بعد إستلام الإمام الحسن ( عليه السلام ) لمنصب الإمامة ، فُرضت عليه مسؤولية حَسْم الخلاف بين معسكري الكفار ومعاوية ، الذي كان في طريقه إلى هَدِّ ركن الإسلام هَدّاً .
حيث إن الكفار في أطراف البلاد الإسلامية كانوا يتربَّصون بها الدوائر ، حتى إذا رأوا ضعفاً أو ثغرة سَدَّدُوا ضربةً مؤلمةً عليها .
هذا من جانب ، ومن جانب آخر كانت أنباء جيش الشام تذاع في الكوفة والبصرة وسائر البلاد ، مع شيء من المبالغة ، وكان الجميع يعلم أن حرباً وشيكة تنتظرهم .
وعندما حشّد معاوية جيشه الجرّار الذي انتهى عدده إلى ستين ألفاً ، وقاده هو بنفسه بعد ما استخلف مكانه الضحاك ، كان على الإمام ( عليه السلام ) أن يحشد قوة الحق أيضاً لتقابل جولة الباطل .
بيد أنه ( عليه السلام ) رأى أن يراسله قبل ذلك ، إتماماً للحجة وقطعاً للعذر .
فأرسل إليه كتاباً ، هذا بعضه : ( فَلمَّا تُوفي - رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) - تنازَعَتْ سلطانه العربُ ، فقالت قريش نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه .
فرأت أن القول ما قالت قريش ، وأن الحجة في ذلك لهم على مَن نازعهم أمر محمد ، فأنعمت لهم وسلَّمت إليهم ، ثم حاججنا نحن قريشاً بمثل ما حاججت به العرب ، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها .
إنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالإنصاف والإحتجاج ، فلما صرنا أهل بيت محمد وأولياءه إلى محاججتهم وطلب النصف منهم ، باعدونا واستولوا بالاجتماع على ظُلمنا ، ومراغمتنا ، والعنت منهم لنا ، فالموعد الله وهو الولي النصير ) .
ثم قال ( عليه السلام ) : ( فاليومُ فليتعجب من تَوَثُّبِك يا معاوية على أمر لستَ من أهله ، لا بفضل في الدِّين معروف ، ولا أثر في الإسلام محمود .
وأنت ابن حزب من الأحزاب ، وابن أعدى قريش لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولكتابه ، والله خصيمك ، فَسَتَرِدُ وتَعلم لمن عقبى الدار ، وبالله لَتَلقينَّ عن قليل ربك ثم ليجزينَّك بما قدَّمت يداك وما الله بظلاَّم للعبيد ) .
وقال ( عليه السلام ) أيضاً : ( وإنما حملني إلى الكتابة إليك ، الإعذار فيما بيني وبين الله عزَّ وجلَّ في أمرك ، ولك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم ، والصلاح للمسلمين ، فَدَعِ التمادي في الباطل ، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي .
فإنك تعلم أنِّي أحَقُّ بهذا الأمر منك عند الله ، وعند كلّ أوَّابٍ حفيظ ، ومن له قلب منيب ، واتَّقِ الله ودَع البغي ، واحقن دماء المسلمين .
فوالله مَا لَكَ خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به ، وادخل في السِّلمِ والطاعة ، ولا تُنازع الأمرَ أهلَه ومَن هو أحق به منك ، ليطفئ الله النائرة بذلك ، ويجمع الكلمة ويصلح ذات البين ، وإن أنت أبيت إلاَّ التمادي في غَيِّك ، سِرتُ إليك بالمسلمين ، فَحَاكمتُك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين ) .
وبعد ما تُبودلت الرسائل بين القيادتين ، ومنها رسائل الحسن ( عليه السلام ) تقوم بالحجة الدامغة التي ملاكها النقد والتجربة .
ورسائل معاوية التي تقوم على المراوغة ، وإعطاء العهود والمواثيق على تقسيم بيت المال على حساب الوجاهات ، والمراتب القبلية الزائفة .
بعد ذلك وردت الأنباء بخبر احتشاد الجيش الأموي وابتدائه بالمسير إلى الكوفة .
وكان على الإمام ( عليه السلام ) أن يتصدَّى لمقابلته ، ولكنَّ طريقة تعبئة الجند عند الإمام ( عليه السلام ) كانت تختلف كثيراً عن طريقة معاوية في ذلك . فمعاوية كان ينتقي ذوي الضمائر الميتة ، والقلوب السود ، فيشتريها بأموال المسلمين .
