنفع شيئاً ..

 وفي غمرة هذه التمنّيات التي توقّعها هؤلاء تفاجوهم أجوبة الإمام الجواد بقرآنية الأدلّة وسنن النبيّ صلى الله عليه وآله التي يتفق عليها الفريقان، أي كان للقرآن حضوره، وصار الإمام يحاكم هذه النصوص بآيات الكتاب، ولم تجد ليحيى بعد ذلك أية مشاركة على صعيد الدفاع عن مبتنياته التي صاغها على أساس الحديث النبوي فهو مجرد متلق لصناعات الإجابة بكل تسليم دون أن يقوى على ردّها أو إنكارها على الأقل، ممّا سجل هذا الحوار سبباً في دفع نظرية الإمامة إلى تقدم واسع شهده المأمون وسمعه الآخرون، ولعلّ هذا الانتصار الرائع من مقتضيات نشر عقيدة آل البيت عليهم السلام في الأوساط السياسية المتشنّجة ضدّهم، وفي الوقت نفسه كان هذا الانتصار داعياً كذلك للتآمر على حياة الإمام من قبل فقهاء الاغتيالات «الإسلامية»، أي التصفيات الجسدية للمعارضة وهي ترتدي لباسها الديني الفتوائي.

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه هكذا عن ابن عمر، قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وعنده أبو بكر الصديق، عليه عباءة قد خلّها على صدره بخلال، فنزل عليه جبريل فقال: مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلّها على صدره بخلال؟ قال: أنفق ماله عليَّ قبل الفتح. قال: فأقرِئه عن اللَّه السلام وقل له: يقول لك ربّك: يا أبا بكر، أراضٍ أنت عنّي في فقرك هذا أم ساخط؟ قال: فالتفت النبي صلى الله عليه وآله إلى أبي بكر، فقال: يا أبا بكر هذا جبريل يُقرئك عن اللَّه السلام، ويقول لك: أراضٍ عنّي في فقرك هذا أم ساخط؟ قال: فبكى أبو بكر، وقال: أعلى ربِّي أسخط؟! أنا عن ربِّي راضٍ، أنا عن ربِّي راضٍ، أنا عن ربِّي راضٍ. تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: 2/6، والعجيب أنّ الخطيب سكت عمّا رواه ممّا يدلّ على ارتضائه لهذه الأعاجيب.

[2] ق: 16.

[3] الأحزاب: 7.

[4] الحج: 75.

[5] الأنفال: 33.

[6] الاحتجاج للطبرسي: 2/477 - 480، ح‏333، و عند البحار: 50/80، ح‏6.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page