وكان يستدعي بعض النصارى فيغريهم بالأموال الطائلة لمحاربة الإمام ( عليه السلام ) .
وهم آنذاك لايرون فصيلاً من ذلك لأنهم كانوا يرون في شخص الإمام ( عليه السلام ) المثال الكامل للإسلام ، ذلك الدين الذي يبغضونه ويعادونه .
أما الإمام ( عليه السلام ) ، فإنه كان يلاحظ في الجند أشياء كثيرة ، فلم يكن يطعم أصحاب الوجاهة ، ويترك السواد يتضورون جوعاً .
ولم يكن يعد الناس بالوعود الفارغة ثم يخلفها بعد أن يستتب له الأمر ، ولم يكن يهب ولاية البلاد المختلفة بغير حساب لهذا أو ذاك .
ولا كان يحمل الناس على الحرب حملاً قاسياً وهم لها منكرون ، ولم يكن يبيح للجند الفتك ، وهتك الحرمات ، وابتياع الأسرى .
وهو ( عليه السلام ) يعتبر عدوه فئة باغية من المسلمين ، يجب أن تُردع بأحسن طريقة ممكنة ، ولكن معاوية وحزبه كانوا يرون مقابليهم عدواً سياسيّاً يجب أن يُمزق بأي أسلوب .
ولذلك فقد كان جمع الجيش ميسراً عند معاوية ، وعلى عكس الأمر عند الإمام ( عليه السلام ) ، حيث كان ذلك من الصعوبة بمكان .
ولطالما أشار عليه بعض أصحابه بأن يتَّبع منهج معاوية في ذلك ، فأبى ( عليه السلام ) وأنكر عليهم الميل إلى الباطل ، والإنحراف عن الحق .
وقد كتب إليه عبيد الله بن العباس واليه على البصرة يقول : أما بعد ، فإن المسلمين ولَّوك أمرهم بعد علي ( عليه السلام ) ، فَشَمِّر للحرب ، وجاهد عدوَّك ، وقارب أصحابك .
واشترِ من الظنين دينَه بما لا يلثم لك دنياه ، وولِّ أهل البيوت والشرف تستصلح به عشائرهم ، حتى يكون الناس جماعة .
فإن بعض ما يكره الناس مالم يتعد الحق ، وكانت عواقبه تؤدِّي إلى ظهور العدل وعزِّ الدين ، خير من كثير مما يحبه الناس إذا كانت عواقبه تدعو إلى ظهور الجور ، وذل المؤمنين وعزّ الفاجرين .
واقتدِ بما جاء عن أئمة العدل ، فقد جاء عنهم أنه لا يصلح الكذب إلاَّ في حرب أو إصلاح بين الناس ، فإن الحرب خُدعة ، ولك في ذلك سعة إذا كنت محارباً مالم تبطل حقّاً .
وإعلم أن عليّاً أباك ، إنما رغب الناس عنه إلى معاوية أنه آسى بينهم في الفيء ، وسوَّى بينهم في العطاء فثقل عليهم .
واعلم أنك تحارب مَن حارب الله وَرسوله في ابتداء الإسلام ، حتى ظهر أمر الله .
فلما وُحِّدَ الربُّ ، ومُحق الشِّرك ، وعَزَّ الدِّينُ ، أظهروا الإيمان ، وقرأوا القرآن ، مستهزئين بآياته ، وقاموا إلى الصلاة وهم كسالى ، وآتوا الفرائض وهم لها كارهون .
ثم راح ابن العباس يستعرض الوضع الإجتماعي والمساوئ التي فيه ، وبيَّن طبيعة البيت الأموي وماضيه وحاضره هذا .
ولكن الإمام ( عليه السلام ) أبى إلاَّ أن يلزم الحقَّ شرعةً ومنهاجاً ، ويتَّبع السبيل القويم ، أبداً ودائماً .
ومع ذلك فقد حشَّد من أهل الكوفة عدداً كبيراً ، ولم يهمنا تحديده وضبطه ، ولكن الذي يهمنا تحليل نفوس المنتسبين إليه ، ومَن كانوا ؟ ، ولِمَ جاؤوا ؟ ، وماذا كانت النتيجة ؟ .
ظروف ما قبل الصُلح :
- الزيارات: 1052